00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المائدة من آية 1 ـ 6 من ( ص 569 ـ 620 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

                                           سُورَة الـــمَائِـدَة

مدنيّة

وعَددُ آياتِها مَائة وَعشرُون آية

محتويات سورة المائدة

إِنّ هذه السورة من السور المدنية، وتشتمل على مئة وعشرين آية، وقيل أنّها نزلت بعد سورة الفتح، وتدل روايات على أنّها نزلت كلّها في فترة حجّة الوداع بين مكة والمدينة(1).

وتشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإِسلامية بالإِضافة إِلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.

وقد وردت في القسم الأوّل منها الإِشارة إِلى قضية الخلاف بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقضايا أُخرى مثل: عقيدة التثليث المسيحية، ومواضيع خاصّة بيوم القيامة والحشر واستجواب الأنبياء حول أُممهم.

أمّا القسم الثّاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق، وقضايا العدالة الإِجتماعية، والشهادة العادلة، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية إبني آدم، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإِضافة إِلى بيان أقسام من الأغذية المحرمة والمحللة، وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.

أمّا وجه تسمية السورة بـ «سورة المائدة» فهو لورود قصّة نزول المائدة السماوية على حواري المسيح(عليه السلام) في الآية (114) منها.

* * *

____________________________

1 ـ تفسير المنار ـ الجزء السادس، ص 116، ويجب الإِنتباه إِلى أنّ المقصود بالسورة المدنية، هو نزولها بعد هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إِلى المدينة، حتى لو لم تكن السورة قد نزلت في المدينة نفسها.

[570]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاَْنْعَـمِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّىِ الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ(1)

التّفسير

الإِلزام بالوفاء بالعهد والميثاق:

تدل الروايات الإِسلامية وأقوال المفسّرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ورد في تفسير العياشي نقلا عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّ الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «نزلت المائدة قبل أن يقبض النّبي(عليه السلام) بشهرين أو ثلاثة»(1).

وما ورد بشأن هذه السورة من أنّها من السور الناسخة وليست المنسوخة يعتبر إِشارة إِلى المعنى المذكور أعلاه.

ولا يتنافى هذا الكلام مع ذلك الذي ورد في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا ـ

____________________________

1 ـ تفسير البرهان ـ الجزء الأوّل، ص 430، يجب الإِنتباه إِلى أن ورد أحكام الوضوء والتيمم وأمثالهما في هذه السورة، لا ينافي كونها آخر سورة من سور القرآن، لأنّ أغلب هذه الأحكام لها طابع تكراري، أي أنّها وردت بصورة مكررة للتأكيد عليها، لذلك نرى بعضاً من هذه الأحكام قد وردت في سورة النساء أيضاً.

[571]

في هامش الآية (281) من سورة البقرة ـ حيث قلنا هناك بأنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ كلامنا الحالي هو عن آخر سورة نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلامنا السابق كان عن آية واحدة.

لقد تمّ التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإِسلامية، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية، وقضية قيادة الأُمّة وخلافة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإِلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها: (يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...) وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إِليها هذه السورة.

ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكّد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه.

ويجب الإِلتفات إِلى أنّ كلمة «عقود» هي صيغة جمع من «عقد» التي تعني في الأصل شد أطراف شيء معين ببعضها شداً محكماً، ومن هنا يسمّى شد طرفي الحبل أو شد حبلين ببعضهما «عقداً».

بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إِلى المفهوم المعنوي فتسمّي كلّ عهد أو ميثاق عقداً، لكن بعض المفسّرين ـ قالوا بأنّ كلمة «عقد» مفهوم أضيق من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاماً كافياً، ولا تطلق على كل العهود، وإِذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسّرين كلمتا العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه، لأنّ المقصود في هذه الروايات أو العبارات هو التّفسير الإِجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان جزئياتهما.

ونظراً لأنّ كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة

[572]

على الإِستغراق، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضاً إِطلاقاً تاماً، لذلك فإِن الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر دليلا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقداً محكماً.

وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإِلهية والإِنسانية والإِتفاقيات السياسية والإِقتصادية والإِجتماعية، والتجارية، وعقود الزواج، وأمثال ذلك، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإِنسان العقائدية والعملية، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة.

وجاء في تفسير «روح المعاني» عن «الراغب الأصفهاني» أنّ العقد ـ نظراً لطرفيه ينقسم إِلى ثلاثة أنواع، فأحياناً يكون عقداً بين العبد وربّه، وطوراً بين الفرد ونفسه، وحيناً بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر(1).

وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين، وغاية الأمر أنّ الإِنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثّاني، أو الطرف الآخر من العقد.

وعلى أي حال، فإِنّ مفهوم هذه الآية ـ لسعته ـ يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.

وهناك عدّة أُمور في هذه الآية يجب الإِنتباه إِليها وهي:

1 ـ تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإِسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي «أصالة اللزوم في العقود» أي أنّ كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ.

____________________________

1 ـ تفسير «روح المعاني» الآية موضوع البحث.

[573]

ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والإِتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر، والتي لم يكن لها وجود في السابق، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة ـ تدخل ضمن هذه القاعدة، حيث تؤكّد هذه الآية صحتها جميعاً (وطبيعي أن الضوابط الكلية التي أقرّها الإِسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا المجال).

والإِستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنّها لا تشمل العهود الإِلهية المعقودة بين البشر وبين الله تعالى، أو القضايا الخاصّة بالقيادة والزعامة الإِسلامية التي أخذ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) العهد والميثاق فيها من الأُمّة، بل إِنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل جميع هذه الأُمور.

وتجدر الإِشارة هنا إِلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين، ولزوم الوفاء بالعهد يبقى سارياً مادام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد، ولو نقض أحد الطرفين العقد لم يكن الطرف الثّاني عند ذلك ملزماً بالوفاء بالعهد إِذ يخرج العهد بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق.

2 ـ إِنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر واحداً من أهم مستلزمات الحياة الإِجتماعية، إِذا بدونها لا يتمّ أي نوع من التعاون والتكافل الإِجتماعي، وإِذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الإِجتماعية وآثارها أيضاً.

ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإِسلامي بشكل لا مثيل له ـ على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية، لأنّ الوفاء لو انعدم بين ابناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الإِضطراب فيه وزالت الثقة العامّة، وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث.

وقد ورد في نهج البلاغة من قول الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)لمالك

[574]

الأشتر(رضي الله عنه) مايلي:

«فإِنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعاً ـ مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ـ من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم ـ دون المسلمين ـ لما استوبلوا من عواقب الغدر»(1).

وجملة «لما استوبلوا من عواقب الغدر» معناها: لما نالهم من وبال من عواقب الغدر.

وينقل عن الإِمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ الله لا يقبل إِلاّ العمل الصالح، ولا يقبل الله إِلاّ الوفاء بالشروط والعهود»(2).

ونقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا دين لمن لا عهد له»(3).

والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أنّ موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في الإِلتزام به بين إِنسان وإِنسان آخر ـ سواء كان مسلماً أو غير مسلم ـ وهو ـ كما يصطلح عليه ـ يعتبر من حقوق الإِنسان بصورة عامّة، وليس ـ فقط ـ من حقوق أنصار الدين الواحد.

وفي حديث عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: «ثلاث لم يجعل الله عزَّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إِلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين!»(4).

نقل عن الإِمام علي(عليه السلام) بأن العهد حتى لو كان بالإِشارة يجب الوفاء به، وذلك في قوله: «إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إِلى أحد من المشركين، فنزل على ذلك فهو في أمان»(5).

* * *

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، رسائل الإِمام علي(عليه السلام)، الرسالة 53.

2 ـ سفينة البحار، الجزء الثّاني، ص 294.

3 ـ البحار، الجزء السادس عشر، ص 144.

4 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 162.

5 ـ مستدرك الوسائل، ج 2، ص 250.

[575]

وبعد أن تطرقت الآية إِلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق ـ سواء كان إِلهياً أو إِنسانياً محضاً ـ أردفت ببيان مجموعة أُخرى من الأحكام الإِسلامية، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات، فبيّنت أن المواشي واجنتها تحل لحومهما على المسلمين، حيث تقول الآية: (أُحلت لكم بهيمة الأنعام) وكلمة «الأنعام» صيغة جمع من «نِعم» وتعني الإِيل والبقر والأغنام(1).

أمّا كلمة «بهيمة» فهي مشتقة من المصدر «بهمة» على وزن «تهمة» وتعني في الأصل الحجر الصلب، ويقال لكل ما يعسر دركه «مبهماً» وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى «بهيمة» لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر، وقد جرت العادة على إِطلاق كلمة «بهيمة» على المواشي من الحيوانات فقط، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.

ومن جانب آخر فإِن جنين المواشي يطلق عليه اسم «بهيمة» لأنّه يكون مبهماً نوعاً ما.

وعلى الإساس المذكور فإِنّ حكم حلية (بهيمة الأنعام) يشمل إِمّا جميع المواشي ما عدا التي استثنتها الآية فيما بعد، أو تكون الجملة بمعنى أجنة الحيوانات من ذوات اللحم الحلال (تلك الأجنة التي اكتمل نموها وهي في بطن أُمّها، وكسى جلدها بالشعر أو الصوف)(2).

ولما كان حكم حلية حيوانات كالإِبل والبقر والأغنام قد تبيّن للناس قبل هذه الآية، لذلك من المحتمل أن تكون الآية ـ موضوع البحث ـ إِشارة إِلى حلية أجنة هذه الحيوانات.

والظاهر من الآية أنّها تشمل معنى واسعاً، أي تبيّن حلية هذه الحيوانات

____________________________

1 ـ إِذا جاءت كلمة «نعم» مفردة فهي تعني الإِبل، وإِذا جاءت جمعاً فتعني الأنواع الثلاثة، مفردات الراغب مادة (نعم).

2 ـ لو قلنا: إنّ كلمة «بهيمة» تعني الحيوانات وحدها دون الأجنة، لكانت إضافة كلمة «بهيمة» إِلى كلمة «أنعام» إضافة بيانية، أمّا إذا قلنا: إنها تعني الأجنة أيضاً، تكون هذه الإِضافة «لامية».

[576]

بالإِضافة إِلى حلية لحوم أجنتها أيضاً، ومع أنّ هذا الحكم كان قد توضح في السابق إِلاّ أنّه جاء مكرراً في هذه الآية كمقدمة للإِستثناءات الواردة فيها.

ويتبيّن لنا ممّا تقدم أن علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي ـ الذي هو لزوم الوفاء بالعهد ـ هي التأكيد على كون الأحكام الإِلهية نوعاً من العهد بين الله وعباده ـ حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسماً من تلك الأحكام.

وفي الختام تبيّن الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي، وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد، حيث تقول الآية: (إلاّ ما يتلى عليكم) والمورد الثّاني هو أن يكون الإِنسان في حالة إِحرام للحج أو العمرة، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة، فتقول الآية: (غير محلّي الصيد وأنتم حرم)(1).

وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ الله إِذا أراد شيئاً أو حكماً انجزه أو أصدره، لإنه عالم بكل شيء، وهو مالك الأشياء كلها، وإِذا رأى أن صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره، أصدر هذا الحكم وشرعه، حيث تقول الآية في هذا المجال: (إِنّ الله يحكم ما يريد).

* * *

____________________________

1 ـ طبيعي أن جملة «إِلا ما يتلى عليكم» هي جملة إستثنائية، وإن جملة «غير محلي الصيد» هي حال من ضمير «كم» وتكون نتيجة للإِستثناء بحسب المعنى.

[577]

الآية

يَـأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَـئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلَـئِدَ وَلاَءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَأَنُ قَوْم أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِ وَالتَّقْوَى وَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَنِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)

التّفسير

ثمانية احكام في آية واحدة:

لقد بيّنت هذه الآية عدداً من الأحكام الإِلهية الإِسلامية المهمة، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله، وهي على الوجه التالي:

1 ـ الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة، كما تقول الآية الكريمة: (يا أيّها الذين آمنوا لا تحلُّوا شعائر الله ...) واختلف المفسّرون حول المراد بكلمة «الشعائر» الواردة هنا، وبالنظر إِلى الأجزاء الأُخرى من هذه الآية، وإِلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة

[578]

العاشرة للهجرة التي أدى فيها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) آخر حجّة إِلى مكّة المكرمة هي حجّة الوداع، يتّضح أنّ المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها كلّها، ويؤكّد هذا الرأي مجيء كلمة «الشّعائر» في القرآن الكريم مقترنة بالحديث عن مناسك الحج دائماً(1).

2 ـ دعت الآية إِلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور، حيث قالت: (ولا الشهر الحرام ...).

3 ـ حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج، سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى بـ «الهدي»(2) أو تلك الخالية من العاملات والتي تسمّى بـ «القلائد»(3) أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إِلى محل القربان للحج وتذبح فيه، فقالت الآية: (ولا الهدي ولا القلائد ...).

4 ـ أوجبت الآية توفير الحرية التامّة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية، ونهت عن مضايقة المتوجهين إِلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته، أو حتى الذين توجهوا إِلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافاً أُخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة: (ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربّهم ورضواناً ...).

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات معنى عام وتشمل غير المسلمين، أي المشركين أيضاً إِن هم جاءوا لزيارة بيت الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين.

____________________________

1 ـ سورة البقرة، الآية 158 وسورة الحج، الآيتان 32 و36.

2 ـ الهدى جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إِلى بيت الله الحرام.

3 ـ القلائد جمع «قلادة» وهي الشيء الذي يوضع حول رقبة الإِنسان أو الحيوان، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.

[579]

ولكن نظراً لنزول آية تحريم دخول المشركين إِلى المسجد الحرام في سورة التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة، ونزول سورة المائدة في أواخر عمر النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على أيّ من الأحكام الواردة فيها ـ بحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنة ـ لذلك يستبعد أن يكون هذا التّفسير صحيحاً، والحق أن الحكم المذكور خاص بالمسلمين وحدهم.

5 ـ لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإِحرام فقط، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإِحرام إِيذان بجواز الصيد للمسلمين ـ حيث تقول الآية الكريمة: (وإِذا حللتم فاصطادوا).

6 ـ منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة اُولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إِسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج، وكان هذا في واقعة الحديبية، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة اُولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإِسلام لهم ديناً، تقول الآية الكريمة: (ولا يجرمنّكم شئنان قوم إِن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا)(1).

ومع أنّ هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام، لكنه ـ في  الحقيقة ـ يعد حكماً عاماً، وقانوناً كلياً يدعو المسلمين إِلى نبذ «الحقد» وعدم إِحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الإِنتقام من مسببيها.

ولمّا كانت خصلة الحقد إِحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى المجتمعات يتّضح لنا ـ منذ ذلك ـ جلياً أهمية هذا الحكم الإِسلامي في التصدي والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي

____________________________

1 ـ تفيد أقوال أهل اللغة والتّفسير أنّ كلمة «جرم» تعني في الأصل قطع الثمار أو قطفها من الأغصان قبل الأوان، وتطلق ـ أيضاً على كل عمل مكروه، كما تطلق على الآخرين بالقيام بعمل غير محبوب ـ وهنا فإن عبارة «لا يجرمنكم» تعني لا يحملنكم على القيام بعمل غير صائب.

[580]

الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم.

7 ـ تؤكّد الآية ـ جرياً على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إِكماله ـ على أنّ المسلمين بدلا من أن يتحدوا للإِنتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا ـ وأصبحوا بحكم إِسلامهم أصدقاء ـ عليهم جميعاً أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى، وأن لا يتعاونوا ـ في سبيل الشر والعدوان تقول الآية: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان ...).

8 ـ ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكّدها تدعو المسلمين في الختام إِلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله، محذره من عذاب الله الشديد، فتقول: (واتقوا الله إِنّ الله شديد العقاب).

التعاون في أعمال الخير:

إِنّ الدعوة إِلى التعاون التي تؤكّد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إِسلامياً عاماً، تدخل في إِطاره جميع المجالات الإِجتماعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية وغيرها، وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال الخير، كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشرّ والإِثم اللّذين يدخل إِطارهما الظلم والإِستبداد والجور بكل أصنافها.

ويأتي هذا المبدأ الإِسلامي تماماً على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي، وما زال يطبق حتى في عصرنا الحاضر، وهو المبدأ القائل: «اُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، وكان في العصر الجاهلي إِذا غزت جماعة من إِحدى القبائل جماعة من قبيلة أُخرى، هب أفراد القبيلة الغازية لموازرة الغازين بغض النظر عمّا إِذا كان الغزو لغرض عادل أو ظالم، ونرى في وقتنا الحاضر ـ أيضاً ـ آثار هذا المبدأ الجاهلي في العلاقات الدولية، وبالذات لدى الدول المتحالفة حين تهب في الغالب لحماية بعضها البعض، والتضامن والتعاون معاً حيال القضايا الدولية دون رعاية لمبدأ العدالة ودون تمييز بين الظالم والمظلوم: لقد ألغى الإِسلام هذا المبدأ

[581]

الجاهلي، ودعى المسلمين إِلى التعاون في أعمال الخير والمشاريع النافعة والبناءة فقط، ونهى عن التعاون في الظلم والعدوان.

والطريق في هذا المجال هو مجيء كلمتي «البر» و«التقوى» معاً وعلى التوالي في الآية، حيث أنّ الكلمة الأُولى تحمل طابعاً إِيجابياً وتشير الى الأعمال النافعة، والثانية لها طابع النهي والمنع وتشير إِلى الإِمتناع عن الأعمال المنكرة ـ وعلى هذا الأساس ـ أيضاً ـ فإِن التعاون والتآزر يجب أن يتمّ سواء في الدّعوة إِلى عمل الخير، أو في مكافحة الأعمال المنكرة.

وقد استخدم الفقه الإِسلامي هذا القانون في القضايا الحقوقية، حيث حرّم قسماً من المعاملات والعقود التجارية التي فيها طابع الإِعانة على المعاصي أو المنكرات، كبيع الأعناب إِلى مصانع الخمور أو بيع السلاح إِلى أعداء الإِسلام وأعداء الحق والعدالة، أو تأجير محل للإِكتساب لتمارس فيه المعاملات غير الشرعية والأعمال المنكرة (وبديهي أن لهذه الأحكام شروطاً تناولتها كتب الفقه الإِسلامي بالتوضيح).

إِنّ إحياء هذا المبدأ لدى المجتمعات الإِسلامية، وتعاون المسلمين في أعمال الخير والمشاريع النافعة البناءة دون الإِهتمام بالعلاقات الشخصية والعرقية والنسبية، والإِمتناع عن تقديم أي نوع من التعاون إِلى الأفراد الذين يمارسون الظلم والعدوان، بغض النظر عن تبعية أو انتمائية الفئة الظالمة، كل ذلك من شأنه أن يزيل الكثير من النواقص الإِجتماعية.

أمّا في العلاقات الدولية، فلو امتنعت دول العالم عن التعاون مع كل دولة معتدية ـ أيّاً كانت ـ لقضي بذلك على جذور العدوان والإِستعمار والإِستغلال في العالم، ولكن حين ينقلب الوضع فتتعاون الدول مع المعتدين والظالمين بحجّة أنّ مصالحهم الدولية تقتضي ذلك، فلا يمكن توقع الخير أبداً من وضع كالذي يسود العالم اليوم.

لقد تناولت الأحاديث والروايات الإِسلامية هذه القضية بتأكيد كبير،

[582]

 ونورد ـ هنا ـ بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر.

1 ـ نقل عن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال قوله: «إِذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برىء لهم قلما ولاق لهم دواة؟ قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم»(1).

2 ـ نقل عن صفوان الجمال، وهو أحد أنصار الإِمام السابع موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام)، بأنّه تشرف بلقاء الإِمام(عليه السلام) فقال له الكاظم(عليه السلام): يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً.

قلت: جعلت فداك، أي شيء؟

قال: اكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون.

قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولاّه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني.

فقال لي: ياصفوان، أيقع كراؤك عليهم؟

قلت: نعم.

قال: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار ... إِلى آخر الحديث(2).

وفي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب به عليّاً(عليه السلام) قائلا:

«يا علي كفر بالله العلي العظيم من هذه الأُمّة عشرة ... وبائع السلاح لأهل الحرب»(3).

* * *

____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 12، ص 131.

2 ـ الوسائل، ج 12، ص 131 ـ 132.

3 ـ وسائل الشيعة، ج 12، ص 71.

[583]

الآية

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِاللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ والْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالاَْزْلَـمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِْسْلَـمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة غَيْر مُتَجَانِف لاِّثْم فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)

التّفسير

لقد تمّت الإِشارة في بداية السورة إِلى الحلال من لحوم المواشي،  وورد ـ أيضاً ـ أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي، حيث ذكرتها الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ في أحد عشر مورداً تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية أُخرى على سبيل التأكيد.

والمحرمات التي وردت في هذه الآية، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي:

أوّلا: الميتة.

[584]

ثانياً: الدم.

ثالثاً: لحم الخنزير.

رابعاً: الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام، أو باسم غير اسم الله، كما كان يفعل الجاهليّون، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

خامساً: الحيوانات المخنوقة، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإِنسان أو بنفسها، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحياناً للإِنتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إِلى هذا النوع باسم «المنخنقة».

وورد في بعض الروايات أنّ المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات التي يريدون أكلها، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضاً(1).

سادساً: الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية بـ «الموقوذة»(2).

ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض الحيوانات حتى الموت إِكراماً لأصنامهم وتقرباً لها.

سابعاً: الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، وقد سمي هذا النوع في الآية بـ «المتردية».

ثامناً: الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ «النطيحة».

تاسعاً: الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه، وسمي هذا النوع في الآية بـ «ما أكل السبع».

وقد يكون جزءاً من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات، هو عدم

____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 16، ص 173.

2 ـ الموقوذة = المضروبة بعنف حتى الموت.

[585]

نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل، لأنّه ما لم تقطع عروق رقابها لا تنزف الدم بمقدار كاف، ولما كان الدم محيطاً مناسباً جداً لنمو مختلف أنواع الجراثيم، وبما أنّه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الاُخرى من الجسد، لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة، وغالباً ما يحصل هذا التسمم عندما يموت الحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر.

من جانب آخر فإِنّ الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك الحيوانات، أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح.

لقد ذكرت الآية شرطاً واحداً لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالا، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإِسلامية، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه، ولذلك جاءت عبارة (إلاّ ما ذكيتم) بعد موارد التحريم مباشرة.

ويرى بعض المفسّرين أن هذا الإِستثناء يخص القسم الأخير فقط، أي ذلك الذي جاء تحت عنوان: (وما أكل السبع) لكن أغلب المفسّرين يرون أنّ الإِستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من غيرها.

وهنا قد يسأل البعض: لماذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في الآية في إطار «الميتة» التي ذكرت كأوّل نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية، أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟

والجواب هو: إِنّ الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي، فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إِطار مفهوم الميتة، أمّا المعنى اللغوي للميتة فيشمل ـ فقط ـ الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية. ولهذا السبب فإِن الأنواع المذكورة في الآية ـ غير الميتة ـ لا تدخل من الناحية اللغوية

[586]

ضمن مفهوم الميتة، وهي محتاجة إِلى البيان والتوضيح.

عاشراً: كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخوراً حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمون هذه الصخور بـ «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.

والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام، وقد حرم الإِسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: (وما ذُبح على النّصب).

وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إِنّما يحمل طابعاً معنوياً وليس مادياً. وفي الحقيقة فإِن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية: (وما أُهل لغير الله به) وقد ذكر تشخيصاً في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية.

أحد عشر: وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيواناً ويذبحونه، ثمّ يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز»، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة «خاسر»، فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الإِقتراع، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة باسمائهم يأخذون قسماً من اللحم دون أن يدفعوا ثمناً لما أخذوه من اللحم، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة باسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي، فيدفع كلّ واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه.

وقد سمى الجاهليون هذه النبال بـ «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإِسلام هذا النوع من اللحوم، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار، ويجب القول هنا أن تحريم

[587]

القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط، بل إن القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان.

ولكي تؤكّد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام: (ذلكم فسق).(1)

الإِعتدال في تناول اللحوم:

إِنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإِسلامية الأُخرى، هو أنّ الإِسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أُسلوباً معتدلا تمام الإِعتدال جرياً على طريقته الخاصّة في أحكامه الأُخرى.

ويختلف اُسلوبه هذا اختلافاً كبيراً مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.

ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم.

فقد أباح الإِسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإِفراط أو التفريط.

وقد عيّن الإِسلام شروطاً أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإِنسان الإِستفادة منها، وهي: ـ

1 ـ لحوم الحيوانات التي تقتات على الأعشاب، أمّا الحيوانات التي تقتات على اللحوم فهي غالباً ما تأكل لحوم حيوانات ميتة أو موبوءة، وبذلك قد تكون سبباً في نقل أنواع الأمراض لدى تناول لحومها، بينما الحيوانات التي تأكل

____________________________

1 ـ بالرغم من أنّ «ذلكم»، اشارة لمفرد، إلاّ أنّه لمّا كان يحتوي على ضمير الجمع، وقد فرض المجموع بمثابة الشيء الواحد، فلا اشكال في هذا الاستعمال.

[588]

العشب يكون غذاؤها سليماً وخالياً من الأمراض.

وقد تقدم أيضاً في تفسير الآية (72) من سورة البقرة بأنّ الحيوانات تورث صفاتها عن طريق لحومها أيضاً، فمن يأكل لحم حيوان متوحش يرث صفات الوحش كالقسوة والعنف، وبناء على هذا الدليل ـ أيضاً ـ حرمت لحوم الحيوانات الجلاّلة، وهي التي تأكل فضلات غيرها من الحيوانات.

2 ـ أن لا تكون الحيوانات التي ينتفع من لحمها كريهة للنفس الإِنسانية.

3 ـ أن لا يترك لحم الحيوان أثراً سيئاً أو ضاراً على جسم أو نفس الإِنسان.

4 ـ لقد حرمت الحيوانات التي تذبح في طريق الشرك في سبيل الأصنام، وأمثال ذلك لما فيها من نجاسة معنوية.

5 ـ لقد بيّن الإِسلام أحكاماً خاصّة لطريقة ذبح الحيوانات لكل واحد منها ـ بدوره ـ الأثر الصحي والأخلاقي على الإِنسان.

* * *

بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقاً: الأُولى منهما تقول: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون).

والثّانية هي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإِسلام ديناً).

متى أكمل الله الدين للمسلمين:

إِنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة «اليوم» الواردة فيهما.

فأيّ يوم يا ترى هو ذلك «اليوم» الذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة

[589]

المصيرية، وهي يأس الكفار، وإِكمال الدين، وإِتمام النعمة، وقبول الله لدين الإِسلام ديناً ختامياً لكل البشرية؟

لقد قال المفسّرون الكثير في هذا المجال، وممّا لا شك فيه ولا ريب أن يوماً عظيماً في تاريخ حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كهذا اليوم ـ لا يمكن أن يكون يوماً عادياً كسائر الأيّام، ولو قلنا بأنّه يوم عادي لما بقي مبرر لإِضفاء مثل هذه الأهمية العظيمة عليه كما ورد في الآية.

وقيل أنّ بعضاً من اليهود والنصارى قالوا في شأن هذا اليوم بأنّه لو كان قد ورد في كتبهم مثله لإتّخذوه عيداً لأنفسهم ولاهتموا به اهتماماً عظيماً(1).

ولنبحث الآن في القرائن والدلائل وفي تاريخ نزول هذه الآية وتاريخ حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والروايات المختلفة المستفادة من مصادر إِسلامية عديدة، لنرى أي يوم هو هذا اليوم العظيم؟

ترى هل هو اليوم الذي أنزل فيه الله الأحكام المذكورة في نفس الآية والخاصّة بالحلال والحرام من اللحوم؟

بديهي أنّه ليس ذلك لأنّ نزول هذه الأحكام لا يوجب إِعطاء تلك الأهمية العظيمة، ولا يمكن أن يكون سبباً لإِكمال الدين، لأنّها لم تكن آخر الأحكام التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل على هذا القول ما نراه من أحكام تلت الأحكام السابقة في نزولها، كما لا يمكن القول بأن الاحكام المذكورة هي السبب في يأس الكفار، بل إنّ ما يثير اليأس لدى الكفار هو إِيجاد دعامة راسخة قوية لمستقبل الإِسلام، وبعبارة أُخرى فإِنّ نزول أحكام الحلال والحرام من اللحوم لا يترك أثراً في نفوس الكفار، فماذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلالا وبعضها الآخر حراماً؟!

فهل المراد من ذلك «اليوم» هو يوم عرفة من حجّة الوداع، آخر حجّة قام بها

____________________________

1 ـ تفسير المنار، ج 6، ص 155.

[590]

النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (كما احتمله بعض المفسّرين)؟

وجواب هذا السؤال هو النفي أيضاً، لأنّ الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثة مهمّة في مثل ذلك اليوم لتكون سبباً ليأس الكفار ولو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم عرفة، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة قبل هذا اليوم أيضاً، ولو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم، فلم تكن الأحكام تلك شيئاً مهمّاً مخيفاً بالنسبة للكفار.

ثمّ هل المقصود بذلك «اليوم» هو يوم فتح مكة (كما احتمله البعض)؟ ومن المعلوم أنّ سورة المائدة نزلت بعد فترة طويلة من فتح مكة!

أو أنّ المراد هو يوم نزول آيات سورة البراءة، ولكنها نزلت قبل فترة طويلة من سورة المائدة.

والأعجب من كل ما ذكر هو قول البعض بأن هذا اليوم هو يوم ظهور الإِسلام وبعثة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن هذين الحدثين لا علاقة زمنية بينهما وبين يوم نزول هذه الآية مطلقاً وبينهما فارق زمني بعيد جدّاً.

وهكذا يتّضح لنا أنّ أيّاً من الإِحتمالات الستة المذكورة لا تتلاءم مع محتوى الآية موضوع البحث.

ويبقى لدينا احتمال أخير ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه كما دعمته روايات كثيرة، وهذا الإِحتمال يتناسب تماماً مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم عذير خم» أي اليوم الذي نصب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً أميرالمؤمنين(عليه السلام)بصورة رسمية وعلنية خليفة له، حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس، وقد كانوا يتوهمون أن دين الإِسلام سينتهي بوفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأن الأوضاع ستعود إِلى سابق عهد الجاهلية، لكنّهم حين شاهدوا أنّ النّبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريداً بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته، وهو علي

[591]

بن أبي طالب(عليه السلام)، ورأوا النّبي وهو يأخذ البيعة لعلي(عليه السلام) أحاط بهم اليأس من كل جانب، وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شر لمستقبل الإِسلام وأدركوا أن هذا الدين باق راسخ.

ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملا، إِذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الأُمّة الإِسلامية، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك ولم يكن ليكتمل الدين.

نعم في يوم غذير خم أكمل الله وأتمّ نعمته بتعيين علي(عليه السلام)، هذا الشخصية اللائقة الكفؤ، قائداً وزعيماً للأُمة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي هذا اليوم ـ أيضاً ـ رضي الله بالإِسلام ديناً، بل خاتماً للأديان، بعد أن اكتملت مشاريع هذا الدين، واجتمعت فيه الجهات الأربع.

وفيما يلي قرائن أُخرى إِضافة إِلى ما ذكر في دعم وتأييد هذا التّفسير:

أ ـ لقد ذكرت تفاسير «الرازي» و«روح المعاني» و«المنار» في تفسير هذه الآية أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعش أكثر من واحد وثمانين يوماً بعد نزول هذه الآية، وهذا أمر يثير الإِنتباه في حد ذاته، إِذ حين نرى أنّ وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل (بحسب الروايات الواردة في مصادر جمهور السنّة، وحتى في بعض روايات الشيعة، كالتي ذكرها الكليني في كتابه المعروف بالكافي) نستنتج أن نزول الآية كان بالضبط في يوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام، وهو يوم غدير خم(1).

ب ـ ذكرت روايات كثيرة ـ نقلتها مصادر السنّة والشيعة ـ أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خم، وبعد أن أبلغ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بولاية علي

____________________________

1 ـ إنّ هذا الحساب يكون صحيحاً إذا لم ندخل يوم وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويوم غدير خم في الحساب، وأن يكون في ثلاثة أشهر متتاليات مشهرات عدد أيّام كل منهما (29) يوماً، ونظراً لأن أي حدث تاريخي لم يحصل قبل وبعد يوم غديرخم، فمن المرجح أن يكون المراد باليوم المذكور في الآية هو يوم غدير خم.

[592]

بن أبي طالب(عليه السلام)، ومن هذه الروايات:

1 ـ ما نقله العالم السنّي المشهور «ابن جرير الطبري» في كتاب «الولاية» عن «زيد بن أرقم» الصحابي المعروف، أنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب(عليه السلام).

2 ـ ونقل الحافظ «أبو نعيم الأصفهاني» في كتاب «ما نزل من القرآن بحق علي(عليه السلام)» عن «أبي سعيد الخدري» وهو صحابي معروف ـ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى في «يوم غدير خم» علياً منصب الولاية ... وإِنّ الناس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقوا حتى نزلت آية: (اليوم أكملت لكم دينكم...) فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي تلك اللحظة «الله أكبر على إِكمال الدين وإِتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي(عليه السلام) من بعدي» ثمّ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله».

3 ـ وروى «الخطيب البغدادي» في «تاريخه» عن «أبي هريرة» عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ آية (اليوم أكملت لكم دينكم ...) نزلت عقيب حادثة «غدير خم» والعهد بالولاية لعلي(عليه السلام) وقول عمر بن الخطاب: «بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم»(1).

وجاء في كتاب «الغدير» إِضافة إِلى الروايات الثلاث المذكورة، ثلاث عشرة رواية أُخرى في هذا المجال.

ورود في كتاب «إحقاق الحق» نقلا عن الجزء الثّاني من تفسير «ابن كثير» من الصفحة 14 وعن كتاب «مقتل الخوارزمي» في الصفحة 47 عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّ هذه الآية نزلت في واقعة غديرخم.

____________________________

1 ـ لقد أورد العلاّمة الأميني(رحمه الله) هذه الروايات الثلاثة بتفاصيلها في الجزء الأوّل من كتابه «الغدير» في الصفحات 230 و231 و232 كما ورد في كتاب «إحقاق الحق» في الجزء السادس والصفحة 353 أن نزول الآية كان في حادثه غدير خم نقلا عن أبي هريرة من طريقين، كما نقلها عن أبي سعيد الخدري من عدة طرق.

[593]

ونرى في تفسير «البرهان» وتفسير «نور الثقلين» عشر روايات من طرق مختلفة حول نزول الآية في حق علي(عليه السلام) أو في يوم غدير خم، ونقل كل هذه الروايات يحتاج إِلى رسالة منفردة(1).

وقد ذكر العلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه «المراجعات» أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الإِمامين الباقر والصّادق(عليهما السلام) تقول بنزول هذه الآية في «يوم غدير خم» وإنّ جمهور السنّة أيضاً قد نقلوا ستة أحاديث بأسانيد مختلفة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تصرح كلها بنزول الآية في واقعة غدير خم(2).

يتّضح ممّا تقدم أنّ الروايات والأخبار التي أكّدت نزول الآية ـ موضوع البحث ـ في واقعة غدير خم ليست من نوع أخبار الأحاد لكي يمكن تجاهلها، عن طريق اعتبار الضعف في بعض أسانيدها، بل هي أخبار إِن لم تكن في حكم المتواتر فهي على أقل تقدير من الأخبار المستفيضة التي تناقلتها المصادر الإِسلامية المشهورة.

ومع ذلك فإِنّنا نرى بعضاً من العلماء المتعصبين من أهل السنّة كالآلوسي في تفسير «روح المعاني» الذي تجاهل الأخبار الواردة في هذا المجال لمجرّد ضعف سند واحد منها، وقد وصم هؤلاء هذه الرواية بأنّها موضوعة أو غير صحيحة، لأنّها لم تكن لتلائم أذواقهم الشخصية، وقد مرّ بعضهم في تفسيره لهذه الآية مرور الكرام ولم يلمح إليها بشيء، كما في تفسير المنار، ولعل صاحب المنار وجد نفسه في مأزق حيال هذه الروايات فهو إن وصمها بالضعف خالف بذلك منطق العدل والإِنصاف، وإن قبلها عمل شيئاً خلافاً لميله وذوقه.

وقد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمّة جديرة بالإِنتباه ـ فالآية تقول: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في

____________________________

1 ـ راجع تفسير الآية في الجزء الأوّل من تفسير البرهان والجزء الأوّل من تفسير «نور الثقلين».

2 ـ راجع كتاب «المراجعات» الطبعة الرابعة، ص 38.

[594]

الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً ...) والله سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعداً على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.

ولمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة، ونظراً إِلى جملة (رضيت لكم الإِسلام ديناً) الواردة في الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ والتي نزلت في حق علي بن أبي طالب(عليه السلام)، لذلك كله نستنتج أنّ حكم الإِسلام يتعزز ويترسخ في الأرض إِذا اقترن بالولاية، لأن الإِسلام هو الدين الذي ارتضاه الله ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه، وبعبارة أوضح أن الإِسلام إِذا أُريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت(عليهم السلام).

أمّا الأمر الثّاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إِلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أن الآية الأُولى قد أعطت للمؤمنين وعودا ثلاثة:

أوّلها: الخلافة على الأرض.

والثّاني: تحقق الأمن والإِستقرار لكي تكون العبادة لله وحده.

والثّالث: استقرار الدين الذي يرضاه الله في الأرض.

ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في «يوم غدير خم» بنزول آية: (اليوم أكملت لكم دينكم ...) فمثال الإِنسان المؤمن الصالح هو علي(عليه السلام) الذي نصب وصيّاً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ودلت عبارة (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ...) على أن الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين، كما بيّنت عبارة: (ورضيت لكم الإِسلام ديناً) إِنّ الله قد اختار الدين الذي يرتضيه، وأقرّه بين عباده المسلمين.

وهذا التّفسير لا ينافي الرواية التي تصرح بأنّ آية سورة النور قد نزلت في شأن المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك لأنّ عبارة (آمنوا منكم) لها معنى واسع تحقق واحد من مصاديقه في «يوم غدير خم» وسيتحقق

[595]

على مدى أوسع وأعم في زمن ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (وعلى أساس هذا التّفسير فإِنّ كلمة الأرض في الآية الأخيرة ليست بمعنى كل الكرة الأرضية، بل لها مفهوم واسع يمكن أن يشمل مساحة من الأرض أو الكرة الأرضية بكاملها).

ويدل على هذا الأمر المواضع التي وردت فيها كلمة «الأرض» في القرآن الكريم، حيث وردت أحياناً لتعني جزءاً من الأرض، وأُخرى لتعني الأرض كلها، (فامعنوا النظر ودققوا في هذا الأمر).

سؤال يفرض نفسه:

وأخيراً بقي سؤال ملح وهو:

أوّلا: إن الأدلة المذكورة في الآية ـ موضوع البحث ـ والأدلة التي ستأتي في تفسير الآية (67) من سورة المائدة والتي تقول: (يا أيّها الرّسول بلغ ما أنزل إِليك ...) لو كانت كلها تخص واقعة واحدة، فلماذا فصل القرآن بين هاتين الآيتين ولم تأتيا متعاقبين في مكان واحد؟

وثانياً: لا يوجد ترابط موضوعي بين ذلك الجزء من الآية الذي يتحدث عن واقعة «غدير خم» وبين الجزء الآخر منها الذي يتحدث عن الحلال والحرام من اللحوم، فما هو سبب هذه المفارقة الظاهرة؟(1)

الجواب:

أوّلا: نحن نعلم أنّ الآيات القرآنية ـ وكذلك سور القرآن الكريم ـ لم تجمع كلها مرتبة بحسب نزولها الزمني، بل نشاهد كثيراً من السور التي نزلت في المدينة فيها آيات مكية أي نزلت في مكة، كما نلاحظ آيات مدنية بين السور المكية أيضاً.

وبناءً على هذه الحقيقة، فلا عجب ـ إِذن ـ من وجود هذا الفاصل في القرآن

____________________________

1 ـ لقد أورد هذا الإِعتراض تلميحاً صاحب تفسير «المنار» لدى الحديث عن هذه الآية، ج 6، ص 266.

[596]

بين الآيتين المذكورتين (ويجب الإِعتراف بأن ترتيب الآيات القرآنية بالصورة التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه) فلو كانت الآيات القرآنية مرتبة بحسب زمن نزولها لأصبح الإِعتراض وارداً في هذا المجال.

ثانياً: هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة «غدير خم» في آية تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقاً، مثل موضوع أحكام الحلال والحرام من اللحوم، إِنما هو لصيانة الموضوع الأوّل من أن تصل إِليه يد التحريف أو الحذف أو التغيير.

إِنّ الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والإِعتراض الصريح الذي واجهه طلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكتابة وصيته، إِلى حدّ وصفوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لدى طلبه هذا الأمر بأنّه يهجر (والعياذ بالله) وقد وردت تفاصيل هذه الوقائع في الكتب الإِسلامية المعروفة، سواء عن طريق جمهور السنّة أو الشيعة، وهي تدل بوضوح على الحساسية المفرطة التي كانت لدى نفر من الناس تجاه قضية الخلافة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يتركوا وسيلة إِلاّ استخدموها لإِنكار هذا الامر(1).

فلا يستبعد ـ والحالة هذه ـ أن تتخذ اجراءات وقائية لحماية الأدلة والوثائق الخاصّة بالخلافة من أجل إِيصالها إِلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسّها يد التحريف أو الحذف، ومن هذه الإِجراءات حشر موضوع الخلافة ـ المهم جدّاً ـ في القرآن بين آيات الأحكام الشرعية الفرعية لإِبعاد عيون وأيدي المعارضين والعابثين عنها.

إِضافة إِلى ذلك ـ وكما أسلفنا في حديثنا ـ فإِنّ الوثائق الخاصّة بنزول آية:

____________________________

1 ـ نقل هذه الواقعة واحد من أشهر كتب السنّة وهو كتاب «صحيح البخاري» وفي عدّة أبواب منها باب «كتاب المرضى» في الجزء الرابع، وباب «كتاب العلم» في الجزء الأوّل، ص 22 وفي باب «جوائز وفد» من كتاب الجهاد، ص 118، ج 2 كما وردت في كتاب «صحيح مسلم» في آخر الوصايا بالإِضافة إِلى كتب أُخرى ذكرها المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين(رحمه الله) في كتابه «المراجعات» تحت عنوان «رزية يوم الخميس».

[597]

(اليوم أكملت لكم دينكم ...) الواردة في واقعة «غديرخم» حول قضية الخلافة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم تقتصر كتب الشيعة وحدهم على ذكرها، بل تناقلها ـ أيضاً ـ الكثير من كتب السنّة من طرق متعددة عن ثلاثة من الصحابة المعروفين.

لقد أعادت الآية ـ في نهايتها ـ الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الإِضطرار في حالة المعاناة من الجوع إِذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك، مشيرة إِلى غفران الله ورحمته في عدم إِلجاء عباده عند الإِضطرار إِلى تحمل المعاناة والمشقة، وعدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات. قالت الآية الكريمة: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإِثم فإِنّ الله غفور رحيم).

والمراد بالمخمصة هنا الجوع الشديد الذي يؤدي إِلى انخماص البطن، سواء كان بسبب حالة المجاعة العامّة، أو كان ناتجاً عن الحرمان الخاص.

أمّا عبارة (غير متجانف لإِثم) فمعناها غير مائل إِلى ارتكاب الذنب، وقد يكون الإِتيان بها تأكيداً لمفهوم الإِضطرار، أو أنّ الهدف منها هو المنع من الإِفراط في أكل اللحم الحرام أثناء الضرورة، توهماً من الشخص بأن ذلك حلال في مثل هذه الحالة، ومنعاً من أن يحاول الشخص بنفسه إِعداد مقدمات الإِضطرار أو أن يحصل الإِضطرار أثناء قيام الشخص بسفر من أجل ارتكاب الحرام فيه.

هذه المعاني كلها يحتمل ورودها ضمن العبارة الأخيرة الماضية «ولأجل الإِطلاع على توضيحات أكثر في هذا المجال، راجع الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا».

* * *

[598]

الآية

يَسْئَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَـتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارحِ مُكَلِّبِين تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(4)

سبب النّزول

ذكر المفسرون أسباباً عديدة لنزول هذه الآية، وأكثر هذه الأسباب ملاءمة مع فحوى الآية هو: أنّ «زيد الخير» و«عدي بن حاتم» اللذين كانا من الصحابة المقّربين، قدما على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبراه بأنّ قومهما يصيدون بواسطة كلاب وصقور الصيد، وإِنّ هذه الكلاب تصيد لهم الحيوانات الوحشية من ذوات اللحم الحلال، وتأتي بالحيوان المصيد حياً في بعض الأحيان فيذبح، وأحياناً أُخرى تأتي به وقد قتلته قبل وصولها إِلى أصحابها دون أن يتاح لهم ذبحه، وسألا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم الصيد والمقتول بواسطة كلاب الصيد وهل يعتبر ميتة وحراماً أم لا؟ ... فنزلت الآية هذه وأجابت على سؤالهما.(1)

____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج 3، تفسر الآية موضوع البحث.

[599]

التّفسير

الحلال من الصيد:

أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاماً عن الحلام والحرام عن اللحوم، وقد بيّنت هذه الآية نوعاً آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل للإِنسان تناولها، وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها: (يسألونك ماذا أحلّ لهم ...).

فتأمر الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أوّلا ـ بأن يخبرهم إِنّ كل ما كان طيباً وطاهراً فهو حلال لهم، حيث تقول: (قل أُحلّ لكم الطيبات ....) دالة على أنّ كل ما حرمه الإِسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة، وإِن القوانين الإِلهية لا تحرم ـ مطلقاً ـ الموجودات الطاهرة التي خلقها الله لينتفع بها البشر، وإِن الجهاز التشريعي يعمل دائماً بتنسيق تام مع الجهاز التكويني وفي كل مكان.

ثمّ تبيّن الآية أنواع الصيد الحلال، فتشير إِلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدربة على الصيد، فتؤكد بأنّه حلال، بقولها: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلّمونهنّ ممّا علمكم الله)(1).

وعبارة جوارح مشتقة من المصدر «جرح» الذي يعني أحياناً «الكسب» وتارة يعني «الجرح» الذي يصاب به البدن، ولذلك يطلق على الحيوانات المدرّبة على الصيد، سواء كانت من الطيور أو من غيرها، اسم «جارحة» وجمعها «جوارح» أي الحيوان الذي يجرح صيده، أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي يكسب لصاحبه، وأمّا إِطلاق لفظة «الجوارح» على أعضاء الجسم فلأن الإِنسان يستطيع بواسطتها إِنجاز الأعمال أو الإِكتساب.

وجملة (وما علمتم من الجوارح) تشمل كل الحيوانات المدرّبة على

____________________________

1 ـ هناك محذوف مقدر في بداية هذه الجملة القرآنية، حيث إن الأصل يفترض أن يكون «وصيد ما علمتم» وذلك استدلالا بالقرينة الواردة في جملة (فكلوا مما أمسكن عليكم ...) (فليلا حظ ذلك).

[600]

الصيد، ولكن كلمة «مكلبين» التي تعني تدريب الكلاب للقيام بأعمال الصيد، والمشتقة من مادة «كَلَب» أي الكلب، تقيد هذه الجملة وتخصصها بكلاب الصيد، ولذلك فإِنها لا تشمل الصيد بحيوانات غير هذه الكلاب مثل الصقور المدرّبة على الصيد.

ولذلك ذهب فقهاء الشيعة إِلى تخصيص الصيد الحلال بما يصاد من قبل كلاب الصيد، لكن جمعاً من علماء السنّة ومفسّريهم ذهبوا إِلى جواز الكل وأعطوا تفسيراً واسعاً لعبارة «مكلبين» ولم يخصصوا ذلك بكلاب الصيد فقط.

إِلاّ أنّنا نرى أنّ المصدر الأساس لهذه الكلمة المشتقة إِنما يدل على أنّها مخصصة بكلاب الصيد فقط، وبديهي أنّ الصيد الذي تجلبه حيوانات مدرّبة أُخرى، يعتبر حلالا في حالة جلبه حيّاً وذبحه وفق الطريقة الشرعية.

أمّا عبارة (تعلمونهنّ ممّا علمكم الله) فإِنّها تشير إِلى عدّة أُمور هي

1 ـ إِنّ تدريب مثل هذه الحيوانات يجب أن يستمر، فلو نسيت ما تعلمته وقتلت حيواناً كما تفعله بعض الكلاب السائبة، فلا يعتبر عند ذلك ما قتلته صيداً، ولا يحل لحم هذا الحيوان المقتول في مثل هذه الحالة، والدليل على هذا القول هو كون فعل «تعلمونهن» فعلا مضارعاً، والفعل المضارع يدل على الحال والإِستقبال.

2 ـ يجب أن يتمّ تدريب هذه الكلاب وفق الأصول الصحيحة التي تتلاءم مع مفهوم العبارة القرآنية (ممّا علّمكم ...).

إِنّ العلوم كلها ـ سواء كانت بسيطة أم معقدة ـ مصدرها هو الله، وإِنّ الإِنسان لا يملك بنفسه شيئاً ما لم يعلمه الله.

إِضافة إِلى ما ذكر فإِنّ كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث تأتمر بأمر صاحبها، أي تتحرك بأمره وتعود إِليه بأمره أيضاً.

وبديهي أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد، يجب أن يذبح وفق الطريقة

[601]

الشرعية إِن جلب حيّاً، وإِن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإِن لم يذبح.

وأخيراً أشارت الآية الكريمة إِلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل هذا النوع من الصيد.

أوّلهما: أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئاً، حيث قالت الآية: (فكلوا مما أمسكن عليكم ...).

وعلى هذا الأساس فإِن الكلاب لو أكلت من الصيد شيئاً قبل إِيصاله إِلى صاحبها، وتركت قسماً آخر منه، فلا يحل لحم مثل هذا الصيد ويدخل ضمن حكم (ما أكل السبع) الذي ورد في الآية السابقة، ومثل هذا الكلب الذي يأكل الصيد لا يعتبر في الحقيقة كلباً مدرباً، كما لا يعتبر ما تركه من الصيد مصداقاً لعبارة (ممّا أمسكن عليكم) لأنّه في هذه الحالة يكون (أي الكلب) قد صاد لنفسه (لكن بعض الفقهاء لم يروا في هذا الموضوع شرطاً، مستندين إِلى روايات وردت في مصادر الحديث وذكرتها كتب الفقه بالتفصيل).

ومجمل القول هو أن كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث لا تأكل من الصيد الذي تمسكه.

والأمر الثّاني: هو ضرورة ذكر اسم الله على الصيد بعد أن يتركه الكلب، حيث قالت الآية: (واذكروا اسم الله عليه ...).

ولكي تضمن الآية رعاية الأحكام الإِلهية ـ هذه ـ كلها، أكّدت في الختام قائلة: (واتقوا الله إِنّ الله سريع الحساب) داعية إِلى الخوف من الله العزيز القدير، ومن حسابه السريع(1).

* * *

____________________________

1 ـ لقد شرحنا معنى جملة «سريع الحساب» في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

[602]

الآية

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـتِ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَان وَمَن يَكْفُرْ بِالاِْيمَـنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَـسِرِينَ(5)

التّفسير

حكم طعام أهل الكتاب وحكم الزّواج بهم:

تناولت هذه الآية، التي جاءت مكملة للآيات السابقة، نوعاً آخر من الغذاء الحلال، فبيّنت أنّ كل غذاء طاهر حلال، وإِن غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين، وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب، وحيث قالت الآية: (اليوم أُحلّ لكم الطّيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ...).

وتشتمل هذه الآية الكريمة على أُمور نجلب الإِلتفات إِليها، وهي:

1 ـ إِنّ المراد بكلمة «اليوم» الواردة في هذه الآية هو يوم «عرفة» بناء على ما اعتقده بعض المفسّرين، وقد ذهب مفسرون آخرون إِلى أنّ المراد هو اليوم

[603]

الذي تلا فتح خيبر ـ ولا يبعد ـ أن يكون هو نفس «يوم غدير خم» الذي تحقق فيه النصر الكامل للمسلمين على الكفار (وسنتاول هذا الموضوع بالشرح قريباً).

2 ـ لقد تناولت هذه الآية قضية تحليل الطيبات مع أنّها كانت حلالا قبل نزول الآية والهدف من ذلك هو أن تكون هذه القضية مقدمة لبيان حكم «طعام أهل الكتاب».

3 ـ ما هو المقصود بـ«طعام أهل الكتاب» الذي اعتبرته الآية حلالا على المسلمين؟

يعتقد أغلب مفسّري علماء السنة أن «طعام أهل الكتاب» يشمل كل أنواع الطعام، سواء كان من لحوم الحيوانات المذبوحة بأيدي أهل الكتاب أنفسهم أو غير ذلك من الطعام، بينما تعتقد الأغلبية الساحقة من مفسّري الشيعة وفقهائهم أنّ المقصود من «طعام أهل الكتاب» هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب، إِلاّ أن هناك القليل من علماء الشيعة ـ أيضاً ـ ممن يقولون بصحة النظرية الأُولى التي اتبعها أهل السنة.

وتؤكد رأي غالبية الشيعة ـ في هذا المجال ـ الروايات العديدة الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام).

فقد جاء في تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال في هذه الآية: «عني بطعامهم ها هنا الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحون، فإنه لا يذكرون اسم الله عليها».

ورودت روايات عديدة أُخرى في هذا المجال في الجزء السادس عشر من كتاب وسائل الشيعة في الباب 51 من أبواب الأطعمة والأشربة، في الصفحة 371.

وبالإِمعان في الآيات السابقة يتبيّن أن التّفسير الثّاني ذهبت إِليه الأكثرية من مفسّري الشيعة وفقائهم (تفسير الطعام بغير الذبيحة) هو أقرب إِلى الحقيقة من

[604]

التّفسير الأوّل.

وذلك ـ كما أوضح الإِمام الصّادق(عليه السلام) في الرواية التي أوردناها أعلاه ـ لأنّ أهل الكتاب لا يراعون الشروط الإِسلامية في ذبائحهم، فهم لا يذكرون اسم الله على الذبيحة، ولا يوجهونها صوب القبلة اثناء ذبحها، كما أنّهم لا يلتزمون برعاية الشروط الأُخرى ـ فهل يعقل أن تحرم الآية السابقة ـ وبصورة صريحة ـ لحم الحيوان المذبوح بهذه الطريقة، وتأتي آية أُخرى بضدها لتحلله؟!

وترد على الذهن في هذا المجال أسئلة نلخُصها فيما يلي:

1 ـ لو كان المقصود بالطعام سائر الأغذية ما عدا لحوم ذبائح أهل الكتاب، فإِنّ هذه الأغذية كانت حلالا من قبل، ولا فرق بين وجودها في أيدي أهل الكتاب أو غيرهم، فهل كان شراء الحبوب والغلات من أهل الكتاب قبل نزول هذه الآية شيئاً مخالفاً للشرع، في حين أن المسلمين كانوا دائماً يتعاطون مع أهل الكتاب شراء وبيع هذه الأشياء؟!

إِذا توجهنا إِلى نقطة أساسية في الآية الكريمة، يتوضح لنا بجلاء جواب هذا السؤال، فالآية الأخيرة ـ هذه ـ نزلت في زمن كان للإِسلام فيه السلطة الكاملة على شبه الجزيرة العربية وقد أثبت الإِسلام وجوده في كل الساحات والميادين على طول هذه الجزيرة وعرضها، بحيث أنّ أعداء الإِسلام قد تملكهم اليأس التام لعجزهم عن دحر المسلمين، ولذلك اقتضت الضرورة ـ في مثل هذا الظرف المناسب للمسلمين ـ أن ترفع القيود والحدود التي كانت مفروضة قبل هذا في مجال مخالطة المسلمين لغيرهم، حيث كانت هذه القيود تحول دون تزاور المسلمين مع الغير.

لذلك نزلت هذه الآية الكريمة وأعلنت تخفيف قيود التعامل والمعاشرة مع أهل الكتاب، بعد أن ترسخت قواعد وأساس الحكومة الإِسلامية، ولم يعد هناك ما يخشى منه من جانب غير المسلمين، فسمحت الآية بالتزاور بين المسلمين

[605]

وغيرهم، وأحلت طعام بعضهم لبعض كما أحلت التزواج فيها بينهم (ولكن على أساس الشروط التي سنبيّنها).

جدير بالقول أنّ الذين لا يرون طهارة أهل الكتاب يشترطون أن يكون طعامهم خالياً من الرطوبة أو البلل، وإِذا كان الطعام رطباً يشترط أن لا تكون أيادي أهل الكتاب قد مسته لكي يستطيع المسلمين تناول هذا الطعام، كما يرى هؤلاء عدم جواز تناول طعام أهل الكتاب إِن لم تتوفر الشروط المذكورة فيه.

إِلاّ أنّ مجموعة أُخرى من العلماء الذين يرون طهارة أهل الكتاب، لا يجدون بأسا في تناول الطعام مع أهل الكتاب والحلول ضيفاً عليهم، شرط أن لا يكون طعامهم من لحوم ذبائحهم وأن يحصل اليقين من براءته من نجاسة عرضية (كأن يكون قد تنجس باختلاطه أو ملامسته للخمرة أو الجعة «ماء العشير»).

وخلاصة القول: إِنّ الآية ـ موضوع البحث ـ جاءت لترفع الحدود والقيود السابقة الخاصّة بمعاشرة أهل الكتاب، والدليل على ذلك هو إِشارة الآية لإِباحة طعام المسلمين لأهل الكتاب، أي السماح للمسلمين باستضافتهم، كما تتطرق الآية بعد ذلك مباشرة إِلى حكم التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب (أي الزواج بنساء أهل الكتاب).

وبديهي أنّ النظام الذي يمتلك السيطرة الكاملة على أوضاع المجتمع، هو وحده القادر على إِصدار مثل هذا الحكم لمصلحة أتباعه دون أن يساوره أي قلق بسبب الأعداء، وقد ظهرت هذه الحالة في الحقيقة في يوم غدير خم، أو في يوم عرفة في حجّة الوداع كما اعتقده البعض، أو بعد فتح خيبر، مع أن يوم غدير خم هو الأقرب إِلى هذا الموضوع.

أورد صاحب تفسير المنار في كتابه إعتراضاً آخر في تفسير هذه الآية، حيث يقول بأنّ كلمة «طعام» وردت في كثير من آيات القرآن بمعنى كل أنواع الطعام، وهي تشمل اللحوم أيضاً، فكيف يمكن تقييد الآية بالحبوب والفواكه

[606]

وأمثالها؟، ثمّ يقول بأنّه طرح هذا الإِعتراض في مجلس كان يضم جمعاً من الشيعة فلم يجب أحد عليه.

وباعتقادنا نحن أنّ جواب إعتراض صاحب كتاب المنار واضح، فنحن لا ننكر أنّ لفظة «طعام» تحمل مفهوماً واسعاً، إِلاّ أنّ ما ورد في الآيات السابقة، كبيان أنواع اللحوم المحرمة ـ وبالأخص لحوم الحيوانات التي لم يذكر اسم الله عليها لدى ذبحها ـ إِنّما يخصص هذا المفهوم الواسع ويحدد كلمة «طعام» في الآية بغير اللحوم، ولا ينكر أحد أن كل عام أو مطلق قابل للتخصيص والتقييد، كما نعلم أنّ أهل الكتاب لا يلتزمون بذكر اسم الله على ذبائحهم، ناهيك على أنّهم لا يراعون ـ أيضاً ـ الشروط الواردة في السنّة في مجال الذبح.

وجاء في كتاب «كنز العرفان» حول تفسير هذه الآية إعتراض آخر خلاصته أن كلمة «طيبات» لها مفهوم واسع، وهي «عامّة» بحسب الإِصطلاح، بينما جملة (وطعام الذين أُوتوا الكتاب) خاصّة، وطبيعي أنّ ذكر الخاص بعد العام يجب أن يكون لسبب، ولكن السبب في هذا المجال غير واضح، ثمّ يرجو صاحب الكتاب من الله أن يحل له هذه المعضلة العلمية(1).

إِنّ جواب هذا الإِعتراض يتّضح أيضاً ممّا قلناه سابقاً بأنّ الآية إِنّما جاءت بعبارة (أُحّل لكم الطيبات) كمقدمة من أجل بيان رفع القيود في التقارب مع أهل الكتاب، فالحقيقة أنّ الآية تقول بأنّ كل شيء طيب هو حلال للمسلمين، وبناء على هذا فإِن طعام أهل الكتاب (إِذ كان طيباً و طاهراً) هو حلال أيضاً للمسملين ـ وأن الحدود والقيود التي كانت تقف حائلا دون تقارب المسلمين مع أهل الكتاب قد رفعت أو خففت في هذا اليوم بعد الإِنتصارات التي أحرزها المسلمون فيه، (فليمعن النظر في هذا).

____________________________

1 ـ كنز العرفان، ج 2، ص 312.

[607]

حكم الزّواج بغير المسلمات:

بعد أنّ بيّنت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، فقالت بأنّ المسلمين يستطيعون الزّواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، شرط أن يدفعوا لهن مهورهن، حيث تقول الآية: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أُتوا الكتاب من قبلكم إِذا آتيتموهن أُجورهنّ ...) على أن يكوت التواصل بوسيلة الزّواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح، ولا عن طريق المعاشرة الخفية، حيث تقول الآية: (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان)(1).

وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل في الحقيقة الحدود التي كانت مفروضة على الزواج بين المسلمين وغيرهم، ويبيّن جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية ضمن شروط خاصّة.

وقد اختلف فقهاء المسلمين في أنّ جواز الزواج بالمرأة الكتابية هل ينحصر بالنوع المؤقت من الزّواج، أو يشمل النوعين: الدائم والمؤقت؟

لا يرى علماء السنّة فرقاً بين نوعي الزواج في هذا المجال، ويعتقدون بأنّ الآية عامّة، بينما يعتقد جمع من علماء الشيعة أنّ الآية مقتصرة على الزواج المؤقت، وتؤيّد روايات وردت عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) هذا الرأي أيضاً.

والقرائن الموجودة في الآية يمكن أن تكون دليلا على هذا القول.

وأوّل هذه القرائن هو قوله تعالى: (إِذا آتيتموهنّ أُجورهنّ) ولو أن لفظة «الأجر» تطلق على المهر في نوعي الزواج الدائم والمؤقت، إِلاّ أنّها غالباً ما ترد لبيان المهر في الزواج المؤقت، أي أنّها تناسب هذا الأخير أكثر.

____________________________

1 ـ لقد أوضحنا في هذا الجزء من تفسيرنا هذا في تفسير الآية (25) من سورة النساء، أنّ كلمة «أخدان» جمع «خدن» وهي تعني في الأصل الصديق، وعادة ما تطلق على الصداقة السرية غير الشرعية مع الجنس الآخر.

[608]

أمّا القرينة الثّانية فهي قوله تعالى: (غير مسافحين ولا متخذي أخدان ...)فهي تتلاءم أكثر مع الزواج المؤقت، لأنّ الزواج الدائم ليس فيه شبه الزنا أو الصداقة السرية لكي ينهى عنه، بينما يشتبه بعض السذج من الناس ـ أحياناً ـ في الزواج المؤقت فيخلطون بينه وبين الزنا والصداقة السرية غير المشروعة مع المرأة.

أضف إِلى ذلك كلّه ورد هذه التعابير في الآية (25) من سورة النساء، وكما نعلم فإِنّ تلك الآية نزلت في شأن الزواج المؤقت.

مع ذلك كلّه فإِنّ هناك العديد من الفقهاء ممن يجيزون الزواج بالكتابيات بصورة مطلقة، ولا يرون القرائن المذكورة المذكورة كافية لتخصيص الآية، كما يستدلون في هذا المجال ببعض الروايات «للإِطلاع على تفاصيل أكثر في المجال يجدر الرجوع إِلى كتب الفقه».

ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة، ومن ذلك إنتخاب الرجل أو المرأة خليلا من الجنس الآخر وبصورة علنية، وقد تمادى إِنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون الجنسي، ففي حين كان الإِنسان الجاهلي ينتخب الأَخلاء سرّاً وفي الخفاء، أصبح إِنسان اليوم لا يرى بأساً من إِعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف ووقاحة، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعاً صريحاً ومفضوحاً من الفحشاء وهدية مشؤومة انتقلت من الغرب إِلى الشرق وأصبحت مصدراً للكثير من النكبات والكوارث.

ولا يفوتنا أن نوضح هذه النقطة وهي أن الآية أجازت تناول طعام أهل الكتاب كما أجازت إِطعامهم وفق الشروط التي ذكرت، بينما في قضية الزواج أجازت فقط الزواج بنساء أهل الكتاب، ولم تجز للنساء المسلمات الزواج بالرجال من أهل الكتاب.

[609]

وفلسفة هذا الأمر جلية واضحة لا تحتاج إِلى الشرح والتفصيل، لأنّ النساء بما يمتلكنه من عواطف ومشاعر رقيقة يكن أكثر عرضة لإِكتساب أفكار أزواجهنّ، من الرجال.

ولكي تسد الآية طريق إِساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس، وتحول دون الإِنحراف إِلى هذا الأمر بعلم أو بدون علم، حذرت المسلمين في جزئها الأخير فقالت: (ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين).

وهذه إِشارة إِلى أنّ التسهيلات الواردة في الآية بالإِضافة إِلى كونها تؤدي إِلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين، يجب أن تكون ـ أيضاً ـ سبباً لتغلغل الإِسلام إِلى نفوس الأجانب، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا دينهم، وحيث سيؤدي بهم هذا الأمر إِلى نيل العقاب الإِلهي الصارم الشديد.

وهناك احتمال آخر في تفسر هذا الجزء من الآية نظراً لبعض الروايات الواردة وسبب النّزول المذكور، وهو أن نفراً من المسلمين اعلنوا ـ بعد نزول هذه الآية وحكم حلية طعام أهل الكتاب والزواج بالكتابيات ـ استياءهم من تطبيق هذه الأحكام، فحذرتهم الآية من الإِعتراض على حكم الله ومن الكفر بهذه الحكم، وأنذرتهم بأنّ أعمالهم ستذهب هباء وستكون عاقبتهم الخسران.

* * *

[610]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْجَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ أَوْلَـمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَّيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَج وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)

التّفسير

تطهير الجسم والرّوح:

لقد تناولت الآيات السابقة بحوثاً متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم المادية، أمّا الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سبباً لطهارة الرّوح و النفس الإِنسانية، فقد بيّنت هذه الآية أحكاماً مثل الوضوء والغسل والتيمم، التي تكون سبباً في صفاء وطهارة الروح الإِنسانية ـ فخاطبت المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا

[611]

قمتم(1) إِلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إِلى المرافق وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلى الكعبين).

لم توضّح الآية مناطق الوجه التي يجب غسلها في الوضوء، لكن الروايات التي وردت عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) قد بيّنت بصورة مفصلة طريقة الوضوء التي كانت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل بها.

1 ـ إِنّ حدود الوجه طولا من منابت الشعر على الجبهة حتى منتهى الذقن، وعرضاً ما يقع من الوجه بين الأصبع الوسطى والإِبهام ـ وهذا هو ما يسمّى ويفهم من الوجه عرفاً، لأنّ الوجه هو ذلك الجزء من الجسم الذي يواجه الإِنسان لدى التلاقي مع نظيره.

2 ـ لقد ذكرت الآية حدود ما يجب غسله من اليدين في الوضوء، فأشارت إِلى أنّ الغسل يكون حتى المرفقين ـ وقد جاء التصريح بالمرفقين في الآية لكي لا يتوهم بأنّ الغسل المطلوب هو للرسغين كما هو العادة في غسل الأيدي.

ويتبيّن من هذا التوضيح أنّ كلمة «إِلى» الواردة في الآية هي لمجرّد بيان حد الغسل وليست ليبان اُسلوبه كما التبس على البعض، حيث ظنوا أنّ المقصود في الآية هو غسل اليدين ابتداء من أطراف الأصابع حتى المرفقين (وراج هذا الأُسلوب لدى جماعات من أهل السنة).

ولتوضيح هذا الأمر نقول: أنّه حين يطلب إِنسان من صباغ أن يصبغ جدار غرفة من حد ارضيتها لغاية متر واحد، فالمفهوم من ذلك أنّه لا يطلب أن يبدأ

____________________________

1 ـ وردت روايات عديدة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) تؤكّد أنّ المراد بجملة «قمتم» هو القيام من النوم، حيث لدى الإِمعان في محتويات الآية يتأكد لنا هذا الأمر أيضاً، لأن الجمل التالية التي تبين فيها الآية حكم التيمم قد وردت فيها عبارة (أو جاء أحد منكم من الغائط)، فلو كانت الآية تبيّن في بدايتها حكم جميع من ليسوا على وضوء، فإن عطف الجملة الأخيرة ـ وبالأخص ـ بحرف «أو» لا يتلاءم وظاهر هذه الآية، لأنّ المقصود فيها يدخل ضمن عنوان من هو ليس على وضوء أيضاً. أمّا إذا كان الآية في بدايتها تتكلم بصورة خاصة عن الذين يقومون من النوم، أى أنها تبيّن فقط ما أصطلح عليه بـ«حدث النوم» فإن الجملة المذكورة تصبح مفهومة بشكل تام.

[612]

الصباغ عمله من تحت إِلى فوق، بل إنّ ذكر هذه الحدود هو فقط لبيان المساحة المراد صبغها لا أكثر ولا أقل، وعلى هذا الأساس فإِن الآية أرادت من ذكر حدود اليد بيان المقدار الذي يجب غسله منها لا أُسلوب وكيفية الغسل.

وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أُسلوب الغسل وفق سنّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع.

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ المرفق ـ أيضاً ـ يجب غسله اثناء الوضوء، لأن الغاية في مثل هذه الحالات تدخل ضمن المغيّي، أي أن الحدّ يدخل في حكم المحدود(1).

3 ـ إِنّ حرف (بــ) الوارد مع عبارة «برؤوسكم» في الآية يعني التبعيض، كما صرّحت به بعض الروايات وأيده البعض من علماء اللغة، والمراد بذلك بعض من الرأس، أي مسح بعض من الرأس حيث أكدت روايات الشيعة أنّ هذا البعض هو ربع الرأس من مقدمته، فيجب مسح جزء من هذا الربع حتى لو كان قليلا باليد، بينما الرائج بين البعض من طوائف السنّة في مسح كل الرأس وحتى الأذنين لا يتلاءم مع ما يفهم من هذه الآية الكريمة.

4 ـ إِنّ اقتران عبارة «ارجلكم» بعبارة «رؤوسكم» دليل على أنّ الأرجل يجب أن تمسح هي ـ أيضاً ـ لا أن تغسل، وما فتح اللام في «ارجلكم» إِلاّ لأنّها معطوفة محلا على «رؤوسكم» وليست معطوفة على «وجوهكم»(2).

5 ـ تعني كلمة «كعب» في اللغة النتوء الظاهر خلف الرجل، كما تعني ـ أيضاً ـ

____________________________

1 ـ لقد ذكر «سيبويه» الذي هو من مشاهير علماء اللغة العربية أنّه متى ما كان الشيء الوارد بعد (إلى) والشيء الوارد قبلها من جنس واحد، ويدخل هذا (المابعد) في الحكم ـ أمّا لو كانا من جنسين مختلفين فيعتبر خارجاً عن الحكم ـ فلو قيل: أمسك إِلى آخر ساعة من النهار، يكون المفهوم من هذه الجملة أن الإِمساك يشمل الساعة الأخيرة أيضاً، بينما لو قيل: أمسك إِلى أول الليل فإن أوّل الليل لا يدخل ضمن حكم الإِمساك (المنار، ج 6، ص 223).

2 ـ ليس هناك من شك بأنّ عبارة «وجوهكم» تفصلها مسافة كبيرة نسبياً عن عبارة «أرجلكم» لذلك يستبعد أن تكون الأخيرة معطوفة على «وجوهكم»، إضافة إِلى ذلك فإنّ الكثير من القراء قد قرأوا عبارة «أرجلكم» بكسر اللام.

[613]

المفصل الذي يربط مشط الرجل بالساق(1).

بعد ذلك كله بيّنت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت: (وإِن كنتم جنباً فاطهروا ...) والواضح أنّ المراد من جملة «فاطّهروا» هو غسل جميع الجسم، لأنّه لو كان المراد جزءاً خاصاً منه لأقتضى ذكر ذلك الجزء، وعلى هذا الأساس فإِنّ العبارة المذكورة تعني جميع الجسم ـ وقد جاء حكم مشابه لهذا الحكم في الآية (43) من سورة النساء حيث تقول: (حتى تغتسلوا).

إِنّ كلمة «جُنباً» ـ وكما أوضحنا سابقاً في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا، لدى تفسير الآية (43) من سورة النساء ـ مصدر، وقد وردت بمعنى اسم الفاعل، وتعني في الأصل «المتباعد» أو «البعيد» لأنّ الجذر الأصلي هو «جنابة» بمعنى «بُعد»، وسبب إِطلاق هذا اللفظ على الإِنسان المجنب لأن هذا الإِنسان يجب عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها.

وتطلق هذه الكلمة «جنب» على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وإِطلاق «جار الجنب» على البعيد هو لنفس المناسبة.

ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إِلى الإِغتسال قبل الصّلاة على أن غسل الجنابة يجزيء، وينوب عن الوضوء أيضاً.

* * *

ومن ثمّ بادرت الآية إِلى بيان حكم التيمم حيث قالت: (وإِن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء

____________________________

1 ـ لقد ذكر القاموس ثلاثة معان للكعب وهي: النتوء الظاهر خلف الرجل، والمفصل، والنتوئين البارزين على جانبي الرجل ـ وقد بيّنت السنّة الشريفة أن المراد في الآية ليس النتوءات المذكورات ولكن العلماء اختلفوا في هل أن المراد هو النتوء البارز خلف الرجل أو هو المفصل؟ ـ وعلى أي حال ـ فإن الإِحتياط يوجب أن يكون المسح حتى المفصل.

[614]

فتيمموا صعيداً طيباً....).

وهنا يجب الإِلتفات إِلى أن جملتي (أو جاء أحد منكم من الغائط) و(أو لامستم النساء) هما ـ كما أشرنا سابقاً ـ معطوفتان على بداية الآية، أي على جملة: (إِذ قمتم إِلى الصّلاة) فالآية أشارت في البداية حقيقة إِلى قضية النوم، وتطرقت في آخرها إِلى نوعين آخرين من موجبات الوضوء والغسل.

أمّا لو عطفنا الجملتين على جملة (على سفر) فسنواجه مشكلتين في هذه الآية وهما أوّلا: إِنّ عودة الإِنسان بعد التخلي لا يمكن أن تكون كحالة المرض أو السّفر فلا تناظر بين تلك وهاتين الحالتين، لذلك ترانا مضطرين إِلى أن نأخذ حرف «أو» الوارد في الآية بمعنى الواو العاطفة (وأكّد هذا الأمر جمع من المفسّرين) وهذا خلاف لظاهر الآية.

بالإِضافة إِلى ذلك فإِنّ ذكر التغوط بصورة خاصّة من بين كل موجبات الوضوء سيبقى بدون مبرر، لكننا لو فسّرنا الآية بالصورة التي قلناها سابقاً فلا يبقى بعد ذلك مبرر لهذين الإِعتراضين الأخيرين، (ومع أنّنا اعتبرنا في تفسير الآية (43) من سورة النساء)، وجرياً على ما فعله الكثير من المفسّرين، اعتبرنا كلمة «أو» بمعنى الواو العاطفة، إِلاّ أنّ الذي ذكرناه مؤخراً ـ هنا ـ يعتبر أقرب إِلى القبول من ذلك.

أمّا الموضوع الآخر فهو تكرار موضوع الجنابة مرّتين في هذه الآية، ويحتمل أن يكون هدف هذا التكرار هو التأكيد على هذه القضية، أو قد تكون كلمة «جنباً» الواردة بمعنى الجنابة التي تحدث أثناء النوم أو بسبب الإِحتلام، بينما المراد من جملة (أو لامستم النساء) هو الجنابة الحاصلة نتيجة المقاربة الجنسية بين الرجل والمرأة، وإِذا فسّرنا كلمة «قمتم» الواردة في الآية بالقيام من النوم (كما ورد في روايات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وأيضاً اشتملت الآية على قرينة بهذا الخصوص) يكون تفسيرنا هذا تأييداً للمعنى الذي أوردناه بخصوص تكرار موضوع الجنابة.

[615]

لقد بيّنت الآية ـ بعد ذلك ـ اُسلوب التيمم بصورة إِجمالية فقالت: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ...) والواضح هنا هو أنّ المراد ليس حمل شيء من التراب ومسح الوجه واليدين به، بل أنّ المقصود هو ضرب الكفين على تراب طاهر ثمّ مسح الوجه واليدين بهما، لكن بعض الفقهاء استدلوا بعبارة «منه» الموجودة في الآية وقالوا بضرورة أن يلاصق الكفين شيء ولو قليل من التراب(1).

بقيت مسألة أخيرة في هذا المجال، وهي مسألة معنى كلمتي (صعيداً طيباً)فقد ذهب الكثير من علماء اللغة إِلى أنّ لكلمة «صعيد» معنيين هما التراب أوّلا، أو كل شيء يغطي سطح البسيطة أي الكرة الأرضية ثانياً، سواء كان تراباً أو صخراً أو حصى أو حجراً أو غير ذلك من الأشياء، وقد أدى هذا إِلى حصول اختلاف في آراء الفقهاء حول الشيء الذي يجوز التيمم به، هل هو التراب وحده أو أنّ الحجر والرمل وأمثالهما ـ أيضاً ـ يجوز التيمم بهما؟

وحين نرجع إِلى الأصل اللغوي لكلمة «صعيد» الذي يدل على «الصعود والإِرتفاع» فإِن المعنى الثّاني لهذه الكلمة يبدو أقرب إلى الذهن.

وتطلق كلمة «طيب» على الأشياء التي تلائم الطبع والذوق الإِنساني، وقد أطلق القرآن الكريم هذه الكلمة في موارد كثيرة مثل: «البلد الطيب» و«مساكن طيبة» و«ريح طيبة» و«حياة طيبة» وغيرها ... وكذلك فإِنّ كل شيء طاهر يعتبر طيباً، لأنّ طبع الإِنسان ينفر من الأشياء النجسة المدنّسة، ومن هذا نستدل على أنّ تراب التيمم يجب أن يكون تراباً طاهراً أيضاً.

وقد أكّدت الروايات الواردة إِلينا عن أئمّة الإِسلام(عليهم السلام) على هذا الموضوع

____________________________

1 ـ لقد أوضحنا في تفسير الآية (43) من سورة النساء، بصورة مفصلة، أحكام التيمم وفلسفتها الإِسلامية وكيف أن التيمم لا يعتبر مغايراً للوقاية الصحيّة، بل فيه جانب وقائي صحي أيضاً، وكذلك حول معنى «غائط» وقضايا أُخرى فليراجع ... .

[616]

بصورة متكررة، ونقرأ واحدة من هذه الروايات وهي تقول: «نهى أمير المؤمنين أن يتيمم الرجل بتراب من أثر الطريق»(1).

والجدير بالنظر أنّ عبارة «التيمم» الواردة في القرآن والحديث بمعنى التكليف الشرعي الذي مضى الحديث عنه، جاءت في اللغة بمعنى «القصد» والقرآن الكريم يقرر أنّ الإِنسان لدى قصد التيمم عليه أن يختار قطعة طاهرة من الأرض من بين القطعات المختلفة للتيمم منها. قطعة ينطبق عليها مفهوم «الصعيد» معرضة للأمطار والشمس والرياح، وبديهي أن تكون قبل اتخاذهما للتيمم مثل هذه القطعة من الأرض التي لم تتعرض لوطء الأقدام، فيها الصفات التي تستوعبها كلمة «طيب» وعندئذ فإِن هذه القطعة من الأرض ـ بالإِضافة إِلى كونها لا تضرّ بالصحّة ـ تكون أيضاً ـ وكما أسلفنا لدى تفسيرنا للآية (43) من سورة النساء ـ ذات أثر أيضاً في قتل الجراثيم والميكروبات، كما يؤكّده العلماء من ذوي الإِختصاص في هذا المجال.

فلسفة الوضوء والتيمم:

لقد تناولنا فلسفة التيمم بالبحث بصورة وافية في الآية (43) من سورة النساء، أمّا بالنسبة لفلسفة الوضوء فالشيء الذي لا يختلف عليه إِثنان، هو أنّ للوضوء فائدتين واضحتين:

إِحداهما صحية والأُخرى أخلاقية معنوية، فغسل الوجه واليدين في اليوم خمس مرّات أو على الأقل ثلاث مرات، لا يخفى أثره في نظافة الإِنسان وصحته، أمّا الفائدة الأخلاقية المعنوية فهي في الأثر التربوي الذي يخلفه قصد التقّرب إِلى الله في نفس الإِنسان حين يعقد النيّة للوضوء بالأخصّ حين ندرك أنّ المفهوم النفسي للنية يعني أن حركة الإِنسان أثناء الوضوء والتي تبدأ من الرأس

____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 2، ص 969.

[617]

وتنتهي بالقدمين ـ هي خطوات في طاعة الله.

ونقرأ في رواية عن الإِمام علي بن موسى الرّضا(عليه السلام) قوله: «إِنّما أُمر بالوضوء وبدىء به لأن يكون العبد طاهراً إِذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إِيّاه، مطيعاً له فيما أمره نقياً من الأدناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل، وطرد النعاس، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار»(1).

وتتوضح فلسفة الوضوء أكثر في الحديث عن فلسفة الغسل، والذي سنتناوله فيما يلي:

فلسفة الغسل:

قد يسأل البعض لماذا أمر الإِسلام بغسل كامل الجسم لدى حصول «الجنابة» في حين أن عضواً معيناً واحداً يتلوث أو يتسخ في هذه الحالة؟

فهل هناك فرق بين البول الخارج من ذلك العضو، وبين «المني» الخارج منه أثناء الجنابة بحيث يجزي غسل العضو وحده في حالة التبول، بينما يجب غسل الجسم كله بعد خروج المني من العضو؟

لهذا السّؤال جوابان، مجمل ومفصل، وهما كما يلي: فالجواب المجمل يتلخص في أن خروج المني من الإِنسان لا ينحصر أثره في العضو الذي يخرج منه، أي أنّه ليس كالبول والفضلات الأخرى.

والدليل على هذا القول هو تأثر الجسم كله أثناء خروج المني من العضو بحيث تطرأ على خلايا الجسم كلها حالة من الإِسترخاء والخمول، وهذه الحالة هي الدليل على تأثير الجنابة على أجزاء الجسم كلها، وقد أظهرت بحوث العلماء المتخصصين ـ في هذا المجال ـ أن هناك سلسلتين عصبيتين نباتيتين في جسم الإِنسان، هما السلسلة السمبثاوية (الأعصاب المحركة) والسلسلة شبه

____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 1، ص 257.

[618]

السمبثاوية (الاعصاب الكابحة) تمتدان في كافة أجزاء الجسم وأجهزته الداخلية، وتتولى السلسلة السمبثاوية تحفيرأ جهزة الجسم على العمل وتسريع عملها، بينما السلسلة شبه السمبثاوية تعمل عكس الأُولى، فتحدّ عمل أجهزة الجسم وتبطئها فالأُولى تلعب دور جهاز دفع البنزين في السيارة من أجل تحريكها والأُخرى يكون دورها دور الكابح فيها لإِيقافها عن الحركة، وبالتوازن الحاصل في عمل هاتين السلسلتين العصبيتين تعمل جمع أجهزة جسم الإِنسان بصورة متوازنة أيضاً.

وقد تحدث في جسم الإِنسان ـ أحياناً ـ فعاليات تعيق استمرار هذا التوازن فيطغى عمل أحد السلسلتين العصبيتين على عمل الجملة الأُخرى، ومن هذه الفعاليات وصول الإِنسان إِلى الذروة في اللذة الجنسية، أي ما يسمى بحالة «الأُوركازم» التي تقترن بخروج المني من عضو الإِنسان، وفي هذه الحالة يطغى عمل السلسلة العصبية شبه السمبثاوية الكابح على عمل السلسلة العصبية الأُخرى التي هي السمبثاوية الدافعة فيختل التوازن بصورة سلبية في جسم الإِنسان، وقد ثبت بالتجربة أن الشيء الذي يمكنه إِعادة التوازن بين عمل تلك السلسلتين العصبيتين، هو وصول الماء إِلى جسم الإِنسان، ولما كانت حالة «الأوركازم» التي يصل إِليها الإِنسان لدى «الجنابة» تؤثر بصورة محسوسة عل أجهزة جسم الإِنسان وتخل بتوازن السلسلتين العصبيتين المذكورتين، لذلك أمر الإِسلام بأن يباشر الإِنسان غسل كل جسمه بعد كل مقاربة جنسية، أو لدى خروج «المني» منه، حيث يعود بهذا الغسل التوازن بين عمل السلسلتين العصبيتين السمبثاوية وشبه السمبثاوية في كل أجزاء الجسم، فتعود لها حالتها الطبيعية في الحركة والحياة(1).

____________________________

1 ـ ونقرأ في رواية عن الإِمام الثامن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قوله: «إنّ الجنابة خارجة من كل جسده فلذلك وجب عليه تطهير جسده كله» وفي هذه الرواية إشارة للبحث الذي تناولناه أعلاه ـ من وسائل الشيعة، ج 1، ص 466.

[619]

وبديهي أنّ فائدة الغسل لا تنحصر في الذي تحدثنا عنه قبل قليل، بل أنّ الغسل يعتبر أيضاً نوعاً من العبادة التي لها آثار أخلاقية لا تنكره، ولهذا السبب يبطل الغسل إن لم يكن مقترناً بنيّة الطاعة والتقرب إِلى الله سبحانه، لأنّ الحقيقة هي أنّ الجسم والروح كليهما يتأثران أثناء خروج «المني» من الإِنسان أو لدى حصول المقاربة الجنسية ـ فالروح تجر بذلك وراء الشهوات المادية ويدفع الجسم إِلى حالة الخمول والركود.

وغسل الجنابة يعتبر غسلا للجسم بما يشمله من عملية إِيصال الماء إِلى جميع أجزائه، ويعتبر غسلا للروح بما يحتويه من نية الطاعة والتقرب إِلى الله، أي أنّ لهذا الغسل أثرين مادي وروحي، يدفع الأثر المادي منه الجسم إِلى استعادة حالة النشاط والفعالية، ويدفع الأثر الروحي الإِنسان للتوجه إِلى الله وإِلى المعنويات.

أضف إِلى ذلك كلّه أنّ وجوب غسل الجنابة في الإِسلام هو أيضاً من أجل إِبقاء جسم الإِنسان المسلم طاهراً، كما هو رعاية للجانب الصحي في حياة الإِنسان، وقد يوجد الكثير من الناس ممن لا يعتنون بنظافة أجسامهم لكن هذا الأمر والواجب الإِسلامي يجبرهم على غسل أجسامهم بين فترة وأُخرى ولا يقتصر التهاون في غسل الجسم على إِنسان العهود القديمة، بل حتى في عصرنا الحاضر هناك الكثير ممن لا يعتنون بغسل أجسامهم، بل يتهاونون في هذا الأمر الحياتي المهم (وطبيعي أن حكم غسل الجنابة حكم عام، وقانون كلي يشمل حتى الشخص الذي غسل جسمه قبل حصول الجنابة بقليل).

إِنّ الجوانب الثلاثة المذكورة فيما سبق ـ توضح بمجموعها سبب وجوب الغسل لدى خروج المني من الإِنسان سواء كان في أثناء النوم أو اليقظة وكذلك

[620]

بعد المقاربة الجنسية (حتى لو لم تؤد إِلى خروج المني).

وقد أوضحت الآية ـ في آخرها ـ أنّ الأوامر الإِلهية ليس فيها ما يحرج الإِنسان أو يوجد العسر له، بل إِنها أوامر شرعت لتحقق فوائد ومنافع معينة للناس، فقالت الآية (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلّكم تشكرون).

وتؤكد هذه العبارات القرآنية الأخيرة أنّ جميع الأحكام والأوامر الشرعية الإِلهية والضوابط الإِسلامية هي في الحقيقة لمصلحة الناس ولحماية منافعهم، وليس فيها أي هدف آخر، وإِنّ الله يريد بالأحكام الأخيرة الواردة في الآية ـ موضوع البحث ـ أن يحقق للإِنسان طهارته الجسمانية والروحية معاً.

ويجب هنا الإِنتباه إِلى أن جملة (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) مع أنّها وردت في أواخر الآيات التي اشتملت على أحكام الغسل والوضوء والتيمم، إِلاّ أنّها تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام الله ليست تكاليف شاقّة أبداً، ولو كان في أي حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الإِستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو شيخونة أمّا ما شابه ذلك، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه، بناء على هذا الدليل نفسه.

ولا يخفي ـ أيضاً ـ أنّ هناك من الأحكام الإِلهية ما يظهر فيها الصعوبة والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد، إِلاّ أنّه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه، تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا تكون المشاق أمامها شيئاً يذكر، وقد سمي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية الأخيرة بقانون «لا حرج» وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة ويستنبطون منه أحكاماً كثيرة.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338982

  • التاريخ : 29/03/2024 - 12:56

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net