00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاعراف من آية 146 ـ 157 من ( ص 218 ـ 252 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[218]

الآيتان

سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـتِى الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَة لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَ إِن يَرَوْا سَبيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَـفِلينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَلِقَآءِ الاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَـلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)

التّفسير

مصير المتكبرين:

البحث في هاتين الآيتين هو في الحقيقة نوع من عملية استنتاج من الآيات الماضية عن مصير فرعون وملئَه والعصاة من بني إسرائيل، فقد بيّن الله في هذه الآيات الحقيقة التالية وهي: إذا كان الفراعنة أو متمرّدو بني إسرائيل لم يخضعوا للحق مع مشاهدة كل تلك المعاجز والبينات، وسماع كل تلكم الحجج والآيات الإلهية، فذلك بسبب أنّنا نصرف المتكبرين والمعاندين للحق ـ بسبب أعمالهم ـ عن قبول الحق.

[219]

وبعبارة أُخرى: إنّ الإصرار على تكذيب الآيات الإِلهية قد ترك في نفوسهم وأرواحهم أثراً عجيباً، بحيث خلق منهم أفراداً متصلبين منغلقين دون الحق، لا يستطيع نور الهدى من النفوذ إلى قلوبهم.

ولهذا يقول أوّلا: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحقّ).

ومن هنا يتّضح أنّ الآية الحاضرة لا تنافي أبداً الأدلة العقلية حتى يقال بتأويلها كما فعل كثير من المفسّرين ـ إنّها سنة إِلهية أن يسلب الله من المعاندين الألدّاء توفيق الهداية بكل أشكاله وأنواعه فهذه هي خاصية أعمالهم القبيحة أنفسهم، ونظراً لإنتساب جميع الأسباب إلى الله الذي هو علّة العلل ومسبب الأسباب في المآل نسبت إليه.

وهذا الموضوع لا هو موجب للجبر، ولا مستلزم لأي محذور آخر، حتى نَعمد إلى توجيه الآية بشكل من الأشكال.

هذا، ولابدّ من الإلتفات ـ ضمنياً ـ إلى أنّ ذكر عبارة (بغير الحق) بعد لفظة: (التّكبر) إنّما هو لأجل التأكيد، لأنّ التكبر والشعور بالإستعلاء على الآخرين وإحتقار عباد الله يكون دائماً بغير حق، وهذا التعبير يشبه الآيه (61) من سورة البقرة، عندما يقول سبحانه: (ويقتلون النّبيين بغير الحق) فقيد بغير الحق هنا قيد توضيحي، وتوكيدي لأنّ قتل الأنبياء هو دائماً بغير حق.

خاصّة أنّها أُردِفَت بكلمة «في الأرض» الذي يأتي بمعنى التكبر والطغيان فوق الأرض، ولا شك أنّ مثل هذا العمل يكون دائماً بغير حق.

ثمّ أشار تعالى إلى ثلاثة أقسام من صفات هذا الفريق «المتكبر المتعنت» وكيفية سلب توفيق قبول الحق عنهم.

الأُولى قوله تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) إنّهم لا يؤمنون حتى ولو رأوا جميع المعاجز والآيات والثّانية، (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه

[220]

سبيلا)والثّالثة إنّهم على العكس (وإن يروا سبيل الغي يتّخذوه سبيلا).

بعد ذكر هذه الصفات الثلاث الحاكية برمتها عن تصلب هذا الفريق تجاه الحق، أشار إلى عللها وأسبابها، فقال: (ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين).

ولا شك أنّ التكذيب لآيات الله مرّة ـ أو بضع مرات ـ لا يستوجب مثل هذه العاقبة، فباب التوبة مفتوح في وجه مثل هذا الإنسان، وإنّما الإصرار في هذا الطريق هو الذي يوصل الإنسان إلى نقطة لا يعود معها يميّز بين الحسن والقبيح، والمستقيم والمعوج، أي يسلب القدرة على التمييز بين «الرشد» و«الغي».

ثمّ تبيّنُ الآيةُ اللاحقةُ عقوبةَ مثل هؤلاء الأشخاص وتقول: (والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم).

و «الحبط» يعني بطلان العمل وفقدانه للأثر والخاصيه، يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد حتى إذا عملوا خيراً فإنّ عملهم لن يعود عليهم بنتيجة (وللمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع راجع ما كتبناه عند تفسير الآية 217 من سورة البقرة).

وفي ختام الآية أضاف بأن هذا المصير ليس من باب الإنتقام منهم، إنما هو نتيجة أعمالهم هم، بل هو عين أعمالهم ذاتها وقد تجسمت أمامهم (هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون)؟!

إنّ هذه الآية نموذج آخر من الآيات القرآنية الدالة على تجسّم الأعمال، وحضور أعمال الإنسان خيرها وشرها يوم القيامة.

* * *

[221]

الآيتان

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَـلِمينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـسِرِينَ(149)

التّفسير

اليهود وعبادتهم للعجل:

في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسى(عليه السلام) إلى ميقات ربّه، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعيناً بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.

إنّ هذه القصّة مهمّة جدّاً بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور، في سورة البقرة الآية (51) و (54) و (92) و (93)، وفي سورة النساء الآية (153)، والأعراف الآيات المبحوثة هنا، وفي سورة طه الآية (88) فما بعد.

[222]

على أنَّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الإِجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيَّة، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عندما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأُخرى مشهداً من الوثنية، حيث وجدوا قوماً يعبدون البقر، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسى(عليه السلام) صنماً كتلك الأصنام، ولكن موسى(عليه السلام)وبّخهم وردّهم، ولامهم بشدّة.

وثالث، تمديد مدّة ميقات موسى(عليه السلام) من ثلاثين إلى أربعين، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسى(عليه السلام) بواسطة بعض المنافقين، كما جاء في بعض التفاسير.

والأمر الرابع، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خِطته المشؤومة، كل هذه الأُمور ساعدت على أن تُقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.

وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا: إنّ قوم موسى(عليه السلام) بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه، ولكنّه كان له صوت كصوتِ البقر، واختاروه معبوداً لهم: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسداً له خوار).

ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحلي) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلاّ أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيراً منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده، وبذلك كانوا شركاء في جريمته، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.

وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل، إلاّ أنّه بالتوجه إلى الآية (159) من هذه السورة، التي تقول: (ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة هنا

[223]

ليس كلّهم، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟

و«الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ويقول آخرون: كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمَع منه صوتٌ على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعاً بِهيئة هندسية خاصّة.

أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئاً من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائناً حياً، وأخذ يخور خواراً طبيعياً فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.

وكلمة «جسداً» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيواناً حياً، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(1).

وبغض النظر عن جميع هذه الأُمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجلَ المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يُشبه معجزة النّبي موسى(عليه السلام)، ويحيي جسماً ميتاً، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتماً ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.

_____________________________

1 ـ راجع الآيات (8) من سورة الأنبياء، و (34) من سورة ص.

[224]

أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لإختبار الأشخاص لا شيء آخر.

والنقطة الأُخرى التي يجب الإِنتباه إليها، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسى(عليه السلام) قد عانوا سنين عديدة من الحرمان، مضافاً إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراماً خاصّاً، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه إهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.

أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟ فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإِقامة أحد أعيادهن، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(1).

ثمّ يقول القرآن الكريم معاتباً وموبّخاً: ألم ير بنوإسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء، فكيف يعبدونه؟ (ألم يرو أنّه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا).

يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح، وتكون له القدرة على هداية أتباعه، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

وأساساً كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئاً ميتاً صنعه وسوّاه بيده، حتى لو استطاع ـ افتراضاً ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.

إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم، لهذا يقول في ختام الآية: (اتخذوه

_____________________________

1 ـ راجع تفسير مجمع البيان، ذيل الآية المبحوثة هنا.

[225]

وكانوا ظالمين).

بيد أنّه برجوع موسى(عليه السلام) إليهم، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم، وندموا على فعلهم، وطلبوا من الله أن يغفر لهم، وقالوا: إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنّه قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربُّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين).

وجملة (سقط في أيديهم) أي عندما عثروا على الحقيقة، أو عندما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم، أو عندما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة، لأنّه عندما يقف الإِنسان على الحقائق، ويطلع عليها، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة، فإنّه يندم بطبيعة الحال، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.

وعلى كل حال، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.

* * *

[226]

الآيتان

وَلمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَـنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الاَْلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِليْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاَْعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ(150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلاَِخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّحِمينَ(151)

التّفسير

ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل:

في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسى(عليه السلام) وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسى(عليه السلام) الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.

يقول في البدء: ولما عاد موسى(عليه السلام) إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل، قال لهم: ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة (ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان

[227]

أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي)(1).

إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفاً، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسى(عليه السلام) بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ (قال فإنّا قد فتنا قومك من بعدك فَأضلّهم السامريّ )(2).

ثمّ إنّ موسى(عليه السلام) قال لهم: (أعجلتم أمر ربّكم).

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة، إلاّ أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.

وفي هذا الوقت بالذات، أي عندما واجه موسى(عليه السلام) هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه، ويثقل روحه حزن عميق، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإِصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّاً. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نَغمة مخالفة شاذة، وافقت هوى ورغبة، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمراً ممكناً وسهلا.

فهنا لا بدّ أن يظهر موسى(عليه السلام) غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط، كي يوقظ الأفكار المخدَّرة لدى بني إسرائيل، ويوجد انقلاباً في ذلك

_____________________________

1 ـ «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضاً. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة، ومن الطبيعي أن هذا الإنزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقروناً بالغضب، وبردة فعل غاضبة، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد، وقد نقل عن ابن عباس أيضاً أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظاً.

2 ـ سورة طه، 85.

[228]

المجتمع الذي انحرف عن الحق، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.

إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة، إذ يقول: إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطاً غاضباً.

وكما يستفاد من آيات قرآنية أُخرى، وبخاصّة في سورة طه، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة، وصاح به، لماذا قصّرتَ في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(1).

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسى(عليه السلام) النفسية، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحاً ـ فرضاً ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحاً، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الإِنزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم... ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم ... إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب، بل كان يعد عملا واجباً وضرورياً.

ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبداً إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين، للتوفيق بين عمل موسى(عليه السلام) هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء، لأنّه يمكن أن يقال هنا: إنّ موسى(عليه السلام) انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجاً شديداً لم يسبق له مثيل، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ المشاهد

_____________________________

1 ـ سورة طه: 92 ـ 93.

[229]

ألا وهو الإنحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.

وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماماً.

إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل، فقد قلب المشهد رأساً على عقبِ في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفاً إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني، فإذن أنا بريء، فلا تفعل بي ما سيكون موجباً لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين (قال ابنَ أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين).

إن التعبير بـ : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية 94 من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسى(عليه السلام) في هذه الحالة الساخنة.

وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.

لقد هدأ غضب موسى(عليه السلام) بعض الشيء، وتوجه إلى الله (قال ربّ اغفر لي ولأخي وادخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين).

إنّ طلب موسى(عليه السلام) العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه، لم يكن لذنب اقترفاه، بل كان نوعاً من الخضوع لله، والعودة إليه، وإظهار النفرة من أعمال الوثنيين القبيحة، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان

[230]

موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا إنحرافاً ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.

مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة:

يستفاد من الآيات الحاضرة، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون، وأنّ شخصاً خاصاً في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه، ولم يأل جهداً في هذا السبيل، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.

ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسى(عليه السلام) ووزيره وأخيه، إذ نقرأ في الفصل 32 من سفر الخروج من التوراة، مايلي:

«لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون: إنزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإِزميل وصنعه عجلا مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

فلمّا نظر هارون بنى مذبحاً أمامه ونادى هارون وقال: غداً عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل».

ثّم تشرح التوراة قصّة رجوع موسى(عليه السلام) غاضباً إلى بني إسرائيل وإلقاء

[231]

التوراة، ثمّ تقول:

«وقال موسى لهارون: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبتَ عليه خطيّة عظيمةً؟!

فقال هارون: لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ».

إنّ ما ذكر هو قِسمٌ من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أُخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإِصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).

كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإِصحاح الثامن من سفر الخروج أيضاً).

وعلى كل حال، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسى(عليه السلام) وعارفاً بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ... ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل، وحتى أنّه اعتذر لموسى(عليه السلام) عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال: إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساساً وقد شجعتهم عليه.

في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.

على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآنُ الكريمُ ساحة الأنبياء والرسل، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإِنجيل الفعليين، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.

* * *

[232]

الآيات

إِنَّ الَّذيِنَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَـوةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمُّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاَْلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

التّفسير

لقد فعلت ردة فعل موسى(عليه السلام) الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عَبَدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضاً (الآية 149) ومن أجل أن لا يُتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة، يضيف القرآن الكريم قائلا: (إنّ الذين اتّخذوا العجل سينالهم عضبٌ من ربّهم وذلّة في الحياة الدنيا).

وهكذا لأجل أن لا يُتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا: (وكذلك نجزي المفترين).

[233]

إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية، ولكن انتخاب عَبَدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فوراً، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.

أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الارض المقدسة.

أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضاً العجيبة التي كُلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟

والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة، ولكنّها ليست كل شيء.

إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأُم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة، وكفاية يقول مرتكبها: «أستغفر الله» وينتهي كلُّ شيء.

بل لابدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أُخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.

[234]

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام: (والذين عملوا السيئات ثمّ تابوا من بعدها وآمنوا إن ربّك من بعدها لغفور رحيم) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

جواب على سؤالين:

1 ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لِرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسى(عليه السلام) بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الإحتمال الأوّل، وارتضى بعضٌ آخر الإحتمال الثّاني.

والذين ارتضوا الإحتمال الأوّل استدلوا بجملة (إنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

والذين ارتضوا الإِحتمال الثّاني استدلوا بجملة (سينالهم غضب) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.

ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسى(عليه السلام)في تعقيب قصّة العجل، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع، وليس هناك مايمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسى(عليه السلام)(1).

2 ـ لماذا جاء الإِيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإِيمان تتزلزل عند

_____________________________

1 ـ فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا: «قال الله لموسى أن الذين ....».

[235]

إرتكاب المعصية، ويصيبها نوع من الوهن، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإِسلامية:

«لا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإِيمان يتضاءل ضوؤه، ويفقد أثره.

ولكن عندما تتحقق التوبة يعود الإِيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل، وكأنّ الإِيمان تجدّد مرّة أُخرى.

ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة، وإن بقيت أعباء الذنوب الأُخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول: ولما سكن غضب موسى(عليه السلام)، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها، أخذ الألواح من الأرض، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية، والذين يخافون الله، ويَخضعون لأوامره وتعاليمه (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدىً ورحمة للذين هم لربّهم يرهبون).

* * *

[236]

الآيتان

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِّمِيقَـتِنَا فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـفِرينَ(155)وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الاَْخِرَةِ إنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُم بِأيَـتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

التّفسير

مندوبو بني إسرائيل في الميقات:

في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة، ويقص قسماً آخر من تلك الحادثة.

[237]

هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسى(عليه السلام) ميقات واحد مع ربّه، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإِثبات مقصوده من القرآن الكريم، ولكنّه كما قلنا سابقاً ـ في ذيل الآية (142) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسى(عليه السلام) كان له ميقات واحد، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.

وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمه(عليه السلام)، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسى(عليه السلام) أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغُشي على موسى(عليه السلام)وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشياً عليهم، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.

إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادىء النظر ـ إشكالا، وهو: كيف أشارالله تعالى أولا إلى ميقات موسى(عليه السلام) ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل، ثمّ عاد مرّة أُخرى إلى مسألة الميقات؟

هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟

ولكن مع الإِلتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتاً، ويعمد إلى بحث ضروري آخر، ثمّ يعود مرّة أُخرى لنفس الحادثة الأُولى.

بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل، ونقول: إنّ موسى(عليه السلام) ذهب مرّة أُخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للإِعتذار إلى الله والتوبة، كما قال بعض المفسّرين، لأنّ هذا الإِحتمال بغض النظر عن جهات أُخرى يبدو بعيداً في النظر

[238]

من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للإِعتذار والتوبة، فهل من الممكن أن يُهلِكَ الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للإِعتذار إلى الله بالنيابه عن قومهم؟!

وعلى كل حال، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا).

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسى(عليه السلام) أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة، ووقع موسى(عليه السلام) على الأرض مغشياً عليه، وعندما أفاق قال: ربّاه لو شئتَ لأهلكتَنا جميعاً، يعني بماذا أجيبُ قومي لو هلك هؤلاء (فلمّا أخذتهم الرجفة قال ربّ لو شئت أهلكتَهم من قبل وإياي).

ثمّ قال: ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء، فلا تؤاخذنا بفعلهم: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا)؟

ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة «الرجفة» في هذه الآية، وكلمة «الصاعقة» في الآية (55) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرةً ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقاً ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية 17) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية 78).

وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة (بِما فعل السفهاء منا) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.

[239]

والجواب على هذا الكلام واضحٌ أيضاً، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضاً، وإطلاق «الفعل» على «الكلام» ليس أمراً جديداً وغير متعارف، مثلا عندما نقول: إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا، فإنّ من المسلّم أنَّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضاً.

ثمّ إنّ موسى(عليه السلام) قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله: ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحِقاً لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقاً لذلك) (إن هي إلاّ فتنتك) وإختبارك.

وهنا أيضاً تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة» كثيراً وذهبوا مذاهب شتى، ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة» جاءت في القرآن الكريم بمعنى الإِختبار والإِمتحان مراراً كما في الآية (28) من سورة الأنفال: (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة) وكذا في الآية (2) من سورة العنكبوت، والآية (126) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضاً. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختباراً شديداً، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.

وفي ختام الآية يقول موسى(عليه السلام): رباه: (أنت وليُّنا فاغفر لنا وارْحمنا وأنت خير الغافرين).

من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسى(عليه السلام) إلى بني إسرائيل، وقصُّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسى(عليه السلام) من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة، يقول موسى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة).

[240]

و«الحسنة» تعني كلَ خير وجمال، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم، وكذا التوفيق للعمل الصالح، والمغفرة، والجنّة، وكل نوع من أنواع السعادة، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا: (إنا هُدنا إليك) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.

و«هدنا» مشتقة من مادة «هَوْد» بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء، وكما قال بعض اللغويين: تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضاً، وكذا من الشر إلى الخير(1)، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.

يقول الراغب في «المفردات» نقلا عن بعض: «يهود في الأصل من قولهم: هُدنا إليك، وكان اسم مدح، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لهم، وإن لم يكن فيه معنى المدح».

ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير، أو من الخير إلى الشر، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.

وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ «اليهود» لا يرتبط مطلقاً بهذه اللفظة، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة «يهوذا» الذي هو إسم لأحد أبناء يعقوب(عليه السلام) ثمّ تبدلت الذال إلى الدال، وصارت يهودا، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(2).

ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسى(عليه السلام) وقَبِلَ توبته، ولكن لا بصورة

_____________________________

1 ـ تفسير المنار، المجلد التاسع، الصفحة 221، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.

2 ـ تفسير أبوالفتوح، المجلد الخامس، الصفحة 300، في تفسير الآية الحاضرة.

[241]

مطلقة، بل جاء ذلك في ختام الآية مشروطاً بشروط، أذ يقول: (قال عذابي أصيب به من أشاء) وكان مستحِقاً.

وقد قلنا مراراً: إنّ «المشيئة» في هذه الموارد، بل في جميع الموارد، ليس بمعنى الإِرادة المطلقة ومن غير قيد أو شرط، بل هي إرادة مقترنة بالحكمة والصلاحيات واللياقات، وبهذا يتّضح الجواب على كل إشكال في هذا الصعيد.

ثمّ يضيف تعالى قائلا (ورحمتي وسعت كل شيء).

إنّ هذه الرحمة الواسعة يمكن أن تكون إشارة إلى النعم والمواهب الدنيوية التي تشمل الجميع ويستفيد منها الكل، براً وفاجراً، صالحاً وطالحاً.

كما يمكن أن تكون إشارة إلى أنواع الرحمة المادية والمعنوية، لأنّ النعم المعنوية لا تختَص بقوم دون قوم، وإن كان لها شرائط تتوفر لدى الجميع.

وبعبارة أُخرى: إن أبواب الرحمة الإِلهية مفتوحة للجميع، وإنّ الناس هم الذين عليهم أن يقرروا دخول هذه الأبواب فلو لم تتوفر شرائط الورود في بعض الناس فإنّ ذلك دليل على تقصيرهم هم، لا محدودية الرحمة الإلهية (والتّفسير الثّاني أنسب مع مفهوم الآية والجملة التي ستأتي).

ولكن حتى لا يظن أحد أنّ قبول التوبة، أو سعة الرحمة الإِلهية وشموليتها، غير مقيدة وغير مشروطة، ومن دون حساب أو كتاب، يضيف في ختام الآية: سرعان ما أكتب رحمتي للّذين تتوفر فيهم ثلاثة أمور: اتقوا، وآتوا الزكاة، وآمنوا بآياتي (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون).

و«التقوى» إشارة إلى إجتناب كل معصية وإثم.

و«الزكاة» مرادة هنا بمعناها الواسع، وحسب الحديث المعروف «لكل شيء زكاة» يشمل جميع الأعمال الصالحة والطيبة.

وجملة (والذين هم بآياتنا يؤمنون) تشمل الإِيمان بالمقدسات.

[242]

وبهذه الطريقة تتضمّن الآية برنامجاً كاملا وجامعاً.

وإذا فسرنا الزكاة بمعنى خاص (أي المعنى المتعارف والمصطلح للزكاة) كان ذكرها من بين سائر الوظائف الإِلهية، لأجل أهميتها في صعيد العدالة الإجتماعية.

وقد روي في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قام في الصلاة فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللّهم ارحمني ومحمّداً ولا ترحم معنا أحداً، فلمّا سلّم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال للأَعرابي: لقد تَحَجرْتَ واسعاً ،أي جعلت شيئاً واسعاً، أمراً ضيقاً محدوداً فالرحمة الإلهية لا تنحصر في أحد من الناس(1).

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان في تفسير هذه الآية.

[243]

الآية

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الاُْمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِى التَّوْرَيهِ وَالاِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهـهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبـتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبـئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلَـلَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُولـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

التّفسير

اتبعوا هذا النّبي:

هذه الآية في الحقيقة تكمل الآية السابقة التي تحدثت عن صفات الذين تشملهم الرحمة الإِلهية الواسعة، أي من تتوفر فيهم الصفات الثلاث: التقوى، وأداء الزكاة، والإِيمان بآيات الله. وفي هذه الآية يذكر صفات أُخرى لهم من باب التوضيح، وهي اتّباع الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ الإِيمان بالله غير قابل للفصل عن الإِيمان بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واتباع دينه، وهكذا التقوى والزكاة لا يتمان ولا يكملان من دون اتباع القيادة.

[244]

لهذا يقول تعالى: (الذين يتّبعون الرسول).

ثمّ يبيّن ست صفات لهذا الرّسول مضافاً إلى مقام الرسالة:

1 ـ أنّه نبيّ الله (النّبي).

والنّبي يطلق على كل من يبيّن رسالة الله إلى الناس، ويوحى إليه وإن لم يكن مكلَّفاً بالدعوة والتبليغ، ولكن الرّسول مضافاً إلى كونه نبيّاً ـ مكلّف بالدعوة إلى دين الله، وتبليغه والإستقامة في هذا السبيل.

وعلى هذا يَكون مقام الرسالة أعلى من مقام النّبوة، وبناءً على هذا يكون معنى النّبوة مأخوذاً في مفهوم الرسالة أيضاً، ولكن حيث أنّ الآية بصدد توضيح وتفصيل خصوصيات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا ذكرهما على نحو الإستقلال، وفي الحقيقة إنّ ما أُخذ في مفهوم الرّسول مجملا، ذكر في الآية بصورة مستقلة من باب توضيح وتحليل صفاته.

2 ـ أنّه نبيّ أُمّي لم يتعلم القراءة والكتابة، وقد نهض من بين جماهير الناس من أرض مكّة أم القرى قاعدة التوحيد الأصلية: (الأُمي).

وحول مفهوم «الأميّ» المشتقة من مادة «أمّ» بمعنى الوالدة، أو من «الأُمّة» بمعنى الجماعة، دار كلام كثير بين المفسّرين، فبعض فسّره بأنّه لم يتعلم ولم يدرس، يعني أنّه باق على الحالة التي ولد بها من أُمّه أوّل يوم، ولم يتتلمذ على أحد، وبعض فسّره بمن نهض من بين جماهير الأُمّة، لا من بين طبقة الأعيان والمترفين والجبارين، وفسّرته جماعة ثالثة بأنّه ظهر من مكّة «أُم القرى» لأنّ هذه الكلمة مرادفة لـ «المكي».

والأحاديث الإِسلامية الواردة في مصادر مختلفة هي أيضاً تفسّر هذه الكلمة تارة بأنّه: لم يدرس وأُخرى: بأنّه مكّي(1).

_____________________________

1 ـ للإِطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 78 و 79، وتفسير روح المعاني، المجلد التّاسع، الصفحة 70، في تفسير الآية الحاضرة.

[245]

ولكن لا مانع أبداً من أن تكون كلمة «الأُمّي» إشارة إلى كل المفاهيم والمعاني الثلاثة، وقد قلنا مراراً: إنّه لا مانع من استعمال لفظة واحدة في عدة معان، ولهذا الموضوع شواهد كثيرة في الأدب العربي. (وسنبحث بتفصيل حول أميّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الفراغ من تفسير هذه الآية).

3 ـ ثمّ إنّ هذا النّبي هو (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل).

وفي صعيد وجود البشارات المختلفة في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) حتى التوراة والإِنجيل المحرفين الحاضرين أيضاً، سيكون لنا بحث تفصيلي بعد الفراغ من تفسير هذه الآية.

4 ـ ومن سمات هذا النّبي أنّ دعوته تتطابق لنداء العقل مطابقة كاملة، فهو يدعو إلى كل الخيرات وينهي عن كل الشرور والممنوعات العقلية: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر).

5 ـ كما أنّ محتوى دعوته منسجم مع الفطرة الإِنسانية السليمة، فهو يحل ما ترغب فيه الطباع السليمة ويحرم ما تنفر منه (ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث).

6 ـ أنّه ليس كأدعياء النّبوة والرسالة الذين يهدفون إلى توثيق الناس بأغلال الإستعمار والإستثمار والإِستغلال، بل هو على العكس من ذلك، إنّه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي تكبّل عقولهم وأفكارهم وتثقل كاهلهم (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(1).

وحيث أنّ هذه الصفات الست بالاضافة إلى الصفة السابعة وهي مقام الرسالة تشكّل من حيث المجموع علامة واضحة ودليل قاطع على صدق دعواه، فيضيف القرآن الكريم: (فالذين آمنوا به وعزروه، ونصروه، واتّبعوا النّور الذي أنزل معه

_____________________________

1 ـ «الإصر» يعني في الأصل عقد الشيء وحبسه، ويطلق على كل عمل يمنع الإنسان من الفعالية والحركة، ويطلق على العهد والميثاق أو العقوبات، لفظ الإصر، لأنّ هذه الأُمور تحدّ من حركة الإنسان.

[246]

أُولئك هم المفلحون).

و «عزروه» المشتقّة من مادة «تعزير» تعني الحماية والنصرة المقترنة بالإِحترام والتبجيل، ويقول البعض إن هذه اللفظة تعني ـ في الأصل ـ المنع، فإذا كان المنع من العدوّ، كان مفهومه النصرة، وإذا كان المنع من الذنب كان مفهومه العقوبة والتنبيه، ولهذا يقال للعقوبات الخفيفة «تعزير».

والجدير بالإِنتباه استعمال كلمة (أُنزل معه) بدل «أُنزل إليه» في حين أننا نعلم أنّه لم يكن لشخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نزول من السماء، ولكن حيث أن النبوة والرسالة نزلا مع القرآن من جانب الله، لهذا عبر بـ «أنزل معه».

* * *

بحوث

وهنا لا بد من الوقوف عند نقاط هامة هي:

1 ـ خمسة أدلة على النّبوة في آية واحدة

لم ترد في آية من آيات القرآن أدلة عديدة على حقانية دعوة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كما جاء في هذه الآية ... فلو أننا أمعنا النظر بدقة في الصفات السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية لنبيه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لوجدنا أنّها تحتوي على سبعة أدلة واضحة لإِثبات نبوته:

الأوّل: أنّه «أمّي» لم يدرس، ولكنّه مع ذلك أتى بكتاب لم يغيّر مصير أهل الحجاز فقط، بل كان نقطة تحول هام في التأريخ البشري، حتى أنّ الذين لم يقبلوا بنبوته لم يشكوا في عظمة كتابه وتعاليمه.

فهل يتفق والحسابات الطبيعية أن يقوم بهذا العمل شخص نشأ في بيئة جاهلية ولم يتتلمذ على أحد؟

[247]

الثّاني: أنّ دلائل نبوته قد وردت بتعابير مختلفة في الكتب السماوية السابقة على نحو توجد علماً لدى المرء بحقانيته.... فإنّ البشارات التي جاءت في تلك الكتب لا تنطبق إلاّ عليه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقط.

الثّالث: أن محتويات دعوته تنسجم انسجاماً كاملا مع العقل، لأنّه يدعو إلى المعروف، والنهي عن المنكر والقبائح، وهذا الموضوع يتّضح بجلاء بمطالعة تعاليمه.

الرّابع: أنّ محتويات دعوته منسجمة مع الطبع السليم والفطرة السويّة.

الخامس: لو لم يكن من جانب الله لكان عليه أن يقوم بما يضمن مصالحه الخاصّة، وفي هذه الصورة كان يتعين عليه أن لا يرفع الأغلال والسلاسل عن الناس، بل عليه أن يبقيهم في حالة الجهل والغفلة لاستغلالهم بنحو أفضل، في حين أنّنا نجده يحرر الناس من الأغلال الثقيلة.

أغلال الجهل والغفلة عن طريق الدعوة المستمرة إلى العلم والمعرفة.

أغلال الوثنية والخلافة عن طريق الدعوة إلى التوحيد.

أغلال التمييز بكل أنواعه، والحياة الطبقية بجميع أصنافها، عن طريق الدعوة إلى الأخوة الدينية والإِسلامية، والمساواة أمام القانون.

وهكذا سائر الأغلال الأُخرى.

إنّ كل واحد من هذه الدلائل لوحده دليل على حقانية دعوته، كما أنّ مجموعها دليل أوضح وأقوى.

2 ـ كيف كان النّبي أُميّاً؟

هناك احتمالات ثلاثة معروفة حول مفهوم «الأُمّي» كما قلنا سابقاً:

أوّلها: أن معناه: الذي لم يدرس.

الثّاني: أنّ معناه: المولود في أرض مكّة، والناهض منها.

[248]

الثّالث: أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير.

ولكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل، وهو أكثر انسجاماً مع موارد استعمال هذه اللفظة، ويمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضاً، كما قلنا.

ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدرس، ولم يكتب شيئاً، وقد قال القرآن الكريم ـ أيضاً ـ في الآية (48) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لإرتاب المبطلون).

وأساساً كان عدد العارفين بالكتابة والقراءة في المحيط الحجازي قليلا جدّاً، حيث كان الجهل هو الحالة السائدة على الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة والقراءة كانوا معروفين بأعيانهم وأشخاصهم، فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز (17) شخصاً، ومن النساء أمرأة واحدة(1).

من المسلّم أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لو كان قد تعلّم القراءة والكتابة ـ في مثل هذه البيئة ـ لدى أستاذ لشاع ذلك وصار أمراً معروفاً للجميع، وعلى فرض أنّنا لم نقبل بنبوته، ولكن كيف يمكنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينفي ـ في كتابه ـ بصراحة هذا الموضوع؟ ألا يعترض عليه الناس ويقولون: إن دراستك وتعلّمك للقراءة والكتابة أمر مسلّم معروف لنا، فكيف تنفي ذلك؟

إنّ هذه قرينة واضحة على أُميّة النّبي.

وعلى كل حال، فإنّ وجود هذه الصفة في النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان تأكيداً على نبوته حتى ينتفي أي احتمال في إرتباطه إلاّ بالله وبعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته.

هذا بالنسبة إلى فترة ما قبل النّبوة، وأمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه

_____________________________

1 ـ فتوح البلدان، للبلاذري، ط مصر، الصفحة 459.

[249]

تلقى القراءة أو الكتابة من أحد، وعلى هذا بقي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمُيّته حتى نهاية عمره.

ولكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة والقراءة، والذين فسّروا «الأّمّية» بعدم المعرفة بالكتابة والقراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلى هذا التفاوت.

ولا مانع أبداً من أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفاً بالقراءة والكتابة بتعليم الله، ومن دون أن يتتلمذ على يد أحد من البشر، لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإِنسانية ، ومكملة لمقام النّبوة.

ويشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيت(عليهم السلام)(1) أن نص الرواية

ولكنّه لأجل أن لا يبقى أي مجال لأدنى تشكيك في دعوته لم يكن(صلى الله عليه وآله وسلم)يستفيد من هذه المقدرة.

وقول البعض: إنّ القدرة على الكتابة والقراءة لا تعدّ كمالا، فهما وسيلة للوصول إلى الكمالات العلميّة، وليسا بحدّ ذاتها علماً حقيقياً ولا كمالا واقعياً فإن جوابه كامن في نفسه، لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضاً.

قد يقال: إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بصراحة تفسير «الأُمّي» بعدم القراءة والكتابة، بل بالمنسوب إلى «أم القرى» (مكّة).

ونقول في الردّ: إنّ إحدى هاتين الروايتين «مرفوعة» حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند، والرواية الأُخرى منقولة عن «جعفر بن محمّد الصوفي» وهو مجهول.

وأمّا ما تصوَّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة(يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) وآيات أُخرى دليل على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان المجلد الخامس، الصفحة 373 ذيل آيات سورة الجمعة.

[250]

يتلو القرآن على الناس من شيء مكتوب، فهو خطأ بالغ، لأنّ التلاوة تطلق على التلاوة من مكتوب على شيء، كما تطلق على القراءة حفظاً ومن ظهر القلب، واستعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرأون الأشعار أو الأدعية حفظاً ومن على ظهر القلب كثير.

من مجموع ما قلناه نستنتج:

1 ـ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتلق القراءة والكتابة من أحد حتماً، وبهذا تكون إحدى صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ.

2 ـ أنّنا لا نملك أي دليل معتبر على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ أو كتب شيئاً قبل النبوة، أو بعدها.

3 ـ إنّ هذا الموضوع لا يتنافى مع تعليم الله تعالى القراءة أو الكتابة لنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم).

3 ـ البشارات بظهور النّبي في العهدين:

إنّ الشواهد التأريخية القطعية، وكذا محتويات كتب اليهود والنصارى المقدسة (التوراة والإِنجيل) تفيد أن هذه الكتب ليست هي الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسى(عليهما السلام) وأن يد التحريف قد طالتهما، بل إنّ بعضها اندرس واندثر، وأن ما هو موجود الآن باسم الكتب المقدسة بينهم ما هي إلاّ خليط من نسائج الأفكار والأدمغة البشرية وشيء من التعاليم التي نزلت على موسى وعيسى(عليهما السلام) ممّا بقي في أيدي تلامذتهم.

وعلى هذا الأساس لا غرور ولا عجب إذا لم نقف على عبارات صريحة حول البشارة بظهور النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن مع هذا فإنّه يلحظ في ثنايا هذه الكتب المحرفة عبارات تتضمّن اشارات معتدّ بها حول ظهور هذا النّبي العظيم، وقد جمعها ثلّة من علمائنا في كتب

[251]

ومؤلفات مستقلة، أو مقالات تتحدث في هذا المجال. وحيث أن ذكر كل تلك البشائر وما حولها من حديث وكلام ممّا يطول به المقام، فإنّنا نكتفي بذكر بعض منها على سبيل المثال لا الحصر.

1 ـ جاء في سفر التكوين الإصطلاح 17 العبارة 17 إلى 20: «وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله... وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه (أي دعاءك في حقه) ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جيداً. اثني عشر رئيساً يلد وأجعله أُمّة كبيرة».

2 ـ «لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجيله حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب».

والجدير بالإِنتباه أن أحد معاني شيلون ـ حسب تصريح المسترهاكس في كتاب قاموس الكتاب المقدس ـ هو الإِرسال، وهو يوافق كلمة «رسول» أو «رسول الله».

3 ـ وفي إنجيل يوحنا الباب 15 العبارة رقم 16 جاء ما يلي: «وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم».

4 ـ وكذا جاء في إنجيل يوحنا ذاته الإصطلاح 16 العبارة رقم7: «لكنّي أقول لكم الحق: إنّه خير لكم أن أنطلق. لأنّه إن لَم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك هو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية».(1)

والنقطة الجديرة بالإِهتمام أنّه جاءت الكلمة في إنجيل يوحنا باللغة الفارسية

_____________________________

1 ـ كل النصوص المنقولة هنا مقتبسة من كتاب العهد القديم والجديد طباعة وإصدار دارالكتاب المقدس في العالم العربي عام 1979.

[252]

«المسلّي» ولكنّها في الإِنجيل العربي طبعة لندن (مطبعة وليام وطس عام 1857) جاء مكانها: «فارقليطا».

* * *

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336599

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:43

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net