00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء من آية 144 ـ 171 من ( ص 503 ـ 555 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[503]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَـفِرِينَ أَوْلِيآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـناً مُّبِيناً(144) إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَلَهُمْ نَصِيراً(145)إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً(156)

التّفسير

لقد أشارت الآيات السابقة إِلى قسم من صفات المنافقين، والآيات التالية ـ هذه ـ تحذر المؤمنين وتأمرهم أن لا يعتمدوا على المنافقين والكفار بدل الإِعتماد على المؤمنين، وأن لا يطلبوا النصرة منهم (يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين).

وتبيّن أنّ الإِعتماد على الكفار يعتبر جريمة وخرقاً صارخاً للقانون الإِلهي وشركاً بالله، ونظراً لقانون العدل الإِلهي فإِن هذه الجريمة تستحق عقاباً شديداً، حيث تؤكد الآية: (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً)(1).

____________________________

1 ـ إنّ كلمة «سلطان» مشتقه من مادة أو مصدر «سلاطة» على وزن «مقالة» وهي تعني القوة والقدرة على التغلب على الاخرين، وفي كلمة «سلطان» معنى لاسم المصدر حيث تطلق على كل أنواع التسلط، ولهذا السبب تطلق كلمة «سلطان» أيضاً على «السبب» الذي يسلط الإِنسان على الآخرين من أمثاله، كما تطلق على أصحاب القدرة والنفوذ، ولكنها في الآية المذكورة أعلاه إنما تعني الحجة والدليل.

[504]

وفي الآية الثانية من الآيات الأخيرة بيان لأحوال المنافقين، الذين اتخذهم بعض الغافلين من المؤمنين اصدقاء لأنفسهم، حيث توضح الآية أنّ المنافقين يستقرون في القيامة في أحط وأسفل دركة من دركات جهنم، ولن يستطيع أحد أن ينصرهم أو ينقذهم من هذا المصير أبداً، تقول الآية: (إِنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النّار ولن تجد لهم نصيراً).(1)

ويتبيّن من هذه الآية أن النفاق في نظر الإِسلام أشد أنواع الكفر، وإِن المنافقين أبعد الخلق من الله، ولهذا السبب فإِن مستقرهم ومكانهم النهائي في أحط نقطة من نقاط جهنم، وهم يستحقون هذا العقاب، لأنّ ما يلحق البشرية من ويلات من جانب هؤلاء هو أشد خطراً من كل الأخطار، فإِنّ هؤلاء بسبب احتمائهم بظاهر الإِيمان يحملون بصورة غادرة وبمطلق الحرية على المؤمنين العزل ويطعنونهم من الخلف بخناجرهم المسمومة، وبديهي أن يكون حال اعداء ـ كهؤلاء ـ يظهرون بلباس الأصدقاء، أشدّ خطراً من الأعداء المعروفين الذين يعلنون عداوتهم صراحة، وفي الواقع فإِنّ النّفاق هو اُسلوب وسلوك كل فرد ابتر ومنحط ومشبوه وجبان وملوث بكل الخبائث ومن لا شخصية له.

وقد أوضحت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة، أنّ المجال مفتوح حتى لأكثر الناس تلوثاً للتوبة من أعمالهم وإِصلاح شأنهم، والسعي للتعويض بالخير عن ماضيهم المشين، والعودة إِلى رحمة الله والتمسك بحبله والإِخلاص لله بالإِيمان به تقول الآية: (إِلاّ الذين تابوا واصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله).

____________________________

1 ـ إنّ كلمة «درك» تعني أحط نقطة في أعماق البحر، ويسمى آخر حبل متصل بالحبال التي توصل الإِنسان إِلى قعر البحر، بـ «الدرك» أيضاً، ويظهر أن هذه المعاني مأخوذة من معنى «درك الشيء» أي الوصول إليه ـ كما تسمّى السلالم التي توصل الإِنسان إِلى موضع سفلى كالسرداب والبئر بـ «الدرك» وهذه العبارة تقابل السلالم التي يتسلق بها الإِنسان إِلى أعلى حيث تسمّى بالدرجات.

[505]

فالتائبون هؤلاء سيكونون أهلا للنجاة في النهاية ويستحقون صحبة المؤمنين، تقول الآية: (فاُولئك مع المؤمنين ...).

وإِنّ الله سيهب ثواباً وأجراً عظيماً لكل المؤمنين (وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية تبيّن أن هؤلاء التائبين مع المؤمنين، وذلك للتدليل على أن منزلة المؤمنين الثابتين أكبر وأعظم من منزلة هؤلاء، فالمؤمنون الراسخون في إِيمانهم هم الأصل، وهؤلاء هم الفروع، وما يظهر عليهم من نور وصفاء إِنّما هو بسبب وجودهم في ظل المؤمنين الراسخين.

وهناك أمر ثان يجب الإِنتباه إِليه في هذه الآية، وهو أنّها بيّنت مسير المنافقين بصورة واضحة وصريحة، إِذ عينت لهم أحط نقطة من الجحيم مكاناً ومستقراً، بينما شخصت للمؤمنين الأجر والثواب العظيم الذي لا حدّ له ولا حصر، بل هو منوط بعظمة الله ولطفه جلت عظمته.

* * *

[506]

الآية

مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً(147)

التّفسير

العقاب الإِلهي ليس دافعه الإِنتقام:

لقد أظهرت وبيّنت الآيات السابقة صوراً من عقاب الكافرين والمنافقين، والآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ تشير إِلى حقيقة ثابتة وهي أنّ العقاب الإِلهي الموجه للبشر العاصين ليس بدافع الإِنتقام ولا هو بدافع التظاهر بالقوّة، كما أنّه ليس تعويضاً عن الخسائر الناجمة عن تلك المعاصي، فهذه الأُمور إِنّما تحصل ممن في طبيعته النقص والحاجة، والله سبحانه وتعالى منزّه من كل نقص ولا يحتاج أبداً إِلى شيء.

إِذن فالعقاب الذي يلحق الإِنسان لما يرتكبه من معاص، إِنما هو انعكاس للنتائج السيئة التي ترتبت على تلك المعاصي ـ سواء كانت فعلية أو فكرية ـ ولذلك يقول الله تعالى عزّ من قائل في هذه الآية: (ما يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم).

وبالنظر إِلى أنّ حقيقة الشكر هي أن يستغل الإِنسان النعم التي وهبها الله له

[507]

في الجهات المخصصة لها في الطبيعة والخلق، يتّضح لنا أنّ القصد من الآية إِنّما هو: إِنّ من يؤمن ويعمل الخير ويستغل الهبات الإِلهية في المجالات التي خصصت لها من حيث الخلق ـ دون إِساءة هذا الإِستغلال ـ فلا شك أنّ هذا الإِنسان المؤمن لا يصيبه أي عقاب من الله، ولتأكيد هذا الأمر تضيف الآية مبيّنة أنّ الله عالم بأعمال ونوايا عباده، وهو يشكر ويثيب كل من يفعل الخير من العباد لوجه الله. فتقول الآية: (وكان الله شاكراً عليماً).

وقد قدمت هذه الآية مسألة الشكر على الإِيمان لأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ الإِنسان ما لم يدرك نعم الله وهباته العظيمة ويشكره على هذه النعم فلن يستطيع التوصل إِلى معرفة الله والايمان به، لأن أنعمه سبحانه وتعالى إِنّما هي وسائل لمعرفته.

وقد ورد في كتب العقيدة الإِسلامية في بحث «وجوب معرفة الله» عن جمع من الباحثين أنّهم استدلوا على معرفة الله بوجوب شكر النعم وجعلوا من الوجوب الفطري لشكر المنعم دليلا على لزوم معرفته (فدقق).

* * *

[508]

الآيتان

لاَّيُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مِن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً(148) إِن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْتَعْفُوا عَن سُوء فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً(149)

التّفسير

في هذه الآية إشارتان إِلى التكاليف الأخلاقية الإِسلامية:

الأُولى: تبيّن أنّ الله لا يحبّ التجاهر بالكلام البذىء، ولا يرضى بما يصدر من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم، فتقول الآية: (لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول ...).

إِن عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس، نابع من حقيقة أنّ الله هو ستار العيوب، فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإِساءة إِلى سمعتهم، وممّا لا يخفى على أحد هو أنّ لكل إِنسان نقاط ضعف خفية، ولو انكشفت هذه العيوب لساد المجتمع جو من سوء الظن بين أفراده، فيصعب عندئذ قيام التعاون بين هؤلاء الأفراد، لذلك منع الإِسلام وحرّم التحدث عن نقائص أو فضائح أعمال الآخرين دون وجود هدف سليم، لتبقى الأواصر الإِجتماعية قوية مستحكمة، ورعاية للجوانب الإِنسانية الأُخرى في هذا المجال.

[509]

وتجدر الإِشارة إِلى أنّ كلمة «سوء» تشمل كل أنواع القبح والفضيحة، والمقصود من عبارة «الجهر ... من القول» هو كل حالة من الكشف والفضح اللفظي، سواء كان بصورة شكوى، أو على شكل حكاية أو لعن أو ذم أو غيبة.

وقد اُستدل بهذه الآية ـ أيضاً على تحريم الغيبة، إِلاّ أن مفهومها لا ينحصر بهذه الصفة الأخيرة، بل يشمل كل أنواع الكلام البذىء والمذموم.

إِلاّ أنّ الآية الكريمة لم تحرم (القول بالسوء) تحريماً مطلقاً، فقد استثنت حالة يمكن فيها أن يصار إِلى الكشف والفضح، وهذه الحالة هي إِذا وقع الإِنسان مظلوماً حين قالت الآية: (إِلاّ من ظلم) وبهذا الدليل يستطيع المظلوم ـ في مقام الدفاع عن نفسه ـ أن يكشف فضائح الظالم، سواء عن طريق الشكوى أو فضح مساوىء الظالم أو توجيه النقد له، أو استغابته، ولا يسكت على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم.

وحقيقة هذا الإِستثناء هي أنّ الله أراد به أن يسلب من الظالمين فرصة إِساءة استغلال حكم المنع والتحريم، ولكي لا يكون هذا الحكم سبباً في سكوت المظلوم عن المطالبة بحقه من الظالم.

واضح من الآية بأنّ عملية الكشف والفضح يجب أن تنحصر في إِطار بيان مساوىء الظالم لدى الدفاع عن المظلومين أو لدى دفاع المظلوم عن نفسه.

ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إِساءة استغلال هذا الحكم بدعوى وقوع الظلم عليه أكدّت على أنّ الله يراقب أعمال البشر ويعلم ويسمع بكل ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية: (وكان الله سميعاً عليماً).

وفي الآية التالية يشير القرآن الكريم إِلى النقطة المواجهة لهذا الحكم، حيث يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها (على عكس المساوىء التي يجب أن تكتم إِلاّ في حالة استثنائية) كما تبيح ـ أو بالأحرى تحثّ ـ الفرد على إِصدار العفو على من إرتكب السوء بحقّه، لأنّ العفو عند المقدرة من صفات الله العزيز

[510]

القدير الذي يعفو عن عباده مع إمتلاكه القدرة على الإِنتقام بأي صورة شاء، فتقول الآية في هذا المجال: (إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإِنّ الله كان عفواً قديراً).

العفو عن المعتدي وأثره على نزعة العدوان:

سؤال يطرأ هنا على الذهن وهو: ألا يعتبر العفو عن الظالم المعتدي تأييداً لظلمه وتشجيعاً لنزعة العدوان لديه؟ ألا يؤدي العفو إِلى ظهور حالة سلبية من اللامبالاة لدى المظلومين.

والجواب هو: أنّ العفو لا صلة له بمسألة تحقيق العدل ومكافحة الظالم، والدليل على ذلك ما نقرؤه في الأحكام الإِسلامية من نهي عن ارتكاب الظلم وأمر بعدم الخضوع له، كما في الآية (لا تظلمون ولا تظلمون)(1) وقول أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(2) وقوله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إِلى أمر الله)(3).

كما نقرأ من جانب آخر الأمر بالعفو والصفح كما في قوله تعالى: (وإِن تعفوا أقرب للتقوى)(4) وقوله: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).(5)

من الممكن أن يتبادر إِلى ذهن بعض البسطاء أن هناك تناقضاً بين هذين الحكمين، ولدى الإِمعان فيما ورد في المصادر الإِسلامية في هذا المجال، يتّضح أنّ العفو والصفح يجب أن يكون في موضع بحيث لا يساء استغلاله، وإِنّ الدعوة إِلى مكافحة الظلم وقمع الظالم يكون له مجال آخر.

____________________________

1 ـ البقرة، 279.

2 ـ نهج البلاغة، الوصية رقم 48.

3 ـ الحجرات، 9.

4 ـ البقرة، 237.

5 ـ النور، 22.

[511]

ويجدر توضيح أنّ العفو والصفح يكونان لدى تملك القدرة وعند الإِنتصار على العدو وهزيمته النهائية، أي في حال لا يحتمل فيها حصول أي خطر جديد من جانب العدو، ويكون العفو والصفح عنه سبباً لإِصلاحه واستقامته ودفعه إِلى إعادة النظر في سلوكه، والتاريخ الإِسلامي فيه أمثلة كثيرة في هذا المجال، والحديث المشهور القائل «إِذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه»(1) خير دليل على هذا القول.

أمّا في حالة وجود خطر من جانب العدو، واحتمال أن يؤدي العفو عنه إِلى تجريه وتماديه أكثر في عدوانه، أو إِذا اعتبر العفو استسلاماً للظلم وخضوعاً أمامه ورضي به، فإِنّ الإِسلام لا يجيز مطلقاً مثل هذا العفو، وكما أنّ أئمّة الإِسلام لم ينتخبوا طريق العفو في مثل هذه المجالات.

* * *

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة العاشرة.

[512]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْض وَنَكْفُرُ بِبَعْض وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخُذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا(150) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَـفِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً(151) والَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَد مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً(152)

التّفسير

لا تمييز بين الأنبياء:

تحدثت الآيات الأخيرة عن مواقف طائفة من الكافرين، ومواقف أُخرى لطائفة من المؤمنين، كما ذكرت هذه الآيات نهاية كل من الطائفتين، وهي بهذا تأتي مكملة للآيات السابقة التي تحدثت بشأن المنافقين.

وتشير الآية الأُولى إِلى طائفة فرقوا بين الأنبياء ،فاعتبروا بعضهم على حق والبعض الآخر على باطل، فتؤكد أنّ هذا النفر من الناس كفار حقيقيون.

والواقع أنّ هذه الآية توضح موقف اليهود والنصارى، فاليهود كانوا يرفضون الإِيمان بالنّبي عيسى نبي النصارى، واليهود والنصارى معاً كانوا يرفضون

[513]

الإِذعان لنبوة نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) في حين أنّ كتابيهم السماويين قد أثبتا نبوة هؤلاء الأنبياء.

وهذا التمييز بين الحقائق الثابتة وقبول بعضها ورفض البعض الآخر، سببه أنّ هؤلاء كانوا يتبعون أهواءهم ونزواتهم ويسيرون وراء عصبياتهم الجاهلية، وينبع أحياناً من حسد هؤلاء ونظرتهم الضيقة.

وهذا دليل عدم إِيمان هؤلاء بالأنبياء وبالله، لأنّ الإِيمان ليس هو قبول ما طابق هوى النفس أو رفض ما يخالف الأهواء والميول، فهذه الحالة ما هي إِلاّ نوع من عبادة الهوى ولا صلة لها بالإِيمان، فالإِيمان الحقيقي هو ذلك الذي يدفع الإِنسان إِلى قبول الحقيقة ـ سواء طابقت هواه وميوله أو خالفتهما ـ ولذلك فإِنّ القرآن الكريم اعتبر الذين يزعمون أنّهم يؤمنون بالله وببعض الأنبياء كفاراً حقيقيين، وعلى هذا الأساس فإِن ما يتظاهرون به من إِيمان لا حقيقة ولا قيمة له مطلقاً، لأنّه لا ينبع من روح طلب الحقيقة.

والقرآن الكريم يهدد هؤلاء ـ وأمثالهم ـ بأنّهم يلقون الذل والهوان، حيث تقول الآية: (واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) وقد يكون وصف العذاب في هذه الآية بـ «المهين» سببه أنّ هؤلاء بقبولهم بعض الأنبياء ورفضهم الإِيمان بالبعض الآخر منهم، إِنّما يوجّهون الإِهانة بحق عدد من الأنبياء، لذلك يجب أن ينال هؤلاء عذاباً مهيناً يتناسب واهانتهم تلك.

التّناسب بين الذّنب والعقاب:

ويجدر هنا توضيح أنّ العداب قد يكون أليماً أحياناً، مثل: الجلد والتعذيب الجسدي، وقد يكون مهيناً كرش الشخص بالقاذورات، أو يكون العذاب عظيماً كأن يكون العقاب أمام أعين الناس، وقد يكون أثره عميقاً في نفس الإِنسان يستمر معه لمدّة طويلة ويسمى هذا بالعذاب الشديد، وما إِلى ذلك من أنواع العذاب.

[514]

وواضح أنّ وصف العذاب بواحد من الصفات يتناسب مع نوع الذنب، ولذلك فقد ورد في كثير من الآيات القرآنية أنّ عقاب الظالمين هو العذاب الأليم، لأنّه ينتاسب وألم الظلم الذي يمارسه الظالم على المظلوم، وهكذا بالنسبة للأنواع الأُخرى من العذاب، وقد قصدنا بهذا الشرح تقريب مسألة العذاب إِلى الأذهان، علماً بأنّ العذاب الأخروي شيء لا يمكن مقارنته بما هو موجود من عذاب في حياتنا الدنيوية هذه.

وقد تطرقت الآية الأخيرة إِلى موقف المؤمنين الذين آمنوا بالله وبجميع أنبيائه ورسله ولم يفرقوا بين أي من الأنبياء والرسل واخلصوا للحق، وكافحوا كل أنواع العصبيات الباطلة، وبيّنت أنّ الله سيوفّي هؤلاء المؤمنين أجرهم وثوابهم في القريب العاجل، فتقول الآية: (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم اُولئك سوف يؤتيهم أُجورهم ...).

وبديهي أنّ الإِيمان بجميع الأنبياء والرسل لا يتنافى ومسألة تفضيل بعضهم على البعض الآخر، لأنّ مسألة التفاضل هذه ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأهمية وعظم المسؤولية التي تحمّلها كل منهم، وطبيعي أنّ المسؤوليات المناطة بالأنبياء(عليهم السلام)تتفاوت من حيث الأهمية والخطورة بالنسبة لكل منهم، وقد ثبت هذا الأمر بالدليل القطعي والمهم هنا أن لا يحصل تمايز أو تفريق في الإِيمان بالأنبياء والإِقرار بنبوّتهم.

وقد أكدت الآية في الختام أنّ الله سيغفر للمؤمنين الذين ارتكبوا اخطاء بالإِنجرار وراء العصبيات وممارسة التفرقة بين الأنبياء إِن أخلص هؤلاء المؤمنون في إِيمانهم وعادوا إِلى الله، أي تابوا إِليه من اخطائهم السابقة، حيث تقول الآية: (وكان الله غفوراً رحيماً).

ويجب الإِنتباه هنا إِلى أنّ الآيات الأخيرة ذكرت الذين يعمدون إِلى التفرقة بين الأنبياء بأنّهم كفار حقيقيون، بينما لم تذكر الذين يؤمنون بجميع الأنبياء بأنّهم

[515]

مؤمنون حقاً وحقيقة، بل وصفتهم بالمؤمنين فقط، وقد يكون هذا التفاوت في الوصف هو لبيان أنّ المؤمنين حقّاً هم اُولئك الذين استقرّ الإِيمان في قلوبهم وظهرت آثاره على أعمالهم، وكما يقول الخبر المأثور بأنّ «الإِيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل».

ويدلّ على هذا الأمر آيات وردت في بداية سورة الأنفال التي ذكرت المؤمنين بأوصاف عديدة: أوّلها الإِيمان بالله، ويلي ذلك إقامة الصّلاة وإِيتاء الزكاة والتوكل على الله والإِعتماد عليه، ثمّ يأتي التأكيد بعد سرد هذه الصفات في قول الله تعالى في الآية المذكورة: (اُولئك هم المؤمنون حقّاً...).

* * *

[516]

الآيتان

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَـباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمِّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَاجَآءَتْهُمُ الْبَيِّنـتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَـناً مُّبِيناً(153)وَرَفْعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَـقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَتَعْدُوا فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـقاً غَلِيظاً(154)

سبب النّزول

جاء في تفاسير «التبيان» و«مجمع البيان» و«روح المعاني» حول سبب نزول هاتين الآيتين، أنّ عدداً من اليهود جاءوا إِلى النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: لو كنت حقّاً نبيّاً مرسلا من قبل الله فأرنا كتابك السماوي كلّه دفعة واحدة، كما جاء موسى بالتوراة كلّها دفعة واحدة، فنزلت الآيتان جواباً لهؤلاء اليهود.

التّفسير

هدف اليهود من اختلاق الأعذار:

تشير الآية الأُولى إِلى طلب أهل الكتاب «اليهود» من النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن ينزل عليهم كتاباً من السماء كاملا وفي دفعة واحدة، فتقول: (يسألك أهل

[517]

الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء...).

ولا شك أنّ هؤلاء لم يكونوا صادقين في نواياهم مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ الهدف من نزول الكتاب السماوي هو الإِرشاد والهداية والتربية، وقد يتحقق هذا الهدف أحياناً عن طريق نزول كتاب كامل من السماء دفعة واحدة، وأحياناً أُخرى يتحقق الهدف عن طريق نزول الكتاب السماوي على دفعات وبصورة تدريجية.

وبناء على هذا فقد كان الأجدر باليهود أن يطالبوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالدليل ويسألوه عن تعاليم سامية قيمة، لا أن يحددوا له طريقة لنزول الكتب السماوية ويطالبوه بأن ينزل عليهم كتاباً الطريقة التي عينوها.

ولهذا السبب فضح الله نواياهم السيئة بعد طلبهم هذا، وأوضح للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنّ هذا العمل هو ديدن اليهود، وأنّهم معروفون بصلفهم وعنادهم واختلاقهم الأعذار مع نبيّهم الكبير موسى بن عمران(عليه السلام)، فقد طلب هؤلاء من نبيّهم ما هو أكبر وأعجب إذ سألوه أن يريهم الله جهاراً وعلناً! تقول الآية: (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة...).

وما مصدر هذا الطلب العجيب الغريب البعيد عن المنطق غير الصلف والعناد، فهم بطلبهم هذا قد تبنّوا عقيدة المشركين الوثنيين في تجسيد الله وتحديده، وقد أدى عنادهم هذا إِلى نزول عذاب الله عليهم، صاعقة من السماء أحاطت بهم لما ارتكبوه من ظلم كبير، تقول الآية: (فأخذتهم الصّاعقة بظلمهم).

ثمّ تشير الآية إِلى عمل قبيح آخر ارتكبه اليهود، وذلك حين لجؤا إِلى عبادة العجل بعد أن شاهدوا بأعينهم المعجزات الكثيرة والدلائل الواضحة، فتقول: (ثمّ اتّخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البيّنات ...).

ومع كل هذا الصلف والعناد والشرك، يريهم الله لطفه ورحمته ويغفر لهم لعلهم يرتدعوا عن غيّهم، ويهب لنبيّهم موسى(عليه السلام) ملكاً بارزاً وسلطاناً مبيناً، ويفضح السامري صاحب العجل ويخمد فتنته وفي هذا تقول الآية: (فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً).

[518]

لكن اليهود بسبب ما انطوت عليه سريرتهم من شرّ ـ لم يستيقظوا من غفلتهم، ولم يخرجوا من ضلالتهم، ولم يتخلوا عن صلفهم وغرورهم، فرفع الله جبل الطور لينزله على رؤوسهم، حتى أخذ منهم العهد والميثاق وأمرهم أن يدخلوا خاضعين خاشعين ـ من باب بيت المقدس ـ دليلا على توبتهم وندمهم، وأكّد عليهم أن يكفوا عن أي عمل في أيّام السبت، وأن لا يسلكوا سبيل العدوان، وأن لا يأكلوا السمك الذي حرم صيده عليهم في ذلك اليوم، وفوق كل ذلك أخذ الله منهم ميثاقاً غليظاً مؤكّداً، ولكنّهم لم يثبتوا ـ مطلقاً ـ وفاءهم لأي من هذه المواثيق والعهود(1) يقول القرآن الكريم في هذا المجال: (ورفعنا فوقهم الطّور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً).

فهل يصح أن تكون هذه المجموعة مع ما تمتلكه من سوابق سيئة وتاريخ أسود صادقة مع النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما طلبته منه وإِن كان هؤلاء صادقين، لماذا إِذن لم يلتزموا بما نزل عليهم صريحاً في كتابهم السماوي وحول العلامات الخاصّة بخاتم النّبيين؟ ولماذا أصروا على تجاهل كل ما أتى به النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)من براهين وأدلة واضحة بيّنة؟

وهنا تجدر الإِشارة إِلى أمرين، وهما:

أوّلا: لو اعترض معترض فقال: إن تلك الأعمال كانت خاصّة باليهود السابقين، فما صلتها باليهود في زمن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

فنقول: إنّ اليهود في زمن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبدوا اعتراضاً واستنكاراً ـ أبداً ـ لأعمال أسلافهم السابقين، بل كانوا يظهرون الرضى عن تلك الأعمال.

____________________________

1 ـ للإِطلاع أكثر على قضية جبل الطّور، وهل أنّ رفعه فوق رؤوس اليهود كان نتيجة زلزلة، أم هناك عامل آخر وكذلك فيما يتعلق بعجل السامري، ومساوىء اليهود، راجع الجزء الأوّل من هذا التّفسير في البحث الخاص بهذه المواضيع.

[519]

أمّا الأمر الثّاني: فيخصّ مسألة نزول التوراة دفعة واحدة، حيث قلنا في سبب نزول الآيتين الأخيرتين: «إِنّ اليهود كانوا يزعمون نزول هذا الكتاب السماوي دفعة واحدة، في حين أنّ هذا الأمر لا يعتبر من الأُمور المؤكّدة، ولعل الشيء الذي أدى إِلى حصول هذا الوهم هو الوصايا العشرة» التي نزلت في ألواح دفعة واحدة على النّبي موسى(عليه السلام)، بينما لا يوجد لدينا دليل على نزول بقية أحكام التوراة دفعة واحدة.

* * *

[520]

الآيات

فَبَِما نَقْضِهِم مِّيثَـقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِأَيَـتِ اللهِ وَقَتْلِهِمْ الاَْنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلا(155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَـناً عَظِيماً(156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمِسِيحَ عِيَسى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً(157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً(158)

التّفسير

نماذج أُخرى من ممارسات اليهود العدوانية:

تشير هذه الآيات إِلى نماذج أُخرى من انتهاكات بني إِسرائيل وممارساتهم العدوانية التي واجهوا بها أنبياء الله.

فالآية الأُولى تشير إِلى قيام اليهود بنقض العهود، وإِلى ارتداد بعضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم للأنبياء، بحيث استوجبوا غضب الله والحرمان من رحمته وحرمانهم من قسم من نعم الله الطاهرة.

فقد أنكر هؤلاء آيات الله وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتّبعوا بذلك سبيل

[521]

الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ، بل تمادوا في غيّهم، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى، إِذ عمدوا إِلى قتل الهداة والقادة إِلى طريق الحق من أنبياء الله، إِيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والإِبتعاد عن طريق الحق.

لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والإِستهزاء، ووصل بهم الأمر إِلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية الأُولى من الآيات الأربع الأخيرة: (فبما نقضهم(1) ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف ...).

وهنا يؤكّد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقاً، بحيث لا ينفذ إِليها أي حقّ، وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإِيمان لديهم، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إِلاّ القليل منهم.

وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتاناً عظيماً، هي أُمّ لأحد أنبياء الله الكبار، وذلك لأنّها حملت به بإِذن الله دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال: (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً).

وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، تقول الآية: (وقولهم إِنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ...) ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكاية، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصاً شبيهاً بعيسى المسيح(عليه السلام)، وإِلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: (وما قتلوه وما

____________________________

1 ـ إنّ عبارة «فبما نقضهم» من ناحية الإعراب جار ومجرور، ويجب أن يكون لها عامل محذوف قد يكون تقديره «لعناهم» أو جملة «حرمنا عليهم» الواردة في الآية (160) التالية، وعلى هذا الأساس فإن ما ورد في هذا الإِطار يكون بمثابة جملة معترضة، تضفي في مثل هذه الحالة جمالا أكثر على الكلام القرآني البليغ.

[522]

صلبوه ولكن شبّه لهم...)

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح(عليه السلام) كانوا ـ هم أنفسهم ـ في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن، تقول الآية: (وإِنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إِلا اتباع الظن ...).

وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح(عليه السلام) حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابناً لله، ورفض البعض الآخر ـ كاليهود ـ كونه نبّياً، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.

وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح(عليه السلام) حيث قال البعض بأنّه قتل، وقال آخرون بأنّه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.

أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح(عليه السلام)، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخص غيره ...؟!

ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبداً، بل رفعه الله إِليه، والله هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء، تقول الآية: (وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً).

اُسطورة الصّليب؟

يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيح(عليه السلام) لم يقتل ولم يصلب، بل اشبته الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه، وهم لم يقتلوه أبداً!

أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ

[523]

المسيح(عليه السلام) قد صلب وقتل على هذه الصورة، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة «متى ـ لوقا ـ مرقس ـ يوحنا» وبصورة تفصيلية.

والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة، ومسألة الصلب أو قتل المسيح(عليه السلام) تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيح(عليه السلام) مجرّد نبي ارسل لهداية وإرشاد البشرية، بل يعتقدون بأنّه «ابن الله» من أركان الثالوث المقدس لديهم، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إِلى هذا العالم ليكون قرباناً يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر.

فيقولون: إِنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر، ولينقذ البشرية من العقاب، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإِيمان بهذا الموضوع.

ومن هذا المنطلق فهم ـ أحياناً ـ يدعون المسيحية بدين «الإِنقاذ» أو دين «الفداء» ويسمّون المسيح(عليه السلام) بـ «المنقذ» أو «المخلص» أو «الفادي».

واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعاراً لأنفسهم إِنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه.

كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيح(عليه السلام).

أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة، والسبب هو أنّ المسيح عيسى بن مريم(عليه السلام)، كان نبيّاً كسائر انبياء الله أوّلا، ولم يكن هو الله ولا ابن الله، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.

وثانياً: إِنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد، فكل إِنسان يؤاخذ بجريرته وعمله، وإِنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإِيمان والعمل الصالح فقط.

[524]

وثالثاً: إِنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب، وتؤدي بالبشرية إِلى التلوث والهلاك.

وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيح(عليه السلام) مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة، لمنع المسيحيين من الإِيغال في هذا الإِعتقاد الفاسد، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إِنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

رابعاً: هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الإِعتقاد بصلب المسيح(عليه السلام) هي:

1 ـ المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر، والتي تشهد بصلب المسيح(عليه السلام) ـ كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصاره(عليه السلام) ـ وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.

كما نعرف أيضاً أنّ حواري المسيح(عليه السلام) قد هربوا حين هجم الأعداء عليه، والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر(1) وعلى هذا الأساس فإِنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيح(عليه السلام) من أفواه الناس الآخرين، ولم يكونوا حاضرين اثناء تنفيذ عملية الصلب، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إِلى تهيئة الأجواء المساعدة للإِشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيح(عليه السلام)، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.

2 ـ إِنّ العامل الآخر الذي يجعل من الإِشتباه بشخص آخر بدل المسيح(عليه السلام)أمراً محتملا هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيح(عليه السلام) والتي ذهبت إِلى بستان «جستيماني» هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أُمور عسكرية، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود

____________________________

1 ـ لقد ترك الحواريون المسيح(عليه السلام) في ذلك الوقت وهربوا كلهم ... (من إنجيل متى، الإِصحاح 26 الجملة 57).

[525]

ولغتهم وتقاليدهم، كما لم يميزوا بين حواري المسيح(عليه السلام) وبين المسيح نفسه.

3 ـ تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيح(عليه السلام) قد تمّ ليلا، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.

4 ـ يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد إختار الصمت أمام «بيلاطيس» الحاكم الرومي لبيت المقدس ـ آنذاك ـ ولم يتفوه إِلاّ بالقليل دفاعاً عن نفسه ويستبعد كثيراً أن يقع عيسى المسيح(عليه السلام) في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة.

ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر ـ كـ «يهوذا الأسخربوطي» الذي خان ووشى بعيسى المسيح(عليه السلام) وكان يشبهه كثيراً ـ قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشيء.

نقرأ في الأناجيل أنّ «يهوذا الأسخربوطي» لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبداً، وأنّه ـ كما تقول هذه الأناجيل ـ قد قتل نفسه وانتحر(1).

5 ـ لقد بيّنا أنّ حواري المسيح(عليه السلام) ـ وكما ذكرت الأناجيل ـ قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيداً بين الجنود الرومان، ولم يكن أي من أصحابه قريباً منه، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريباً أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.

6 ـ ونقرأ في الأناجيل ـ أيضاً ـ أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه

____________________________

1 ـ إِنجيل متى، الإِصحاح 37، الجملة 6.

[526]

(وليس لربّه) لأنّه ـ بحسب قوله ـ قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه(1)!

فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم، فلا يليق لمن يحمل هدفاً سامياً كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام، وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه، بل كان إِنساناً ضعيفاً وجباناً، وعاجزاً، ومثل هذا الإِنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق، لا يمكن أن يكون هذا الإِنسان هو المسيح(عليه السلام)(2).

7 ـ لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل «برنابا» قضية صلب المسيح(عليه السلام) (وهذا الإِنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما أنّ بعضاً من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب(3) وقد ذهب بعض الباحثين إِلى أبعد من هذا، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم «عيسى» أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسائة عام(4).

كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيح(عليه السلام).

* * *

____________________________

1 ـ إِنجيل متى ـ الإِصحاح 27، الجملتان 46 و47.

2 ـ لقد اقتبسنا عدداً من القرائن المذكورة أعلاه من كتاب «بطل الصليب».

3 ـ تفسير المنار، الجزء السابع، ص 34.

4 ـ الميزان، الجزء الثّالث، ص 345.

[527]

الآية

وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً(159)

التّفسير

هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية، وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة:

1 ـ إِنّ الآية تؤكّد أنّ أي إِنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيح(عليه السلام) حيث تقول: (وإِن من أهل الكتاب إِلاّ ليؤمنّن به قبل  موته ...) وأن هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإِنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت، وترفع عن عينيه الحجب فيرى بعد ذلك الكثير من الحقائق ويدركها، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به، والذين وصفوه بالأُلوهية يدركون في تلك اللحظة خطأهم وإنحرافهم.

وبديهي أنّ مثل هذا الإِيمان لا ينفع صاحبه، كما أنّ فرعون والأقوام الأُخرى وأقوام استولى عليهم العذاب، فقالوا: آمنا فلم ينفعهم إِيمانهم أبداً، فالأجدر بالإِنسان أن يؤمن قبل أن تدركه لحظة العذاب عند الموت، حين لا ينفع الإِيمان صاحبه.

[528]

وتجدر الإِشارة ـ هنا ـ إِلى أنّ الضمير في عبارة «قبل موته» يعود لأهل الكتاب بناء على التّفسير الذي ذكرناه.

2 ـ قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الإِعتقاد بربوبية المسيح(عليه السلام)، ويحدث هذا ـ طبقاً للروايات الإِسلامية ـ حين ينزل المسيح(عليه السلام) من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه، وواضح أن عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإِسلام، لأن الشريعة السماوية التي جاء بها إِنّما نزلت قبل الإِسلام، ولذلك فهي منسوخة به.

وبناء على هذا التّفسير فإِن الضمير في عبارة «قبل موته» يعود إِلى عيسى المسيح(عليه السلام).

وقد نقل عن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «كيف بكم إِذا نزل فيكم ابن مريم وإِمامكم منكم»(1) وطبيعي أنّ هذا التّفسير يشمل اليهود والمسيحيين الموجودين في زمن ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ونزول عيسى المسيح(عليه السلام)من السماء.

وجاء في تفسير «علي بن إِبراهيم» نقلا عن «شهر بن حوشب» إِنّ الحجاج ذكر يوماً أن هناك آية في القرآن قد أتعبته كثيراً وهو حائر في معناها، فسأله «شهر» عن الآية، فقال الحجاج: إِنّها آية (وإِن من أهل الكتاب ...) وذكر أنّه قتل يهودا ومسيحيين ولم يشاهد فيهم أثراً لمثل هذا الإِيمان.

فأجابه «شهر» بأنّ تفسيره للآية لم يكن تفسيراً صحيحاً، فاستغرب الحجاج وسأل عن التّفسير الصحيح للآية.

فأجاب «شهر» بأنّ تفسير الآية هو أن المسيح ينزل من السماء قبل نهاية العالم، فلا يبقى يهودي أو غير يهودي إِلاّ ويؤمن بالمسيح قبل موته، وأن المسيح

____________________________

1 ـ مسند أحمد، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن البيهقي، كما جاء في تفسير الميزان.

[529]

سيقيم الصّلاة خلف المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

فلما سمع الحجاج هذا الكلام قال لـ «شهر» ويلك من أين جئت بهذا التّفسير؟ فأجابه «شهر» بأنّه قد سمعه من محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

وعند ذلك قال الحجاج: «والله جئت بها من عين صافية»(1).

وتقول الآية في الختام: (ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً) أي شهادة المسيح(عليه السلام) على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة الله ولم يدعهم لإِتّخاذه إِلهاً من دون الله، بل دعاهم إِلى الإِقرار بربوبية الله الواحد القهار.

سؤال:

وقد يعترض البعض بأنّ المسيح(عليه السلام) ـ كما جاء في الآية (117) من سورة المائدة ـ إِنّما يقصر شهادته على الزمن الذي كان هو موجوداً فيه بين قومه ويتنصل عن الشهادة بالنسبة للأزمنة التي جاءت بعده، وذلك بدلالة الآية التي جاءت على لسانه وهي تقول: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) لكن الآية التي هي موضوع بحثنا الآن تدل على أنّ المسيح(عليه السلام) يشهد على الجميع يوم القيامة، سواء اُولئك الذين كانوا في عصره وزمانه أو الذين لم يكونوا في ذلك الزمان.

الجواب:

والجواب على هذا الإِعتراض هو أنّنا لو أمعنا النظر في مضمون الآيتين المذكورتين، لرأينا أنّهما تدلان على أنّ الآية الأخيرة التي هي موضوع البحث ـ تتحدث عن الشهادة حول تبليغ الرسالة ونفي الألوهية عن المسيح(عليه السلام) بينما الآية (117) من سورة المائدة تشهد على أعمال اُولئك القوم.

فالآية الأخيرة تذكر أنّ عيسى المسيح(صلى الله عليه وآله وسلم) سيشهد على جميع الذين نسبوا

____________________________

1 ـ تفسير البرهان، الجزء الأوّل، ص 426.

[530]

له الأُلوهية، سواء من كانوا في زمانه أو من جاءوا بعد ذلك الزمان، وأن المسيح (عليه السلام) يؤكّد أنّه لم يدع هؤلاء القوم إِلى مثل هذا الأمر أبداً، بينما الآية (117) من سورة المائدة تذكر على لسان المسيح(عليه السلام) أنّه علاوة على الدعوة لرسالته بالأُسلوب الصحيح، فهو قد حال طيلة فترة بقائه بين قومه ـ دون إنحرافهم، إِلاّ أنّهم إنحرفوا بعده ونسبوا له الألوهية في زمن لم يكن هو موجوداً بينهم، ليشهد على أعمالهم وليحول دون إنحرافهم.

* * *

[531]

الآيات

فَبِظُلْم مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـت أُحِلَّتْ لَهُمْ بِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً(160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَو وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(161) لَّـكِنِ الرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنَونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوةَ والْمُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً(162)

التّفسير

مصير الصالحين والطالحين من اليهود:

لقد أشارت الآيات السابقة إِلى نماذج من انتهاكات اليهود، أما الآيات الأخيرة فإِنما ذكرت نماذج أُخرى من تلك الإِنتهاكات، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة.

فالآية الأُولى من الآيات الأخيرة تبيّن أنّ الله قد حرم بعضاً من الإشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور، وتصديهم للسائرين في

[532]

طريق الله، حيث تقول الآية: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً) كما عاقبهم الله بالحرمان من تلك الطيبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولإِستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة، فتقول الآية في هذا المجال: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ...).

وتؤكّد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي، بل سيذيقهم الله ـ أيضاً ـ عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود، تقول الآية الكريمة: (واعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً).

وتجدر الإِشارة ـ هنا إِلى عدة أمور، وهي:

1 ـ إِنّ المقصود بالطيبات المحرمة على اليهود هي تلك التي ذكرتها الآية (146) من سورة الأنعام، والتي شملت بعض الحيوانات وشحوم حيوانات أُخرى كالبقر والأغنام التي أحبّها اليهود، ولم يكن هذا التحريم تحريماً تكوينياً، بل كان تحريماً تشريعياً قانونياً، أي أن اليهود منعوا من استعمال هذه النعم مع أنّها كانت متيسرة في أيديهم.

وقد جاء ذكر بعض هذا التحريم في التوراة المتداولة بيد اليهود حالياً، في «سفر الآويين» في الفصل الحادي عشر، ولكن لم تشر التوراة الحالية إِلى الطابع العقابي لهذا التحريم(1).

2 ـ أمّا هل أنّ هذا التحريم يتميز بطابع شمولي، أي هل يشمل غير الظالمين من اليهود، أم يخص الظالمين وحدهم؟ فإِنّ ظاهر الآية المذكورة أعلاه والآية (146) من سورة الأنعام، يدلان على أنّ التحريم له طابع عام بدلالة عبارة «لهم» على عكس العقاب الأُخروي الذي تخصصه الآية (للكافرين منهم) وعلى هذا الأساس فإِن هذا التحريم له طابع عقابي بالنسبة للظالمين من اليهود، كما يحمل

____________________________

1 ـ راجع الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

[533]

طابع الإِختبار والإِمتحان بالنسبة لأخيارهم الذين يشكلون الأقلية فيهم.

وقد ذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ هذا التحريم يشمل الظالمين من اليهود فقط، كما تدل بعض الروايات على هذا الرأي ـ أيضاً ـ فقد جاء في تفسير البرهان في تفسير الآية (146) من سورة الأنعام، نقلا عن الإِمام الصّادق(عليه السلام): «إنّ زعماء بني إِسرائيل كانوا قد حرموا على فقراء طائفتهم أكل لحوم الطيور وشحوم الحيوانات، ولهذا السبب حرم الله على هؤلاء الظالمين مثل هذه الطيبات عقاباً لهم على ظلمهم وجورهم(1)».

3 ـ وتدل هذه الآية ـ أيضاً ـ على أنّ تشريع تحريم «الربا» لم يقتصر على الإِسلام وحده، بل كان محرماً لدى الأقوام والديانات السابقة، والتوراة المتداولة حالياً والمحرفة إِنّما تحرم على اليهود أخذ الربا من ابناء عقيدتهم فقط، ولا تعتبر أخذه من أبناء الديانات الأخرى حراماً عليهم(2).

وقد أشارت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة إِلى حقيقة مهمّة اعتمدها القرآن الكريم مراراً في آيات متعددة، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق، لأنّ الإِسلام لم يذم ابناء أي طائفة أو عنصر لإنتمائهم الطائفي أو العرقي، بل وجه الذم والإِنتقاد للمنحرفين والضالمين منهم فقط، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم، حيث تقول الآية الكريمة: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إِليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر اُولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً)(3).

____________________________

1 ـ تفسير البرهان، الجزء الأوّل، ص 559.

2 ـ التوراة، سفر التثنية، الفصل 23، الجملتان 19 و20.

3 ـ لقد شرحنا بنوع من التفصيل، معنى عبارة «الراسخون في العلم» وذلك في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

[534]

وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإِسلام حين بعث النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّية الإِسلام، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإِسلام، وكانوا موضع احترام وتقدير النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وسائر المسلمين.

* * *

[535]

الآيات

إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّنَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ وَإِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَـرُونَ وَسُلَيْمَـنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً(163)وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَـهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً(164) رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّيَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً(165) لَّـكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَـئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً(166)

التّفسير

لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء الله تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم.

أمّا الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود، وتؤكّد أنّ الله أوحى إِلى نبيّه محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنّبيين الذين جاؤوا من بعد نوح، وكما أوحى إِلى إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب(عليهم السلام) وأنزل الوحي على

[536]

الأنبياء من أبناء يعقوب، وعلى عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان(عليهم السلام)، وكما أنزل الله على داود(عليه السلام) كتاب الزّبور، حيث تقول الآية: (إِنّا أوحينا إِلى نوح والنّبيين من بعده وأوحينا إِلى إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً).

وهذه الآية تردّ على اليهود مؤكّدة على أنّ شرائع الأنبياء العظام مستقاة كلها من ينبوع الوحي الإِلهي، وإِنّهم جميعاً يسيرون في طريق واحد، ولذلك لا تجوز التفرقة بينهم.

وقد تكون هذه الآية خطاباً للمشركين والكفار من عرب الجاهلية، الذين كانوا يظهرون الدهشة والعجب من نزول الوحي على نبي الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي تردّ على هؤلاء مؤكّدة أن لا عجب في نزول الوحي على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد نزل قبل ذلك على الأنبياء السابقين.

ثمّ تبيّن الآية أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء، بل نزل على أنبياء آخرين حكى الله قصصهم للنّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل، وأنبياء لم يحك الله قصصهم، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم الله إِلى خلقه، وأنزل عليهم الوحي من عنده، تقول الآية: (ورسلا قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ...).

وتبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّاً، وهي أنّ الله قد كلم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي، فتقول: (وكلم الله موسى تكليماً...).

وعلى هذا الأساس فإِنّ صلة الوحي ظلت باقية بين البشر، ولم يكن من عدل الله أن يترك البشر دون مرشد أو قائد، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه، ويُنذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجّة، تقول الآية: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا

[537]

يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل).

فقد أحكم الله العزيز القدير خطّة إِرسال الأنبياء ونفذها بكل دقة، وبهذا تؤكد الآية (وكان الله عزيزاً حكيماً) فحكمته توجب تحقيق هذا العمل، وقدرته تمهد السبيل إِلى تنفيذه، وعلى عكس ذلك فإِن إِهمال هذا الأمر المهم، إمّا أن يدل على الإِفتقار إِلى الحكمة والمعرفة، أو أنّه دلالة على العجز، والله منزّه عن كل هذه العيوب.

أمّا الآية الأخرى فهي تطمئن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضح له أن المهم هو أنّ الله قد شهد بما أنزل عليه من كتاب، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به ـ فتؤكد الآية في هذا المجال ـ:(لكن الله يشهد بما أنزل إِليك).

ولم يكن اختيار الله لمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لمنصب النّبوة أمراً عبثاً ـ والعياذ بالله ـ بل كان هذا الإِختيار نابعاً من علم الله بما كان يتمتع به النّبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم، ولنزول آيات الله عليه ـ حيث تقول الآية: (أنزله بعلمه).

ويمكن ـ أيضاً ـ أن تشمل هذه الآية معنى آخر، وهو أن ما نزل على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)من آيات إِنّما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي، وإِن محتوى هذه الآيات يعتبر دليلا واضحاً على أنّها نابعة من علم الله ـ وعلى هذا الأساس فإِن الشاهد على صدق ادعاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الآيات القرآنية، ولا يحتاج إِلى دليل آخر لإِثبات دعوته، فلو لم يكن محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى لما أمكنه أبداً ـ وهو المعروف بالأُمي ـ أن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمباديء الأخلاقية والبرامج الإِجتماعية.

والقرآن الكريم يؤكّد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة، مع أن شهادة الله كافية وحدها في هذا المجال تقول الآية الكريمة: (والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً).

[538]

ويجب ـ هنا ـ الإِنتباه إِلى عدّة أُمور، وهي:

1 ـ إِنّ بعض المفسّرين فهموا من عبارة (إِنا أوحينا إِليك الكتاب كما أوحينا...) إِنّها تهدف إِلى بيان حقيقة من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهي أنّ جميع الخصائص التي وردت في الشرائع السماوية التي نزلت على الأنبياء قبله، جاءت مجتمعة في الشريعة التي أنزلها الله عليه، وإِنّ كل خصلة اتصف بها عباد الله الصالحون هي موجودة فيه(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إِلى هذا الموضوع أيضاً فكان ما استلهمه المفسّرون من هذه الآية نابعاً أو مستنداً على تلك الروايات(1).

2 ـ نقرأ في الآيات الأخيرة أنّ الزّبور من الكتب السماوية أنزله الله على داود ـ ولايتنافي هذا مع ما ورد من أنّ الأنبياء أُولي العزم الذين نزلت عليهم كتب من الله هم خمسة أنبياء فقط، حيث إن الآيات القرآنية والروايات الإِسلامية توضح أن الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء كانت على نوعين، هما:

النّوع الأوّل: الكتب التي اشتملت على الأحكام التشريعية، حيث أن كل كتاب من هذه الكتب قد أعلن عن شريعة جديدة، وأن هذه الكتب السماوية هي خمسة فقط نزلت على خمسة انبياء هم «اُولوا العزم».

النّوع الثّاني: الكتب التي لم تحتو على أحكام جديدة، بل كان فيها الحكم والنصائح والإِرشادات والوصايا وأنواع الدعاء، وكتاب «الزّبور» الذي نزل على داود(عليه السلام) من هذا النّوع الثّاني من الكتب السماوية ـ و«مزامير داود» أو «زبور داود» الذي ورد اسمه في «العهد القديم» دليل على هذا الأمر الذي اثبتناه، مع العلم أنّ كتاب «العهد القديم» لم يسلم من التحريف، كما لم تسلم كتب العهد الجديد والقديم الأُخرى من التحريف أيضاً، إِلاّ أنّ ما يمكن قوله هو أنّ هذه

____________________________

1 ـ راجع تفاسير الصافي، ص 139، والبرهان الجزء الأوّل، ص 427، ونور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 573.

[539]

الكتب قد احتفظت نوعاً ما بشكلها القديم.

وكتاب «مزامير داود» يشتمل على مائة وخمسين فصلا، يسمى كل فصل منه «مزموراً» وهو من أوّله إِلى آخره يشتمل على صنوف النصح والإِرشاد والدعاء والمناجاة.

ونقل عن أبي ذر(رضي الله عنه) أنّه سأل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن عدد الأنبياء فأجابه النّبي: بأن عددهم يبلغ مائة وأربعاً وعشرين ألفاً، فسأل أبوذر(رضي الله عنه) عن عدد الرسل من بين هؤلاء الأنبياء ـ فأجابه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): بأن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم أنبياء ... فسأل أبوذر مرة أُخرى عن عدد الكتب السماوية التي نزلت على اُولئك الأنبياء والرسل، فأجابه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): بأنّها مئة وأربع كتب، نزل عشرة منها على آدم، ونزل خمسون منها على شيث، وثلاثون على إِدريس، وعشرة كتب على إِبراهيم، حيث يصبح مجموع هذه الكتب مئة كتاب، والأربعة الأخرى هي التوراة، والإِنجيل والزبور والقرآن(1).

3 ـ إِنّ عبارة «أسباط» هي صيغة للجمع ومفردها «سبط» ومعناها طوائف بني إِسرائيل، ولكن المقصود منها في الآية هم الأنبياء الذين بعثوا من هذه الطوائف(2).

4 ـ لقد كان نزول الوحي على الأنبياء يتمّ بصور مختلفة، فمرّة ينزل بالوحي ملك من الملائكة المكلفين به وأحياناً يلقي الوحي على النّبي بواسطة الإِلهام القلبي، وأُخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النّبي، أي أن الله يخلق الأمواج الصوتية في الفضاء أو الأجسام فيسمعها انبياؤه وبهذه الواسطة كان يتمّ التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

ومن الذين حظوا بمزية التخاطب مع الله النّبي موسى بن عمران(عليه السلام)، فكان

____________________________

1 ـ مجمع البيان، الجزء الأوّل، ص 476.

2 ـ لقد ورد ذكر الأسباط بالتفصيل في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

[540]

يسمع الصوت، أحياناً من شجرة وادي الأيمن، وأحياناً في جبل طور، ولذلك لقب هذا النّبي بلقب «كليم الله»، ولعل مجيء اسم النّبي موسى(عليه السلام) في الآيات الأخيرة بصورة منفصلة كان من أجل بيان هذه الخصيصة التي امتاز بها موسى(عليه السلام)على غيره من أنبياء الله(عليهم السلام).

* * *

[541]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَـلا بَعِيداً(167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً(168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـلِدِينَ فِيَهآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً(169)

التّفسير

جرى البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين وغير المؤمنين، أمّا الآيات الثلاثة الأخيرة فهي تشير إِلى مجموعة اختارت أقبح أنواع الكفر، فهؤلاء ـ بالإِضافة ـ إِلى انحرافهم وضلالهم سعوا إِلى تحريف وإِضلال الأخرين، وقد ظلموا أنفسهم بفعلهم هذا وظلموا الآخرين معهم لأنهم لم يسيروا في طريق الحق ولم يسمحوا للآخرين ـ أيضاً ـ باتّباع هذا السبيل، والآية الكريمة تصف هؤلاء بأنّهم في ضلال بعيد وذلك بقولها: (إِنّ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلّوا ضلالا بعيداً).

فلماذا ـ يا ترى ـ استحق هؤلاء الإِبعاد عن طريق الحق؟ إِنّهم استحقوا ذلك لدعوتهم الآخرين إِلى طريق الضلال، حيث من المستبعد جدّاً أن يتخلوا عن طريق هم يدعون الآخرين لإِتّباعه ـ فقط خلط هؤلاء كفرهم بالعناد، ووضعوا

[542]

أقدامهم في طريق الضلال والإِنحراف، وابتعدوا بذلك كثيراً عن طريق الحق والصواب.

أمّا الآية الأُخرى فتشير إِلى الذين كفروا وظلموا، إِذ ظلموا الحق أوّلا لعدم التزامهم بالصواب، كما ظلموا أنفسهم بذلك ـ أيضاً ـ إِذ حرموها من السعادة وسقطوا في هوة الضلالة، وظلموا الآخرين حين منعوهم من التوجه إِلى طريق الحق والصواب، فهؤلاء لن يشملهم أبداً عفو الله، وإِن الله لا يهديهم أبداً إِلاّ إِلى طريق جهنم، تقول الآية: (إِنّ الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إِلاّ طريق جنهم...).

فهؤلاء باقون وخالدون في جهنم دائماً وأبداً، كما تقول الآية: (خالدين فيها أبداً ...).

وعلى هؤلاء أن يعلموا أنّ وعد الله حق، وأن تهديده يتحقق لا محالة، فليس ذلك على الله بالأمر الصعب تقول الآية: (وكان ذلك على الله يسيراً).

ونشاهد في الآيتين المذكورتين تأكيداً من طراز خاص حول هذا النوع من الكفار والعقوبات التي ينالونها ـ فمن جهة يوصف انحرافهم بالضلال البعيد، ومن جهة ثانية تؤكد الآية باستخدام عبارة (لم يكن الله ...) أنّ العفو عن هؤلاء الكفار لا يليق بمنزلة الله سبحانه وتعالى، ومن جانب آخر فقد جاء التأكيد على خلود هؤلاء في النار والتشديد على أنّه خلود أبدي، لأنّ هؤلاء وأمثالهم بالإِضافة إِلى خروجهم عن جادة الحق وانحرافهم، سعوا إِلى إبعاد وحرف الآخرين عن هذا السبيل، وبذلك تحملوا مسؤولية وإِثماً عظيماً.

* * *

[543]

الآية

يَـأَيُّهَا النَّاسُ قَدْجَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَأَمِنُوا خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً(170)

التّفسير

لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر الإِيمان، أمّا الآية الأخيرة فهي تدعو إِلى الإِيمان وتبيّن نتيجة هذا الإِيمان، وتستخدم في ترغيب الناس إِلى هذا الهدف السامي عبارات واصطلاحات تثير عند الأفراد الرغبة والإِندفاع نحو الإِيمان.

وهذه الآية تشير في البداية إِلى أنّ النّبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر الناس ظهوره، والذي أشارت إِليه الكتب السماوية السابقة، وهو يحمل إِليهم شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال: (يا أيّها الناس قد جاءكم الرّسول(1)بالحق)(2).

____________________________

1 ـ يبدو من سياق الآية أنّ حرفي «الـ» الداخلة على كلمة «رسول» هما «الـ» العهدية، وفيها إِشارة إِلى النّبي الذي كانوا ينتظرون قدومه، ولم يقتصر هذا الإِنتظار على اليهود والنصارى وحدهم، بل أنّ المشركين ـ أيضاً ـ كانوا يتوقعون ـ لما سمعوه من أهل الكتاب ـ ظهور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

2 ـ لقد فسّرت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) كلمة «الحق» الواردة في الآية إِشارة إِلى ولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد بيّنا سابقاً إن مثل هذه التفاسير واضحة في بيان المصاديق، وهي لا تدل على الحصر.

[544]

ثمّ تردف الآية بأن هذا النّبي قد جاء إِلى الناس من الله الذي تعهد تربية الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية، وهي عبارة: (من ربّكم).

وبعد ذلك تؤكّد الآية ـ على أنّ إِيمان الأفراد إِنّما تعود فائدته ويعود نفعه عليهم أنفسهم، أي أن الإِنسان إِذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإِيمان قبل أن يخدم به غيره تقول الآية: (فآمنوا خير لكم).

كما تؤكّد الآية في النهاية على أن من يتخذ الكفر سبيلا لنفسه فلن يضرّ الله بعمله هذا أبداً، لأن الله يملك كل ما في السماوات وما في الأرض، فهو بهذا لا يحتاج إِلى أي شيء من الآخرين، تقول الآية في هذا الصدد: (وإن تكفروا فإنّ لله ما في السموات والأرض).

وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام الله وأوامره كلّها لمصلحة البشر، لأنّها نابعة من حكمة الله وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس، ومنافعهم الخيّرة، فتقول الآية: (وكان الله عليماً حكيماً).

ومن المنطلق نفسه فإِنّ ما أرسله الله من شرائع لتنظيم الحياة الإِجتماعية للبشر بواسطة الأنبياء(عليهم السلام)، لم يكن ـ مطلقاً ـ لحاجة الله إِلى ذلك، بل إنّه نابع من علمه وحكمته، فهل يحق للبشر بعد هذا البيان أن يتركوا طريق الإِيمان ويتبعوا سبيل الكفر؟

* * *

[545]

الآية

يَـأَهْلَ الْكِتَـبِ لاَ تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَأَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلَـثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ وَحِدٌ سُبْحَـنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِى الْسَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا(171)

التّفسير

اُسطورة التثليث الوهمية:

تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إِلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية، وهذا الإِنحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث، أي وجود آلهة ثلاثة ويأتي التطرق إِلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والكفار.

فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم، وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق، حيث تقول: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إِلاّ الحق ...).

لقد كانت قضية الغلو في حق القادة السابقين إِحدى أخطر منابع الإِنحراف

[546]

في الأديان السماوية، فالإِنسان بما أنّه يميل إِلى ذاته يندفع بهذا الميل إِلى إِظهار زعمائه وقادته بصورة أكبر ممّا هم عليه، لكي يضفي على نفسه الأهمية والعظمة من خلال هؤلاء القادة، وقد يدفع الإِنسان التصور الواهي بأن الإِيمان هو المبالغة والغلو في احترام وتعظيم القادة ـ إِلى الوقوع في متاهات هذا النوع من الإِنحراف الرهيب.

والغلو في أصله ينطوي على عيب كبير يفسد العنصر الأساسي للدين ـ الذي هو عبادة الله وتوحيده ـ ولهذا السبب فقد عامل الإِسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة، إِذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفراً من الآخرين.

بعد ذلك تشير الآية الكريمة إِلى عدّة نقاط، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلا على بطلان قضية التثليث، وعدم صحة اُلوهية المسيح(عليه السلام)، وهذه النقاط هي:

1 ـ لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح(عليه السلام) بمريم(عليها السلام) (إنّما المسيح عيسى بن مريم)، وإِشارة البنوة ـ هذه الواردة في ستة عشر مكاناً من القرآن الكريم ـ إِنّما تؤكّد أنّ المسيح(عليه السلام) هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن اُمّه، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم(عليها السلام) كما يولد أفراد البشر من بطون اُمهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر اُمّه، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن ـ وحالة المسيح(عليه السلام) هذه ـ أن يكون إِلهاً أزلياً أبدياً، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟!

وعبارة الحصر التي هي «إنّما» الواردة في الآية تحصر بنوة المسيح(عليه السلام)بمريم(عليها السلام) وتؤكّد على أنّه وإِنّ لم يكن له والد، فليس معنى ذلك أن أباه هو الله، بل هو فقط ابن مريم(عليها السلام).

[547]

2 ـ تؤكّد الآية الكريمة أنّ المسيح(عليه السلام) هو رسول الله ومبعوث إِلى البشر من قبله سبحانه وتعالى، وإِن هذه المنزلة ـ أي منزلة النّبوة ـ لا تتناسب ومقام الألوهية.

والجدير بالذكر هو أنّ معظم كلام المسيح(عليه السلام) الوارد قسم منه في الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر، إِنّما يؤكّد نبوته وبعثته لهداية الناس، وليس فيه دلالة على ادعائه الألوهية والربوبية.

3 ـ تبيّن الآية أن عيسى المسيح(عليه السلام) هو كلمة الله التي ألقاها إِلى مريم(عليها السلام)حيث تقول: (وكلمته ألقاها إِلى مريم).

وقد وردت عبارة: «كلمة» في وصف المسيح في عدد من الآيات القرآنية، وهذه إِشارة إِلى كون المسيح مخلوقاً بشرياً، إِذ أن الكلمات مخلوقة من قبل الله، كما أنّ الموجودات في الكون من مخلوقاته عزَّ وجلّ، فكما أن الكلمات تبيّن مكنونات أنفسنا ـ نحن البشر ـ وتدل على صفاتنا وأخلاقياتنا، فإِنّ مخلوقات الكون تحكي صفات خالقها وجماله وتدل على جلاله وعظمته.

وعلى هذا الأساس فقد وردت عبارة «كلمة» في عدد من العبارات القرآنية، لتشمل جميع مخلوقات الله، كما في الآية (109) من سورة الكهف والآية (29) من سورة لقمان، وبديهي أنّ الكلمات الإِلهية تتفاوت بعضها مع البعض في المنزلة والأهمية وعيسى(عليه السلام) يعتبر إِحدى كلمات الله البارزة الأهمية، لكونه ولد من غير أب، إِضافة إِلى كونه يتمتع بمقام الرسالة الإِلهية.

4 ـ تشير الآية إِلى أنّ عيسى المسيح(عليه السلام) هو روح مخلوقة من قبل الله، حيث تقول (وروح منه) وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم ـ أو بعبارة أُخرى خلق البشر أجمعين ـ في القرآن الكريم، إِنما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامّة، وفي المسيح(عليه السلام) وسائر الأنبياء بصورة خاصّة.

[548]

وعلى الرغم من أنّ البعض أساء الإِستفادة من هذه العبارة وفسّرها بأنّ المسيح(عليه السلام) هو جزء من الله سبحانه وتعالى، مستنداً إِلى عبارة «منه» ولكن الواضح في مثل هذه الحالات أن كلمة «من» ليست للتبعيض، بل تدل على مصدر ومنشأ وأصل وجود الشيء.

وهناك طرفة تاريخية تذكر أنّه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني، دخل يوماً في نقاش مع «علي بن الحسين الواقدي» وهو أحد المفكرين الإِسلاميين في ذلك العصر، فقال له هذا الطبيب: «توجد في كتابكم السماوي آية تبيّن أنّ المسيح(عليه السلام)هو جزء من الله ...» وتلا هذا النصراني الآية موضوع البحث، فرد عليه «الواقدي» مباشرة تالياً هذه الآية: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً  منه ...)(1)، وأضاف مبيّناً أنّ كلمة «من» لو كانت تفيد التبعيض، لإقتضى ذلك أن تكون جميع موجودات السماء والأرض ـ بناء على هذه الآية ـ جزءاً من الله، فلما سمع الطبيب النصراني كلام الواقدي أسلم في الحال، وسر إسلامه هارون الرشيد فكافأ الواقدي بجائزة مناسبة(2).

إِنّ ما يثير العجب ـ إِضافة إِلى ما ذكر ـ هو أنّ المسيحيين يرون ولادة المسيح من أُمّ دون أب دليلا على الوهيته، وهم ينسون في هذا المجال أن آدم(عليه السلام)كان قد ولد من غير أب، ولا أُم، ولم ير أحد هذه الخصيصة الموجودة في آدم دليلا على ربوبيته.

بعد ذلك تؤكّد الآية على ضرورة الإِيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه، ونبذ عقيدة التثليث، مبشرة المؤمنين بأنّهم إِن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيراً لهم حيث قالت الآية: (فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم...).

____________________________

1 ـ الجاثية، 13.

2 ـ تفسير المنار، الجزء السادس، ص 84.

[549]

وتعيد الآية التأكيد على وحدانية الله قائلة: (إِنّما الله إله واحد ...) وهي تخاطب المسيحيين لأنّهم حين يدعون التثليث يقبلون ـ أيضاً ـ بوحدانية الله، فلو كان لله ولد لوجب أن يكون شبيهه، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية.

فكيف ـ إِذن ـ يمكن أن يكون لله ولد، وهو منزّه من نقص الحاجة إِلى زوجة أو ولد، كما هو منزّه من نقائص التجسيم وأعراضه؟ تقول الآية: (سبحانه أن يكون له ولد ...) والله هو مالك كل ما في السموات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعاً، والمسيح(عليه السلام) ـ أيضاً ـ واحد من خلق الله، فكيف يمكن الإِدعاء بهذا الإِستثناء فيه؟ وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون إبناً للمالك والخالق؟! حيث تؤكد الآية: (له ما في السموات وما في الأرض ...)والله هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته، تقول الآية: (وكفى بالله وكيلا).

والحقيقة هي أنّ الله الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إِلى الأبد لا يحتاج مطلقاً إِلى ولد، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إِلى ولد يخلفه من بعد الموت؟

عقيدة التثليث أكبر خرافة مسيحية:

ليس في الإِنحرافات التي تورط بها العالم المسيحي أكبر من انحراف عقيدة التثليث، لأنّ المسيحيين يعتقدون صراحة بالثالوث الإِلهي، وهم في نفس الوقت يصرحون بأن الله واحد! أي أنّهم يرون الحقيقة في التثليث والتوحيد في أن واحد.

وقد خلقت هذه القضية ـ التي لها حدان متناقضان ـ مشكلة كبيرة للمفكرين والباحثين المسيحيين.

فلو كان المسيحيون مستعدين لقبول مسألة التوحيد بأنّها «مجازية» وقبول

[550]

مسألة التثليث بأنّها مسألة حقيقية أو قبول العكس، لأمكن تبرير هذا الأمر، ولكنهم يرون الحقيقة في الجمع بين هذين المتناقضين، فيقولون أن الثلاثة واحد كما يقولون أن الواحد ثلاثة في نفس الوقت.

وما يلاحظ من ادعاء في الكتابات التبشيرية الأخيرة للمسيحيين، والتي توزع للناس الجهلاء، من أن التثليث شيء مجازي، إِنّما هو كلام مشوب بالرياء ولا يتلاءم مطلقاً مع المصادر الأساسية للمسيحية، كما لا يتفق مع الآراء والمعتقدات الحقيقية للمفكرين المسيحيين.

ويواجه المسيحيون ـ هنا ـ قضية لا تتفق مع العقل فالمعادلة التي افترضوا فيها أن 1 = 3 لا يقبلها حتى الأطفال الذين هم في مرحلة الدراسة الإِبتدائية. ولهذا السبب ادعوا أنّ هذه القضية لا تقاس بمقياس العقل، وطلبوا الإِذعان بها عبر ما سمّوه بالرؤية التعبدية القلبية.

وكان هذا التناقض منشأ للتباعد الحاصل لديهم بين الدين والعقل، وسبباً لجر الدين إِلى متاهات خطيرة، الأمر الذي اضطرهم إِلى القول بأن الدين ليس له صلة بالعقل، أو ليس فيه الطابع العقلاني، وأنّه ذو طابع تعبدي محض.

وهذا هو أساس التناقض بين الدين والعلم في منطق المسيحية، فالعلم يحكم بأنّ الثلاثة لا تساوي الواحد، والمسيحية المعاصرة تصر على أنّهما متساويان!

ويجب الإِلتفات ـ هنا ـ إِلى عدّة نقاط حول هذا الإِعتقاد المسيحي:

1 ـ لم يشر أي من الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر إِلى مسألة التثليث لذلك يعتقد الباحثون المسيحيون أنّ مصدر التثليث في الأناجيل خفي وغير بارز، وفي هذا المجال يقول الباحث الأمريكي المستر هاكس: «إِنّ قضية التثليث تعتبر في العهدين القديم والجديد خفية وغير واضحة، (القاموس المقدس، ص 345، طبعة بيروت).

[551]

وذكر المؤرخون أنّ قضية التثليث قد برزت بعد القرن الثّالث الميلادي لدى المسيحيين وإن منشأ هذه البدعة كان الغلو من جانب، واختلاط المسيحيين بالأقوام الأخرى من جانب آخر.

ويرى البعض احتمال أن يكون مصدر التثليث عند المسيحيين وارداً من عقيدة الثالوث الهندي، أي عبادة الهنود للآلهة الثلاثة(1).

2 ـ إِنّ قضية التثليث القائلة بأن الثلاثة واحد تعتبر أمراً غير معقول أبداً، ويرفضها العقل بالبداهة، والشيء الذي نعرفه هو أن الدين لا يمكنه أن يكون منفصلا عن العقل والعلم، فالعلم الحقيقي والدين الواقعي كلاهما متفقان ومتناسقان دائماً ـ ولا يمكن القول بأن الدين أمر تعبدي محض ـ لأننا لو أزحنا العقل جانباً عند قبول مبادىء الدين وأذعنا للعبادة العمياء الصماء، فلا يبقى لدينا ما نميز به بين الأديان المختلفة.

وفي هذه الحالة، أي دليل يوجب على الإِنسان أن يعبد الله ولا يعبد الأصنام؟ وأي دليل يدعو المسيحيين إِلى التبشير لدينهم لا للأديان الأُخرى؟

ومن هذا المنطلق فإن الخصائص التي يراها المسيحيون لدينهم ويصرّون على دعوة الناس للقبول بها، هي بحدّ ذاتها دليل على أن الدين يجب أن يعرف بمنطق العقل، وهذا يناقض دعواهم حول قضية التثليث التي يرون فيها إنفصال الدين عن العقل.

وليس هناك كلام يستطيع تحطيم الدين أشد وأقبح من أن يقال: إِن الدين لا يمتلك طابعاً عقلانياً ومنطقياً، وأنّه ذو طابع تعبدي محض!

3 ـ إِنّ الأدلة العديدة التي يستشهد بها ـ في مجال إِثبات التوحيد، ووحدانية الذات الإِلهية ـ ترفض كل أنواع التثنية أو التثليث ـ فالله سبحانه وتعالى هو وجود مطلق لا يحد بالجهات، وهو أزلي أبدي لا حدود لعلمه ولقدرته ولقوته.

____________________________

1 ـ اُنظر دائرة المعارف للقرن العشرين (لفريد وجدي) في مادة (ثالوث» ...

[552]

وبديهي أنّه لا يمكن تصور التثنية في اللامتناهي، لأنّ فرض وجود لا متناهيين يجعل من هذين الإِثنين متناهيين ومحدودين، لأن وجود الأوّل يفتقر إِلى قدرة وقوة ووجود الثّاني كما أن وجود الثّاني يفتقر إِلى وجود وخصائص الأوّل، وعلى هذا الأساس فإِن كلا الوجودين محدودان.

وبعبارة أُخرى: إِنّنا لو افترضنا وجود لا متناهيين من جميع الجهات، فلابدّ حين يصل اللامتناهي الأوّل إِلى تخوم اللامتناهي الثّاني ينتهي إِلى هذا الحد كما أن اللامتناهي الثّاني حين يصل إِلى حد اللامتناهي الأوّل ينتهي هو أيضاً، وعلى هذا الأساس فإِن كليهما يكونان محدودين ولا تنطبق صفة اللامتناهي على أي منهما، بل هما متناهيان محدودان، والنتيجة هي أن ذات الله ـ الذي هو وجود لا متناه ـ لا يمكن أن تقبل التعدد أبداً.

وهكذا فإِنّنا لو اعتقدنا بأن الذات الإِلهية تتكون من الأقانيم الثلاثة، لا يستلزم أن يكون كل من هذه الأقانيم محدوداً، ولا تصح فيه صفة اللامحدود واللامتناهي، وكذلك فإِن أي مركب في تكوينه يكون محتاجاً إِلى أجزائه التي تكونه، فوجود المركب يكون معلولا لوجود أجزائه.

وإِذا افتراضنا التركيب في ذات الله لزم أن تكون هذه الذات محتاجة أو معلولة لعلّة سابقة في حين إنّنا نعرف أنّ الله غير محتاج، وهو العلّة الأُولى لعالم الوجود، وعلّة العلل كلها منذ الأزل وإِلى الأبد.

4 ـ بالإِضافة إِلى كل ما ذكر، كيف يمكن للذات الإِلهية أن تتجسد في هيكل إِنساني لتصبح محتاجة إِلى الجسم والمكان والغذاء واللباس وأمثالها؟

إِنّ فرض الحدود لله الأزلي الأبدي، أو تجسيده في هيكل إِنسان ووضعه جنيناً في رحم أُمّ، يعتبر من أقبح التهم التي تلصق بذات الله المقدسة المنزهة عن كل النقائص، كما أنّ افتراض وجود الابن لله ـ وهو يستلزم عوارض التجسيم المختلفة ـ إِنما هو افتراض غير منطقي وبعيد عن العقل بعداً مطلقاً.

[553]

بدليل أنّ أي إِنسان لم ينشأ في محيط مسيحي ولم يتربّ منذ طفولته على هذه التعليمات الوهمية الخاطئة عند ما يسمع هذه التعابير المنافية للفطرة الإِنسانية والمخالفة لما يحكم به العقل البشري، يشعر بالسخط والإِشمئزاز، وإِذا كان المسيحيون أنفسهم لا يرون بأساً في كلمات مثل «الله الأب» و«الله الابن» فما ذلك إِلاّ لأنّهم جبلوا على هذه التعاليم الخاطئة منذ نعومة أظفارهم.

5 ـ لوحظ في السنين الأخيرة أنّ جماعة من المبشرين المسيحيين يلجؤون إِلى أمثلة سفسطائية من أجل خداع الجهلاء من الناس في قبول قضية التثليث.

من هذه الأمثلة قولهم أن اجتماع التوحيد والتثليث معاً يمكن تشبيهه بقرص الشمس والنور والحرارة النابعتين من هذا القرص، حيث أنّها ثلاثة أشياء في شيء واحد.

أو تشبيههم ذلك بانعكاس صورة إِنسان في ثلاث مرايا في آن واحد، فهذا الإِنسان مع كونه واحداً إِلاّ أنّه يظهر وكأنّه ثلاثة في المرايا الثلاث.

كما يشبهون التثليث بالمثلث الذي له ثلاث زوايا من الخارج، ويقولون بأنّ هذه الزوايا لو مدت من الدخل لوصلت كلها إِلى نقطة واحدة؟!

لكننا بالتعمق قليلا في هذه الأمثلة يتبيّن لنا أن لا صلة لها بموضوع بحثنا الحاضر، فقرص الشمس شيء ونورها شيء آخر والنور الذي يتكون من الأشعة فوق الحمراء يختلف عن الحرارة التي تتكون من الأشعة دون الحمراء، وهذه الأشياء الثلاثة تختلف الواحدة منها عن الأُخرى من حيث النظرة العلمية، وهي ليست بمجموعها شيئاً واحداً من خلال هذه النظرة.

وإِذا صح القول بأنّ هذه الأشياء الثلاثة شيء واحد، إِنّما يكون ذلك من باب التسامح أو التعبير المجازي ليس إِلاّ.

والأوضح من ذلك مثال الجسم والمرايا الثلاث، فالصورة الموجودة في المرايا عن الجسم ليست إِلاّ انعكاساً للنور، وبديهي أنّ انعكاس النّور عن جسم

[554]

معين غير ذات الجسم، وعلى هذا الأساس فليس هناك أي إتحاد حقيقي أو ذاتي بين الجسم وصورته المنعكسة في المرآة، وهذه قضية يدركها حتى الدارس المبتدي لعلم الفيزياء.

أمّا في مثال المثلث فالأمر واضح كما في المثالين السابقين، حيث أن زوايا المثلث المتعددة لا علاقة لها بالبداهة بالإِمتداد الداخلي الحاصل للزوايا، والذي يوصلها جميعاً إِلى نقطة واحدة.

والذي يثير العجب ـ أكثر من ذلك ـ هو محاولة بعض المسيحيين المستشرقين مطابقة قضية «التوحيد في التثليث» مع نظرية «وحدة الوجود» التي يقول بها الصوفيون(1) والأمر الواضح من غير دليل ـ في هذا المجال ـ هو إِنّما لو قبلنا بالنظرية الخاطئة والمنحرفة القائلة بوحدة الوجود، لاقتضى ذلك منّا أن نذعن بأن كل موجودات العالم أو الكون هي جزء من ذات الله سبحانه وتعالى، بل الإِذعان بأنّها هي عين ذاته.

عند ذلك لا يبقى معنى للتثليث، بل تصبح جميع الموجودات ـ صغيرها وكبيرها ـ جزءاً أو مظهراً لله سبحانه، وعلى هذا الأساس فلا يمكن تتطابق نظرية التثليث المسيحية بالنظرية الصوفية القائلة بوحدة الوجود بأي شكل من الأشكال، علماً بأن النظرية الصوفية هذه قد دحضت وبان بطلانها.

6 ـ يقول بعض المسيحيين ـ أحياناً ـ إِنّها حين يسمّون المسيح(عليه السلام) بـ «ابن الله» إِنّما يفعلون ذلك كما يفعل المسلمون في تسمية سبط الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) بـ «ثار الله وابن ثاره» أو كالتسمية التي وردت في بعض الروايات لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) حيث سمى فيها بـ «يدالله»، وهؤلاء المسيحيون يفسرون كلمة «ثار» بأنّها تعني الدم، أي أنّ العبارة الواردة في الحسين الشهيد(عليه السلام)

____________________________

1 ـ المراد بوحدة الوجود عند الصوفية، هي وحدة الموجود، ويستدلون بها على أن الوجود ليس أكثر من واحد يظهر في صور مختلفة، وإن هذا الواحد هو الله.

[555]

تعني «دم الله وابن دمه».

إِنّ هذا الأمر هو عين الخطأ:

أوّلا: لأنّ العرب لم تطلق كلمة الثأر أبداً لتعني بها الدم، بل اعتبرت الثأر دائماً ثمناً للدم، ولذلك فإِن معنى العبارة أن الله هو الذي يأخذ ثمن دم الحسين الشهيد، وأن هذا الأمر منوط به سبحانه وتعالى، أي أنّ الحسين(عليه السلام) لم يكن ملكاً أو تابعاً لعشيرة أو قبيلة معينة لتطالب بدمه، بل هو يخص العالم والبشرية جمعاء ويكون تابعاً لعالم الوجود وذات الله المقدسة، ولذلك فإِن الله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دم هذا الشهيد ـ كما أن الحسين هو ابن علي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي استشهد في سبيل الله، والله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دمه أيضاً.

وثانياً: حين يعبّر في بعض الأحيان عن بعض أولياء الله بعبارة «يد الله» فإِن هذا التعبير ـ حتماً ـ من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إِلاّ.

فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة «ابن الله» الواردة عندهم في حق المسيح(عليه السلام) أنّها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنّه لا يقبل ذلك، لأنّ المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة لله سبحانه منحصرة بالمسيح(عليه السلام)وحده وليس في غيره، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية، وما بادر إِليه بعض المسيحيين من الإِدعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز، إنّما هو من أجل خداع البسطاء من الناس.

ولإِيضاح هذا الأمر نحيل القاري إِلى كتاب «القاموس المقدس» في مادة «الله» حيث يقول هذا الكتاب بأنّ عبارة «ابن الله» هي واحدة من القاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إِلاّ إِذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي لله(1).

* * *

____________________________

1 ـ القاموس المقدس، طبعة بيروت، ص 345.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21394929

  • التاريخ : 16/04/2024 - 17:40

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net