00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة هود من أول السورة ـ آية 22 من ( ص 449 ـ 503 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[449]

سُورَة هُود

مَكيَّة

وَعَدَدُ آياتِهَا مَائة وثلاث وعشرون آياتْ

[452]

 

«سورة هود(عليه السلام) »

محتوى هذه السّورة وفضيلتها!

المشهور بين المفسّرين أنّ هذه السورة بأكملها نزلت بمكّة .. وطبقاً لما ورد في «تاريخ القرآن» أنّها السورة التاسعة والأربعون في ترتيب السور النازلة على المرسل(صلى الله عليه وآله وسلم).

وطبقاً لما صرّح به بعض المفسّرين ـ أيضاً ـ فإنّ هذه السورة نزلت في السنوات الأخيرة التي قضاها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بمكّة، أي بعد وفاة عمّه «أبي طالب(عليه السلام)» وزوجته «خديجة(عليها السلام)» ... وبطبيعة الحال فإِنّ هذه السورة جاءت في فترة من أشد الفترات صعوبة في حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان يعاني فيها من ضغوط الأعداء وأراجيفهم الإِعلامية الحاقدة المسمومة أكثر ممّا عاناه في السنوات السابقة. ولذلك يُلاحظ في بداية السورة تعابير فيها جانب من التسلية للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وللمؤمنين.

ويُشكل القسم المهم والعمدة من آيات هذه السورة قصص الأنبياء الماضين وخاصّة قصّة نوح النّبي(عليه السلام) الذي انتصر بالفئة القليلة التي معه على الأعداء الكثيرين.

إِنّ سرد هذه القصص فيه تسلية لخاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين معه وهم أمام الكم الهائل من الأعداء، كما أنّ فيه درساً لمخالفيهم من الاعداء.

[452]

وعلى كل حال. فإنّ آيات هذه السورة ـ كسائر السور المكية ـ تتناول أصول «المعارف الإِسلامية» ولا سيّما المواجهة مع الشرك وعبادة الأصنام، ومسألة المعاد والعالم بعد الموت، وصدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يبدو فيها تهديداً ضمنياً للأعداء، وأمراً بالاستقامة للمؤمنين.

في هذه السورة ـ إِضافة إِلى قصّة نوح النّبي وجهاده العنيف التي ذكرت بتفصيل ـ إِشارة إِلى قصص الأنبياء هود وصالح وإِبراهيم ولوط وموسى ومواقفهم الشجاعة بوجه الشرك والكفر والإِنحراف والظلم ..

شيبتني سُورة هود!

إِنّ آيات هذه السورة تقرر أن على المسلمين أن لا يتركوا السوح والميادين ـ في الحرب والسلم ـ لكثرة الأعداء ومواجهاتهم الحادة .. بل عليهم أن يواصلوا مسيرتهم ويستقيموا أكثر فأكثر ويوماً بعد يوم ..

وعلى هذا فإِنّنا نقراً في حديث معروف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «شيبتني سورة هود»(1)

وفي حديث آخر أنّه حين لاحظ أصحاب النّبي آثار الشيب قبل أوانه على محيّاه(صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: يا رسول الله، تعجّل الشيب عليك. فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) «شيبتني سورة هود والواقعة»(2).

وفي روايات أُخرى أضيف أيضاً سورة المرسلات وسورة النبأ (عم يتساءلون) وسورة التكوير وغيرها إِلى هاتين السورتين.

ونُقل عن ابن عباس في تفسير الحديث الشريف ـ آنف الذكر ـ أنّه مانزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) آية كان أشدّ عليه ولا أشق من آية (فاستقم كما أمرت ومن تاب

____________________________

(1) نور الثقلين، ج2، ص 334.

(2) مجمع البيان، ذيل الآية (118) من تفسير سورة هود.

[453]

معك).

كما نقل عن بعض المفسّرين أنّ أحد العلماء رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في المنام فسأله عن سبب مانُقل عنه من قوله: «شيبتني سورة هود» أهو ما سلف من الأُمم السابقة وهلاكها؟ فبيّن له(صلى الله عليه وآله وسلم) أن سببه آية (فاستقم كما أُمرت)(1)

وعلى كل حال فإِنّ هذه السورة ـ بالإِضافة إِلى هذه الآية ـ فيها آيات مؤثّرة أُخرى تتعلق بيوم القيامة والمحاسبة في محكمة العدل الإِلهي، وآيات تتعلق بما ناله الأقوام السابقون من جزاء، وما جاء مع بعضها من أوامر في الوقوف بوجه الفساد بحيث يحمل جميعها طابع المسؤولية ... فلا عجب إِذاً أن يشيب الإِنسان عندما يفكر في مثل هذه المسؤوليات ...

مسألة دقيقة أُخرى ينبغي الإِلتفات إِليها في هذا المجال، وهي أنّ كثيراً من هذه الآيات توكّد ماورد في السورة السابقة ـ أي سورة يونس ـ وأوائلها بوجه خاص يشبه أوائل تلك السورة ومضامينها توكّد تلك المضامين.

التّأثير المعنوي لهذه السّورة:

أمّا بالنسبة لفضيلة هذه السورة، فقد ورد في حديث شريف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: «من قرأ هذه السورة أعطي من الأجر والثواب بعدد من صدّق هوداً والأنبياء(عليهم السلام)ومن كذب بهم وكان يوم القيامة في درجة الشهداء وحوسب حساباً يسيراً»(2).

ومن الوضوح بمكان أنّ مجرّد التلاوة لا يعطي هذا الأثر، وإِنّما يكون هذا الأثر إِذا كانت تلاوة هذه السورة مقرونة بالتفكر والعمل بعدها. وهذا هو الذي يقرّب الإِنسان إِلى المؤمنين السالفين ويبعده عن الذين أنكروا على الأنبياء وجحدوا دعواتهم، وعلى هذا الأساس يُثاب بعددهم ويعطي أجر كل واحد منهم،

____________________________

(1) روح المعاني، ج2، ص 206 .

(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 206.

[454]

ويكون هدفه كهدف شهداء تلك الأُمم السالفة .. فلا مجال للتعجب من أن ينالَ درجاتهم ويحاسب حساباً يسيراً ...

وينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من كتب هذه السورة على رق ظبي ويأخذها معه أعطاه الله قوّةً، ومن يحارب معه لنصر عليهم وغلبهم وكلّ من رآه يخاف منه»(1).

ولعل بعضاً ممن يطلب الراحة وينظر الى الأُمور بسطحيّة يتصوّر في قراءته لمثل هذه الأحاديث أنّ الإِنسان يمكن أن يصل إِلى مثل هذه الأهداف بمجرّد وجود الكتابة أو الرسم القرآني معه، ولكنّه جلي وواضح أنّ المقصود بذلك العمل على طبق ما في السورة، وأن يتخذها منهجاً لحياته وأن يقرأها دائماً ويمضي على العمل بها بحذافيرها .. ولا شك أنّ مثل هذا العمل تتحقق فيه مثل هذه الآثار أيضاً، لأنّ هذه السورة تأمر بالإِستقامة والوقوف بوجه الفساد والإِنسجام مع الأهداف، وتحتوي على التجارب السابقة من تأريخ الأمم السالفة التي يوجد في كلّ واحد منها درس من الإِنتصار على العدوّ.

* * *

____________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 206.

[455]

الآيات

الر كِتَبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيم خَبِير(1)أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نُذِيزٌ وَبَشِيرٌ(2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَعاً حَسَناً إِلَى أَجَل مُّسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْل فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّى آَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يُوْم كَبِير(3) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(4)

التّفسير

الاصول الاربعة في دعوة الأنبياء:

تبدأ هذه السورة ـ كما في بداية السورة السابقة وسائر سور القرآن ـ ببيان أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء، ليلتفت الناس إِلى محتوياته أكثر ويتفكروا فيه بنظرة أدق.

وذكر الحروف المقطعة (الر) ـ نفسه ـ دليل على أهمية هذا الكتاب السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف بسيطة معروفة للجميع مثل الألف واللام والراء

[456]

(الر)(1) مع ما فيه من عظمة وإِعجاز بالغين، ثمّ يبيّن بعد هذه الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.

أوّلا: إِنّ جميع آياته متقنة ومحكمة (كتاب أُحكمت آياته).

وثانياً: إِنّ تفصيل حاجات الإِنسان في حياته الفردية والإِجتماعية ـ مادية كانت أو معنوية ـ مبيَّن فيها أيضاً (ثمّ فُصِّلَتْ).

هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة، من أين أُنزل، وكيف؟! أُنزل من عند ربّ حكيم وخبير (من لدن حكيم خبير).

فبمقتضى حكمته أُحكمت آيات القرآن، وبمقتضى أنّه خبير مطلع بيّن آيات القرآن في مجالات مختلفة طبقاً لحاجات الإِنسان، لأنّ من لم يطلع على تمام جزئيات الحاجات الروحية والجسمية للإِنسان لايستطيع أن يصدر احكاماً جديرة بالتكامل.

الواقع، إِنّ كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من واحدة من صفات الله .. فاستحكام القرآن من حكمته، وشرحه وتفصيله من خبرته.

وفي بيان ماهو الفرق بين (أُحكمت) و(فُصلت) بحث المفسّرون كثيراً وأبدوا احتمالات عديدة .. وأقرب هذه الإِحتمالات ـ بحسب مفهوم الآية آنفة الذكر ـ هو أنّ الجملة الأُولى تعني أنّ القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان المرصوص الثابت، كما تدل على أنّه نازل من إِله فرد، ولهذا فلايوجد أي تضادٍّ في آياته، ولا يُرى بينها أي اختلاف.

والجملة الثّانية إِشارة إِلى أنّ هذا الكتاب في عين وحدته فيه شعب وفروع متعددة تستوفي جميع حاجات الإِنسان الرّوحيّة والمادية، فهو في عين وحدته

____________________________

(1) شرحنا هذا المعنى وسائر التفاسير التي ذكرت للحروف المقطعة في القرآن في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف.

[457]

كثير، وفي عين كثرته واحد! ..

وفي الآية التالية يُبيّن أهم مايحتوية القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد والوقوف بوجه الشرك (ألاّ تعبدوا إلاّ الله)(1) وهذا أوّل تفصيل لمحتوى هذا الكتاب العظيم.

والثّاني من محتويات الدعوة السماوية: (أنّني لكم منه نذير وبشير).. نذير لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر، وأُحذركم من عنادكم وعقاب الله لكم!

وثالث ما في منهج دعوتي إِليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا أنفسكم من الأدران: (وأن استغفروا ربّكم).

ورابعها هو أن تعودوا إِلى الله بالتوبة، وأن تتصفوا ـ بعد غسل الذنوب والتطهر في ظل الإِستغفار ـ بصفات الله، فإِنّ العودة إِليه تعالى لا تعني إِلاّ الإِقتباس من صفاته (ثمّ تُوبوا إِليه).

في الواقع إِنّ أربع مراحل من مراحل الدعوة المهمّة نحو الحق سبحانه بُيّنت في أربع جمل وفي أربعة أقسام، فقسمان يتضمنان الجانب «العقيدي» والأساسي. وقسمان يتضمنان الجانب «العملي» والفوقاني.

فقبول أصل التوحيد ومحاربة الشرك، وقبول رسالة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)أصلان اعتقاديان، والتطهّر من الذنوب والتخلّق بالصفات الإِلهية ـ اللذان يحملان معنى البناء بتمام معناه ـ أمران عمليان حضّ عليهما القرآن، وإِذا تأملنا بدقّة في الآيات الكريمة وجدنا أن جميع محتوى القرآن يتلخص في هذه الأُصول الأربعة ..

هذا هو الفهرس لجميع محتوى القرآن، ولجميع محتوى هذه السورة أيضاً.

ثمّ تبيّن الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها بالنحو

____________________________

(1) في جملة (ألا تعبدوا إلاّ الله) احتمالان: الأوّل: إِنّه على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما أشرنا إِليه ـ والتقدير: دعوتي وأمري إلاّ تعبدوا إلاّ الله. والثّاني: أنّه كلام الله، والتقدير: آمركم ألاّ تعبدوا إلاّ الله، ولكن جملة (إِنّني لكم منه نذير وبشير) تنسجم مع المعنى الأوّل.

[458]

التالي (يمتعكم متاعاً حسناً) فاذا عملنا بهذه الأُصول فإِنّ الله سبحانه يهبنا حياة سعيدة إِلى نهاية العمر، وفوق كل ذلك فإنّ كُلاً يُعطى بمقدار عمله ولا يهمل التفاوت والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول ... (ويؤت كل ذي فضل فضله) وأمّا في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية: (وإِن تولوا فإِنّي أخاف عليكم عذاب يوم كبير) حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإِلهي.

واعلموا أنَّ (إِلى الله مرجعكم) كائنا من كنتم، وفي أي محل ومقام أنتم، وهذه الجملة تشير إِلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّة للقرآن وهي مسألة «المعاد والبعث» ولكن لاتتصوروا ـ أبداً ـ أن قدرتكم تعدّ شيئاً تجاه قدرة الله، أو أنّكم تستطيعون الفرار من أمره ومحكمة عدله .. ولا تتصوروا ـ أيضاً ـ أنّه  لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوباً جديداً من الحياة .. (وهو على كل شيء قديرٌ).

علاقة الدين بالدنيا:

مايزال الكثير يظنون أن التدين هو العمل لعمارة الآخرة والسعادة بعد الموت، وأنّ الأعمال الصالحة هي الزاد والمتاع للدار الآخرة .. ولا يكترثون أبداً بأثر الدين الأصيل في الحياة الدنيا على حين أن الدين الصحيح في الوقت الذي يعمر الدار الآخرة يعمر «الدنيا» أيضاً .. وطبيعي إِذا لم يكن للدين أي تأثير على هذه الحياة الدنيا فلا تأثير له في الحياة الأُخرى أيضاً.

والقرآن الكريم يتعرض لهذا الموضوع بصراحة في آيات كثيرة، وربّما يتناول أحياناً الجزئيات من هذه المسائل، كما ورد في سورة نوح(عليه السلام) على لسان هذا النّبي العظيم مخاطباً قومه (فقلتُ استغفروا ربّكم إنّه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً يمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)(1).

____________________________

(1) سورة نوح، 9 ـ 11.

[459]

ويفهم البعض أنّ صلة هذه المواهب المادية في الدنيا مع الإِستغفار والتطهر من الذنوب معنوية وغير معروفة، في حين أنّه لا دليل على ذلك، بل الصلة بينهما ظاهرة معروفة.

فأي أحد لا يعلم أن الكذب والسرقه والفساد تهدم العلاقات الإِجتماعية؟ وأي أحد لايعلم أن الظلم والتبعيض والإِجحاف تجعل من حياة الناس جحيماً وتكدر صفوهم؟! وأيّ أحد يشك في حقيقة أن قبول أصل التوحيد وتكوين مجتمع توحيدي على أساس قيادة الأنبياء، وتطهير المجتمع من الذنوب والآثام، والتحلّي بالقيم الإِنسانية ـ وهي الأُصول الأربعة ذاتها التي أُشير إليها في الآيات المتقدّمة ـ يسير بالمجتمع البشري نحو هدف تكاملي أفضل، ويخلق محيطاً آمناً عامراً بالصفاء والحرية والصلاح؟

وعلى هذا الأساس نقرأ بعد هذه الأُصول الأربعة في الآيات المتقدمة قوله تعالى: (يمتعكم متاعاً حَسَناً إِلى أجل مُسمّى).

* * *

[460]

الآية

أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(5)

التّفسير

اختلف بعض المفسّرين في شأن نزول الآية، فقيل أنّها نزلت في أحد المنافقين واسمه «الأخنس بن شريق» الذي كان ذا لسان ذلق ومظهر جميل، وكان يُبدي للنّيي(صلى الله عليه وآله وسلم) الحب ظاهراً لكنّه كان يخفي العداوة والبغضاء في الباطن.

كما نُقل عن جابر بن عبدالله الأنصاري عن الإِمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) أنّها نزلت في جماعة من المشركين، حيث كانوا حين يمرون بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يطأطئون برؤوسهم ويستغشون ثيابهم لئلا يراهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن الآية تشير ـ على العموم ـ إِلى أحد الأساليب الحمقاء التي كان يتبعها أعداء الإِسلام والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بالإِستفادة من طريقة النفاق والإِبتعاد عن الحق، فكانوا يحاولون أن يخفوا حقيقتهم وماهيتهم عن الأنظار لئلا يسمعوا قول الحق.

لذلك فإِنّ الآية تقول: (ألا إِنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه).

[461]

ومن أجل أن نفهم الآية فهماً دقيقاً ينبغي أن تتضح لنا كلمة «يثنون» بجلاء فهي من مادة «ثني» وهي في الأصل تعني ضم أقسام الشيء بعضها إِلى بعض، فمثلا في طي قطعة القماش والثوب يقال «ثنى ثوبه» وإِنّما يقال للشخصين على سبيل المثال: إِثنان، فلأجل أن انضمّ واحد إِلى جانب الآخر، ويقال للمادحين «مثنون» كذلك، لأنّهم يعدون الصفات البارزة واحدة بعد الأُخرى.

وتعني الإِنحناء أيضاً، لأنّ الإِنسان بعمله هذا وهو الإِنحناء يقرّب أجزاء من جسمه بعضها إِلى بعض.

وتأتي هذه المادة بمعنى أن تجد العداوة والبغضاء والحقد طريقها إِلى القلب أيضاً .. لأنّ الإِنسان بهذا العمل يقرب عداء الشخص ـ أو أيّ شيء آخر ـ إِلى القلب، ومثل هذا التعبير موجود في الأدب العربي إذ يقال: «اثنونى صدره على البغضاء»(1).

ومع الأخذ بنظر الإِعتبار بما ورد آنفاً من معان لمادة «ثني» فلا يبعد أن تكون كلمة «يثنون» مشيرة إِلى كل عمل خفي ـ ظاهري وباطنيّ ـ قام به أعداء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن جهة يُضمرون العداوة والبغضاء في القلوب ويبدون المحبّة في لسان ذلق جميل! ومن جهة أُخرى يقربون رؤوسهم بعضها إِلى بعض عند التحدث، ويثنون الصدور ويستغشون الثياب، لئلا تنكشف مؤامراتهم وأقوالهم السيئة ويطّلع أحد على نياتهم.

لذلك فإِنّ القرآن يعقّب مباشرة: أن أحذروهم، فإِنّهم حين يستخفون تحت ثيابهم فإِنّ الله يعلم ما يخفون وما يعلنون .. (إِلا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إِنّه عليم بذات الصدور).

* * *

____________________________

(1) يراجع «تاج العروس» و «مجمع البيان» و «المنار» و «مفردات الراغب» في هذا الشأن.

[462]

الآية

وَمَا مِن دَآبَّة فِى الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتُوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كَتَاب مُّبِين (6)

التّفسير

جميع الاحياء ضيوف مأدبته:

الآية السابقة أشارت إِلى سعة علم الله وإِحاطته بالسر وما يخفون وما يعلنون، والآية محل البحث تُعدّ دليلا على تلك الآية المتقدمة، فإِنّها تتحدث عن الرازق لجميع الموجودات ولايمكن يتمّ ذلك إلاّ بالإحاطة الكاملة بجميع العالم وما فيه ..

تقول الآية (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها) ويعلم تقلّبها وتنقلها من مكان لآخر، وحيثما كانت فإِنّ الرزق يصل إِليها منه.

وهذه الحقائق مع جميع حدودها ثابتة في كتاب مبين ولوح محفوظ في علم الله (كلُّ في كتاب مبين).

* * *

[463]

ملاحظات

1 ـ بالرغم من أنّ كلمة «دابّة» مشتقة من مادة «دبيب» التي تعني السير ببطء وبخطى قصيرة، ولكنّها من الناحية اللغوية تشمل كل حيوان يتحرك في سيرة ببطء أو بسرعة، فنرى كلمة الدابة تطلق على الفرس وعلى كل حيوان يركب عليه، وواضح أنّ الكلمة في هذه الآية ـ محل البحث ـ تشمل جميع الحيوانات الموجودة على سطح الأرض بما فيها الحيوانات التي تدبّ في سيرها ..

2 ـ «الرزق»: هو العطاء المستمر، ومن هنا كان عطاء الله المستمر للموجودات رزقاً. وينبغي الإِلتفات إِلى أن مفهوم الرزق غير منحصر في الحاجات المادية، بل يشمل كل عطاء ماديّ أو معنوي. ولذلك نقول مثلا: «اللّهم ارزقني علماً كاملا» أو نقول: «اللّهم ارزقني الشهادة في سبيلك».

والظاهر أنّ المراد من الرزق في هذه الآية الرزق المادي، ولكن إِرادة المفهوم العام الذي يندرج تحته الرزق المعنوي غير بعيد ..

3 ـ «المستقر» ـ في الأصل ـ تعني المقّر، لأن جذر هذه الكلمة في اللغة مأخوذ من «قرّ» على وزن «حرّ» وتعني كلمة القرّ البرد الشديد الذي يجعل الإِنسان والموجودات الأُخرى يركنون إِلى بيوتهم، ومن هنا جاءت بمعنى التوقف والسكون أيضاً.

و «المستودع» و «الوديعة» من مادة واحدة، وهاتان الكلمتان في الأصل تعنيان «اطلاق الشيء وتركه» ولذلك تطلق عليه الأُمور غير الثابتة التي ترجع إِلى حالتها الطبيعية، فُيطلق على كل أمر غير ثابت «مستودع» وبسبب رجوع الشيء إِلى صاحبه الأصلي وتركه محله الذي هو فيه يسمى ذلك الشيء «وديعة» أيضاً.

فالآية أنفة الذكر تقول: لا ينبغي التصور أن الله سبحانه يرزق الدواب التي تستقر في أماكنها فحسب، بل هي حيث ماكانت وفي أي ظرف من الظروف تكون فإِنّه تعالى يوصل إِليها أرزاقها، لأنّه يعلم أماكن استقرارها، وكذلك يعلم جميع

[464]

المناطق التي تنتقل اليها وترحل عنها من حيوانات بحرية مهولة الحجم، الى أصغر الكائنات المجهرية، فإِنّه تعالى يرزق كلا منها بحسب حاجته وحاله.

وهذا الرزق ملحوظ بحيث يناسب حال الموجودات من حيث الكمية والكيفية، وهو مطابق تماماً لمقدار الحاجة والرغبة، حتى غذاء الجنين الذي في رحم أُمّه يتفاوت كل شهر عن الشهر السابق في النوعية والكمية، بل كل يوم عن اليوم السابق بالرغم ممّا يبدو من أن الدم نوع واحد لا أكثر. وكذلك الطفل في مرحلة الرضاعة حيث يبدو أن غذاءه من نوع واحد، لكن تركيب هذا الغذاء أو اللبن يختلف من يوم لآخر.

4 ـ «الكتاب المبين» معناه المكتوب الواضح البيّن، ويشير إِلى علم الله الواسع، وقد يعبر عنه أحياناً باللوح المحفوظ أيضاً.

ويحتمل أن يكون هذا التعبير اشارة إِلى أنّه لا ينبغي لأحد أن يهتم لرزقه أقلّ اهتمام، أو يحتمل سقطوا اسمه وسهمه من القلم، لأنّ أسماء الجميع مثبتة في (كتاب مبين) كتاب أحصى الجميع بجلاء ووضوح!

تقسيم الأرزاق والسعي من أجل الحياة!

هناك أبحاث مهمّة في مسألة «الرزق»، ونأخذ بنظر الإِعتبار ـ هنا ـ قسماً منها: 1 ـ «الرزق» ـ كما قلنا آنفاً ـ يعني في اللغة العطاء المستمر والدائم، وهو أعم من أن يكون رزقاً ماديّاً أو معنوياً .. فعلى هذا كل ما يكون فيه نصيب للعباد من قبل الله وينتفعون منه ـ من مواد غذائية ومسكن وملبس أو علم وعقل وفهم وإِيمان وإِخلاص ـ يسمى رزقاً، ومن ظنّ أن مفهوم الرزق خاص بالجوانب المادّية لم يلتفت إِلى موارد استعماله في القرآن الكريم بدقة .. فالقرآن يتحدث عن الشهداء في سبيل الله بأنّهم .. (أحياء عند ربّهم يرزقون)(1).

____________________________

(1) سورة آل عمران، 169.

[465]

وواضح أن رزق الشهداء ـ في عالم البرزخ ـ ليس نعمّا مادية، بل هو عبارة عن المواهب المعنوية التي يصعب علينا تصوّرها في هذه الحياة المادية.

2 ـ مسأله تأمين الحاجات بالنسبة للموجودات الحية ـ وبتعبير آخر تأمين رزقها ـ من المسائل المثيرة التي تنكشف أسرارها بمرور الزمان وتَقدُّم العلم .. وتظهر كل يوم ميادين جديدة تدعو للتعجب والدهشة.

كان العلماء في الماضي يتساءلون فيما لو كان في أعماق البحار موجودات حيّة، فمن أين يتم تأمين غذائها؟! إِذْ أنّ أصل الغذاء يعود إِلى النباتات والحشائش، وهي تحتاج إِلى نور الشمس، ولكن على عمق 700 متر فصاعداً لا وجود لنور الشمس أبداً، بل ليل أبدي مظلم يلقي ظلاله ويبسط أسداله هناك.

ولكن اتّضح بتقدم العلم أن نور الشمس يُغذّي النباتات المجهرية في سطح الماء وبين الأمواج، وحين تبلغ مرحلة النضج تهبط إِلى أعماق البحر كالفاكهة الناضجة، وتنظم الى الارزاق الإلهية للاحياء في تلك الاعماق، مائدة نعمة الله للموجودات الحية تحت الماء !

ومن جهة أُخرى فهناك طيور كثيرة تتغذى من أسماك البحر، منها طيور تطير في الليل وتهبط الى البحر كالغواص الماهر وعن طريق أمواج رادارية خاصّة تخرج من آنافها تعرف صيدها وتصطاده بمنقارها.

ورزق بعض أنواع الطيور يكون مُدّخراً بين ثنايا أسنان حيوانات بحرية كبيرة هذا النوع من الحيوانات بعد أن يتغذى من حيوانات البحر، تحتاج أسنانه إِلى «منظف طبيعي» فيأتي إِلى ساحل البحر ويفتح فمه الواسع فتدخل هذه الطيور التي أُدّخر رزقها في فم هذا الحيوان الضخم ـ دون وحشة ولا اضطراب ـ وتبحث عن رزقها بين ثنايا أسنان هذا الحيوان الكبير، فتملأ بطونها من جهة، وتريح الحيوان الذي تزدحم بين أسنانه «هذه الفضلات» من جهة أُخرى .. وحين تخرج الطيور وتطير في الفضاء يطبق هذا الحيوان البحري فمه بكل هدوء ويعود إِلى

[466]

أعماق البحر.

طريقة إِيصال الرزق من الله تعالى إِلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة حقّاً. من الجنين الذي يعيش في بطن أُمّه ولا يعلم أحد أسراره شيئاً، إِلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيّات الأرض، وفي الأشجار وعلى قمم الجبال أو في أعماق البحر، وفي الأصداف .. جميع هذه الموجودات يتكفل الله برزقها ولا تخفي على علمه، وكما يقول القرآن (... على الله رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها).

الطريف في الآيات آنفة الذكر أنّها تعِّبُر عن الموجودات التي تطلب الرزق بـ «الدّابّة» وفيها إِشارة لطيفة إلى العلاقة بين موضوع «الطاقة» و«الحركة». ونعلم أنّه حيثما تكن حركة فلابدّ لها من طاقة، أيْ ما يكون منشأً للحركة، والقرآن الكريم يبيّن ـ في الآيات محل البحث ـ أنّ الله يرزق جميع الموجودات المتحركة، وإِذا ما توسعنا في معنى الحركة فإنّ النباتات تندرج في هذا الأمر أيضاً، لأنّ للنباتات حركة دقيقة وظريفة في نموها، ولهذا عدّوا في الفلسفة الاسلامية موضوع «النمو» واحداً من أقسام الحركة ...

3 ـ هل أنّ رزق كلّ أحد مقدر ومعين من أوّل عمره إِلى آخره، وهل أنّه يصل إليه شاء أم أبى؟! أم أنّ عليه يسعى في طلبه؟

يظنّ بعض الأفراد السذّج استناداً إِلى الآية آنفة الذكر، وإِلى بعض الرّوايات التي تذكر أنّ الرزق مقدر ومعين، أنّه لا داعي للسعي من أجل الرزق والمعاش، فإِنّه لابدّ من وصول الرزق، ويقول بكل بساطة: إِنّ من خلق الأشداق قدّر لها الأرزاق.

إِنّ سلوك مثل هؤلاء الأفراد الذين لاحظّ لهم من المعرفة الدينية يعطي ذريعة الى الاعداء حيث يدّعون أن الدين أحد عوامل الركود الإِقتصادي وتقبل الحرمان وإماتة النشاطات الإِيجابيّة في الحياة، فيقول مثلا: إِذا لم تكن الموهبة

[467]

الفلانية من نصيبي فإِنّها لم تكن من رزقي قطعاً .. فلو كانت من نصيبي لوصلتني حتماً من دون تكلف عناء الكسب. وبهذا يستغل المستعمرون هذه الفرصة ليحرموا الكثير من الخلق التمتع بأسباب الحياة ... في حين أن أقل معرفة بالقرآن والأحاديث الإِسلامية تكفي في بيان أنّ الإِسلام يعدّ أساس أي استفادة مادية ومعنوية للإِنسان هو السعي والجد والمثابرة، حتى أنّنا نجد في القرآن جملة بمثابة الشعار لهذا الموضوع، وهي الآية الكريمة (ليس للإِنسان إلاّ ماسعى).

وكان أئمّة المسلمين ـ ومن أجل أن يسنّوا للآخرين نهجاً يسيرون عليه ـ يعملون في كثير من المواقع أعمالا صعبة ومجهدة.

والأنبياء السابقون ـ أيضاً ـ لم يُستثنوا من هذا القانون، فكانوا يعملون على الاكتساب، من رعي الأغنام إِلى الخياطة إِلى نسج الدروع إِلى الزراعة. فإِذا كان مفهوم الرزق من الله أن نجلس في البيت وننتظر الرزق، فما كان ينبغي للأنبياء والأئمّة ـ الذين هم أعرف بالمفاهيم الدينية ـ أن يسعوا هذا السعي إِلى الرزق!

وعلى هذا نقول: إِنّ رزق كل أحد مقدّر وثابت، إلاّ أنّه مشروط بالسعي والجد، وإِذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط. وهذا كما نقول: إِن لكلّ فرد أجلا ومدة من العمر. ولكن من المسلم والطبيعيّ أن مفهوم هذا الكلام لا يعني أنّ الإِنسان حتى لو أقدم على الإِنتحار أو أضرب عن الطعام فإِنّه سيبقى حيّاً إِلى أجل معيّن !! إِنّما مفهوم هذا الكلام أن للبدن استعداداً للبقاء إِلى مدّة معينة ولكن بشرط أن يراعي الظروف الصحيّة وأن يبتعد عن الأخطار، وأن يجنّب نفسه عمّا يكون سبباً في تعجيل الموت.

المسألة المهمّة في هذا المجال أنّ الآيات والرّوايات المتعلقة بتقدير الرزق ـ في الواقع ـ بمثابة الكابح للاشخاص الحريصين وعبّاد الدنيا الذين يلجون كل باب، ويرتكبون أنوا ع الظلم والجنايات، ويتصورون أنّهم إِذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمنوا حياتهم!

[468]

إِنّ آيات القرآن والأحاديث الإِسلامية تحذر هذا النمط من الناس ألاّ يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثاً، وألاّ يطلبوا الرزق من طرق غير مشروعة ولا معقولة، بل يكفي أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريق مشروع، والله سبحانه يضمن لهم الرزق فالله الذي لم ينسهم في ظلمة الرحم.

الله الذي تكفّل رزقهم أيّام الطفولة حيث هيأ لهم أثداء الأمّهات

الله الذي جعل الأب يسعى من الصباح إِلى الليل ليهيء لهم الغذاء بكل عطف وشفقة ـ بعد أن أنهوا مرحلة الرضاعة ـ وهو مسرور بالتعب من أجلهم ...

أجل، هذا الرّب الرحيم كيف يمكن أن ينسى الإِنسان إِذا ما كبر ووجد القدرة على العمل والكسب.

تُرى هل يجيز الإِيمان والعقل أن يلجأ الإِنسان إِلى الظلم والإِثم والتجاوز على حقوق الآخرين ويحرص على غصب حقوق المستضعفين بمجرّد أنّه يظن عدم توفر رزقه؟

وبالطبع لا يمكن أن ننكر أن بعض الأرزاق تصل إِلى الإِنسان سعى لها أم لم يسع. فهل يمكن أن ننكر أن نور الشمس يضيء في بيتنا من دون سعينا، وأن المطر والهواء يصلان إِلينا دون سعي منّا؟

وهل يمكن أن ننكر أنّ العقل والفكر والإِستعداد المذخور فينا من أوّل يوم وجودنا لم يكن بسعينا؟!

ولكن هذه المواهب التي تنقلها إِلينا الريح ـ كما يقال ـ أو بتعبير أصحّ هذه المواهب التي وصلتنا بلطف الله ومن دون سعينا، إِذا لم نحافظ عليها بالجد والسعي بطريقة صحيحة فستضيع من أيدينا، أو أنّها ستبقى بلا أثر!

هناك كلام معروف منقول عن الإِمام علي(عليه السلام) في شأن الرزق فيقول «واعلم يا بني أن الرزق رزقان، رزق تطلبه ورزق يطلبك»(1) وفي هذا الكلام إِشارة إِلى هذه

____________________________

(1) نهج البلاغة، من وصية الإِمام علي(عليه السلام) لولده الحسن(عليه السلام).

[469]

الحقيقة.

كما لا ينكر أن بعض موارد الرزق لا يأتي تبعاً لشيء ظاهر وملموس، بل يصلنا على أثر سلسلة من الإِتفاقات والمصادفات، هذه الحوادث وإِن كانت في نظرنا مصادفات، إلاّ أنّها في الواقع وفي نظام الخلق قائمة على حساب دقيق. ولاشك أن حساب هذا النوع من الرزق منفصل عن الأرزاق التي تأتي تبعاً للجد والسعي، والكلام آنف الذكر يمكن أن يشير إلى هذا المطلب أيضاً.

ولكن على كل حال ـ فإِن النقطة الأساسية هنا أنّ جميع التعاليم الإِسلامية تأمرنا أن نسعى أكثر فأكثر لتأمين نواحي الحياة المادية والمعنوية، وأن الفرار من العمل ـ بزعم أن الرزق مقسوم وأنّه آت لا محالة ـ غير صحيح! ..

4 ـ في الآيات المتقدمة ـ التي هي محل البحث ـ إِشارة إِلى «الرزق» فحسب، وبعدها ببضعة آيات يأتي التعبير عن التائبين والمؤمنين ويشار فيها إِلى «المتاع الحسن».

وبالموازنة والمقارنة بين هذين الأمرين يدلنا هذا الموضوع على أن الرزق معدّ لكل دابة من إنس وحشرات وحيوانات مفترسة ... الخ. وللمحسنين والمسيئين جميعاً! ... إِلاّ أن «المتاع الحسن» والمواهب الجديرة والثمينة خاصّة بالمؤمنين الذين يطهرون أنفسهم من كل ذنب وتلوّث بماء التوبة، ويتمتعون بنعم الله في مسير طاعته، لا في طريق الهوى والهوس!

* * *

[470]

الآية

وَهُوَ الَّذىِ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(7)

التّفسير

الهدف من الخَلق:

في هذه الآية بُحثت ثلاث نقاط أساسية:

المطلب الأوّل: يبحث عن خلق عالم الوجود ـ وخصوصاً بداية الخلق ـ الذي يدل على قدرة الله وعظمته سبحانه (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيّام ...).

ولا حاجة لبيان أنّ المقصود من كلمة «اليوم» في هذه الآية ليس هو اليوم العادي الذي هو مجموع أربع وعشرين ساعة، لأنّ الأرض والسماء لم تكونا موجودتين حينئذ .. فلا الكرة الأرضية كانت موجودة، ولا حركتها حول نفسها التي تُنتج أربعاً وعشرين ساعة .. بل المقصود منه ـ كما بينا سابقاً ـ هو الزمان،

[471]

سواء كان قصيراً أو مديداً جداً بحيث يبلغ مليارات السنوات مثلا، وقد نبهنا على هذا المعنى ـ في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف ـ بشرح واف في هذا المجال، فلا حاجة للتكرار والإِعادة.

وذكرنا هُناك أن خلق العالم كان في ستة أزمنة متوالية ومتتابعة، مع أنّ الله قادر على أن يخلق العالم كلّه في لحظة واحدة، وذلك لأنّ الخلق التدريجي يعطي صورة جديدة ولوناً جديداً وشكلا بديعاً وتتبيّن قدرة الله وعظمته أكثر وأحسن.

فهو يريد أن يبيّن قدرته في آلاف الصور لا بصورة واحدة، وحكمته في آلاف الثياب لا بثوب واحد، لتتيسر معرفته وكذلك معرفة حكمته وقدرته للناس، ولنجد الدلائل ـ من خلال عدد الأيّام والسنوات والقرون والأعصار التي مرّت على العالم ـ على معرفة الله!.. ثمّ يضيف سبحانه أن عرشه كان على الماء (وكانَ عرشهُ على الماء).

ومن أجل أن نفهم تفسير هذه الجملة ينبغي أن نفهم المراد من كلمتي «العرش» و«الماء».

«فالعرش» في الأصل يعني السقف أو ما يكون له سقف، كما يطلق على الأسرّة العالية كأسّرة الملوك والسلاطين الماضين، ويطلق أيضاً على خشب بعض الأشجار، وغير ذلك.

ولكن هذه الكلمة استعملت بمعنى القدرة أيضاً ويقال «استوى فلان على عرشه» كناية عن بلوغه القدرة كما يقال «ثُلَّ عرش فلان» كنايةً عن ذهاب قدرته(1).

كما ينبغي الإِلتفات إِلى هذه الدقيقة، وهي أن العرش يطلق أحياناً على عالم الوجود، لأنّ عرش قدرة الله يستوعب جميع هذا العالم.

وأمّا «الماء» فمعناه معروف، وهو السائل المستعمل للشرب والتطهير، إِلاّ أنّه قد يطلق على كل سائل مائع كالفلزّات المائعة وما أشبه ذلك، وبضميمة ما قلناه في

____________________________

(1) قد يطلق «العرش» ويراد به «الكرسي» وله مفهوم آخر وقد بيّناه في ذيل الآية (225) من سورة البقرة.

[472]

تفسير هاتين الكلمتين يستفاد أنّه في بدايه الخلق كان الكون بصورة مواد ذائبة «مع غازات مضغوطة للغاية، بحيث كانت على صورة مواد ذائبة أو مائعة».

وبعدئذ حدثت اهتزازات شديدة وانفجارات عظيمة في هذه المواد المتراكمة الذائبة، وأخذت تتقاذف أجزاء من سطحها إِلى الخارج، وأخذ هذا الوجود المترابط بالإِنفصال. ثمّ تشكلت بعد ذلك الكواكب السيّارة والمنظومات الشمسية والأجرام السماوية.

فعلى هذا نقول: إِنّ عالم الوجود ومرتكزات قدرة الله كانت مستقرة بادىء الأمر على المواد المتراكمة الذائبة، وهذا الأمر هو نفسه الذي أشير إِليه في الآية (30) من سورة الأنبياء.

(أوَ لم يرَ الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ...).

وفي الخُطبة الأُولى من نهج البلاغة إِشارات واضحة إِلى هذا المعنى ..

والمطلب الثّاني: الذي تشير إِليه الآية ـ آنفة الذكر ـ هو الهدف من خلق الكون، والقسم الأساس من ذلك الهدف يعود للإِنسان نفسه الذي يمثل ذورة الخلائق .. هذا الإِنسان الذي كتب عليه أن يسير في طريق التعليم والتربية ويشقّ طريق التكامل نحو الله تعالى

يقول الله سبحانه: (ليبلوكم أيّكم أحسن عملا) أي ليختبركم ويمتحنكم أيّكم الأفضل والأحسن عملا بهذه الدار الدنيا.

«ليبلوكم» كلمة مشتقّة من مادة «البلاء» و«الإِبتلاء» ومعناها ـ كما أشرنا إِليه آنفاً ـ الإِختبار والإِمتحان..

والإِمتحانات الإِلهية ليست من قبيل معرفة النفس وكشف الحالة التي عليها الإِنسان في محتواه الداخلي وفي فكره وروحه، بل بمعنى التربية (تقدم شرح هذا الموضوع في ذيل الآية 155 من سورة البقرة) والطريف في هذه الآية أنّها تجعل

[473]

قيمة كل إِنسان بحسن عمله لا بكثرة عمله، وهذا يعني أن الإِسلام يستند دائماً إِلى الكيفية في العمل لا إِلى الكثرة والكمية فيه.

وفي هذا المجال ينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال «ليس يعني أكثركم عملا ولكن أصُوَبكم عملا، وإِنّما الإِصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإِبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إِلاّ الله عزَّوجلّ»(1).

والمطلب الثّالث: الذي تشير إِليه الآية آنفة الذكر ـ هو مسألة المعاد الذي لا ينفصل ولا يتجزأ عن مسألة خلق العالم، وفيها بيان الهدف من الخلق وهو تكامل الإِنسان وتكامل الإِنسان يعني التهّيؤ إِلى الحياة في عالم أوسع وأكمل، ولذلك يقول سبحانه: (ولئن قلت أنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إِلاّ سحر مبين).

وكلمة «هذا» التي وردت ـ في الآية آنفة الذكر ـ على لسان الكفار، إِشارة إِلى كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن المعاد .. أي إِنّ ما تدّعيه أيّها النّبي في شأن المعاد سحر مكشوف وواضح، فعلى هذا تكون كلمة السحر هنا بمعنى الكلام العاري عن الحقيقة، والقول الذي لا أساس له، وبتعبير بسيط: الخدعة والسخرية !! لأنّ السَحَرة يُظهرون للناظرين بأعمالهم أُموراً لا واقع لها، ولهذا قد تطلق كلمة السحر على كل أمر عار عن الحقيقة ..

أمّا من يرى بأنّ «هذا» إِشارة إِلى القرآن المجيد، لأنّ القرآن أخّاذ وفيه جاذبية السحر فإنّه يجانب الصواب، لأنّ الآية تتكلم عن المعاد ولا تتكلم عن القرآن، وإِن كنّا لا ننكر أنّ القرآن فيه جاذبية وأنّه أخّاذ للغاية.

* * *

____________________________

(1) تفسير البرهان، الجزء الثّاني، ص 207 .

[474]

الآيات

ولَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة مَّعْدُودَة لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يُوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَنَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤسٌ كَفُورٌ(9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاَتُ عَنِّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ(10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(11)

التّفسير

استيعاب المؤمنين وعدم استيعاب غيرهم:

في هذه الآيات ـ وبمناسبة البحث السابق عن غير المؤمنين ـ بيان لزوايا الحالات النفسية ونقاط الضعف في أخلاق هؤلاء الأفراد والتي تجبر الإِنسان إِلى هاوية الظلام والفساد.

وأوّل صفة تذكر لهؤلاء هي السخرية من الحقائق وعدم الإِكتراث بها

[475]

وبالمسائل المصيرية، فهؤلاء بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وغرورهم ـ حين يسمعون تهديد الانبياء في مؤاخذة المسيئين ومعاقبتهم، ثمّ تمرّ عليهم عدّة أيّام يؤخر الله تعالى بلطفه فيها العذاب عنهم، نراهم يقولون باستهزاء مبطن: ما السبب في تأخرّ العذاب الالهي، و أين عقاب الله: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إِلى أُمّة معدودة ليقولنَّ مايحبسه).

و «الأُمّة» مشتقّة من مادة «أمّ» وهي بمعنى الوالدة، ومعناها في الأصل انضمام الأشياء بعضها إِلى بعض، ولذلك يقال لكل مجموعة على هدف معين، أو زمان أو مكان واحد «أمة».

وقد جاءت هذه الكلمة بمعنى الوقت والزمان أيضاً، لأنّ أجزاء الزمان مرتبطة بعضها ببعض، أو لأنّ المجموعة أو الجماعة تعيش في عصر وزمان معين، فنحن نقرأ في سورة يوسف(عليه السلام) الآية (45) مثلا (وادّكر بعد أُمّة) ..

ففي الآية ـ محل البحث ـ كلمة «الأُمّة» جاءت بهذا المعنى، ولذلك وصفت بكلمة «معدودة» فمعنى الآية هو: إِذا أخرنا عن هؤلاء العذاب والمجازاة لمدّة قصيرة قالوا: أي شيء يمنعه؟! ..

وعلى كل حال، فهذه عادة الجاهلين والمغترين، فكلّما وجدوا شيئاً لا ينسجم مع ميولهم وطباعهم عدّوه سخرية، لذلك يتخذون التهديدات والنذر التي توقظ أصحاب الحق وتهزهم .. يتخذونها هزواً ويسخرون منها شأنهم شأن من يلعب بالنّار.

لكن القرآن يحذرهُم وينذرهم بصراحة في ردّه على كلامهم، ويبين لهم أن لا دافع لعذاب الله إِذا جاءهم (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم) وأن الذين يسخرون منه واقع بهم ومدمّرهم (وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون).

أجل، ستصعد صرخاتهم إِلى السماء في ذلك الحين، ويندمون على كلماتهم المخجلة، لكن لا صرخاتهم تغنيهم وتنقذهم، ولا هذا الندم ينفعهم، ولات حين

[476]

مندم.

ومن نقاط الضعف عند هؤلاء قلّة الصبر بوجه المشاكل والصعاب وانحسار البركات الإِلهية. حيث نجد في الآية التالية قوله تعالى عنهم: (ولئن أذقنا الإِنسان منّا رحمة ثمّ نزعناها منه أنّه ليؤس كفور).

وبالرغم من أنّ هذا التعبير يتناول الإِنسان بشكل عام، لكن ـ كما أشرنا إِليه سابقاً ـ المراد من الإِنسان في مثل هذه الآيات هو الافراد الذين لم يتلقوا تربية سليمة والمنحرفون عن جادة الحق، لذلك يتطابق هذا البحث مع البحث السابق عن الأفراد غير المؤمنين.

ونقطة الضعف الثّالثة عند هؤلاء أنّهم حين يتنعمون بنعمة ويشعرون بالترف والرفاه يبلغ بهم الفرح والتكبر والغرور درجة ينسون معها كل شيء، ولذلك يشير القرآن الكريم إِلى هذه الظاهرة بقوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسته ليقولن ذهب السيئات عني أنّه لفرح فخور).

وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة (ليقولن ذهب السيئات عني)وهو أن مثل هؤلاء الأشخاص حين يُصابون بالشدائد ثمّ يبدل الله بلطفه هذه الشدائد نعمّا من عنده يقول هؤلاء: إِنّ الشدائد السابقة كانت كفارة عن ذنوبنا وقد غسلت جميع معاصينا، لذلك أصبحنا من المقربين إِلى الله، فلا حاجة للتوبة والعودة إِلى ساحة الله وحضرته.

ثمّ يستثني الله سبحانه المؤمنين الذين يواجهون الشدائد والمصاعب بصبر، ولا يتركون الأعمال الصالحة على كل حال، فهؤلاء بعيدون عن الغرور والتكبر وضيق الأفق، حيث يقول سبحانه: (إلاّ الذين صبروا وعملوا الصالحات).

هؤلاء لا يَغترّون عند وفور النعمة فينسون الله، ولا ييأسون عند الشدائد والمصائب فيكفرون بالله، بل إِن أرواحهم الكبيرة وافكارهم السليمه جعلتهم يهضمون النعم والبلايا في أنفسهم دون الغفلة عن ذكر الله واداء مسؤولياتهم

[477]

ولذلك فإِنّ لهؤلاء ثواباً ومغفرة من الله (أُولئك لهم مغفرة واجر كبير).

* * *

بحوث

1 ـ الأُمّة المعدُودَة وأصحاب المهدي(عليه السلام):

في روايات عديدة وصلتنا عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الأُمّة المعدودة تعني النفر القليل، وفيها إِشارة إِلى أصحاب المهدي(عليه السلام) وأنصاره، وعلى هذا يكون معنى الآية: إِذا ما أخرنا العذاب عن الظالمين والمسيئين إِلى ظهور المهدي وأصحابه، فإِنّ أُولئك الظالمين يقولون: أي شيء يقف أمام عذاب الله فيحبسه عنّا!

ولكن كما قلنا أن ظاهر الآية من الأُمّة المعدودة هو الزمان المعدود والمعين، وقد وردت رواية عن الإِمام علي(عليه السلام) في تفسير الأُمّة المعدودة تشير إِلى ما بيّناه، وهو الزمان المعين، فيمكن أن تكون الرّوايات الآنفة تشير إِلى المعنى الثّاني من الآية، وهو ما اصطلح عليه بـ «بطن الآية» وطبيعي أنّه بمثابة البيان عن القانون الكلي في شأن الظالمين، لا أنّه موضوع خاص بالمشركين الذين عاصروا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن نعلم أنّ آيات القرآن تحمل معاني كثيرة مختلفة، فالمعنى الأوّل والظاهر يمكن أن يكون في مسألة خاصّة أو جماعة معينة، والمعنى الآخر يكون عاماً مجرّداً عن الزمان وغير مخصوص بفئة معينة.

2 ـ أربع ظواهر لضيق الافق الفكري

رسمت الآيات المتقدمة ثلاث حالات مختلفة من حالات المشركين والمسيئين، وقد ورد في ضمنها أربعة أوصاف لهم:

الأوّل: إِنّ المشرك يؤوس عند قطع النعمة عنه، أي لا يبقى له أمل أبداً.

والآخر: إِنّه كفور، أي غير شاكر أبداً.

[478]

والثّالث: إِنّه إِذا غرق بالنعمة أو نال أقلّ نعمة، فهو ـ على العكس من الحالة السابقة ـ ينسى نفسه وينسى كل شيء ويغفل بما ناله من اللّذة والنشاط، فيغدو ثملا مغروراً وينجر إِلى الفساد والتجاوز على حدود الله.

والوصف الرّابع: إنّ حاله عند وفور النعمة حالة الفخر، أي يبلغ درجة كبيرة من التكبر.

وعلى كل حال، هذه الأوصاف الأربعة هي ظواهر من ضيق الاُفق وقلّة الإِستيعاب والرؤية .. وهي لا تختص بجماعة معينة من غير المؤمنين وملوّثي الفكر، بل هي سلسلة من الأوصاف العامّة لجميع هؤلاء ..

أمّا المؤمنون الذين يمتعون بروح كبيرة وفكر عال وصدر رحب ورؤية بعيدة المدى، فلا يهزّهم تبدل الدنيا والزمان، ولا ييأسوا لسلب النعمة عنهم، ولا يغرّهم إقبال النعمة فيكونوا من الغافلين، لذا ينبغي الدقة والملاحظة في آخر الآية التي تستثني المؤمنين، إِذ ورد التعبير فيها عن الإِيمان بالصبر والإِستقامة (إِلاّ الذين صبروا).

3 ـ معيار الضعف النفسي

والمسألة الدقيقة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها، هي أنّه في الموردين (مورد سلب النعمة بعد إِسباغها ومورد إِسباغ النعمة بعد سلبها) أشير بكلمة «أذقنا» المشتقّة من «الإِذاقة» ويراد بها أن نفوس هؤلاء المشركين ضعيفة إِلى درجة أنّهم لو أعطوا نعمة قليلة ثمّ سُلبت منهم يضجرون وييأسون، كما أنّهم إِذا ذاقوا نعمة بعد شدة يفرحون ويغترّون بها.

4 ـ النِعَمُ جميعُها مواهب:

الطريف أنّه في الآية الأُولى عبّر عن النعمة بالرحمة (ولئن أذقنا الإِنسان منَّا

[479]

رحمة) وفي الآية الثّانية ورد كلمة «النعمة» نفسها، ويمكن أن تكون إِشارة إِلى أنّ نعم الله جميعها تصل إِلى الإِنسان عن طريق التفضل والرحمة لا عن طريق الإِستحقاق، وإِذا كان الأصل أن تكون النعمة على حسب الإِستحقاق، فإِنّ جماعة قليلة ستنالها، أو أن أية جماعة لن تنالها أبداً.

5 ـ أثران للاعمال الحسنة

في آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وعدٌ بالمغفرة ـ للأفراد المؤمنين الذين يتمتعون بالإِستقامة ـ ووعد بالأجر الكبير أيضاً جزاءاً لأعمالهم الصالحة، فهي إِشارة إِلى أنّ الأعمال الصالحة لها أثران:

الأوّل: غسل الذنوب.

والثّاني: كسب الثواب العظيم والأجر الكبير.

* * *

[480]

الآيات

فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَالله عَلَى كُلِّ شَىْء وَكِيلٌ(12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَت وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ(13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ(14)

سبب النّزول

وردت في شأن نزول الآيات المتقدمة روايتان، ويحتمل أن تكون كليهما صحيحتين جميعاً.

الأُولى: إِنّ جماعة من رؤوساء مكّة جاؤوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالوا: إِذا كنت صادقاً في دعواك بأنّك نبي فصير جبال مكّة ذهباً أو أئتنا بملائكة من السماء تصدّق نبوتك، فنزلت هذه الآيات.

والثّانية: إِنّه روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): «يا علي إنّي سألت ربّي يوالي بيني وبينك ففعل، وسألت ربّي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل،

[481]

وسألت ربّي أن يجعلك وصيي ففعل» فقال رجلان من قريش ـ من المخالفين ـ : والله لصاع تمر في شن بال أحب إلينا ممّا سئل محمّد ربّه، فهلاً سئل ربّه ملكاً يعضده على عدوه، أو كنزاً يستغني به عن فاقته؟ ....(1)فنزلت الآيات السابقة لتكون جواباً لأُولئك ..

التّفسير

القرآن المعجزة الخالدة:

يبدو من هذه الآيات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوكل إِبلاغ الآيات ـ نظراً للجاجة الأعداء ومخالفتهم ـ لأخر فرصة، لذا فإِنّ الله سبحانه ينهي نبيّه في أوّل آية نبحثها عن ذلك بقوله: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إِليك وضائق به صدرك)لئلا يطلبوا منك معاجز مقترحة كنزول كنز من السماء، أو مجيء الملائكة لتصديقه (أنْ يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك).

وكما يستفاد من آيات القرآن الأُخرى كما في سورة الإِسراء (الآيات 90 ـ 93) ـ إِنّ هؤلاء لا يطلبون هذه المعاجز ليصدقوا دعوى النّبي ويتبعوا الحق، بل هدفهم اللجاجة والعناد والتّحجج الواهي، فلذلك تأتي الآية معقبة (إِنّما أنت نذير)سواءاً قبلوا دعواك أم لم يقبلوا، وسخروا منك أم لم يسخروا، فالله هو الحافظ والناظر على كل شيء (والله على كل شيء وكيل)أي لا تكترث بكفرهم وإيمانهم فإنّ ذلك لا يعنيك، وإنّما وظيفتك أن تبلغهم، والله سبحانه هو الذي يعرف كيف يحاسبهم، وكيف يعاملهم.

وبما أنّ الذين يتذرعون بالحجج ويشكلون على النّبي كانوا أساساً منكرين لِوحي الله، ويقولون: إنّ هذه الآية ليست نازلة من قبل الله، وإنّ هذا الكلام افتراه محمّد ـ وحاشاه من ذلك ـ على الله كذباً، لذلك تأتي الآية التالية لتبيّن بصراحة

____________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج2، ص342، نقلاً عن روضة االكافي.

[482]

تامة: (أم يقولون افتراه).

فقلْ لهم يا رسول الله ـ إِن كانوا صادقين في دعواهم أنّ ما تقوله ليس من الله وأنّه من صنع الإِنسان ـ فيأتوا بعشر سور مثل هذا الكلام مفتريات، وليدعوا ـ سوى الله ـ ماشاؤوا (قل فأتوا بعشر سور مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إِن كنتم صادقين).

أمّا إِذا لم يستجيبوا لدعوتك ولا للمسلمين، ولم يلبوا طلبك على الإِتيان بعشر سور مفتريات كسور القرآن، فاعلموا أن ذلك الضعف وعدم القدرة دليل على أن هذه الآيات نزلت من خزانة علم الله، ولو كانت من صنع بشر، فهم بشرٌ أيضاً .. فلماذا لا يقدرون على ذلك (فإِن لم يستجيبوا لكم فاعلموا إِنّما أنزل بعلم الله)واعلموا أيضاً أنّه لا معبود سوى الله، ونزول هذه الآيات دليل على هذه الحقيقة (وأن لا إِله إِلاّ الله) فهل يسلم المخالفون مع هذه الحالة (فهلْ أنتم مسلمون)؟

أي بعد ما دعوناكم للإِتيان بمثل هذه السور، وظهر عجزكم وعدم قدرتكم على ذلك، فهل يبقى شك في أن هذه الآيات منزلة من قبل الله، ومع هذه المعجزة البينة أمّا زلتم منكرين، أم أنّكم تسلمون وتقرّون حقاً؟!

* * *

بحوث

1 ـ من المعلوم أنّ كلمة «لعلّ» تأتي لإِظهار الرجاء لعمل شيء ما وتحققه، ولكن «لعل» هنا جاءت بمعنى النهي، وهي تماماً مثل مايريد الأب مثلا أن ينهي ولده فيقول له: لعلك ترافق فلاناً فأنت حينئذ غيرمهتم للعاقبة، فمعنى الكلام هنا: لا ترافق فلاناً لأن صحبته تضرك.

إِذاً فعلى الرغم من أن «لعل» تفيد الرجاء، إِلاّ أن المفهوم الإِلتزامي منها النهي عن عمل أيضاً.

[483]

في الآيات ـ محل البحث ـ يؤكّد الله سبحانه على النّبي ألاّ يؤخر إِبلاغه الوحي خوفاً من تكذيب المخالفين أو طلبهم معجزات مقترحة من قبلهم.

2 ـ يرد هنا سؤال هو: كيف يمكن للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤخر إبلاغه الوحي، أو لا يبلغه أساساً؟ مع أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم ولا يصدر منه الخطأ والذنب!

الجواب: إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) متى ما اُمر بتبليغ حكم فوري فمن المسلّم أنّه يبلغه فوراً ودون ابطاء، ولكن يتفق ـ أحياناً أن يكون وقت التبليغ موسعاً .. والنّبي يؤخر البلاغ تبعاً لأُمور ... هذه الأُمور ليس لها جانب شخصي بحيث تعود للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، بل لها جانب عام ودفاع عن الدين، وهذا التأخير ليس ذنباً قطعاً، مثل ما ورد ـ في سورة المائدة في الآية 67 ـ من أمر الله للرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بالتبليغ، وأن لا يخاف من تهديدات الناس لأنّ الله سيحفظه حيث يقول عزَّوجلّ: (يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إِليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).

وعلى هذا فلم يكن تأخير البلاغ هنا ممنوعاً على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن «الإِسراع» فيه دليل على قاطعيته .. فالإِسراع بالتبليغ يُعدّ أولى من التأخير .. فالله سبحانه يريد أن يشدّ من معنوية نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ويثبت فؤاده ويجعله صلداً أمام المخالفين بحيث يبلغ «بضرس قاطع» ولا يلتفت إِلى طلبات المخالفين وحجج المستهزئين، ولا يستوحش من صخبهم وضجيجهم!

3 ـ احتمل المفسّرون في معنى «أم» التي في أوّل الآية الأُخرى (أم يقولون افتراه) احتمالين:

الأوّل: إِنّه بمعنى «أو».

والثّاني: بأنّه بمعنى «بل».

ففي الصورة الأُولى يكون المعنى على النحو التالي:

لعلك لم تتلُ آياتنا خوفاً من حجج المخالفين، أو أنّك تلوتها ولكنّهم كذبوك

[484]

وقالوا افتريتها على اللّه سبحانه.

وفي الصورة الثّانية يكون المعنى على النحو التالي:

لا تؤخر إِبلاغ آياتنا لحجج المخالفين [ثمّ يضيف سبحانه] بل هم أساساً منكرون للوحي وللنّبوة، ويزعمون أن الرّسول يكذب على الله.

وفي الحقيقة. إِنّ الله يخبر نبيّه مع هذا البيان أن ما يطلبه هؤلاء من المعاجز المقترحة فليس لطلب «الحق»، بل لأنّهم أساساً منكرون للنّبوة. وإِنّما هي حجج وتعاليل يتذرعون بها!

وعلى كل حال، فعند التأمل في الآيات آنفة الذكر ـ وخاصّة إِذا دققنا النظر في كلماتها من الناحية الأدبية ـ نجد أن المعنى الثّاني أقرب إِلى مضاد الآيات، فتأملّوا!

4 ـ لا شكّ أنّ على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُريَ معاجزه للذين يطلبون الحق لتكون سنداً لحقانية نبوته، ولا يستطيع أي نبي من الأنبياء أن يستند إِلى ادعائه فحسب. ولكن لا ريب ولا شك أن المخالفين الذين تحدثت عنهم الآيات لم يكونوا يطلبون الحقيقة ويبحثون عنها «وماكانوا يطلبونه من معاجز كانت معاجز اقتراحية على حسب ميولهم وأهوائهم ولا يقتنعون بأية معجزة أُخرى».

ومن المسلّم أنّ هؤلاء محتالون وليسوا بطلاّب حقيقة. فهل كان يجب على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكون لديه كنوز عظيمة كما كان يريده منه مشركو مكّة؟! أو أن يكون معه ملك يصدق دعوته وبلاغه؟!

وبعد هذا كلّه ألم يكن القرآن نفسه أعظم وأكبر من كل معجزة .. وإِذا لم يكن أُولئك في صدد التَحَجُّج والتَّحَيُّل، فلماذا لم يذعنوا لآيات القرآن الذي كان يتحدّاهم ويقول لهم: (فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إِن كنتم صادقين).

5 ـ إِنّ الآيات ـ المذكورة ـ توكّد إِعجاز القرآن مرّة أُخرى وتقول: ليس هذا

[485]

كلاماً عادياً يترشح من الفكر البشري، بل هو وحي السماء الذي ينزل بعلم الله اللامحدود وقدرته الواسعة، وعلى هذا فإِنّه يتحدّى جميع البشر أن يواجهوه  بمثله ـ مع ملاحظة أنّ المخالفين من معاصري النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعدهم إِلى يومنا هذا عجزوا عن ذلك، وفضلوا مواجهة الكثير من المشاكل على معارضة القرآن، وهكذا يتّضح أن مثل هذا العمل لم يكن من صنع البشر ولايكون، فهل المعجزة شيء غير هذا؟!

هذا نداء القرآن ما زال في أسماعنا، وهذه المعجزة الخالدة تدعو العالمين إليها وتتحدى جميع المحافل البشرية، لا من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال العبارات وجاذبيتها ووضوح المفاهيم فحسب. بل من حيث المحتوى والعلوم التي فيه والتي لم تكن موجودة في ذلك الزمان، والقوانين التي تتكفل بسعادة البشرية ونجاتها، والبيان الخالي من التناقض، والقصص التاريخية الخالية من الخرافات، وأمثالها. وقد بيّنا ذلك وشرحناه في تفسير الآيتين (23 و 24) من سورة البقرة في إِعجاز القرآن.

جميع القرآن أو عشر سور منه أو سورة واحدة!

6 ـ نحن نعلم أنّ القرآن دعا في بعض آياته المنكرين لنبوة محمّد والمخالفين له إِلى الإِتيان بمثل القرآن، كما في سورة الإِسراء الآية (88) . وفي مكان آخر إِلى الإِتيان بعشر سور، كما هو في الآيات التي بين أيدينا ـ محل البحث ـ وفي مكان آخر دعا المخالفين إِلى سورة مثل سور القرآن، كما في سورة البقرة الآية (23).

ولهذا السبب بحث جماعة من المفسّرين هذا «السرّ» في التفاوت في التحدّي والدعوة إِلى المواجهة، فما هو؟! ولِمَ في مكان من القرآن يطلب الإِتيان بمثله. وفي مكان بعشر سور، وفي مكان يطلب الإِتيان بسورة واحدة ؟! وقد اتبعوا طرقاً مختلفة في الإِجابة على هذا السؤال.

[486]

ألف ـ يعتقد البعض أنّ هذا التفاوت من قبيل التنازل من مرحلة عُليا إِلى مرحلة أقل على سبيل المثال، أن يقول قائل لآخر: إِذا كنتَ ماهراً مثلي في فن الكتابة والشعر فاكتب كتاباً ككتابي وهات ديوان شعر كديواني، ثمّ يتنازل ويقول فهات فصلا مثل فصول كتابي، إِلى أن يتحدّاه بأن يأتي بصفحة مثل صفحاته.

ولكن هذا الجواب يكون صحيحاً في صورة ما لو كانت سور الإِسراء وهود ويونس والبقرة قد نزلت بهذا الترتيب، كما هو منقول في كتاب «تأريخ القرآن» عن الفهرست لابن النديم، لأنّه يقول إِنّ سورة الإِسراء رقمها في السور (48)، وسورة هود (49)، وسورة يونس (51)، والبقرة هي السورة التسعون النازلة على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن هذا الكلام لاينسجم مع ترتيب السور في التفاسر الإِسلامية.

ب ـ يرى البعض أن ترتيب السور الآنفة رغم عدم توافقها مع ترتيب التحدي من الأعلى الى الأدنى، ولكن نعلم أنّ جميع آيات السورة الواحدة لم تنزل مجموعة في آن واحد، فبعض الآيات كانت تتأخر في النزول مدة ثمّ يُلحقها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالسورة الفلانية بحسب تناسبها معها، وفي محل كلامنا هذا يمكن أن يكون الأمر كذلك، وعلى هذا فإنّ تاريخ السور لا يتنافى مع التنزّل، أو التنازل من مرحلة عليا إِلى مرحلة دنيا.

ج ـ هناك احتمال آخر لحل هذا الإِشكال هو أنّ أجزاء «القرآن» أجزاء تطلق على الكل وعلى البعض منه، فنحن نقرأ في الآية الأُولى من سورة الجن (إِنّا سمعنا قرآناً عجباً) وواضح أنّهم سمعوا بعض القرآن لا أنّهم سمعوا القرآن كلّه، ولفظ القرآن في الأساس مشتق من القراءة، ومن المعلوم أنّ القراءة والتلاوة تصدق على جميع القرآن وعلى جزء منه أيضاً، فعلى هذا يكون التحدي بـ«مثل القرآن» غير مقصود به التحدي بالإِتيان بمثل جميع القرآن، وهو ينسجم بهذا المعنى مع التحدي بعشر سور منه أو حتى بسورة واحدة.

[487]

ومن جهة أُخرى فإِنّ السورة في الأصل تعني «المجموعة المحدودة»، فيكون إِطلاقها على مجموعة آيات صحيحاً وإِن لم يكن ذلك غير جار في الإِصطلاح العرفي.

وبتعبير آخر فإِنّ السورة تطلق على معنيين:

الأول: يراد به مجموعة الآيات التي تبحث عن هدف معين.

والثّاني: يراد به ما بدىء بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) وينتهي قبل (بسم الله الرحمن الرحيم).

والشاهد على هذا قوله تعالى في سورة التوبة الآية (86): (وإِذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله) فالواضح من هذه الآية أن المراد بالسورة من قوله: (وإذا أنزلت سورة) ليس إلاّ الآيات التي تحمل الهدف الآنف، وهو الإيمان بالله والجهاد مع الرّسول، وإن كانت الآيات بعضاً من سورة !..

أمّا «الراغب الأصبهاني» فيقول في مفرداته في تفسير أوّل سورة النّور (سورة أنزلناها) أي جملة من الأحكام والحكم. فكما نلاحظ هنا أن الراغب فسّر السورة بمجموعة من الأحكام والحكم، فلا يبقي فارق مهم بين ألفاظ «القرآن» و «عشر سور» و «سورة» من حيث المفهوم اللغوي.

والنتيجة أنّ تحدي القرآن ليس من قبيل التحدي بكلمة واحدة أو بجملة واحدة، حتى يدعي مدع أنّه قادر على الإتيان بآية مثل آية (والضحى) أو آية (مدهامتّان) ـ أو أنّه يستطيع أن يأتي بجمل بسيطة كما في القرآن، بل التحدي في كل مكان بمجموعة من الآيات التي تحمل هدفاً معيناً «فتأمل» .

7 ـ من هو المخاطب بقوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم)؟ هناك أقوال بين المفسّرين، فبعض يرى أنّ المخاطب بالآية هم «المسلمون»، أي إذا لم يستجب المنكرون لكم أيّها المسلمون فيأتوا بعشر سور مفتريات فاعلموا أنّ القرآن منزل من الله سبحانه، وهذا كاف في الدلالة على إعجاز القرآن.

[488]

وقال بعض المفسّرين: المخاطب بالآية هو. «المنكرون» أي: أيّها المنكرون إذا لم يستجب الناس لكم وكل ما دعوتم من دون الله، ولم يقدروا على الإتيان بعشر سور فاعلموا أنّ القرآن نازل من قِبل الله .

ولكن من حيث النتيجة لا يوجد تفاوت مهم بين التّفسيرين ، وإنّ الإحتمال الأوّل أقرب حسب الظاهر .

* * *

[489]

الآيتان

مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَلَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ(15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الأَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(16)

التّفسير

الآيات أعلاه أكملت الحجة مع «دلائل إِعجاز القرآن» على المشركين والمنكرين، ولكن جماعة منهم امتنعوا عن القبول ـ لحفظ منافعهم الشخصيّة ـ بالرّغم من وضوح الحق، فالآيات هذه تشير إِلى مصير هؤلاء فتقول: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) من رزق مادي وشهرة وتلذذ بالنعم (نُوَفِّ إليهم)نتيجة (أعمالهم فيها) في هذه الدنيا (وهم فيها لايبخسون) أي لا ينقص من حقهم شيء في الدنيا!

«البخس» في اللغة نقصان الحق، وجملة (وهم فيها لا يُبخسون) إِشارة إِلى أنّهم سينالون نتيجة أعمالهم بدون أقل نقصان من حقوقهم.

هذه الآية سنة إِلهية دائمة، وهي أنّ الأعمال «الإِيجابية» والمؤثرة لاتضيع

[490]

نتائجها، مع فارق وهو أنّه إِذا كان الهدف الأصلي منها هو الوصول إِلى الحياة المادية في هذه الدنيا فإِنّ ثمراتها في الدنيا فحسب، وأمّا إِذا كان الهدف هو «الله» وكسب رضاه فإِنّ تأثيرها ونتائجها ستكون في الدنيا وفي الآخرة أيضاً حيث تكون النتائج كثيرة الثمار.

الواقع إنّ القسم الأوّل من هذه الأعمال كالبناية المؤقتة والقصيرة العمر، فلا يستفاد منها إلاّ قليلا، ثمّ مصيرها الى الزوال والفناء.

أمّا القسم الثّاني منها فإِنّها تشبه البناء المرصوص المحكم الذي يدوم قروناً وينتفع به مدّة مديدة.

وهذا من قبيل مانراه بوضوح على أرض الواقع المعاش، فالعالم الغربي فتح أسراراً كثيرة من العلم بسعيه المتواصل والمنسّق، وأصبح متسلطاً على قوى الطبيعة وحصل على مواهب كثيرة لتصديه الدائب لمشاكل الحياة الدنيوية بصبر واستقامة وجد. فلا كلام في نيل العالم الغربي جزاء أعماله وتحقيقه انتصارات مشرقة، ولكن لأنّ هدفه الحياة الماديّة فحسب، فإِنّ أعماله لاتثمر غير توفر الإِمكانات المادية، حتى الأعمال الإِنسانية كبناء المستشفيات والمراكز الصحية والمراكز الثقافية وإِعانة بعض الأُمم الفقيرة وأمثال ذلك، «مصيدة» لاستعمارهم واستثمارهم للآخرين .. فلأنّها تحمل هدفاً مادياً فقط ومن أجل حفظ المنافع المادية فإِنّ أثرها يكون ماديّاً فحسب. كذلك الحال بالنسبة لمن يعمل رياءً.

فلذلك يقول سبحانه عنهم في الآية التالية: (أُولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار) ليزول كل أثر اُخروي لما عملوا في هذه الدنيا ولا ينالون عليه أي ثواب (وحبط ما صنعوا فيها) وكل ما كان لغير الله فسيزول أثره (وباطل ما كانوا يصنعون).

«الحَبْط» في الأصل يطلق على حالة خاصّة من أكل الحيوانات للعلف بشكل غير طبيعي، فتنتفخ بُطونها ويتعطل الجهاز الهضمي عندها فتبدو وكأنّها قد سمنت

[491]

ولكنّها في الباطن وفي الحقيقة مريضة.

هذا التعبير الطريف يقال للأعمال التي تبدو في الظاهر مفيدة وإنسانية، إلاّ أنّها في الباطن مقرونة بنية ذميمة وخبيثة!

* * *

ملاحظات

1 ـ من الممكن أن يُتصور في البداية أنّ الآيتين محل البحث متعارضتان، فالآية الأُولى تقول: إِن من كان هدفه الحياة الدنيا فإِنّه سينال جزاءه فيها كاملا غير منقوص (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إِليهم أعمالهم فيها وهم فيها لايبخسون) أمّا الآية الثّانية فتقول إِن أعماله تكون بلا أثر وباطلة: (وحبط ما صنعوا فيها وباطل ماكانوا يعملون).

ولكن مع الإِلتفات إِلى أن إِحدى الآيتين تشير إِلى مايجري في الدنيا والثّانية تشير إِلى الدار الآخرة، يتّضح الجواب على هذا الإِشكال، وهو أنّهم ينالون جزاء أعمالهم في هذه الدنيا، ولكن لا قيمة لهذا العمل حتى ولو كان من أهم الأعمال ـ إِذا لم يكن لها في الآخرة أيُّ أثر. لأنّ هدفهم لم يكن نقيّاً ونيّتهم غير خالصة، حيث كانوا يسعون لتحصيل سلسلة من المنافع المادية، وقد تحققت لهم في الدنيا.

2 ـ ذكر كلمة «الزينة» بعد «الحياة الدنيا» تدلّ ذم عبادة الدنيا وزخرفها وزبرجها، وليس المقصود من ذلك الإِستفادة باعتدال من مواهب هذا العالم!

فكلمة «الزينة» التي جاءت هنا ببيان مغلق، إلاّ أنّها في آيات أُخرى فُسرت بالنساء الجميلات والكنوز والمراكب والزخارف .. الخ.

(زُين للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث)(1)((2)).

____________________________

(1) آل عمران، 14.

(*) لمزيد من الإِيضاح يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية 14 من سورة آل عمران.

[492]

3 ـ ذكر كلمة «الباطل» بعد كلمة «الحبط» يمكن أن تكون إِشارة إِلى أن أعمالهم لها ظاهر بدون محتوى، ولذلك تذهب نتيجتها أدراج الرياح.

ثمّ يضيف أن أعمالهم اساساً باطلة من البداية ولا خاصية لها، غاية ما في الأمر إنّ كثيراً من حقائق الأُمور لما كانت في الدنيا غير معروفة فإِنّها تنكشف في الدار الآخرة التي هي محل كشف الأسرار، فيتّضح أنّ هذه الأعمال لم يكن لها قيمة منذ البداية!.

4 ـ في كتاب «الدر المنثور» حديث منقول عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآيات يبيّن مفاد هذه الآيات بجلاء «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِذا كان يوم القيامة صارت أُمتي على ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصاً، وفرقة يعبدون الله رياءً. فرقة يعبدون الله يصيبون به دُنيا».

فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا، فيقول: لاجرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إِليه. انطلقوا به إِلى النّار.

ويقول للذي يعبد الله رياءً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء، فيقول: إِنّما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إِلي منها شيء ولا ينفعك اليوم، انطلقوا به إِلى النّار.

ويقول للذي كان يعبد الله خالصاً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ فيقول: بعزّتك وجلالك لأنت أعلم منّي، كنت أعبدك لوجهك ولدارك، قال: صدق عبدي، انطلقوا به إِلى الجنّة»(1).

* * *

____________________________

(1) نقلا عن تفسير الميزان، ج 10، ص 186.

[493]

الآية

أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهْدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مُوْعِدُهُ فَلاَتَكُ فِى مِرْيَة مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ(17)

التّفسير

هناك أقوال كثيرة ـ في تفسير الآية أعلاه ـ بين المفسّرين، ولهم نظرات مختلفة في جزئيات الآية وكلماتها وضمائرها والأسماء الموصولة فيها وأسماء الإِشارة، وما نُقلَ عنهم يخالف طريقتنا في هذا التّفسير، ولكنّ تفسيرين منها أشد وضوحاً من غيرهما ننقلهما هنا على حسب الأهميّة:

1 ـ في بداية الآية يقول الحق سبحانه:

(أفمن كان على بينة من ربّه ويتلوه شاهد منه) أي من الله تعالى (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ...). أي التوراة التي تويّد صدقه وعظمته، مثل هذا الشخص هل يستوي ومن لا يتمتع بهذه الخصال والدلائل البينة.

هذا الشخص هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، «البيّنة» ودليله الواضح هو القرآن المجيد،

[494]

والشاهد المصدق بنبوّتهِ كلّ مؤمن حق أمثال علي(عليه السلام)، ومن قَبلُ وردتْ صفاته وعلائمه في التوراة، فعلى هذا ثبتت دعوته عن طرق ثلاثة حقّة واضحة.

الأوّل: القرآن الكريم الذي هو بيّنة ودليل واضح في يده.

الثّاني: الكتب السماوية التي سبقت نبوّته وأشارت إِلى صفاته بدقّة، وأتباع هذه الكتب السماوية في عصر النّبي كانوا يعرفونه حقاً، ولهذا السبب كانوا ينتظرونه.

والثّالث: أتباعه وأنصاره المؤمنون المضحّون الذين كانوا يبيّنون دعوته ويتحدثون عنه، لأن واحداً من علائم حقانيّة مذهب ما هو إخلاص اتباعه وتضحيتهم ودرايتهم وإيمانهم وعقلهم، إذ أن كلّ مذهب يُعرف بأتباعه وأنصاره.

ومع وجود هذه الدلائل الحيّة، هل يمكن أن يقاس مع غيره من المدعين، أم هل ينبغي التردّد في صدق دعوته؟!(1).

ثمّ يشير بعد هذا الكلام إلى طلاب الحقّ والباحثين عن الحقيقة، يدعوهم إلى الإيمان دعوة ضمنية فيقول: (أُولئك يؤمنون به) أي النّبي الذي لديه هذه الدلائل الواضحة.

وبالرغم من أنّ مثل هؤلاء الذين اُشير إليهم بكلمة «أُولئك» في الآية لم يذكروا في الآية نفسها، ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يمكن استحضارهم في جوّ هذه الآية والإشارة إليهم.

ثمّ يعقب بعد ذلك ببيان عاقبة المنكرين ومصيرهم بقوله تعالى: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنّار موعده).

____________________________

(1) طبقاً لهذا التّفسير يكون المقصود بـ«من» هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والبيّنة هي القرآن، والشاهد ويراد به معنى «الجنس» من كل مؤمن صادق وفي مقدمتهم الإِمام علي أميرالمؤمنين(عليه السلام)ويعود الضمير في كلمة «منه» إِلى الله سبحانه، ويعود الضمير في كلمة «من قبله» إِلى القرآن أو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومجموع الجملة مبتدأ وخبره محذوف تقديره: كمن ليس كذلك، أو كمن يريد الحياة الدنيا.

[495]

وفي ختام الآية ـ كما هي الحال في كثير من آيات القرآن ـ يوجه الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويبيّن درساً عاماً لجميع الناس، ويقول: بعدَ هذا كلّه من وجود الشاهد والبيّنة والمصدق بدعوتك، فلا تتردد في الطريق ذاته (فلا تك في مرية منه)لأنّه من قبل الله سبحانه (إِنّه الحقّ من ربّك) ولكن كثيراً من الناس ونتيجةً لجهلهم وأنانيتهم لايؤمنون (ولكن أكثر الناس لايؤمنون).

2 ـ التّفسير الثّاني لهذه الآية هو أنّ هدفها الأصل بيان حال المؤمنين الصادقين الذين يؤمنون بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع وجود الدلائل الواضحة والشواهد على صدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء في الكتب السماوية السابقة في شأنه، فأُولئك هم المؤمنون، واستناداً إِلى هذه الدلائل جميعاً يؤمنون به (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعلى هذا يكون المقصود من قوله: (أفمن كان على بيّنة من ربّه) جميع الذين لديهم دلائل مقنعة، حيث سارعوا إِلى الإِيمان بالقرآن ومن جاء به، وليس المقصود بكلمة «مَن» في الآية هو النّبي.

والذي يرجع هذا التّفسير على التّفسير السابق هو وجود الخبر في الآية صريحاً وليس محذوفاً، والمشار إِليه «أُولئك» مذكور في الآية نفسها، والقسم الأوّل من الآية يبدأ بقوله: (أفمن كان على بيّنة من ربّه) إِلى قوله: (أُولئك يؤمنون به) ويشكل جملة كاملة من دون أي حذف وتقدير .. ولكن من دون شك فإِنّ التعبيرات الأُخرى في هذه الآية لاتنسجم مع هذا التّفسير كثيراً، ولهذا جعلنا هذا التفسير في المرحلة الثّانية «فتأمل»!

وعلى كل حال، فالآية تشير إِلى امتيازات الإِسلام والمسلمين الصادقين واستنادهم إِلى الدلائل المحكمة في اختيار مذهبهم هذا .. وفي قبال ذلك تذكر ما بصير إِليه المنكرون والمستكبرون من مآل مشؤوم أيضاً ..

* * *

[496]

بحوث

1 ـ ما المقصود «بالشاهد» في الآية ؟!

قال بعض المفسّرين: إِن المقصود بالشاهد هو جبرئيل(عليه السلام)أمين وحي الله، ومنهم من فسّره بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنهم من قال: إِنّ معناه لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حالة فهم معنى «يتلو» من التلاوة أي القراءة، لا بمعنى التلّو الذي معناه مجيء شخص بعد آخر.

ولكن كثيراً من كبار المفسّرين فسروا «شاهد» بالإِمام علي(عليه السلام)، ففي روايات كثيرة وصلتنا عن الأئمّة المعصومين، وفي بعض كتب تفسير أهل السنة ـ أيضاً ـ هناك تأكيد على أنّ المقصود من «الشاهد» في الآية هو الإِمام علي(عليه السلام) أوّل من آمن بالنّبي والقرآن الكريم، وكان معه في جميع المراحل ولم يقصر لحظةً في التضحية دونه وحمايته إِلى آخر نفس(1).

وفي حديث منقول عن الإِمام علي(عليه السلام) أنّه قال: «ما من رجل من قريش إلاّ وقد أنزل فيه آية أو آيتان من كتاب اللّه، فقال له رجل من القوم: وماذا أنزل فيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أما تقراً الآية التي في هود (أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه) محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) على بيّنة من ربّه وكنت أنا الشاهد»(2).

وفي آخر سورة الرعد عبارة تؤيد هذا المعنى، حيث يقول سبحانه: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب).

هناك روايات كثيرة عن طرق الشيعة وأهل السنة تبيّن أنّ المراد بقوله: (ومن عنده علم الكتاب) هو الإِمام علي(عليه السلام).

وممّا يجدر ذكره ـ كما أشرنا سابقاً ـ أن واحداً من أفضل طرق حقانية أيّ مذهب هو مطالعة شخصية أتباعه والمدافعين عنه وحماته. فحين نلاحظ جماعةً

____________________________

(1) راجع تفسير البرهان، ونور الثقلين، والقرطبي، ومجمع البيان، وسائر التفاسير.

(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 213، ونور الثقلين، ج2، ص346.

[497]

أتقياء، أذكياء، مؤمنين مخلصين اجتمعوا حول أحد القادة، أو مذهب معين فسيتّضح جيداً أنّ هذا القائد وهذا المذهب على درجة عالية من الحق والصدق.

ولكن حين نرى جماعة انتهازيين محتالين غير مؤمنين ولا متقين تجمعوا حول مذهب مّا أو قائد مّا، فقلّ أن نصدّق أن ذلك المذهب أو القائد على حق.

وينبغي الإِشارة إِلى هذا الأمر، وهو أنّه لا منافاة بين تفسير كلمة الشاهد بالإِمام على، وبين شمولها لجميع المؤمنين من أمثال أبي ذرّ وسلمان وعمّار واضرابهم، لأنّ هذه التفاسير تشير إِلى الشخص البارز والشاخص في هؤلاء المؤمنين، أي إِنّ المقصود هو جماعة المؤمنين الذين في طليعتهم الإِمام علي(عليه السلام).

والدليل على هذا الكلام رواية منقولة عن الإِمام الباقر(عليه السلام): قال: «الذي على بينّة من ربّه رسول الله الذي تلاه من بعده الشاهد منه أميرالمؤمنين ثمّ أوصياؤه واحد بعد واحد»(1).

وعلى الرغم من أنّ هذه الرّواية تذكر المعصومين فحسب، ولكنّها تدل على أن الرّوايات التي تفسر الشاهد بالإِمام علي لاتعني شخصه فحسب، بل كونه مصداقاً وشاخصاً للمؤمنين! ...

2 ـ لماذا أُشير إِلى التوراة فحسب ؟!

إِن واحداً من دلائل حقانية النّبي كما ذُكر في الآية الآنفة ـ الكتب السابقة على نبوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن لم تذكر الآية من بينها سوى التوراة، ونحن نعرف أن الإِنجيل بشّر بظهور نبي الإِسلام أيضاً.

ويمكن أن يكون السبب هو أنّ المحيط الذي نزل فيه القرآن وظهر الإِسلام فيه (أي مكّة والمدينة) متشبعاً بأفكار اليهود أكثر من غيرهم من أهل الكتاب، وكان المسيحيون يعيشون في أماكن أبعد من اليهود كاليمن والشامات ونجران والجبال

____________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 213.

[498]

الشمالية في اليمن التي تقع على فاصلة عشرة منازل من صنعاء!

أو لأن أوصاف النّبي وردت في التوراة بشكل أوسع وأجمع.

وعلى كل حال، فالتعبير عن التوراة بـ «إماماً» قد يكون لأجل أحكام شريعة موسى(عليه السلام) كانت موجودة فيه بشكل أكمل، حتى أنّ المسيحيين يرجعون إِلى تعليمات التوراة!

3 ـ من هو المخاطب في قوله: (فلا تك في مرية منه)؟

هناك احتمالان في من هو المخاطب بهذه الآية:

الإِحتمال الأوّل: النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، أي: يا رسول الله لا تتردد في حقانيّة القرآن وشريعة الإِسلام أقلّ تردد!

وبالطبع فإِنّ النّبي بحكم كونه يدرك الوحي شهوداً، ويدرك بالحواس أنّ القرآن نازل من قبل الله، بل كان في درجة أعلى من الإِحساس، فلم يكن لدية تردد في حقانية هذه الدعوة، ولكن ليس هذه أوّل خطاب يوجه إِلى النّبي ويكون المقصود به عموم الناس، وكما يقول المثل العربي «إيّاك أعني واسمعي ياجارة».

وهذا التعبير أساساً هو ضرب من البلاغة، حيث يوضع المخاطب غير الحقيقي مكان المخاطب الحقيقي لأهميته ولأغراض أُخرى.

والإِحتمال الثّاني: إِنّه المخاطب بهذه الآية كل مكلّف عاقل، أي «فلا تك أيّها المكلف العاقل في مرية وتردد». وهذا وارد إِذا لم يكن المقصود بالآية (أفمن كان على بيّنة من ربّه) هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل جميع المؤمنين الصادقين (فتدبّر).

ولكن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية

* * *

[499]

الآيات

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَدُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّلِمِينَ(18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوجاً وَهُم بِالأَخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ(19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ(20)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(21) لاَجَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاءَخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ(22)

التّفسير

أخسر النّاس أعمالاً:

بعد الآية المتقدمة التي كانت تتحدث عن القرآن ورسالة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)تأتي آيات أُخر تشرح عاقبة المنكرين وعلاماتهم ومآل أعمالهم.

ففي أوّل آية من هذه الآيات يقول سبحانه: (ومن أظلم ممّن افترى على الله

[500]

كذباً) ويعني أن تكذيب دعوة النّبي الصادق(صلى الله عليه وآله وسلم) في الواقع هو تكذيب لكلام الله وافتراء عليه بالكذب و تكذيب من لا يتحدث عن أحد سوى الله يعدّ تكذيباً لله(1).

وكما تقدم في عدّة مواضع، فالقرآن المجيد يعبر في عديد من الآيات عن جماعة من الناس بقوله: «أظلم» في حين أنّ أعمالهم ـ كما يبدو ـ مختلفة،  ولا يمكن أن نعدّ جماعات كثيرة مع وجود أعمال مختلفة بأنّهم أظلم الناس! بل ينبغي أن يُعدّ البعض ظالمين، والبعض الآخر أظلم منهم، وسواهما أشدّ ظلماً منهما جميعاً..

ولكن ـ كما أجبنا عن هذا السؤال عدّة مرات ـ جذر جميع هذه الأعمال يعود لشيء واحد، وهو الشرك وتكذيب الآيات الإِلهية، وهو أعظم البهتان «ولمزيد من الإِيضاح يراجع ذيل الآية (31) من سورة الأنعام».

ثمّ يبيّن ما ينتظرهم من مستقبل مشؤوم يوم القيامة حين يُعرضون على محكمة العدل الإِلهي (أُولئك يعرضون على ربّهم) حينئذ يشهد «الأشهاد» على أعمالهم وأنّ هؤلاء هم الذين كذبوا على الله العظيم الرحيم وولي النعمة ..

(ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم) ثمّ ينادون بصوت عال (ألا لعنة الله على الظالمين).

ولكن من هم الأشهاد؟ أهم الملائكة، أم الحفظة على الأعمال، أم الأنبياء؟ للمفسّرين احتمالات وآراء، ولكن مع ملاحظة أن آيات أُخرى من القرآن تشير إِلى أنّ الأنبياء هم الأشهاد، فالظاهر أنّ المراد بالأشهاد هنا هم الأنبياء أيضاً .. أو المفهوم الأوسع وهو أنّ الأنبياء وسائر الأشهاد يشهدون على «الأعمال» يوم القيامة!

____________________________

(1) ما يقوله المفسّرون من أنّ المراد من هذه الجملة هو الردّ على من كان يقول: إِنّ النّبي يكذب على الله، بعيد جدّاً، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة لا تناسب هذا التّفسير، بل المناسب أنّها تشير إِلى الكفار.

[501]

وفي الآية (41) من سورة النساء نقرأ قوله تعالى: (فكيف إِذا جئنا من كل أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).

وفي شأن السّيد المسيح(عليه السلام) نقرأ في الآية (117) من سوره المائدة. (وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم).

بعد هذا مَن القائل: (ألا لعنة الله على الظالمين)؟ أهو الله سبحانه، أم الأشهاد على الأعمال؟! هناك أقوال بين المفسّرين، لكن الظاهر أنّ هذا الكلام تتمة لقول الأشهاد ..

والآية التي بعدها تبيّن صفات الظالمين في ثلاث جمل:

الأُولى تقول: إِنّهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل الله (الذين يصدون عن سبيل الله) فمرّة عن طريق إِلقاء الشُبهة، ومرّة بالتهديد، وأحياناً عن طريق الإِغراء والطمع، وجميع هذه الأساليب ترجع إِلى أمر واحد، وهو الصدّ عن سبيل الله.

الثّانية تقول: إِنّهم يسعون في أن يُظهروا سبيل الله وطريقه المستقيم عِوَجاً (ويبغونها عوجاً)(1).

أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أو النقصان أو التّفسير بالرأي وإِخفاء الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم. ولا يستطيع الناس وطلاب الحق السير في هذا الطريق.

والثّالثة تقول: إِنّهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة (وهم بالآخرة هم كافرون).

وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الإِنحرافات، لأنّ الإِيمان بتلك المحكمة

____________________________

(1) المقصود بـ«العِوَج» أي الملتوي، وقد بيّنا شرح ذلك في ذيل الآية (45) من سورة الأعراف وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الضمير في «يبغونها» يعود على سبيل الله فهي مؤنث مجازي، أو بمعنى الجادة والطريقة، فهي مؤنث لفظي، ونقرأ في سورة يوسف(عليه السلام) الآية (108) (قل هذه سبيلي أدعوا إِلى الله).

[502]

الكبرى والعالم الوسيع بعد الموت يفعل الطاقات الايجابية الكامنة في النفس والروح.

ومن الطّريف أنّ جميع هذه المسائل تجتمع في مفهوم «الظلم» لأنّ المفهوم الواسع لهذه الكلمة يشمل كل انحراف وتغيير للموضع الواقعي للأشياء والأعمال والصفات والعقائد.

في الآية التالية يبيّن أنّ هؤلاء لا يستطيعون الهرب من عقاب الله في الأرض ولا أن يخرجوا من سلطانه (أُولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) كما أنّهم لا يجدون وليّاً وحامياً لهم غير الله (وما كان لهم من دون الله من أولياء).

وأخيراً يشير سبحانه إِلى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة (يضاعف لهم العذاب).

لماذا؟! لأنّهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين، وفي الوقت ذاته كانوا يجرّون الآخرين إِلى هذا السبيل، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين، دون التخفيف عن الآخرين من أوزارهم (وليحملُنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم)(1).

وهناك أخبار كثيرة في أن «من سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها».

وفي ختام الآية يبيّن الله سبحانه أساس شقاء هؤلاء بقوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وماكانوا يبصرون).

فهم في الحقيقة بإِهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتين [وسيلتي السمع والبصر ]لدرك الحقائق، ضلّوا السبيل وأضلّوا سواهم أيضاً .. لأنّ الحق والحقيقة لا يدركان إلاّ بالسمع والبصر النافذ.

ومن الطريف هنا أنّنا نقرأ في الآية أنّهم ما كانوا يستطيعون السمع، أي استماع الحق، فهذا التعبير يشير إِلى الحالة الواقعية التي هم فيها، وهي أنّ استماع الحق

____________________________

(1) العنكبوت، 23.

[503]

كان عليهم صعباً وثقيلا إِلى درجة يُتصور فيها أنّهم فقدوا حاسة السمع، فلا قدرة لهم على السمع، وهذا التعبير ينسجم تماماً مع قولنا مثلا: إِنّ الشخص العاشق  لا يستطيع أن يسمع كلاماً عن عيوب معشوقه! ..

وبديهي أنّ عدم استطاعة دركهم الحقائق كانت نتيجة لجاجتهم الشديدة وعدائهم للحق والحقيقة، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية، لأنّهم هم السبب في ذلك، وهم الذى مهّدوا له، وكان بإِمكانهم أن يبعدوا عنهم هذه الحالة، لأنّ القدرة على السبب قدرة على المسبِّب.

والآية التي بعدها تبيّن في جملة واحدة حصيلة سعيهم وجدهم في طريق الباطل، فتقول: (أُولئك الذين خسروا أنفسهم) وهذه أعظم خسارة يمكن أن تصيب الانسان، إِذ يخسر وجوده الإِنساني .. ثمّ تضيف الآية: أنّهم اتخذوا آلهة ومعبودين مصطنعين «مزيفين» ولكن تلاشت هذه الآلهة المصنوعة والمزيفة أخيراً .. (وضل عنهم ماكانوا يفترون).

وفي نهاية الآية بيان الحكم النهائي لمآلهم وعاقبتهم بهذا التعبير (لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون).

والسبب واضح; لأنّهم حُرموا من نعمة السمع الحاد والبصر النافذ، وخَسِروا كلّ إِنسانيتهم ووجودهم، ومع هذه الحال فقد حملوا أثقالَ مسؤوليتهم وأثقال الآخرين مع أثقالهم.

والمعنى الأصلي لكلمة «لا جرم» مأخوذ من «جَرَم» على وزن «حرَمَ» وهو قطف الثمار من الأشجار، كما نقل ذلك الراغب في مفرداته، ثمّ توسع هذا المعنى فشمل كلّ نوع من الكسب والتحصيل، ولكثرة استعمال الكلمة في الكسب غير المرغوب فيه شاعت في هذا المعنى، ولذلك يطلق على الذنب أنّه جُرم.

ولكن حين تبدأ هذه الكلمة جملةً وهي مسبوقة بـ «لا» فيكون معناها حينئذ: أنّه لا شيء يمكنه أن يمنع أو يقطع هذا الموضوع، فهي قريبة من معنى «لابدّ» أو «من المسلّم به» والله العالم «فتدبر».

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334669

  • التاريخ : 28/03/2024 - 13:12

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net