00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يونس من آية 34 ـ 67 من ( ص 350 ـ 401 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[350]

الآيات

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ فَأَنَّئ تُؤْفَكُونَ(34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِى إِلىَ الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى إِلىَ الْحَقِّ أحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لايَهْدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35)وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنَّاً إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئَاً إِنَّ اللهَ عَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(36)

التّفسير

واحدة من علامات الحق والباطل:

تعقب هذه الآيات أيضاً الإِستدلالات المرتبطة بالمبدأ والمعاد، وتأمر الآية الأُولى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ (قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثمّ يعيده)ثمّ تضيف: (قل الله يبدؤا الخلق ثمّ يعيده فأنى تؤفكون) ولماذا تصرفون وجوهكم عن الحق وتتجهون نحو الضلال؟

وهنا سؤلان:

الأوّل: إِنّ مشركي العرب غالباً لا يعتقدون بالمعاد، خاصّة بالصورة التي

[351]

يذكرها القرآن، وإِذا كان هذا حالهم فكيف يطلب القرآن منهم الاعتراف به؟

الثّانى: في الآية السابقة كان الكلام عن اعتراف المشركين وإِقرارهم، إلاّ أنّ هذه الآية تأمر النّبي أن يقرّ هو بهذه الحقيقة، فلماذا هذا الإِختلاف في التعبير؟

إِلاّ أنّ الانتباه إِلى مسأله يوضح جواب كلا السؤالين، وهي: إِنّ المشركين بالرغم من عدم اعتقادهم بالمعاد الجسماني، إلاّ أنّ ذلك القدر الذي آمنوا به من أن بداية الخلق كانت من الله كاف لتقبل المعاد والإِعتقاد به، لأنّ كل من عمل عملا في البداية قادر على إِعادته، وبناءً على هذا فإِنّ الإِعتقاد بالمبداً إِذا ما اقترن بشيء من الدقة كاف لإِثبات المعاد. ومن هنا يتّضح لماذا أقر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بهذه الحقيقة بدلا من المشركين، فإِنّه بالرغم من كون الإِيمان بالمعاد من لوازم الإِيمان بالمبدأ، إلاّ أنّ هؤلاء لما لم يتوجهوا إِلى هذه الملازمة، اختلف طراز التعبير وأقر النّبي مكانهم.

ثمّ تأمر الآية الأُخرى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة أُخرى: (قل هل من شركائكم من يهدي إِلى الحق) لأنّ المعبود يجب أن يكون هادياً ومرشداً لعبادة، خاصّة وأنّها هداية نحو الحق، في حين أنّ آلهة المشركين، أعمّ من الجمادات أو الاحياء، غير قادرة أن تهدي أحداً إِلى الحق بدون الهداية الإِلهية، لأنّ الهداية إِلى الحق تحتاج إِلى منزلة العصمة والصيانة من الخطأ والإِشتباه، وهذا لايمكن من دون هداية الله سبحانه وتسديده، ولذلك فإِنّها تضيف مباشرة: (قل الله يهدي للحق) وإِذا كان الحال كذلك (أفمن يهدي إِلى الحق أحق أن يتبع أم لا يهدّي إلاّ أن يهدى)(1).

وتقول الآية في النهاية بلهجة التوبيخ والتقريع والملامة: (فما لكم كيف تحكمون).

وفي آخر آية إِشارة إِلى المصدر الأساس والعامل الأصل لهذه الإِنحرافات وهو الاوهام والظنون (وما يتبع أكثرهم إلاّ ظناً إِن الظن لا يغني من الحق شيئاً) وفي

____________________________

(1) يهدّي كانت في الأصل يهتدي، فبدلت التاء دالا وأدغمت فشددت.

[352]

النهاية تخاطب الآية ـ بأُسلوب التهدد ـ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يتبعون أي منطق سليم وتقول: (إِنّ الله عليم بما يفعلون).

* * *

ملاحظات

1 ـ قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله سبحانه وحده الذي يهدي إِلى الحق، وهذا الحصر إِمّا لأنّ المقصود من الهداية ليس. هو إِراءة الطريق وحسب، بل هو الإِيصال إِلى المقصد، وهذا الأمر بيد الله فقط، أو لأنّ إِراءة الطريق والدلالة عليه هو أيضاً من عمل الله في الدرجة الأُولى، وأمّا غيره من الأنبياء والمرشدين والمصلحين الإِلهيين فإِنّهم يطلعون على طريق الهداية عن طريقه وهدايته، ويصبحون علماء بتعليمه.

2 ـ إِنّ ما نقرؤه في الآيات أعلاه من أنّ آلهة المشركين لا تستطيع أن تهدي أحداً، بل هي بذاتها محتاجة إِلى الهداية الإِلهية، وإِن كان لا يصدق على الأصنام الحجرية والخشبية، لأنّها لا تملك العقل والشعور مطلقاً، إلاّ أنّه يصدق تماماً في حق الآلهة التي لها شعور كالملائكة والبشر الذين أصبحوا معبودين.

ويحتمل أيضاً أن تكون الجملة المذكورة بمعنى القضية الشرطية، أي على فرض أنّ للأصنام عقلا وشعوراً، فإِنّها لا تستطيع أن تجد الطريق بدون الهداية الإِلهية لنفسها، فكيف ستقدر على هداية الآخرين؟

وعلى كل حال، فإِنّ الآيات أعلاه تبيّن ـ بوضوح ـ أنّ من برامج الله الأصلية لعباده أن يهديهم إِلى الحق، ويتمّ ذلك عن طريق منح العقل، وإِعطاء الدروس المختلفة عن طريق الفطرة، وإِرادة وإِظهار آياته في عالم الخلقة، وكذلك عن طريق إِرسال الأنبياء والكتب السماوية.

3 ـ طالعنا في آخر آية من هذه الآيات أنّ أكثر المشركين وعبدة الأصنام يتبعون ظنونهم وأوهامهم، وهنا يأتي سؤال، وهو: لماذا لم يقل الله سبحانه: وما

[353]

يتبع كلّهم بدل أكثرهم، لأنّا نعلم أنّ جميع المشركين شركاء في هذا الظن الباطل، حيث يعتقدون أنّ الأصنام آلهة بحق وتملك النفع والضرر وتشفع عند الله، ولهذا فإِنّ البعض اضطر إِلى تفسير كلمة «أكثرهم» بأنّها تعني «جميعهم»، وذهب أن هذه الكلمة جاءت أحياناً بهذا المعنى.

إِلاّ أنّ هذا الجواب غير وجيه، والأفضل أن نقول: إِن المشركين صنفان: صنف يشكل الأكثرية، وهم الأفراد الخرافيون الجهلاء الذين وقعوا تحت تأثير الأفكار الخاطئة، واختاروا الأصنام لعبادتها.

أمّا القسم الثّاني، وهم الأقلية، فهم الزعماء وأئمّة الكفر الواعون لحقيقة الأمر والمطّلعون على عدم صحة عبادة الأصنام وأنّها لا أساس لها، وإِلاّ أنّهم يدعون الناس لعبادتها حفظاً لمصالحهم، ولهذا السبب فإِنّ الله يجيب الصنف الأوّل فقط لأنّهم مؤهلين للهداية، أمّا الصنف الثّاني فلم يعبأ بهم مطلقاً لأنّهم سلكوا هذا الطريق عن علم ووعي.

4 ـ يعتبر جماعة من علماء الأصول هذه الآية وأمثالها دليلا على أن الظن لا يمكن أن يكون حجة وسنداً بأي وجه من الوجوه، وأن الأدلة القطعية هي الوحيدة التي يمكن الإِعتماد عليها.

إِلاّ أنّ جماعة أُخرى يقولون: إِنّنا نلاحظ بين الادلة الفقهية أدلّة ظنية كثيرة، كحجية ظواهر الألفاظ، وشهادة الشاهدين العدلين، أو خبر الواحد الثقة وأمثال ذلك، ولذلك فإِنّ الآية المذكورة دليل على أنّ القاعدة الأصلية في مسألة الظن هي عدم حجيته، إلاّ أنّ تثبت حجيته بالدليل القطعي كالأمثلة أعلاه.

إِلاّ أنّ الحق هو أنّ الآية أعلاه تتحدث عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها، كظنون وأوهام عبدة الأصنام فقط، ولا علاقة لها بالظن الذي يمكن الإِعتماد عليه والموجود بين العقلاء، وبناء على هذا فإِنّ هذه الآية وأمثالها لايمكن الإِستناد إِليها بأي وجه في مسألة عدم حجية الظن. فتدبر جيداً.

* * *

[354]

الآيات

وَمَا كَانَ هَذا الْقُرْءآَنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَرَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَلَمِينَ(37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ(38) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأتِهِمْ تَأوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّلِمِينَ(39) وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَ يُؤمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ(40)

التّفسير

عظمة دعوة القرآن وحقانيته:

تتطرق هذه الآيات إِلى الإِجابة عن قسم آخر من كلمات المشركين السقيمة، فإِنّ هؤلاء لم يجانبوا الصواب في معرفة المبدأ وحسب، بل كانوا يفترون على نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه هو الذي اختلق القرآن ونسبه إِلى الله، ورأينا في الآيات السابقة

[355]

أنّهم طلبوا من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتي بغير هذا القرآن، أو يغيره على الأقل، وهذا بنفسه دليل على أنّهم كانوا يظنون أن القرآن من تأليف النّبي!

فالآية الأُولى تقول: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) واللطيف هنا أنّها بدل أن تنفي هذا الأمر نفياً بسيطاً، نفته نفياً شأنياً، وهذا يشبه تماماً أن يقول شخص ما في مقام الدفاع عن نفسه: ليس من شأني الكذب، وهذا التعبير اعمق وأكثر معنى من أن يقول: إِنّي لا أكذب.

ثمّ تتطرق الآية إِلى ذكر الدليل على أصالة القرآن وكونه وحياً سماوياً: فتقول (ولكن تصديق الذي بين يديه) أي إِنّ كل البشارات والدلالات الحقّة التي جاءت في الكتب السماوية السابقة تنطبق على القرآن ومن جاء به تماماً، وهذا بنفسه يثبت أنّه ليس افتراءً على الله بل هو حق، وأساساً فإنّ القرآن شاهد على صدق محتواه من باب أنّ طلوع الشمس دليل على الشمس.

ومن هنا يتّضح زيف الذين استدلوا بمثل هذه الآيات على عدم تحريف التّوراة والإِنجيل، لأنّ القرآن الكريم لم يصدق ما كان موجوداً في هذه الكتب في عصر النزول، بل إِنّه أيّد العلامات الواردة في هذه الكتب حول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والقرآن. وقد بيّنّا توضيحات أكثر في هذا الباب في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (41) من سورة البقرة.

ثمّ تذكر الآية دليلا آخر على أصالة هذا الوحي السماوي وهو: إنّ في هذا القرآن شرح كتب الأنبياء السابقين الأصيلة، وبيان أحكامهم الأساسية وعقائدهم الأصولية، ولهذا فلاشك في كونه من الله تعالى، فتقول: (وتفصيل الكتاب لاريب فيه من ربّ العالمين) وبتعبير آخر: لايوجد فيه أي تضاد وتناقض مع برامج وأهداف الأنبياء السابقين، بل يُلاحظ فيه تكامل تلك التعليمات والبرامج، وإِذا كان هذا القرآن مختلقاً فلابدّ أن يخالفها ويناقضها.

ومن هنا نعلم أنّه لايوجد أي اختلاف بين الكتب السماوية في أصول

[356]

المسائل، سواء كانت في العقائد الدينية، أو البرامج الإِجتماعية، أو حفظ الحقوق، أو محاربة الجهل، أو الدعوة إِلى الحق والعدالة، وكذلك إِحياء القيم الأخلاقية وأمثال ذلك، سوى أن الكتاب الذي ينزل متأخراً يكون أرفع مستوى وأكمل من السابق، تماماً كاختلاف مراحل التعليم في الإِبتدائية والإِعدادية والجامعة، حتى إنتهت المراحل بالكتاب الأخير الخاص بالمرحلة النهائية لتحصيل الأمم الديني، ألا وهو القرآن.

ولاشك في وجود الإِختلاف في جزئيات الأحكام بين الأديان والمذاهب السماوية، إلاّ أنّ الكلام عن أصولها الأساسية المتحدة والمشتركة في كل مكان.

وذكر في الآية التالية دليل ثالث على أصالة القرآن، وخاطبت الذين يدعون أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد افترى هذا القرآن على الله، بأنّكم إِن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من مثله، واستعينوا في ذلك بمن شئتم غير الله، ولكنّكم لاتستطيعون فعل ذلك أبداً، وبهذا الدليل يثبت أن القرآن من وحي السماء (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إِن كنتم صادقين).

إِنّ هذه الآيات من جملة الآيات التي تبيّن إِعجاز القرآن بصراحة، لا إِعجاز كل القرآن فحسب، بل حتى إِعجاز السورة الواحدة، وقد خاطبت كل العالمين ـ بدون استثناء ـ بأنّكم إن كنتم معتقدين بأنّ هذه الآيات ليست من الله فأتوا بمثله، أو بسورة منه على الأقل.

وكما بيّنا في المجلد الأوّل في ذيل الآية (23) من سورة البقرة، فإِنّ آيات القرآن تتحدى أحياناً أن يؤتى بمثل كل القرآن، وأحياناً بعشر سور، وأحياناً بسورة واحدة، وهذا يوضح أنّ جزء القرآن وكلَّه معجز. ولمّا لم تعين الآية سورة معينة فإِنّها تشمل كل سورة من القرآن.

طبعاً لاشك أنّ إِعجاز القرآن لاينحصر في جوانب الفصاحة والبلاغة وحلاوة البيان وكمال التعبيرات كما ظن ذلك جماعة من قدماء المفسّرين، بل إِن جانب

[357]

الإِعجاز يتمثل أيضاً إِضافةً لما مر في بيان المعارف الدينية، والعلوم التي لم تكن معروفة حتى ذلك اليوم، وبيان الأحكام والقوانين، وذكر تأريخ السابقين من دون أي خطأ أو تلبس بخرافة، وعدم وجود الإِختلاف والتضادّ فيه(1).

مظاهر وتجليات جديدة من إِعجاز القرآن:

ممّا يلفت النظر أنّ مظاهر جديدة من إِعجاز القرآن تتّضح مع مرور الزمن، حيث لم تكن تجلب الإِنتباه ـ سابقاً ـ ولا يُهتم بها، ومن جملتها المحاسبات الكثيرة التي أجريت على كلمات القرآن بواسطة العقول الألكترونية، والتي أثبتت أن لكلمات وفقرات القرآن وعلاقتها بزمن النزول خصوصيات جديدة، وما تقرؤونه أدناه نموذج منها:

إِنّ تحقيقات بعض العلماء والمحققين أدت إِلى كشف روابط معقدة ومعادلات حسابية دقيقة جدّاً في آيات القرآن حتى أنّها جمعت بين الحيرة واليقين في وجود مثل هذا النظام العلمي في بناء القرآن، وذلك عن طريق التحقيق الإِحصائي والرّياضي لكشف القواعد الدقيقة والمعادلات الرياضية للآيات الشريفة والتي تذكرنا من ناحية الأهمية والمعرفة بإكتشاف نيوتن للجاذبية.

أحد علماء القرآن بدأ عمله من هذه المسألة البسيطة، وهي أنّ الآيات النازلة في مكّة قصيرة، والآيات التي نزلت في المدينة طويلة، وهذه مسألة طبيعية، فإِنّ كل كاتب أو خطيب بليغ يغير من طول جمله ونغمات كلماته حسب موضوع الحديث، فمثلا تكون جمل التوصيف قصيرة، أمّا مسائل التحليل والإِستدلال فهي طويلة ... وإِذا كان الكلام لغرض تحريك العواطف أو للانتقاد او لبيان الأُصول العقائدية العامّة، فإنّ العبارة تكون قصيرة وبأسلوب الشعارات، أمّا إذا كان بداية قصّة أو لبيان الكلام في استخلاص النتائج الأخلاقية و ... فإِنّ الأسلوب يكون

____________________________

(1) لمزيد الإِطلاع راجع المجلد الأوّل الآية (23) و (24) من سورة البقرة.

[358]

هادئاً والعبارات طويلة.

إِنّ المسائل التي طرحت في مكّة هي من النوع الأوّل، بينما المسائل التي طرحت في المدينة من النوع الثّاني، فما نزل في مكّة كان بداية ثورة وبيان للمبادىء العامّة، الإِعتقادية والإِنتقادية، والذي نزل في المدينة كان لبناء مجتمع وبيان مسائل حقوقية وأخلاقية وقصص تاريخية واستخلاص النتائج الفكرية والعلمية.

وبما أنّ القرآن نزل بلغة البشر فلابدّ من أن يتبع السبك الجميل والبليغ في كلام البشر، وفي النتيجة مراعاة قصر وطول الآيات بما يناسب المفاهيم، وبالتالي يجب أن لايكون القصر والطول اعتباطياً وعشوائياً، بل يبدأ حسب قاعدة علمية دقيقة من الآيات القصيرة، ويسير على وتيرة تصاعدية واحدة نحو الآيات الطويلة، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون كل آية أقصر من الآية التي نزلت بعد سنة، وأطول من الآية التي نزلت قبلها بسنة، وأن يكون مقدار الزيادة محسوباً ودقيقاً، وعلى هذا فلمّا كان الوحي قد نزل خلال 23 سنة، فيجب أن يكون لدينا 23 طولاً في الآيات كمعدل، وبناء على هذه القاعدة يمكن أن يكون لدينا 23 عموداً بحيث تقسم كل الآيات حسب الطول في هذه الأعمدة، والآن من أين نستطيع أن نعلم أن هذا التقسيم صحيح؟

نحن نعلم سبب نزول بعض الآيات بواسطة الرّوايات الشريفة التي ذكرت ـ بصراحة ـ في أية سنة نزلت هذه الآيات، والبعض الآخر يمكن تعيينه من خلال مفاهيمه، فمثلا: الآيات التي تبيّن بعض الأحكام كتغيير القبلة، وتحريم الخمر، وتشريع الحجاب والزكاة والخمس، أو الآيات التي تتحدث عن الهجرة، فإِنّ سِنّي تعيين هذه الأحكام معلومة.

وبتعجب مثير للدهشة نرى أن هذه الآيات التي يعلم عام نزولها، قد إجتمعت في نفس الأعمدة التي فرضت أنّها أخذت حسب الطول في هذا الجدول. «فتدبر

[359]

جيداً»

والأعجب هو ملاحظة بعض الاستثناءات في موردين أو ثلاثة، بمعنى أن سورة المائدة مثلا آخر السور الكبار النّازلة، في حين أن عدّة آيات منها يجب أن تكون حسب المعادلة ـ قد نزلت في السنين الأُولى! وبعد التحقيق في متون التفاسير والرّوايات الإِسلامية وأقوال المفسّرين المعتبرين، لوحظ أنّهم قالوا: إِنّ هذه الآيات القليلة نزلت في البداية، لكن وضعت في سورة المائدة حسب أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذة الطريقة يمكن تعيين سنة نزول كل آية حسب هذا الحساب الرياضي، وكتابة القرآن حسب سنة النزول أيضاً.

أي أديب وبليغ في العالم يستطيع أن يعين سنة كتابة كل جملة من خلال طول العبارة؟ خاصّة وأنّه ليس نصاً كتابياً كأي أثر علمي أو أدبي جلس كاتبه مدّة معينة وكتبه و ليس كتاباً ألفه كاتبه في موضوع ما، بل يحتوي على مسائل مختلفة نزلت بالتدريج حسب احتياج المجتمع، أو هي جواب لمسائل مطروحة من الحوادث والمسائل طرحت على مدى مسيرة الدعوة وابلاغ الرسالة، وقد بيّنت من قبل القائد، ثمّ جمعت ونظمت.

بل إِنّ موسيقى ولحن لغات وكلمات القرآن الخاصّة ـ أيضاً ـ معجزة نادرة في نوعها كما ذكر ذلك بعض المفسّرين. وقد ذكروا شواهد مختلفة جميلة على هذا الموضوع، ومن جملتها الحادثة أدناه التي وقعت لسيد قطب المفسّر المعروف:

يقول في ذيل الآية محل البحث:

«ولن أذكر نماذج ممّا وقع لغيري ولكنّي أذكر حادثاً وقع لي وكان معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً.. كنّا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم .. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة! واللّه يعلم ـ أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة

[360]

ذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة، حاول أن يزاول تبشيره معنا! ... وقد يسر لنا قائد السفينة ـ وكان إنجليزياً ـ أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة طهاتها وخدمها ـ وكلّهم نوبيون مسلمون ـ أن يصلي منهم معنا من لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرّة الاُولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة .. وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب ـ معظمهم ـ متحلقون يرقبون صلاتنا! .. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القدّاس»!!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد ـ عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم «تيتو» وشيوعيته! ـ كانت شديدة التأثر والإنفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها، جاءت تشدّ على أيدينا بحرارة; وتقول: ـ في إنجليزية ضعيفة ـ إنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! .. وليس هذا موضع الشاهد في القصّة.. ولكن ذلك مان في قولها: أي لغة هذه التي كان يتحدث بها «قسيسكم»! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم «الصلاة» إلاّ قسيس ـ أو رجل  الدين ـ كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم!. وأجبناها .. فقالت: إنّ اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب، وإنّ كنت لم أفهم منها حرفاً.. ثمّ كانت المفاجأة الحقيقة لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي اُريد أت أسأل عنه .. إنّ الموضوع الذي لفت حسي، هو أن «الإمام» كانت ترد في أثناء كلامه ـ بهذا اللغة الموسيقية ـ فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية كما لو كان ـ الإمام ـ مملوءاً من الروح القدس! ـ حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها!

تفكرنا قليلاً، ثمّ أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة ! وكانت ـ مع ذلك ـ مفاجأة تدعو إلى الدهشة، من سيدة

[361]

لا تفهم ممّا نقول شيئاً!(1).

وفي الآية التالية إِشارة إِلى واحدة من العلل الأساسية لمخالفة المشركين، فتقول: إِنّ هؤلاء لم ينكروا القرآن بسبب الإِشكالات والإِيرادات، بل إِن تكذيبهم وإِنكارهم إِنّما كان بسبب عدم اطلاعهم وعلمهم به: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه).

في الواقع، إِنّ سبب إِنكارهم هو جهلهم وعدم اطلاعهم، لكن المفسّرين احتملوا احتمالات متعددة فيما هو المقصود من هذه الجملة وأن الجهل بأي الأُمور كان، وكان تلك الإحتمالات يمكن أن تكون مقصودة من الجملة:

الجهل بالمعارف الدينية والمبداً والمعاد، كما ينقل القرآن قول المشركين في شأن المعبود الحقيقي (الله)، حيث كانوا يقولون: (أجعل الآلهة إِلهاً واحداً إِن هذا لشيء عجاب)(2). أو أنّهم كانوا يقولون في مسألة المعاد: (أئذا كنّا عظاماً ورفاتاً ءأنا لمبعوثون خلقاً جديداً)(3)، (هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كلّ ممزق إنّكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة)(4).

في الحقيقة لم يكن لهؤلاء أي دليل على نفي المبدأ والمعاد، وكان الجهل والتخلف الناشىء من الخرافات والتعود على مذهب الأجداد هو السد الوحيد في طريقهم.

أو الجهل بأسرار الأحكام.

أو الجهل بمفهوم بعض الآيات المتشابهة.

أو الجهل بمعنى الحروف المقطعة.

____________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 4، ص 422.

(2) سورة ص، 5.

(3) الإسراء، 97.

(4) سورة سبأ، 8.

[362]

أو الجهل بالدروس والعبر التي هي الهدف النهائي من ذكر تاريخ الماضين.

إِن مجموع هذه الجهالات والضلالات كانت تحملهم على الإِنكار والتكذيب، في حين أن تأويل وتفسير وتحقق المسائل المجهولة بالنسبة لهؤلاء لم يبيّن بعد (ولما يأتهم تأويله).

«التأويل» في أصل اللغة بمعنى إرجاع الشيء وعلى هذا فإنّ كل عمل أو قول يصل إِلى هدفه النهائي نقول عنه: إِن تأويله قد حان وقته، ولهذا يطلق على بيان الهدف الأصلي من إِقدام معين، أو التّفسير الواقعي لكلمة ما، أو تفسير وإِعطاء نتيجة الرؤيا، أو تحقق فرضية في ارض الواقع، اسم التأويل. وقد تحدثنا بصورة مفصلة حول هذا الموضوع في المجلد الثّاني ذيل الآية (7) من سورة آل عمران.

ثمّ يضيف القرآن مبيناً أن هذا المنهج الزائف لاينحصر بمشركي عصر الجاهلية، بل إِنّ الأقوام السابقين كانوا مبتلين أيضاً بهذه المسألة، فإِنّهم كانوا يكذبون الحقائق وينكرونها دون السعي لمعرفة الواقع، أو انتظار تحققه: (كذلك كذب الذين من قبلهم). وقد مرت الإِشارة أيضاً في الآيات (113) و (118) من سورة البقرة إِلى وضع الأمم السابقة من هذه الناحية.

الواقع، إِنّ عذر هؤلاء جميعاً كان جهلهم ورغبتهم عن التحقيق والبحث في الحقائق الواقعية، في حين أن العقل والمنطق يحكمان بأنّه لاينبغي للانسان انكار ما يجهله مطلقاً، بل يبدأ بالبحث والتحقيق.

وفي النهاية وجهت الآية الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) أي إِنّ هؤلاء سيلاقون أيضاً نفس المصير.

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إِلى فئتين عظيمتين من المشركين، فتقول: إِنّ هؤلاء لايبقون جميعاً على هذا الحال، بل إِنّ جماعة منهم لم تخمد فيهم روح البحث عن الحق وطلبه وسيؤمنون بالقرآن في النهاية. في حين أن الفئة الأُخرى ستبقى في عنادها وإِصرارها وجهلها، وسوف لا تؤمن أبداً: (ومنهم من

[363]

يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به).

ومن الواضح أنّ أفراد الفئة الثّانية فاسدون ومفسدون، ولذلك قالت الآية في النهاية: (وربّك أعلم بالمفسدين) وهي إِشارة إِلى أن الذين لا يذعنون للحق، هم أفراد يسعون لحل عرى المجتمع، ولهم دور مهم في إِفساده.

الجهل والإِنكار:

كما يستفاد من الآيات أعلاه أنّ قسماً مهمّاً من مخالفة الحق ومحاربته تنبع عادة من الجهل، ولهذا السبب قالوا: عاقبة الجهل الكفر!

إِنّ أوّل مهمّة تقع على عاتق كل إِنسان يطلب الحق أن يتريت في مقابل ما يجهل، يتحرك صوب البحث ثمّ وتحقيق كل جوانب المطلب الذي يجهله، وما لم يحصل على الدليل القاطع على بطلانه فلا ينبغي له رفضه، كما أنّه لا ينبغي له قبوله والاعتقاد به إِذا لم يحصل لديه دليل قاطع على صحته نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان حديثاً رائعاً عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في هذا الباب، حيث يقول «إِنّ الله خص هذه الأُمّة بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا إلاّ مايعلمون، وأن لا يردوا ما لا يعلمون، ثمّ قرأ: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلاّ الحق)، وقرأ: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه).

* * *

[364]

الآيات

وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّىِ عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُوُنَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(41) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ(42) وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَيُبْصِرُونَ(43) إِن اللهَ لاَيَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظلِمُونَ(44)

التّفسير

العُمي والصُمّ:

تتابع هذه الآيات البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول إِنكار وتكذيب المشركين، وإِصرارهم على ذلك، فقد علّمت الآية الأُولى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) طريقة جديدة في المواجهة، فقالت: (وإِن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئُون ممّا أعمل وأنا بريء ممّا تعملون).

إِنّ لإِعلان الترفع وعدم الإِهتمام هذا، والمقترن بالإِعتماد والإِيمان القاطع بالمذهب، أثراً نفسياً خاصاً، وبالذات على المنكرين المعاندين، فهو يفهمهم بعدم وجود أي إِجبار وإِصرار على قبولهم الدعوة الإِسلامية. بل إِنّهم بعدم تسليمهم

[365]

أمام الحق سيحرمون أنفسهم، ولا يضرون إلاّ أنفسهم.

وقد ورد نظير هذا التعبر في آيات أُخرى من القرآن، كما نقرأ في سورة الكافرون: (ولكم دينكم ولي دين).

ومن هذا البيان يتّضح أن محتوى مثل هذه الآيات لا ينافي مطلقاً الأمر بالتبليغ أو الجهاد في مقابل المشركين كيما تعتبر مثل هذه الآيات منسوخة. بل إنّ هذا نوع من المواجهة المنطقية عن طريق عدم الإكتراث لهؤلاء الأشخاص المعاندين.

وتشير الآيتان التاليتان إِلى سبب انحراف هؤلاء وعدم إِذعانهم للحق، وتبيّن أنّ التعليمات الصحيحة، والآيات المعجزة التي تهزّ الوجدان والدلالات الأُخرى الواضحة لا تكفي بمفردها لهداية الانسان، بل إِنّ استعداد التقبل ولياقة قبول الحق لازمة أيضاً، كما أنّ البذر لوحده ليس كافياً لإنبات النبات والأوراد، بل إِنّ الأرض بدورها يجب أن تكون مستعدة. ولهذا قالت الآية: (ومنهم من يستمعون إِليك(1) أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون).

وهناك فئة ثانية يشخصون بأبصارهم إِليك، وينظرون إِلى أعمالك المتضمنة أحقيتك وصدق قولك، إلاّ أنّهم عمي لايبصرون: (ومنهم من ينظر إِليك(2) أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لايبصرون).

ولكن إعلم وليعلم هؤلاء أنّ قصور الفكر هذا، وعدم البصيرة والعمى عن رؤية وجه الحق، والصمم عن سماع كلام الله ليس شيئاً ذاتياً لهم نشؤوا عليه منذ ولادتهم، وإِنّ الله تعالى قد ظلمهم، بل إِنّهم هم الذين ظلموا أنفسهم بأعمالهم السيئة وعدائهم وعصيانهم للحق، وعطلوا بذلك عين بصيرتهم وأذن أفئدتهم عن

____________________________

(1) في الحقيقة هناك جملة مقدرة في هذه الآية تقديرها: «كأنّهم صم لا يستمعون».

(2) هنا أيضاً جمله مقدرة هي: كأنّهم عمي لايبصرون.

[366]

سماع الحق واتباعه، فـ (إِنّ الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون).

* * *

ملاحظتان

وهنا ينبغي الإِلتفات لملاحظتين:

1 ـ ما نقرؤه في الآية الثّانية من أنّهم يستمعون إِليك، وفي الآية الثّالثة من أنهم ينظرن إِليك، إِشارة إِلى أنّ جماعة من هؤلاء يسمعون هذا الكلام المعجز، وجماعة أُخرى ينظرون إِلى معجزاتك التي تدل كلها بوضوح على صدق كلامك وأحقية دعوتك، إلاّ أنّ أحداً من هاتين الفئتين لم ينتفع من استماعه أو نظره، لأنّ نظرهم لم يكن نظر فهم وإِدراك، بل نظر انتقاد وتتبع عثرات ومخالفة.

وكذلك لايستفيدون من استماعهم، لأنّهم لايستمعون لإِدراك محتوى الكلام، بل للعثور على ثغرات فيه لتكذيبه وانكاره، ومن المعلوم أن نيّة الإِنسان ترسم شكل العمل وتغيّر من آثاره.

2 ـ جاءت في آخر الآية الثّانية جملة: (ولو كانوا لايعقلون) وفي آخر الآية الثّالثة جملة: (ولو كانوا لايبصرون) وهي إِشارة إِلى أنّ الإِستماع ـ أي إدراك الألفاظ ـ ليس كافياً بمفرده، بل إِنّ التفكر والتدبر فيها لازم أيضاً لينتفع الإِنسان من محتواها. وكذلك لا أثر للنظر بمفرده، بل إِنّ البصيرة ـ وهي إِدراك مفهوم مايبصره الإِنسان ـ لازمة أيضاً ليصل إِلى عمقها ويهتدي.

* * *

[367]

الآيات

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ(45)وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ(46) وَلِكُلِّ أُمَّة رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُم باِلْقِسْطِ وَهُمْ لاَيُظْلَمُونَ(47)

التّفسير

بعد بيان بعض صفات المشركين في الآيات السابقة، أشير هنا إِلى وضعهم المؤلم في القيامة. تقول الآية: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم).

الإِحساس بقلة مقدار الإِقامة في دار الدنيا وقصره، إِمّا لأنّه بالنسبة للحياة الاُخروي لايبلغ سوى ساعة واحدة. أو لأنّ هذه الدنيا الفانية انقضت بسرعة بحيث كأنّها لم تكن أكثر من ساعة، أو لأنّهم لما لم يستفيدوا من عمرهم الإِستفادة الصحيحة، فيتصورون أنّها لا تساوي أكثر من قيمة ساعة !.

بناء على ماقلناه في التّفسير أعلاه، فإِنّ جملة (يتعارفون بينهم) إِشارة إِلى

[368]

مقدار بقائهم في الدنيا، أي إِنّهم يحسون أنّ أعمارهم كانت قصيرة إِلى الحد الذي يكفي لالتقاء شخصين وتعارفهما ثمّ تفرقهما !.

وقد احتمل أيضاً ـ في تفسير هذه الآية ـ أنّ المقصود هو الإِحساس بقصر الزمان بالنسبة لحياة البرزخ، أي إِنّ هؤلاء يعيشون في فترة البرزخ حالة شبيهة بالنوم بحيث لايشعرون بمرور السنين والقرون والأعصار، ويظنون في القيامة أن مرحلة برزخهم التي استغرفت آلاف أو عشرات الآلاف من السنين، لم تكن إلاّ ساعة. والشاهد على هذا التّفسير الآيتان (55) ـ (56) من سورة الروم، اللتان تقولان: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون. وقال الذين أوتوا العلم والإِيمان لقد لبثتم في كتاب الله إِلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لاتعلمون).

يستفاد من هاتين الآيتين أنّ مجموعة من المجرمين يُقسمون في القيامة أن فترة برزخهم لم تكن أكثر من ساعة، إلاّ أنّ المؤمنين يقولون لهم: إِنّ المدّة كانت طويلة، والآن قد قامت القيامة وأنتم لاتعلمون. ونحن نعلم أن البرزخ ليس متساوياً بالنسبة للجميع، وسنذكر تفصيل ذلك في ذيل الآيات المناسبة.

وبناءً على هذا التّفسير، فإِنّ معنى جملة (يتعارفون بينهم) سيكون: إِنّ هؤلاء يحسون بأنّ زمان البرزخ كان قصيراً بحيث أنّهم لم ينسوا أي أمر من أُمور الدنيا، ويعرف بعضهم البعض الآخر جيداً. أو أنّ كلاً منهم يرى أعمال الآخرين القبيحة هناك، ويطّلع كل منهم على باطن الآخر، وهذا بحد ذاته فضيحة كبرى بالنسبة لهؤلاء.

ثمّ تضيف الآية أنّه سيثبت لكل هؤلاء في ذلك اليوم: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) وانفقوا كل ملكاتهم وطاقاتهم الحيوية دون جدوى (وماكانوا مهتدين) بسبب هذا التكذيب والإِنكار والإِصرار على الذنب، ولأنّ قلوبهم وأرواحهم كانت مظلمة.

[369]

وتقول الآية التالية تهديداً للكفار، وتسلية لخاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وإِمّا نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإِلينا مرجعهم ثمّ الله شهيد على مايفعلون).

وتبيّن الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث قانوناً كلياً في شأن كل الأنبياء، ومن جملتهم نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكل الأمم ومن جملتها الأُمّة التي كانت تحيا في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (ولكل أُمّة رسول) فإِذا جاء رسولها وبلغ رسالته، وآمن قسم منهم وكفر آخرون، فإِنّ الله سبحانه يقضي بينهم بعدله، ولا يظلم ربّك أحداً، فيبقى المؤمنون والصالحون يتمعون بالحياة، أمّا الكافرون فإِنّهم فمصيرهم الفناء او الهزيمة: (فإِذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون).

وهذا ما حصل لنبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وأُمته المعاصرة له، فإِنّ أعداءه هلكوا في الحروب، أو انهزموا في النهاية وطردوا من ساحة المجتمع وأخذ المؤمنون زمام الأُمور بأيديهم. وبناء على هذا فإِنّ القضاء والحكم الذي ورد في هذه الآية هو القضاء التكويني في هذه الدنيا، وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّه إِشارة إِلى حكم الله يوم القيامة. فهو خلاف الظاهر.

* * *

[370]

الآيات

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَدِقِينَ(48) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّاًْ وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(49) قُلْ أَرءَيْتُمْ إنْ أَتَكُمْ عَذَابُهُ بَيَتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الُْمجْرِمُونَ(50)أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِهِ ءَآلأنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ(52)

التّفسير

العذاب الإِلهي واختيارات الرّسول:

بعد التهديدات التي ذكرت في الآيات السابقة المتعلقة بعذاب وعقاب منكري الحق، فإِنّ هذه الآيات تنقل أوّلا استهزاء هؤلاء بالعذاب الإلهي وسخريتهم وانكارهم. فتقول: (ويقولون متى هذا الوعد إِن كنتم صادقين).

هذا الكلام كان كلام مشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتماً، لأنّ الآيات التالية التي

[371]

تتضمن جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شاهدة على هذا المطلب.

على كل حال، فإِنّ هؤلاء أرادوا بهذه الكلمات أن يظهروا عدم اهتمامهم بتهديدات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة، وتقوية قلوب الذين خافوا من هذه التهديدات وتهدئة خواطرهم ليرجعوا إِلى صفوفهم.

وفي مقابل هذا السؤال، فإِنّ الله سبحانه أمر نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بعدّة طرق:

فيقول أوّلا: (قل لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلاّ ماشاء الله) فإنّي لست إلاّ رسوله ونبيّه، وإِنّ تعيين موعد نزول العذاب بيده فقط، وإِذا كنت لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، فمن باب الأُولى أن لا أملكهما لكم.

إِنّ هذه الجملة في الحقيقة إِشارة إِلى توحيد الأفعال حيث يرتبط كل شيء في هذا العالم بالله سبحانه، وكل الحركات والافعال معلولة لارادته ومشيئته، فهو الذي ينصر المؤمنين بحكمته، وهو الذي يجازي المنحرفين بعدالته.

من البديهي أنّ ذلك لا ينافي أنّ الله قد أعطانا قوى وطاقات نملك بواسطتها جلب النفع ودفع الضرر، ونستطيع أن نختار ما يتعلق بمصيرنا، وبتعبير آخر فإِنّ هذه الآية تنفي الملكية بالذات لا بالغير، وجملة (إِلاّ ما شاء الله) قرينة واضحة على هذا الموضوع.

ومن هنا يُعلم أنّ استدلال بعض المتعصبين ـ ككاتب تفسير المنار ـ بهذه الآية على نفي جواز التوسل بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ضعيف جدّاً، لأنّه إِذا كان المقصود من التوسل أن نعتبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذا قدرة ذاتية ومالكاً للنفع والضر، فإِنّ هذا شرك قطعاً، ولا يمكن أن يؤمن بهذا أي مسلم، أمّا إِذا كانت هذه الملكية من الله سبحانه وهي داخلة تحت عنوان: إلاّ ما شاء الله، فما المانع من ذلك؟ وهذا هو عين الإِيمان والتوحيد. إلاّ أنّه نتيجة الغفلة عن هذه النكتة أتلف وقته ووقت قُرّاء تفسيره بالبحوث الطويلة، وهو مع الأسف (رغم كل الإِمتيازات الموجودة في تفسيره) قد ارتكب كثيراً من هذه الأخطاء، والتي يمكن اعتبار التعصب منبعها جميعاً!

[372]

ثمّ يتطرق القرآن إِلى جواب آخر ويقول: (لكل أُمّة أجل إِذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وبتعبير آخر فإِنّ أي أُمّة إِذا انحرفت عن مسير الحق، فسوف لا تكون مصونة من العذاب الإِلهي الذي هو نتيجة أعمالها، فعندما ينحرف الناس عن قوانين الخلقة والطبيعة فسيبددون طاقاتهم وملكاتهم في فراغ ويسقطوا في النهاية في هاوية الانحطاط ويحتفظ تاريخ العالم في ذاكرته بنماذج كثيرة من ذلك.

في الواقع إِنّ القرآن الكريم يحذر المشركين الذين كانوا يتعجلون العذاب الإِلهي بأن لا يعجلوا، فعندما يحل موعدهم فإِنّ هذا العذاب سوف لن يتأخر أو يتقدم لحظة.

ويجب الإِلتفات إِلى أنّ الساعة قد تعني أحياناً لحظة، وأحياناً المقدار القليل من الزمن، بالرغم من أنّ معناها المعروف اليوم هو الأربع والعشرون ساعة التي تشكل الليل والنهار.

وتطرح الآية الأُخرى الجواب الثّالث، فتقول: (قل أرأيتم إِنّ أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً) فهل تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم هذا العذاب المفاجىء غير المرتقب؟ وإِذا كان الحال كذلك فـ (ماذا يستعجل منه المجرمون)؟

وبتعبير آخر، فإِنّ هؤلاء المجرمين الجريئين إِن لم يتيقنوا نزول العذاب فليحتملوا على الأقل أن يأتيهم فجأة، فما الذي يضمن لهؤلاء أنّ تهديدات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سوف لن تقع أبداً؟ إِنّ الإِنسان العاقل يجب أن يراعي الإِحتياط على الأقل في مقابل مثل هذا الضرر المحتمل ويكون منه على حذر.

وورد نظير هذا المعنى في آيات أُخرى من القرآن، وبتعبيرات أُخرى، مثل: (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البرّ أو يرسل عليكم حاصباً ثمّ لا تجدوا لكم وكيلا)سورة الإِسراء، الآية (68) . وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الكلام والأُصول

[373]

بقاعدة «لزوم دفع الضرر المحتمل»(1).

وفي الآية التالية ورد جواب رابع لهؤلاء، فهي تقول: إِذا كنتم تفكرون أن تؤمنوا حين نزول العذاب، وأنّ إِيمانكم سيقبل منكم، فإِنّ ظنّكم هذا باطل لا صحّة له: (أثمّ إِذا ماوقع أمنتم به)، لأنّ أبواب التوبة ستغلق بوجوهكم بعد نزول العذاب، وليس للإِيمان حينئذ أدنى أثر، بل يقال لكم: (الآن وقد كنتم به تستعجلون).

هذا بالنسبة لعقاب هؤلاء الدنيوي، وفي الآخرة: (ثمّ قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون)، فإِنّ أعمالكم في الواقع هي التي أخذت بأطرافكم، وهي التي تتجسد أمامكم وتؤذيكم على الدوام.

* * *

ملاحظات

1 ـ كما قلنا في ذيل الآية (34) من سورة الأعراف، فإِنّ بعض أهل البدع والاديان المختلقة في عصرنا استدلوا بآيات. مثل: (لكل أُمّة أجل) التي وردت مرّتين في القرآن، على نفي خاتمية نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوصلوا إِلى أن كل دين ومذهب ينتهي في النهاية ويخلي مكانه لمذهب آخر. في حين أن الأُمّة تعني القوم والجماعة. لا المذهب.

إِنّ هدف هذه الآيات هو أنّ قانون الحياة والموت لا يختص بالأفراد، بل إِنّه يشمل الأقوام والأمم أيضاً، فاذا سلكوا طريق الظلم والفساد فإِنّهم سينقرضون لا

____________________________

(1) يتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ الآية المذكورة تشتمل على قضية شرطية، ذكر شرطها، إِلاّ أنّ جزاءها مقدر، وجملة: (ماذا يستعجل منه المجرمون) جملة مستقلة. وتقدير الآية هكذا: أرأيتم إِن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً كنتم تقدرون على دفعه أو تعدونه أمراً محالا فإِذا كان الأمر كذلك (ماذا يستعجل منه المجرمون). وما احتمله البعض من أن جملة: ماذا يستعجل .. هي جزاء الشرط بعيداً جداً. دققوا ذلك.

[374]

محالة، خاصّة إِذا لاحظنا في هذا البحث الآية التي قبلها والتي بعدها، فستثبت هذه الحقيقة بوضوح، وهي أنّ الكلام ليس عن نسخ المذهب، بل عن نزول العذاب وفناء قوم أو أُمّة، لأنّ الآية السابقة واللاحقة تتحدثان عن نزول العذاب والعقاب الدنيوي.

2 ـ إِذا لاحظنا الآيات أعلاه سيأتي هذا السؤال، وهو: هل ستبتلي المجتمعات الإِسلامية أيضاً بهذا العقاب والعذاب في هذا العالم؟

والجواب عن هذا السؤال بالإِيجاب، إِذ لا دليل لدينا على أنّ هذه الأُمّة مستثناة، بل إِنّ هذا القانون في حق كل الأُمم والملل، وما قرأناه في بعض آيات القرآن ـ الأنفال / 33 ـ من أنّ الله سبحانه سوف لا يعذب هذه الأُمّة، فهو مشروط بواحد من شرطين: إِمّا وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بين أُولئك، أو الإِستغفار والتوبة من الذنوب، لا أنّه بدون قيد أو شرط.

3 ـ توكّد الآيات أعلاه مرّة أُخرى على هذه الحقيقة، وهي أنّ أبواب التوبة تغلق حين نزول العذاب فلا ينفع الندم حينئذ، وسبب ذلك واضح، لأنّ التوبة في مثل هذه الأحوال تكون عن اكراه واجبار، ومثل هذه التوبة لاقيمة لها.

* * *

[375]

الآيات

وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبَّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْس ظَلَمَتْ مَا فِى الأرْضَ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(54) أَلاَ إِنَّ للهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(55) هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(56)

التّفسير

لامعنى للشك في العذاب الإِلهي:

كان البحث في الآيات السابقة عن جزاء وعقاب المجرمين في هذه الدنيا والعالم الآخر، وتكمل هذه الآيات هذا البحث أيضاً.

فالآية الأُولى تقول: إِنّ هؤلاء يسألونك بتعجب واستفهام عن حقيقة هذا الوعيد بالعذاب الإِلهي في هذا العالم والعالم الآخر: (ويستنبئونك أحق هو) ومن المعلوم أنّ «الحق» هنا ليس في مقابل الباطل، بل المراد منه هو: هل إِنّ لهذه العقوبة حقيقة وواقعاً وأنّها ستتحقق؟ لأنّ الحق والتحقق مشتقان من مادة واحدة، ومن البديهي

[376]

أنّ الحق في مقابل الباطل بهذا المعنى الواسع سيشمل كل واقع موجود، وستكون النقطة المقابلة له كل معدوم وباطل.

ويأمر الله سبحانه نبيّه أن يجيبهم على هذا السؤال بما أوتي من التأكيد: (قل أي وربّي إِنّه لحق) وإِذا ظننتم أنّكم تستطيعون أن تفلتوا من قبضة العقاب الإِلهي فانتم على خطأ كبير: (وما أنتم بمعجزين).

الواقع إِنّ هذه الجملة مع الجملة السابقة من قبيل بيان المقتضي والمانع، ففي الجملة الأُولى يقول: إِن عذاب المجرمين امر واقعي، ويضيف في الجملة الثّانية أن أية قدرة لاتستطيع أن تقف أمامه، تماماً كالآيات (8) ـ (9) من سورة الطور: (إِنّ عذاب ربّك لواقع ما له من دافع).

إِنّ التأكيدات التي تلاحظ في الآية تستحق الإِنتباه، فمن جهة القسم، ومن جهة أُخرى إِنّ ولام التأكيد، ومن جهة ثالثة جملة (وما أنتم بمعجزين) وكل هذه توكّد على أنّ العقاب الإِلهي حتمي عند ارتكاب الكبائر.

وتوكّد الآية الأُخرى على عظمة هذه العقوبة، وخاصّة في القيامة، فتقول: (ولو أن لكل نفس ظلمت مافي الأرض لافتدت به)(1). في الواقع، إِنّ هؤلاء مستعدون لأن يدفعوا أكبر رشوة يمكن تصورها من أجل الخلاص من قبضة العذاب الإِلهي، لكن لا أحد يقبل من هؤلاء شيئاً، ولا ينقص من عذابهم مقدار رأس اُبرة، خاصّة وأنّ لبعض هذه العقوبات صبغة معنوية، وهي أنّهم: يرون العذاب والفضيحة في مقابل أتباعهم ممّا يوجب لهم اظهار الندم مزيداً من الخزي والعذاب النفسي فلذلك يحاولون عدم ابراز الندم: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب).

ثمّ توكّد الآية على أنّه بالرغم من كل ذلك، فإِنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالعدل، ولا يظلم أحد منهم: (وقضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون). إِنّ هذه الجملة تأكيد على طريقة القرآن دائماً في مسأله العقوبة والعدالة، لأنّ تأكيدات

____________________________

(1) في الواقع، إِن في الجملة أعلاه جملة مقدرة، وهي: (من هول القيامة والعذاب).

[377]

الآية السابقة في عقاب المذنبين يمكن أن توجد لدى الأفراد الغافلين تَوَهُّمَ أَنَّ المسألة مسألة انتقام، ولذا فإِنّ القرآن يقول أوّلا إِنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالقسط، ثمّ يؤكّد على أنّ أي أحد من هؤلاء سوف لايظلم.

ثم، ومن أجل أن لا يأخذ الناس هذه الوعود والتهديدات الإِلهية مأخذ الهزل، ولكي لايظنوا أنّ الله عاجز عن تنفيذ هذه الوعود، تضيف الآية: (ألا إِنّ لله ما في السماوات والأرض ألا إِنّ وعد الله حق ولكن أكثرهم لايعلمون) لأنّ جهلهم قد حجب بصيرتهم وجعل عليها غشاوة فلم يعوا الحقيقة.

وتوكّد آخر آية على هذه المسألة الحياتية مرّة أُخرى، حيث تقول: (هو يحيي ويميت) وبناء على ذلك فإِن له القدرة على إِماتة العباد، كما أن له القدرة على إِحيائهم لمحكمة الآخرة، وفي النهاية: (وإِليه ترجعون) وستلاقون جزاء كل أعمالكم هناك.

* * *

ملاحظتان

1 ـ من جملة الأسئلة التي تطرح في مورد الآيات أعلاه: هل أنّ لسؤال المشركين عن واقعية العقاب الإِلهي صفة الإِستهزاء، أم أنّه كان سؤالا حقيقياً؟

ذهب البعض الى أنّ السؤال الحقيقي علامة الشك، وهو لا يناسب وضع المشركين، إلاّ أنّه بملاحظة أنّ كثيراً من المشركين كانوا في حالة تردد، وجماعة منهم أيضاً كانوا على علم بأحقية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد وقفوا ضده نتيجة التعصب والعناد وأمثال ذلك، فسيبدو واضحاً أن كون سؤال هؤلاء حقيقياً ليس بعيداً أبداً.

2 ـ إِن حقيقة الندامة هي الندم على ارتكاب عمل اتّضحت آثاره السلبية سواء استطاع الإِنسان أن يجبر ذلك أم لا، وندم المجرمين في القيامة من النوع الثّاني، وإِنّما كتموه لأنّ إِظهاره سيزيد من فضيحتهم.

* * *

[378]

الآيتان

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)

التّفسير

القرآن رحمة إِلهية كبرى:

لقد جاءت في بعض الآيات السابقة بحوث في شأن القرآن عكست جوانب من مخالفات المشركين. وفي هذه الآيات تجدد الكلام عن القرآن بهذه المناسبة أيضاً، ففي البداية تخاطب جميع البشرية خطاباً عالمياً وشمولياً وتقول:

(يا أيّها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم

وشفاء لما في الصدور

وهدى

ورحمة للمؤمنين).

لقد بيّنت هذه الآية أربع صفات للقرآن، ولإدراك مدلولاتها ومحتواها لابدّ أن نعتمد أوّلا على لغاتها ومعناها.

[379]

«الوعظ» و«الموعظة»، كما جاء في المفردات: هو النهي الممتزج بالتهديد، أنّ معنى الموعظة أوسع من هذا ظاهراً، كما نقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي في نفس كتاب المفردات، أنّ الموعظة عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة القلب. وفي الحقيقة فإِنّ كل نصح وإِرشاد يترك أثراً في المخاطب، ويخوفه من السيئات ويرغّبه في الصالحات يسمى وعظاً وموعظة. وطبعاً ليس معنى هذا أن كل موعظة يجب أن يكون لها تأثير، بل المراد أنّها تؤثر في القلوب المستعدة.

والمقصود من شفاء أمراض القلوب، وبتعبير القرآن شفاء ما في الصدور، هي تلك التلوّثات المعنوية والروحية، كالبخل والحقد والحسد والجبن والشرك والنفاق وأمثال ذلك، وكلها من الأمراض الروحية والمعنوية.

والمقصود من «الهداية» هو الهداية نحو المقصود، أي تكامل ورقي الإِنسان في كافة الجوانب الإِيجابية.

والمراد من «الرحمة» هي النعم المادية والمعنوية الإِلهية التي تشمل حال الأفراد اللائقين، كما نقراً في كتاب المفردات أنّ الرحمة متى ما نسبت إِلى الله فإِنّها تعني بذله وهبته للنعم، وإِذا ما نسبت إِلى البشر فإِنّها تعني العطف ورقة القلب.

في الواقع، إِنّ الآية أعلاه تشرح وتبيّن أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل الإِنسان في ظل القرآن.

المرحلة الأُولى: مرحلة الموعظة والنصيحة.

المرحلة الثّانية: مرحلة تطهير روح الإِنسان من مختلف أنواع الرذائل الأخلاقية.

المرحلة الثّالثة: مرحلة الهداية التي تجري بعد مرحلة التطهير.

المرحلة الرّابعة: هي المرحلة التي يصل فيها الإِنسان إِلى أن يكون لائقاً لأن تشمله رحمة الله ونعمته.

[380]

وكل مرحلة من هذه المراحل تأتي بعد المرحلة السابقة لها، والجميل في الأمر أنّها تتمّ جميعاً في ظل نور القرآن وتوجيهاته.

القرآن هو الذي يعظ البشر، والقرآن هو الذي يغسل قلوبهم من تبعات الذنوب والصفات القبيحة، والقرآن هو الذي يوقد نور الهداية في القلوب ليضيئها، والقرآن أيضاً هو الذي ينزل النعم الإِلهية على الفرد والمجتمع.

ويوضح أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في كلامه الجامع في نهج البلاغة هذه الحقيقة بأبلغ تعبير، حيث يقول: «فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على ولائكم، فإِنّ فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال»(1).

وهذا بنفسه يبيّن أنّ القرآن وَصْفَة لتحسين حال الفرد والمجتمع، وصيانتهم من أنواع الأمراض الأخلاقية والإِجتماعية، وهذه الحقيقة أودعها المسلمون في كف النسيان، وبدل أن يستفيدوا من هذا الدواء الشافي، فإِنّهم يبحثون عن دوائهم وعلاجهم في المذاهب الأُخرى، وجعلوا هذا الكتاب السماوي الكبير كتاب قراءة فقط، لا كتاب تفكر وعمل!

وتقول الآية الأُخرى من أجل تكميل هذا البحث والتأكيد على هذه النعمة الإِلهية الكبرى ـ أي القرآن المجيد ـ: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)ولا يفرحوا بمقدار الثروات، وعظم المراكز، وعزة القوم والقبيلة، لأنّ رأس المال الحقيقي والأساس للسعادة الحقيقية هو هذا القرآن، فهو أفضل من كل ما جمعوه، ولا يمكن قياسه بذلك المجموع، إِذا (هو خير ممّا يجمعون).

* * *

____________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 176.

[381]

ملاحظتان

1 ـ هل أنّ القلب هو مركز الإِحساسات؟

ظاهر الآية الأُولى من هذه الآيات، كما هو ظاهر بعض آيات أُخرى من القرآن، أنّ مركز الأمراض الأخلاقية هو القلب.

إِنّ هذا الكلام يمكن أن يعارضه في البداية هذا الإِشكال، وهو أنّنا نعلم أن كل الأوصاف الأخلاقية والمسائل الفكرية والعاطفية ترجع إِلى روح الإِنسان، وليس القلب إلاّ مضخة أتوماتيكية لنقل الدم وتغذية خلايا البدن.

هذا حقّ طبعاً، فإِنّ القلب له وظيفة إِدارة جسم الإِنسان، والمسائل النفسية مرتبطة بروح الإِنسان، لكن توجد هنا نكتة دقيقة إِذا ما لوحظت سيتّضح رمز هذا التعبير القرآني، وهي أنّ في جسم الإِنسان مركزين كل منهما مظهر لبعض الأعمال النفسية للإِنسان، أي أنّ كلا من هذين المركزين إِذا تأثر بالإِنفعالات النفسية فإِنّه سيظهر رد الفعل مباشرة: أحدهما المخ، والآخر القلب.

عندما نبحث المسائل الفكرية في محيط الروح، فإِنّ انعكاس ذلك التفكير سيتّضح فوراً في المخ، وبتعبير آخر فإِنّ المخ آلة تساعد الروح في مسألة التفكر، ولذلك فإِنّ الدم يدور بصورة أسرع في المخ في حالة التفكير، وتتفاعل خلايا المخ بصورة أكبر، وبالتالي سوف تمتص كمية أكبر من الغذاء وترسل أمواجاً أكثر.

أمّا عندما يكون الكلام والبحث حول المسائل العاطفية كالعشق والمحبّة، والتصميم والإِرادة والغضب والحقد والحسد، والعفو والصفح، فإِنّ نشاطاً عجيباً يبدأ في قلب الإِنسان، فأحياناً تشتد ضرباته، وأحياناً تقل إِلى الحد الذي يُظن معه أنّه سيتوقف عن العمل، ونشعر أحياناً أن قلبنا يريد أن ينفجر. كل ذلك نتيجة للارتباط الوثيق للقلب مع هذه المسائل.

لهذه الجهة ينسب القرآن المجيد الإِيمان إِلى القلب، فيقول: (ولما يدخل الإِيمان

[382]

في قلوبكم)(1). ويعبر عن الجهل والعناد وعدم الإِذعان للحق بأنّه عمى القلب: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(2).

ومن نافلة القول، فإِن مثل هذه التعبيرات ليست مختصة بالقرآن، بل تلاحظ في أدب اللغات المختلفة في الأزمنة الغابرة، وتلاحظ اليوم أيضاً مظاهر هذه المسألة بأشكال مختلفة. فغالباً ما نقول للشخص الذي نحترمه ونحبّه: إِنّ لك مكاناً في قلوبنا، أو أنّ قلوبنا منشدة إِليك، والأُدباء يجسدون هذا المعنى ويجعلون سنبلة العشق نابعة من القلب دائماً.

كل ذلك لأنّ الإِنسان يحس دائماً بتأثير خاص في قلبه في حالة العشق والغرام، أو الحقد والحسد، أي أنّ أوّل قدحة في هذه المسائل النفسية عند انتقالها إِلى الجسم تتجلّى في القلب.

إِضافة إِلى كل هذا، فقد أشرنا سابقاً إِلى أن أحد معاني القلب في اللغة هو عقل وروح الانسان، ومعنى ذلك أن القلب لاينحصر بهذا العضو الخاص الموجود داخل الصدر، وهذا بنفسه يمكن أن يكون تفسيراً آخر لآيات القلب، لكن لاجميعها، لأن بعضها صرحت بأنّها القلوب التي في الصدور ـ دققوا ذلك ـ .

2 ـ ما هو الفرق بين الفضل والرحمة؟

هناك بحث مفصّل بين المفسّرين في الفرق بين الفضل والرحمة اللذين أشير إِليهما في الآية الثّانية.

أ ـ فالبعض اعتبر الفضل الإِلهي إِلى النعم الظاهرية. والرحمة إِشارة إِلى النعم الباطنية، وبتعبير آخر إِنّ إِحداها النعم المادية، والأُخرى النعم المعنوية. وقد جاءت مراراً في آيات القرآن جملة: (وابتغوا من فضله) أو (لتبتغوا من فضله)

____________________________

(1) الحجرات، 14.

(2) الحج، 46.

[383]

بمعنى تحصيل الرزق والموارد المادية.

ب ـ وقال البعض الآخر: إِنّ الفضل الإِلهي بداية النعمة، ورحمته دوام النعمة. وإِذا ما لاحظنا أنّ الفضل هو بذل النعمة وهبتها، وأن ذكر الرحمة بعد ذلك يجب أن يكون شيئاً مضافاً على ذلك يتّضح المراد من هذا التّفسير. وما نقرؤه في روايات متعددة من أنّ المراد من الفضل الإِلهي هو وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونعمة النّبوة، وأنّ المراد من رحمة الله وجود علي(عليه السلام) ونعمة الولاية ربّما كان إِشارة إِلى هذا التّفسير، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان بداية الإِسلام، والإمام علي(عليه السلام) سبب بقائه واستمراره فأحدهما علّة محدثة وموجدة، والآخر علّة مبقية(1).

واحتمل البعض الآخر أن يكون الفضل إِشارة إِلى نعم الجنّة، والرحمة إِشارة إِلى العفو عن الذنب وغفرانه.

ج ـ ويحتمل أيضاً أن الفضل إِشارة إِلى نعمة الله العامّة التي تعم العدو والصديق، والرحمة ـ بملاحظة كلمة (للمؤمنين) التي ذكرت كقيد للرحمة في الآية السابقة ـ إِشارة إِلى رحمته الخاصّة بالمؤمنين.

التّفسير الآخر الذي ذكر لهاتين الكلمتين، هو أنّ فضل الله إِشارة إِلى مسألة الإِيمان، والرحمة إِشارة إِلى القرآن المجيد الذي سبق الكلام عنه في الآية السابقة.

طبعاً، إِنّ أغلب هذه المعاني لا تضاد بينها، ويمكن أن تجمع جميعها في المفهوم الجامع للفضل والرحمة.

* * *

____________________________

(1) للإِطلاع على هذه الرّوايات، راجع تفسير نور الثقلين الجزء 2 ص 307 ـ 308.

[384]

الآيات

قُلْ أَرَءَيْتُم مَّآ أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْق فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلا قُلْ ءَآلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ(59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ(60) وَمَا تَكُونُ فِى شَأْن وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَان وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَل إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَاب مُّبِين(61)

التّفسير

هو الشاهد في كل مكان!

كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن، والموعظة الإِلهية والهداية والرحمة في هذا الكتاب السماوي، وتتحدث هذه الآيات عن قوانين المشركين المبتدعة والخرافية وأحكامهم الكاذبة، لأنّ الذي يؤمن بالله ويعلم أن كل

[385]

المواهب والأرزاق منه، يجب أن يقبل هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ بيان حكم هذه المواهب من حيث الحلية والحرمة بيده، وإِنّ التدخل في هذا العمل بدون إِذنه عمل غير صحيح.

الآية الأُولى وجهت الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا) إِذا أنّهم طبقاً لسننهم الخرافية حرموا قسماً من الدواب باسم «السائبة» و«البحيرة» و«الوصيلة(1)»، وكذلك حرّموا جزءاً من محاصيلهم الزراعية، وحرموا أنفسهم من هذه النعم الطاهرة المحلّلة، إِضافةً إِلى ذلك فإِن كون الشيء حراماً أو حلالا ليس مرتبطاً بكم، بل هو مختص بأمر الله خالق تلك الموجودات.

ثمّ تقول: (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون)، أي إِنّ لهذا العمل صورتين لا ثالث لهما: فأمّا أن يكون بإِذن الله، أو أنّه تهمة وافتراء، ولما كان الإِحتمال الأوّل منتفياً، فلم يبق إلاّ الثّاني.

الآن وقد أصبح من المسلم أنّ هؤلاء بهذه الأحكام الخرافية المبتدعة، إِضافةً إِلى أنّهم حُرموا من النعم الإِلهية، فإِنّهم قد افتروا على الساحة الإِلهية المقدسة، ولذلك تضيف الآية: (وما ظن الذي يفترون على الله الكذب يوم القيامة إِنّ الله لذو فضل على العالمين) ولذلك فإِنّه لسعة رحمته لا يعاقب هؤلاء فوراً على أعمالهم القبيحة.

إِلاّ أنّ هؤلاء بدل أن يستغلوا هذه الفرصة الإِلهية ويشكروا اللّه على ذلك وينيبوا إِليه، فإِنّ أكثرهم غافلون: (ولكن أكثر الناس لايشكرون).

ويحتمل في تفسير هذه الآية أيضاً، أن كون كل هذه المواهب والأرزاق ـ عدا

____________________________

(1) (البحيرة) هي الحيوان الذي يلد عدّة مرّات، و(السائبة) هو البعير الذي أنتج عشرة أو اثني عشر ولداً، و(الوصيلة) كانت تطلق على الغنم إِذا ولدت سبعة بطون. ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (103) من سورة المائدة.

[386]

الأشياء المضرة والخبيثة المستثناة ـ محللة هو بنفسه نعمة إِلهية كبرى، وإِنّ كثيراً من الناس بدل أن يؤدوا شكر هذه النعمة، فإِنّهم يكفرون بها، ويحرّمون أنفسهم من هذه النعمة بأحكامهم الخرافية وممنوعاتها.

وحتى لايتصور أحد أنّ هذه المهلة الإِلهية دليل على عدم إِحاطة علم الله سبحانه بكل أعمال هؤلاء، فإِنّ آخر آية من آيات البحث تبيّن هذه الحقيقة بأبلغ عبارة وتوضح أن الله مطلع على كل ذرات الموجودات في خفايا السماء والأرض، ومطلع على دقائق أعمال العباد، فتقول: (وماتكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً إِذ تفيضون فيه)(1).

«الشهود» جمع شاهد، وهو في الأصل بمعنى الحضور المقترن بالمشاهدة بالعين أو القلب أو الفكر، والتعبير بالجمع إِشارة إِلى أنّ الله سبحانه ليس وحده المراقب لأعمال البشر، بل إِنّ الملائكة المطيعين لأمره مطلعون أيضاً على كل هذه الأعمال وناظرون إِليها.

وكما أشرنا سابقاً، فإِنّ التعبير بصيغة الجمع في حق الله سبحانه مع أنّ ذاته المقدسة أوحدية من جميع الجهات، إِشارة إِلى عظمة مقامه، وأن له دائماً مأمورين مطيعين مستعدين لتنفيذ أمره والواقع فإِن الكلام ليس عن الله وحده، بل عنه وعن كل هؤلاء المأمورين المطيعين.

ثمّ تعقب الآية على مسألة اطلاع الله على كل شيء بتأكيد أكبر، فتقول: (وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إِلاّ في كتاب مبين).

«يعزب» مأخوذة من العزوب، وهو في الأصل بمعنى الإِبتعاد عن البيت والأهل في سبيل إِيجاد وتهيئة المراتع للأغنام والحيوانات، ثمّ استعملت بمعنى الغيبة

____________________________

(1) لقد أرجع البعض ضمير (منه) إِلى الله، أي إِن الآيات التي تتلوها من الله، إلاّ أن الضمير يرجع إِلى الشأن أو القرآن ظاهراً، كما قاله كثير من المفسّرين، أي الآيات التي تتلوها في كل عمل مهم، أو الآيات التي تتلوها من القرآن.

[387]

والإِختفاء بصورة مطلقة.

«والذّرة» بمعنى الجسم الصغير جدّاً، ولذلك يقال للنمل الصغير: ذرة. ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (40) من سورة النساء.

«الكتاب المبين» إِشارة إِلى علم الله الواسع، والذي يعبر عنه أحياناً باللوح المحفوظ، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

* * *

ملاحظات

1 ـ إِنّ الآيات أعلاه قد أثبتت ضمن عبارات قصيرة هذه الحقيقة، وهي أنّ حق التشريع مختص بالله، وكل من يقدم على مثل هذا العمل بدون إِذنه وأمره، فإِنّه يكون قد افترى على الله، لأنّ كل الهبات والارزاق تنزل من عنده، وإِنّ الله سبحانه هو المالك الأصلي لها في الحقيقة، وبناءً على هذا فإِنّ له الحق في أن يجعل بعضها مباحاً والبعض الآخر غير مباح.

ومع أنّ أوامره في هذا المجال تهدف الى نفع العباد وتكاملهم وليس له أدنى حاجة لهذا العمل، إلاّ أنّه على كل حال هو صاحب الإِختيار والتشريع، وقد يرى أنّ من المصلحة اعطاء أحد العباد كالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حق هذا العمل في حدود معينة. كما يستفاد من روايات متعددة ـ أيضاً ـ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد حرم بعض الأُمور أو أوجبها، والذي عبرت عنه الرّوايات بـ (فرض النّبي). ومن الطبيعي أنّ كل أوامره ونواهيه في حدود ما خوله الله سبحانه من الصلاحيات، وحسب أمر الله.

إِنّ جملة (الله أذن لكم) دليل أيضاً على أن من الممكن أن يجيز الله أحداً بمثل هذه الإِجازة.

إِنّ هذا البحث مرتبط بمسألة «الولاية التشريعية»، والتي سنبيّنها بصورة أكثر تفصيلا في محل آخر إِن شاء الله تعالى.

[388]

2 ـ إِنّ تعبير الآيات أعلاه عن الرزق بالنزول ـ مع أنّنا نعلم أنّ المطر هو الوحيد الذي ينزل من السماء ـ إمّا لأنّ هذه القطرات المباركة تشكل الأساس لكل الأرزاق، أو لأنّ المراد هو «النزول المقامي» الذي أشرنا إِليه سابقاً، ومثل هذا التعبير يلاحظ في المكالمات اليومية، فمثلا إِذا صدر أمر من شخص كبير، أو هبة ما إِلى شخص صغير، فيقولون: إِنّ هذا الأمر صدر من الأعلى، أو أنّه وصلنا من فوق.

3 ـ لقد أثبت علماء الأصول بجملة (الله أذن لكم أم على الله تفترون) قاعدة عدم حجية الظن، وقالوا: إِنّ هذا التعبير يوضح أنّه لايمكن إِثبات أي حكم من الأحكام الإِلهية بدون القطع واليقين، وإِلاّ فإنّه افتراء على الله وحرام. (لنا بحوث في هذا الإِستدلال ذكرناها في مباحث علم الأُصول).

4 ـ إِنّ الآيات أعلاه تعطينا درساً آخر، وهو أنّ التشريع مقابل شريعة الله دين الجاهلية، حيث كانوا يعطون لأنفسهم الحق في وضع الأحكام مع ضيق أفكارهم وضحالتها، ولكن لا يمكن أن يكون المؤمن الحقيقي كذلك مطلقاً. وما نراه في عصرنا الحاضر من أن جماعة يتحدثون عن الله والإِسلام، وفي الوقت نفسه يمدون يد الإِستجداء نحو قوانين الآخرين غير الإِسلامية، أو يسمحون لأنفسهم بأن يطرحوا جانباً قوانين الإِسلام باعتبارها غير قابلة للتطبيق ويشرّعون بأنفسهم القوانين، فإِنّ هؤلاء من أتباع سنن الجاهلية أيضاً.

إِنّ الإِسلام الواقعي لايقبل التجزئة، فعندما قلنا: إِنّنا مسلمون، فيجب أن نعترف بكل قوانينه فما يقال من أن قوانين الإِسلام غير قابلة بأجمعها للتنفيذ وهم باطل لا أساس له، وهو ناشىء من التغريب وانهيار الشخصية.

طبعاً، إِنّ الإِسلام ـ نظراً لشموليته ـ قد أطلق لنا في بعض المسائل اتخاذ مقررات وقوانين مناسبة مع ذكر الأُصول العامّة حتى نستطيع أن ننظم احتياجات كل عصر وزمان حسب تلك الأصول بالإِستشارة والتشاور، ثمّ نضعها في حيز

[389]

التنفيذ.

5 ـ أكّدت الآية الأخيرة حين الإِشارة إِلى سعة علم الله على ثلاث مسائل وقالت: إِنّك لاتكون في حالة نفسية معينة، ولا تتلو أية آية، ولا تقوم بأي عمل إِلاّ ونحن شاهدون عليك وناظرون إِليك.

إِنّ هذه التعبيرات الثلاثة إِشارة إِلى أفكار وأقوال وأعمال البشر، أي إِنّ الله تعالى كما ينظر إِلى أعمالنا، فإِنّه يسمع كلامنا، وهو مطلع على أفكارنا ونيّاتنا، ولا يخرج عن إِحاطة علم الله شيء منها.

ولا شك أنّ النية والحالات الروحية تقع في المرحلة الأُولى، والقول يأتي بعدها، ثمّ يتبعهما العمل والتنفيذ، ولهذا قد ورد نفس الترتيب في الآية.

ثمّ إِنّنا نرى أنّ القسم الأوّل والثّاني قد ذكرا بصيغة المفرد، والخطاب موجه إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أمّا القسم الثّالث فإِنّه ورد بصيغة الجمع والخطاب موجه لعامّة المسلمين، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار أن اتّخاذ القرار في البرامج الإِسلامية مرتبط بقائد الأُمّة وهو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أن تلقي آيات القرآن من الله وتلاوتها يتمّ عن طريقة، إلاّ أنّ العمل بهذه البرامج والأوامر متعلق بكل الأُمّة، ولا يستثنى من ذلك أحد.

6 ـ لقد بيّنت آخر هذه الآيات درساً كبيراً لكل المسلمين ... درس يستطيع أن يسلك بهم طريق الحق ويصرفهم عن الإِنحرافات والطرق الملتوية .. درس فيه صلاح المجتمع مع التوجّه اليه، وهو: إِنّنا يجب أن نعي هذه الحقيقة، وهي أن كل خطوة نخطوها، وكل كلام نقوله، وكل فكرة تخطر في أذهاننا، ولأي جهة ننظر، وعلى أي حال نكون، فليس الله سبحانه وحده يراقبنا ونحن على هذه الأحوال والأفعال، بل إِنّ ملائكته تراقبنا أيضاً، وينظرون إِلينا بكل دقة وانتباه.

إِنّ أدنى حركة في خفايا السماء والارض لا تخفي على علمه ونظره، بل إنّها تثبت كلّها في ذلك اللوح المحفوظ الذي لا طريق للغلط والإِشتباه والإِختلاف

[390]

إِليه .. في صفحة علم الله اللامتناهي .. في فكر الملائكة المقربين وكتّاب أعمال الآدميين .. في ملفنا وصحيفة أعمالنا كلنا.

ولم يكن ذلك بدون مبرر وعلة حيث يقول الإِمام الصادق: «كان رسول الله إِذا قرأ هذه الآية بكى بكاءً شديداً»(1) ... فإِذا كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع كل ذلك الإِخلاص والعبودية، ومع كل تلك الخدمة للخلق والعبادة للخالق خائفاً من عمله في مقابل علم الله، فإِنّ حالنا وحال الآخرين معلوم.

* * *

____________________________

(1) مجمع البيان الجزء الخامس ص 116 ذيل الآية.

[391]

الآيات

أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ(63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الأَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64) وَلاَ يَحْزُنّكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعَاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(65)

التّفسير

طمأنينة الروح في ظل الإِيمان:

لما شرحت الآيات السابقة بعضاً من حالات المشركين والأفراد غير المؤمنين، بيّنت هذه الآيات حال المؤمنين المخلصين المجاهدين المتقين الذين يقعون في الطرف المقابل لأُولئكَ تماماً، حتى يعرف النور من الظلمة، والسعادة من الشقاء من خلال المقارنة بينهم كما هو شأن القرآن وطريقته دائماً.

تقول الآية أوّلا: (ألا إِنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ومن أجل فهم دقيق لمحتوى هذا الكلام لابدّ أن نعرف معنى الأولياء جيداً.

«الأولياء» جمع ولي، وقد أخذت في الأصل من مادة: ولي، يلي، بمعنى عدم وجود واسطة بين شيئين، وتقاربهما وتتابعهما، ولهذا يطلق على كل شيء له نسبة

[392]

القرابة والقرب من شيء آخر سواء كان من جهة المكان أو الزمان أو النسب أو المقام، بأنّه ولي، ومن هنا استعملت هذه الكلمة بمعنى الرئيس والصديق وأمثال ذلك.

بناءً على هذا، فإِنّ أولياء الله هم الذين لايوجد حاجب وحائل بينهم وبين الله، فقد زالت الحجب عن قلوبهم ويتقلبون في نور المعرفة والإِيمان والعمل الخالص، و يرون الله بعيون قلوبهم بحيث لايجد الشك أي طريق إِلى تلك القلوب الوالهة، وبالنظر لهذه المعرفة بالله الأزلي والقدرة اللامحدودة والكمال المطلق، فإِنّ كل شيء سوى الله حقير في نظرهم ولا قيمة له، وفان لا أهمية له.

إِنّ من يرى المحيط يزهد في القطرة، ومن ينظر الى نور الشمس لا يهتم بنور الشمعة.

ومن هنا يتّضح أنّ هؤلاء لماذا لايخافون، لأنّ الخوف ينشأ عادة من احتمال فقدان النعم التي يمتلكها الإِنسان، أو من الأخطار التي يمكن أن تهدده في المستقبل، كما إِنّ الغم والهم يرتبط عادة بما يتعلق بالماضي، ويستولي على الإِنسان نتيجة فقدانه لإِمكانيات وثروات كانت تحت يده.

إِنّ أولياء وأحباء الله الحقيقيين متحررون من كل أشكال الإِرتباط والتعلق بعالم المادة، ويحكم «الزهد» بمعناه الحقيقي وجودهم، فهم لا يجزعون من فقدان الممتلكات المادية ولا يخافون من المستقبل، ولا يشغلون أفكارهم بمثل هذه المسائل. وبناءً على ذلك فإِن الغموم والأخاويف التي ترتبط بالماضي والمستقبل، والتي تجعل الآخرين في حال اضطراب وقلق دائم، لا سبيل لها إِلى وجود هؤلاء.

إِنّ الماء في الإناء الصغير قد يهتز من نفخة إِنسان، لكن المحيط الكبير لا يتأثر حتى بالعاصفة، ولذلك سمّوه المحيط الهادي: (لكي لا تأسوا على مافاتكم ولا

[393]

تفرحوا بما آتاكم)(1). فلم يكن لهم تعلّق بما كان في ايديهم سابقاً، ولا يصيبهم الغم والحزن في اليوم الذي سيفارقونه، فإِنّ روحهم أكبر، وفكرهم أسمى من أن تؤثر فيهم مثل هذه الحوادث في الماضي والمستقبل.

على هذا الأساس فإِنّ الأمن والطمأنينة الواقعية هي الحاكمة على وجودهم، وعلى حدّ قول القرآن: (أُولئك لهم الأمن)(2)، وبتعبير آخر: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(3).

والخلاصة هي أنّ الحزن والخوف عند البشر يتولّدان عادة من حبّ الدنيا، فمن الطبيعي أن لايصيب هؤلاء الذين نفضوا ايديهم وقلوبهم من حبها خوف، أو حزن.

كان هذا هو البيان الإِستدلالي للمسألة، وقد يعرض هذا الموضوع أحياناً ببيان آخر يتحذ شكلا عرفانياً بهذه الصورة:

إِنّ أولياء الله غارقون في صفات جماله وجلاله، وذائبون في مشاهدة ذاته المقدسة إِلى الحد نسوا كل شيء غيره، ومعلوم أنّ الغم والحزن والخوف والوحشة تحتاج حتماً إِلى تصور فقدان وخسارة شيء ما، أو مواجهة عدو أو موجود خطر، فمن لم يجعل لغير الله مكاناً في قلبه ولا طريقاً الى فكره، ولا يقبل في روحه إِله غيره، كيف يمكن أن يغتم ويخاف ويستوحش؟

لقد اتّضحت ممّا قلناه هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ المقصود من الغموم هي الغموم المادية والأخاويف الدنيوية، وإِلاّ فإِنّ وجود أولياء الله مملوء بالخوف والخشية .. الخوف من عدم أداء الواجبات والمسؤولية. والأسف والحسرة على أن يكون قد فاتهم شيء من الموفقية، ولهذا الخوف والحسرة صفة معنوية، فهما أساس تكامل وجود الإِنسان ورقيّه، بعكس الخوف والحزن الدنيويين فهما

____________________________

(1) الحديد، 23.

(2) الأنعام، 82.

(3) الرعد، 28.

[394]

أساس الإِنحطاط والتسافل.

يقول أميرالمؤمين(عليه السلام) في خطبته المعروفة مع همام، حيث يجسد فيها حالات أولياء الله في أرقى وصف: «قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة»، ثمّ يقول: «ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إِلى الثواب، وخوفاً من العقاب»(1).

ويقول القرآن المجيد ـ أيضاً ـ في شأن المؤمنين: (الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)(2). وبناء على ذلك فإِنّ لهؤلاء خوفاً آخر.

هناك بحث بين المفسّرين فيمن هم المقصودون من أولياء الله، إلاّ أنّ الآية الثّانية وضحت المطلب وأنهت النقاش، فهي تقول: (الذين آمنوا وكانوا يتقون).

الملفت للنظر أنّها ذكرت الإِيمان بصيغة الفعل الماضي المطلق، والتقوى بصيغة الماضي الإِستمراري، وهذا إِشارة إِلى أنّ إِيمان هؤلاء قد بلغ حد الكمال، إلاّ أن التقوى التي تنعكس في العمل اليومي، وتتطلب كل يوم وكل ساعة عملا جديداً، ولها صفة تدريجية، فإِنّها قد ظهرت على هؤلاء بصورة برنامج دائمي و مسؤولية متواصلة.

نعم .. إِنّ الذين يرتكزون على هذين الركنين الأساسيين: الدين والشخصية، يحسون بدرجة من الطمأنينة داخل أرواحهم بحيث لا تهزهم أية عاصفة من عواصف الحياة. بل يقفون أمامها كالجبل، كما وصفهم الحديث: «المؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف».

وتوكّد الآية الثّالثة على مسألة عدم وجود الخوف والغم والوحشة في شخصية وقلوب أولياء الحق بهذه العبارة: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وعلى هذا فهم ليسوا خالين من الخوف والغم وحسب، بل إِنّ البشارة والفرحة والسرور

____________________________

(1) نهج البلاغة، خطبة 193 . صبحي الصالح.

(2) الأنبياء، 49.

[395]

بالنعم الكثيرة والمواهب الإِلهية الامحدودة في هذه الدنيا والآخرة من نصيبهم. (ينبغي الانتباه إِلى أن البشرى قد ذكرت مع ألف ولام الجنس بصورة مطلقة، فهي تشمل أنواع البشارات).

ثمّ تضيف من أجل التأكيد أيضاً: (لا تبديل لكلمات الله)بل هي ثابتة حقّة، وأن الله سبحانه سيفي بما وعد به أولياءه، و (ذلك هو الفوز العظيم).

وحولت الآية الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يمثل رأس سلسلة أولياء الله وأحبائه مخاطبةً له بلحن المواساة وتسلية الخاطر: (ولا يحزنك قولهم إِنّ العزّة لله جميعاً)ولا يمكن أن يقوم العدو بعمل مقابل إِرادة الحق، فإِنّه تعالى عالم بكل خططهم ودسائسهم. فـ(هو السميع العليم).

* * *

ملاحظتان

وهنا ملاحظتان ينبغي التوقف عندهما:

1 ـ ما هو المراد من البشارة في الآية؟

هناك بحث وجدال بين المفسّرين في المراد من البشارة التي أعطاها الله في الآيات أعلاه لأوليائه في الدنيا والآخرة، فالبعض إِعتبرها مختصة بالبشارة التي تقدمها الملائكة للمؤمنين عند الإِحتضار والموت، (وابشروا بالجنّة التي كنتم توعدون)(1).

والبعض الآخر يعتبرها إِشارة إِلى وعود الله بالنصر والتغلب على الأعداء، والحكم في الأرض ماداموا مؤمنين وصالحين.

وقد فسّرت هذه البشارة في بعض الرّوايات بأنّها المنامات الجيدة التي يراها المؤمنون.

____________________________

(1) السجدة، 30.

[396]

إِلاّ أنّه، وكما قلنا، فإِنّ إِطلاق هذه الكلمة، وألف لام الجنس في البشرى قد أخفيا فيها مفهوماً واسعاً بحيث أنّها تشمل كل نوع من البشارة وفرحة الإِنتصار والموفقية، ويندرج فيها كل ما ذكر أعلاه، وفي الواقع فإِنّ كلا منها إِشارة إِلى زاوية من هذه البشارة الإِلهية الواسعة.

وربّما كان ما فسّرت به البشرى في بعض الرّوايات بأنّها المنامات الحسنة والرؤيا الصالحة إِشارة إِلى أن كل البشارات حتى الصغيرة منها، تدخل أيضاً في مفهوم البشرى، لا أنّها منحصرة بها.

الواقع. وكما قيل سابقاً أيضاً، فإِنّ هذا هو الأثر التكويني والطبيعي للإِيمان والتقوى حيث تبتعد عن روح الإِنسان أشكال الإِضطراب والقلق المتولدة من الشك والتردد، وكذلك المتولدة من الذنب والتلوّث والفجور، فكيف يمكن أن يشعر بالراحة والإِطمئنان من لا إِيمان له، ومن ليس له متكأ معنوي يعتمد عليه في أعماق روحه؟!

إِنّه يبقى في سفينة وسط بحر هائج متلاطم الأمواج تقذف به الأمواج العظيمة في كل جانب وصوب وقد فتحت دوامات البحر أفواهها لابتلاعه !!

كيف يمكن أن يهدأ بال ويطمئن خاطر من تلطخت يداه بالظلم والجور وإِراقة دماء الناس وغصب أموال وحقوق الآخرين؟ إِنّه ـ وبخلاف المؤمنين ـ لايتمتع حتى بالنوم الهادىء، وغالباً ما يرى المنامات المرعبة التي يرى نفسه فيها مشتبكاً مع العدو، وهذا بنفسه دليل على اضطراب روح هؤلاء.

من الطبيعي أنّ الشخص الجاني ـ خاصّة إِذا كان مطارداً ـ يرى في عالم الرؤيا أشباحاً مرعبة قد أحكمت الطوق لإِلقاء القبض عليه، أو أنّ روح ذلك المقتول المظلوم تصرخ في أعماق صميره وتعذبه، ولهذا فإِنّه عندما يستيقظ يقول كيزيد: مالي وللحسين؟ أو يقول ما قاله الحجاج: مالي ولسعيد بن جبير؟!

[397]

2 ـ الرّويات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)

لقد وردت في تفسير الآيات أعلاه روايات رائعة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، نشير إِلى بعض منها:

تلا أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) الآية: (ألا إِنّ أولياء الله ...) ثمّ سأل أصحابه: أتعلمون من هم أولياء الله؟ فقالوا: أخبرنا بهم يا أميرالمؤمنين، فقال: «هم نحن وأتباعنا، فمن تبعنا من بعدنا طوبى لنا، وطوبى لهم أفضل من طوبى لنا»، قالوا: يا أميرالمؤمنين، ما شأن طوبى لهم أفضل من طوبى لنا؟ ألسنا نحن وهم على أمر؟ قال: «لا، إِنّهم حملوا ما لم تحملوا عليه، وأطاقوا ما لم تطيقوا»(1).

وفي كتاب كمال الدين: روي عن أبي بصير عن الصّادق(عليه السلام)أنّه قال: «طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أُولئك أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون»(2).

ويروي أحد أصحاب الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: إِنّ أتباع هذا المذهب يرون في أواخر لحظات عمرهم ماتقّر به أعينهم، قال الراوي: فقلت له بضع عشرة مرّة: أي شيء؟ فقال في كلّها: «يرى» لايزيد عليها، ثمّ جلس في آخرها فقال: «ابيت إلاّ أن تعلم»؟ فقلت: نعم يابن رسول الله ... ثمّ بكيت، فرق لي، فقال: «يراهما والله» فقلت: بأبي وأمي من هما؟ فقال: «ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وعلي(عليه السلام)لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتى تراهما». ثمّ قال: «إِن هذا في كتاب الله» فقلت: أين، جعلني الله فداك؟ قال: «في يونس، قول الله ها هنا: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)»(3) .

ولدينا روايات أُخرى بمضمون هذه الرّواية.

____________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج2، ص 309 .

(2) المصدر السابق.

(3) نور الثقلين، الجزء2، ص 310 (باختصار).

[398]

ومن الواضح أنّ هذه الرّواية إِشارة إِلى قسم من بشارات المؤمنين المتقين، لا جميعها، وواضح ـ أيضاً ـ أن هذه المشاهدة ليست مشاهدة جسم مادي. بل مشاهدة الجسم البرزخي بالنظر البرزخي، لأنّا نعلم أنّ روح الإِنسان تبقى على جسمها البرزخي في عالم البرزخ الذي يمثل الفاصل بين هذه الدنيا وعالم الآخرة.

* * *

[399]

الآيتان

أَلاَ إِنَّ للهِ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُضُونَ(66) هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَات لِّقَوْم يَسْمَعُونَ(67)

التّفسير

جانب من آيات عظمته:

تعود الآيات أعلاه مرّة أُخرى إِلى مسألة التوحيد والشرك والتي تعتبر واحدة من أهم مباحث الإِسلام، وبحوث هذه السورة، وتجرّ المشركين إِلى المحاكمة وتثبت عجزهم.

فتقول أولا: (ألا إِنّ لله من في السماوات ومن في الأرض) وإِذا كان الأشخاص ملكه ومنه، فمن الأُولى أن تكون الأشياء الموجودة في هذا العالم ملكه ومنه، وبناءً على هذه فإِنّه مالك كل عالم الوجود، ومع هذا الحال كيف يمكن أن يكون مماليكه شركاءه؟

ثمّ تضيف الآية: (ومايتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إِن يتبعون

[400]

إلاّالظّن)إِذ لا دليل ولا برهان لهم على كلامهم (وإِن هم إلاّ يخرصون).

كلمة «الخرص» وردت في اللغة بمعنى الكذب، وكذلك وردت بمعنى الحدس والتخمين، وفي الأصل ـ كما قاله الراغب في مفرداته ـ بمعنى حزر الفواكه، ثمّ تخمينها على الأشجار، ولما كان الحدس والتخمين قد يخطىء أحياناً، فإِنّ هذه المادة قد جاءت بمعنى الكذب أيضاً.

وأساساً، فإنّ إِتباع الظن والحدس الذي لايستند إِلى أساس ثابت يجرّ الإِنسان في النهاية إِلى وادي الكذب عادة. والاشخاص الذين جعلوا الأصنام شريكة لله سبحانه لم يكن لهم مستند في ذلك إلاّ الأوهام .. الأوهام التي يصعب علينا اليوم حتى تصورها، إِذ كيف يمكن أن يصنع الإِنسان تماثيل ومجسمات لا روح لها، ثمّ يعتبر ماصنعه وخلقه ربّاً له وأنّه هو صاحب إِرادته، وأن أمره بيده؟! يضع مقدراته في يده وتحت تصرفه ويطلب منه حل مشاكله؟! أليست هذه الدعوى من أوضح مصاديق الزيف و الكذب؟

بل يمكن استفادة هذا من الآيه كقانون كلي عام ـ بدقة قليلة ـ وهو أنّ كل من يتبع الظن والأوهام الباطلة فإِنّه سينجّر في النهاية إِلى الكذب .. إِنّ الحق والصدق قائم على أساس القطع واليقين، أمّا الكذب فإِنّه يقوم على اساس التخمينات والظنون والشائعات!

ثمّ ومن أجل إِكمال هذا البحث، وتبيّن طرق معرفة الله، والإِبتعاد عن الشرك وعبادة الأوثان، أشارت الآية الثّانية إِلى جانب من المواهب الإِلهية التي أودعت في نظام الخلقة والدالّة على عظمة وقدرة وحكمة الله عزَّوجلّ، فقالت: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً).

إِنّ نظام النور والظلمة الذي أكدت عليه آيات القرآن مراراً، نظام عجيب وغزير الفائدة، فهو من جهة يضيء عرصة حياة البشر بإِفاضة النور في مدّة معينة ويحركها ويبعثها على السعى والجد، ومن جهة أُخرى فإِنّه بإِرخاء سدول الليل

[401]

المظلم وهدوئه يهيء الروح والجسد المتعبين للعمل والحركة من جديد.

نعم (إِن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) أُولئك الذين يسمعون ويدركون، وبعد إِدراك الحقيقة يتبعونها ويسيرون على نهجها.

* * *

ملاحظات

1 ـ إِنّ الهدوء والسكون النفسي الذي هو الهدف من خلق الليل بات من المسلمات العلمية بعد أن أثبته العلم اليوم، فإِنّ حجب الظلام ليست وسيلة إِجبارية لإِيقاف النشاطات اليومية وحسب، بل لها أثر مباشر على السلسلة العصبية وعضلات الإِنسان وسائر الحيوانات فتجعلهم في حالة استراحة ونوم وسكون، وما أجهل بعض الناس الذين يحيون الليل بالملذات والرغبات، ويقضون النهار ـ وخاصّة الفجر المنشط ـ في النوم، ولهذا السبب فإِنّ أعصابهم متوترة وغير متزنة دائماً.

2 ـ إِذا علمنا أنّ الإبصار بمعنى النظر، فإِنّ معنى جملة: (والنهار مبصراً)سيصبح: إِنّ الله قد جعل النهار ناظراً، في حين أنّ النهار مُبْصَر لا مُبْصِر! إِن هذا تشبيه ومجاز من قبيل توصيف السبب بأوصاف المسبب، كما يقولون في شأن الليل: ليل نائم، في حين أنّ الليل لاينام، بل هو سبب لأنّ ينام الناس.

3 ـ إِنّ الآيات أعلاه تدين الظن والوهم مرّة أُخرى وتردّه، لكن لما كان الكلام عن أوهام عبدة الأوثان الخرافية التي لا أساس لها، فإِنّ الظّن هنا لا يعني الظّن العقلائي المدروس الذي يعتبر حجة في بعض الموارد، مثل شهادة الشهود وظاهر الألفاظ والإِقرارات والمكاتبات، وبناء على هذه فإِنّ الآيات أعلاه لا يمكن أن تكون دليلا على عدم حجية الظن.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335510

  • التاريخ : 28/03/2024 - 15:49

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net