00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء من آية 115 ـ 143 من ( ص 451 ـ 502 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[451]

الآية

وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً(115)

سبب النّزول

لقد قلنا في سبب نزول الآية السابقة: إِنّ بشير بن الأبيرق كان قد سرق من أحد المسلمين، وأتهم إِنساناً بريئاً بهذه السرقة، واستطاع بالأجواء المزيفة التي اختلقها أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبريء نفسه، ولكن حين نزلت تلك الآيات افتضح أمره، فبدلا من أن يختار طريق التوبة بعد فضيحته، سار في طريق الكفر وارتد عن الإِسلام بصورة علنية رسمية.

فنزلت الآية الأخيرة متضمنة إِشارة إِلى هذا الموضوع، بالإِضافة إِلى بيانها لحكم إِسلامي عام وكلي.

التّفسير

حين يرتكب الإِنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ، فليس أمامه سوى طريقين:

أحدهما: طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة إِلى أثرها في

[452]

غسل الذنوب عن الإِنسان.

والطّريق الثّاني: هو أن يسلك الإِنسان سبيل العناد، وقد أشارت الآية الأخيرة إِلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق، حيث أعلنت أنّ من يواجه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإِنّ الله سوف لن يهديه إِلى غير هذا الطريق، وسيرسله الله في يوم القيامة إِلى جهنم، وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية: (ومن يشاقق الرّسول من بعدما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ عبارة (يشاقق) مأخوذة من مادة «شقاق» بمعنى المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة وتؤكّد جملة (من بعدما تبيّن له الهدى) هذا المعنى أيضاً، وفي الحقيقة فإِنّ من يكون هذا شأنه فلن يلقى مصيراً خيراً ممّا ذكرته الآية له، مصير ينطوي على نهاية مشؤومة له في هذه الدنيا وعاقبة سيئة أليمة في الدار الآخرة، فهو في الدنيا ـ كما تقول الآية ـ يستمر منجرفاً في الطريق الأعوج الذي اختاره، فتتوسع بذلك زاوية انحرافه عن جادة الحق والصواب، وهذا الطريق هو الذي اختاره لنفسه والبناء الذي وضع أساسه بيده، ولهذا لم يكن قد وقع عليهم أي ظلم من الخارج.

وأمّا بالنسبة لقول الآية: (نُوله ما تولى) فهو إِشارة إِلى حرمان هؤلاء من التوفيق المعنوي، لتمييز الحقّ، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة، وقد بيّنا تفاصيل هذا الموضوع لدى الحديث عن تفسير الهداية والضلالة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

وحين تقول الآية: (نصله جهنم) فهي تشير إِلى مصير هؤلاء يوم القيامة.

وهناك تفسير آخر حول جملة (نوله ما تولى) وهو أن هؤلاء وأمثالهم، يوكل أمرهم إِلى الآلهة المصطنعة التي انتخبوها لأنفسهم.

[453]

حجية الإِجماع:

يعتبر الإِجماع أحد الأدلة الفقهية الأربعة، وهو بمعنى اتفاق علماء ومفكري الإِسلام حول مسألة فقهية. وذكروا في علم أصول الفقه أدلة مختلفة لإِثبات حجية الإِجماع، ومن ضمنها الآية الأخيرة التي مرّ البحث في تفسيرها، إِذ يعتبرها البعض دليلا على حجية الإِجماع لأنّها تقول أنّ من يختار طريقاً غير طريق المؤمنين سيكون له مصير مشؤوم أسود في الدنيا والآخرة.

وبناء على هذه الآية، فإِنّ أي طريق يختاره المؤمنون ـ في أي مسألة كانت ـ يجب على الجميع السير في هذا الطريق.

والحقيقة أنّ هذه الآية لا صلة لها بمسألة حجية الإِجماع، لا من قريب ولا من بعيد (وطبيعي إِنّنا نقبل حجّية الإِجماع الذي يكشف لنا عن قول المعصوم، ولكننا نعتبر حجية السنة وقول المعصوم دليلا لحجية هذا الإِجماع، وليس الآية المذكورة).

والسبب في عدم قبولنا دلالة هذه الآية على حجية الإِجماع، هو أنّها تعين أوّلا: عقوبات للأشخاص الذين يخالفون النّبي صراحة وعن علم وإِدراك، ويختارون طريقاً غير طريق المؤمنين، فهذان العنصران يشكّلان باتحادهما العلّة لذلك المصير المشؤوم، مع التأكيد بأن هذا المصير إِنّما يتحقق لدى اختيار الشخص للعنصرين المذكورين عن علم ودراية. وليس لهذا الموضوع أية صلة بمسألة حجية الإِجماع، ولا يدل بوحده على هذه الحجية.

والأمر الثّاني: هو أنّ المقصود بعبارة (سبيل المؤمنين) الواردة في الآية، هو طريق التوحيد والخضوع لله وحده، وهو مبدأ الإِسلام، وليس معناه الفتاوى الفقهية أو الأحكام الفرعية، وهذه الحقيقة يثبتها ظاهر الآية بالإِضافة إِلى ما قيل في سبب نزولها.

والحقيقة هي أنّ السير في طريق غير طريق المؤمنين لا يتجاوز عن كونه

[454]

مخالفة للنّبي، وكلا العنصرين يعودان إِلى موضوع واحد.

وينقل أنّه حين كان أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في الكوفة، جاءه جمع من الناس وطلبوا منه أن يعين لهم إِماماً لصلاة الجماعة (لكي يصلوا خلفه صلاة التراويح جماعة، حيث كان عمر بن الخطاب في زمانه قد أمر بأن تصلّى هذه الصّلاة جماعة) وما كان من الإِمام غير أن يمتنع عمّا طلبوا منه، ونهى عن إِقامة جماعة كتلك (لأن الجماعة لم تشرع في النوافل) لكن هذه الجماعة التي سمعت الحكم الصريح الحازم من الإِمام علي(عليه السلام) أصرّت على عنادها، وأخذت بالصراخ والعويل، داعية الناس إِلى الإِحتجاج على حكم الإِمام.

فجاءت جماعة أُخرى إِلى الإِمام علي(عليه السلام) واخبرته بما أخذ يفعله اُولئك القوم وبعصيانهم لأمره، فطلب أن يتركوا وشأنهم ليختاروا من شاؤوا ليصلّي بهم تلك الجماعة غير الشرعية(1) ثمّ تلى الإِمام هذه الآية الأخيرة، وفي هذا الخبر دليل آخر على التّفسير الذي تحدثنا عنه بالنسبة لهذه الآية.

* * *

____________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 551.

[455]

الآية

إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُأَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـلا بَعِيداً(116)

التّفسير

الشّرك ذنب لا يغتفر:

تشير هذه الآية مرة أُخرى إِلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنباً لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إِسلامهم إِلى الكفر.

ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية، في نفس سورة النساء في الآية (48) وما إِعادة تكرار مثل هذه المسائل التربوية إِلا دليل على بلاغة القرآن، لأنّ المسائل الأساسية تستلزم التكرار في فواصل مختلفة بغية ترسيخها في الأذهان والنفوس.

والحقيقة أنّ الذنوب تشبه سائر الأمراض، فما دام المرض لم يهاجم موقعاً مهماً في جسم الإِنسان ولم يشل أحد هذه المواقع، كانت القدرة الدفاعية للجسم تحمل معها الشفاء والتحسن، ولكن لو هاجم المرض مركزاً حساساً في جسم الإِنسان ـ مثل الدماغ ـ وأوجد نتيجة لذلك شللا في الجسم، فإِنّ أبواب الأمل

[456]

بالشفاء والتحسن قد تغلق في مثل هذه الحالة التي تنذر بقدوم الموت المحتم.

والشرك كهذا المرض الأخير يشل مركزاً حساساً في روح الإِنسان، وينشر الظلمة في نفسه، وإِذا استمر الشرك فلا أمل يرتجى في نجاة الإِنسان، بينما لو بقيت حقيقة التوحيد وعبادة الواحد الأحد التي هي ينبوع كل فضيلة وحركة ... لو بقيت هذه الحقيقة حية فلا يعدم الإِنسان الآمل في غفران ذنوبه الأُخرى، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (إِنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفرما دون ذلك لمن يشاء).

وقد قلنا: بأنّ هذه الآية قد تكررت مرّتين في هذه السورة، وما ذلك إِلاّ لتزيل آثار الشرك والوثنية ـ وإِلى الأبد ـ من نفوس اُولئك الناس الذين ظل الشرك يعشش في أعماق نفوسهم لآماد طويلة، ولتظهر آثار التوحيد المعنوية والمادية على وجوه هؤلاء.

ولكن تتمة الآيتين تختلف في إِحداهما عن الأخرى اختلافاً طفيفاً، حيث تقول الآية الأخيرة: (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيداً) بينما الآية السابقة تقول: (ومن يشرك بالله فقد افترى إِثماً عظيماً).

وفي الحقيقة فإِنّ الآية السابقة تشير إِلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإِلهي، ومعرفة الله، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإِنسان والتي لا يمكن تلافيها، فهناك تبحث الآية في الجانب العلمي من القضية، وهنا تتناول الآية الأخيرة الجانب العملي منها ونتائجها الخارجية.

ويتّضح من هذا أنّ الآيتين تعتبر اُحداهما بالنسبة للأخرى بمثابة اللازم والملزوم بحسب الإِصطلاح (وقد اشتمل الجزء الثّالث من نفس هذا التّفسير على توضيحات أكثر حول هذه الآية).

* * *

[457]

الآيات

إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـناً مَّرِيداً(117) لَّعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لاََتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً(118) وَلاَُضِلَّنَّهُمْ وَلاَُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاََمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الاَْنْعَـمِ وَلاََمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الْشَيْطَـنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً(119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـنُ إِلاَّ غُرُوراً(120) أُوْلَـئِكَ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً(121)

التّفسير

مكائد الشّيطان:

إِنّ الآية الأُولى ـ من مجموع الآيات الخمس الأخيرة ـ تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إِليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة، وهذه الآية إِنّما تبيّن سبب ضلال المشركين، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم، إِذ يتركون عبادة الله خالق ومنشىء عالم الوجود الوسيع، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إِيجابي في الوجود، بل هي ـ أحياناً مضللة كالشّيطان: (إن يدعون من دونه إِلاّ إناثاً وإن يدعون إِلاّ شيطاناً مريداً).

[458]

وممّا يلفت النظر أن هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما «إناث» و«شيطان مريد».

وكلمة «إناث» مشتقة من المصدر «أنث» على وزن «أدب» وتعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن، ولهذا السبب فإنّ العرب تقول: «أنث الحديد» إذا لانّ في النار، وقد سمي جنس المرأة بـ«الاناث» لأنّها أكثر رقّة ولطفاً وليناً من الرجل.

لكن بعض المفسّرين يرى هنا ـ أنّ القرآن يشير في هذه الآية إِلى أصنام كانت معروفة لدى قبائل العرب حيث انتخبت كل قبيلة صنماً من هذه الأصنام ووضعت له إسماً مؤنثاً. فالصنم «اللات» سمّي هكذا ليكون مؤنثاً لكلمة لفظ الجلالة «الله»، أمّا الصنم «عزى» فهو مؤنث كلمة «أعز» وكذلك أصنام أُخرى مثل «مناة» و«نائله» وأمثالها.

بينما يرى بعض اخر من كبار المفسّرين أنّ القصد من كلمة «اناث» الواردة في الآية ليس المعنى المعروف بالمؤنث، بل أنّ القصد منها هو الجذر اللغوي الذي اشتقت منه هذه اللفظة، أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإِنسان، وأن وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والإِنحناء أمام الأحداث، وبعبارة أوضح: أنّها موجودات لا تملك الإِرادة والإِختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئاً أبداً.

أمّا كلمة «مريد» وهي من حيث الجذر اللغوي مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر، ولهذا سمّي الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد، وعلى هذا فإِنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة، ولم يبق في وجوده شيء من مصادر القوّة.

أو قد تكون هذه الكلمة مأخوذة من الأصل «مرود» بمعنى الطغيان والجبروت، أي أن معبود هؤلاء الوثنيين هو شيطان متكبر متجبر.

والحقيقة أنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إِلى نوعين: بعضها ضعيف

[459]

الإِرادة مطلقاً، والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر، لكي يبيّن أن الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إِنّما يعيش في ضلال واضح مبين.

بعد ذلك كله تشير الآية إِلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضاً من خططه الدنيئة، وقبل كل شيء تؤكد أن الله قد أبعد الشيطان عن رحمته (لعنه الله).

وفي الحقيقة فإِنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة الله، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين، وبديهي أنّ من يكون بعيداً عن رحمة الله كالشيطان، يكون خاوياً من كل خير أو حسن، ولا يمكنه أن يترك خيراً أو حسناً في حياة غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، فهو لن يكون غير نافع فحسب، بل سيكون ضاراً أيضاً.

ثمّ تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضاً من خططه:

أوّلها: أن يأخذ من عباد الله نصيباً معيناً، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان: (وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً) فالشيطان يعلم بعجزه عن اغواء جميع عباد الله، لأنّ من يستسلم لإِرادة الشيطان ويخضع له هم فقط اُولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات، والذين لا إِيمان لهم، أو ضعاف الإِيمان.

والثّانية: خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة: (ولأُضلنهم).

والثّالثة: اشغلهم بالاُمنيات العريضة وطول الامل (ولأُمنينهم)(1).

أمّا الخطّة الرّابعة: ففيها يدعو الشيطان اتباعه إِلى القيام بأعمال خرافية، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية: (ولأمرنّهم فليبتكن أذان الأنعام) وهذه إِشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون

____________________________

1 ـ إنّ عبارة «ولاُمنيّنهم» تعود إِلى المصدر «منى» على وزن «منع» وتعني قياس الشيء أو تقييمه، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى بـ «مني» فمعناها أن قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

[460]

المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الإِنتفاع بهذه الحيوانات.

وخامس: الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإِنسان، هي ما ورد على لسانه في الآية إِذ تقول: (ولأمرنهم فليغيّرن خلق الله ...) وهذه الجملة تشير إِلى أنّ الله قد أوجد في فطرة الإِنسان منذ خلقة إِياه ـ النزعة إِلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد، بالإِضافة إِلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى، ولكن وساوس الشيطان والإِنجراف وراء الأهواء والنزوات تبعد الإِنسان عن الطريق المستقيم الصحيح، وتحرفه إِلى الطرق المعوجة الشاذة.

والشاهد على والقول أيضاً الآية (30) من سورة الرّوم، إِذ تقول: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم).

ونقل عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه فسّره بأنّ القصد من التغيير المذكور في هذه الآية من سورة النساء هو تغيير فطرة الإِنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر الله(1).

وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإِنسان، لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي تؤدي إِلى تغيير السعادة بالشقاء للناس، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كلياً، وهو أنّ أي إِنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه ولياً من دون الله، فقد ارتكب إِثماً وذنباً واضحاً إِذ تقول الآية: (ومن يتخذ الشّيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً).

والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إِعطائه الوعود الكاذبة

____________________________

1 ـ تفسير التبيان، الجزء الثّالث، ص 334.

[461]

لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنه لا يفعل شيئاً بالنسبة لهؤلاء غير الإِغواء والخداع: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إِلاّ غروراً)(1).

وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير اتباع الشيطان، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفراً أبداً، فتقول الآية: (اُولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً)(2).

* * *

____________________________

1 ـ الغرور يعني في الأصل الأثر الواضح للشيء، ولكنه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه، ويطلق على كل شيء يخدع الإِنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإِنسان عن الحق وعن جادة الصواب على أنّه مادة للغرور.

2 ـ المحيص مشتق من المصدر «حيص» ويعني العدول والإِنصراف عن الشيء، وعلى هذا الأساس فإن المحيص هو وسيلة الإِنصراف والفرار.

[462]

الآية

وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحتِهَا الاَْنهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقَّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلا(122)

التّفسير

لقد بيّنت الآيات السابقة أنّ الذين يتخذون الشيطان ولياً لهم، إِنّما ينالهم ضرر واضح ومبين، وأنّ الشيطان يعدهم زيفاً وخداعاً ويلهيهم بالأُمنيات الواهية الخيالية الطويلة العريضة، وإِن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير.

أمّا في هذه الآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ فقد بيّنت مقابل اُولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة، من جنّات وبساتين وأنهار تجري فيها، حيث تقول الآية: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار).

وإنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبداً، وليست كنعم الدنيا الزائلة، فالمؤمنون في الجنّة يتمتعون بما أُوتوه من خير دائماً أبداً، تؤكّد هذه بعبارة (خالدين فيها أبداً).

وإِنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة، حيت تقول الآية:

[463]

(وعد الله حقّاً).

وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع ـ أبداً ـ أن يكون أصدق قولا من الله العزيز القدير في وعوده وفي كلامه، كما تقول الآية: (ومن أصدق من الله قيلا)وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إِمّا عن العجز وإِمّا الجهل والحاجة، والله سبحانه وتعالى منزه عن هذه الصفات.

* * *

[464]

الآيتان

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـبِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً(123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـلِحَـتِ مِن ذَكَر أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً(124)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان ـ وتفاسير أُخرى ـ أنّ المسلمين وأهل الكتاب كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، فكان أهل الكتاب يتباهون بكون نبيّهم قد بعث قبل نبيّ الإِسلام وإِن كتابهم أسبق من كتاب المسلمين، بينما كان المسلمون يفتخرون على أهل الكتاب بأنّ نبيّهم هو خاتم الأنبياء وأن كتابه هو آخر الكتب السماوية وأكملها.

وفي رواية أُخرى، نقل أنّ اليهود كانوا يدعون أنّهم هم الشعب المختار، وأنّ نار جهنم لا تمسّهم إِلاّ لأيّام معدودات، كما ورد في سورة البقرة ـ الآية (80) (وقالوا لن تمسّنا النّار إِلاّ أيّاماً معدودة ...) وأن المسلمين كانوا يقولون، ردّاً على كلام اليهود هذا: بأنّهم خير الأُمم لأنّ الله قال في شأنهم: (كنتم خير أُمّة

[465]

أخرجت للناس ...)(1) ولذلك نزلت الآية الأخيرة هذه ودحضت كل تلك الدعاوى وحددت قيمة كل شخص بما يقوم به من أعمال.

التّفسير

امتيازات حقيقية وأُخرى زائفة:

لقد بيّنت هذه الآية واحداً من أهم أعمدة أو أركان الإِسلام، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إِلى دعاوى وأُمنيات هذا الإِنسان مطلقاً، بل أن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإِنسان وإِيمانه وأنّ هذا مبدأ ثابت، وسنّة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الأُمم جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ...)وتستطرد فتقول: (من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً).

وكذلك الذين يعملون الخير، ويتمتعون بالإِيمان، سواء أكانوا من الرجال أو النساء ـ فإِنّهم يدخلون الجنّة ولا يصيبهم أقل ظلم أبداً، حيث تقول الآية: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فاُولئك يدخلون الجنّة ولا يظلمون نقيراً)(2).

وبهذه الصورة يعمد القرآن إِلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة، معتبراً الإِعتبارات والإِرتباطات المصطنعة الخيالية والإِجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إِذا قيست برسالة دينية، ويعتبر الإِيمان بمباديء الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.

وفي تفسير الآية الأُولى من الآيتين الأخيرتين حديث نقلته مصادر الشيعة

____________________________

1 ـ آل عمران، 110.

2 ـ لقد أوضحنا المراد من عبارة «نقير» في تفسير الآية 53 من نفس هذه السورة.

[466]

والسنّة، مفاده أنّ المسلمين حين نزلت هذه الآية استولى عليهم الرعب وأخذوا يبكون خوفاً، لمعرفتهم بأنّ الإِنسان معرض للخطأ ويحتمل كثيراً صدور ذنوب منه، فلو فرض عدم وجود عفو أو غفران وأن يؤاخذ كل إِنسان بجريرته، فإِنّ الأمر سيكون في غاية الصعوبة، لذلك لجؤوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروا له أن هذه الآية قد أفقدتهم كل أمل، فأقسم النّبي لهم بالله أنّه ما جاءت به الآية هو الصحيح، ولكنه بشّرهم بأنّها ستكون خير محفز لهم للتقرب إِلى الله والقيام بالأعمال الصالحة، وإِنّ ما سيصيبهم من محن ومصائب وآلام حتى لو كانت من وخز شوكة سيكون كفارة لذنوبهم(1).

سؤال:

من الممكن أن يستدل البعض من الجملة القرآنية التالية: (ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً) على أن قضية الشفاعة ونظائرها قد اُلغيت بهذه الآية بصورة تامّة، فيعتبرونها دليلا لإِلغاء الشفاعة بصورة مطلقة.

الجواب:

لقد أشرنا سابقاً إِلى أن الشفاعة لا تعني أنّ الشفعاء من أمثال الأنبياء والأئمة والصالحين لهم جهاز أو تنظيم مستقل يقابل قدرة الله، بل الصحيح هو أنّ الشفعاء لا يشفعون لأحد إِلاّ بإِذن الله، وعلى هذا الأساس فإِنّ مثل هذه الشفاعة ستعود في النهاية إِلى الله وتعتبر فرعاً من ولاية ونصرة وعون الله.

* * *

____________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 553.

[467]

الآيتان

وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا(125) وَللهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُّلِ شَىْء مُّحِيطاً(126)

التّفسير

لقد تحدثت الآيات السابقة عن أثر الإِيمان والعمل، كما بيّنت أن إِتّباع أي مذهب أو شريعة غير شرع الله لا يغني عن الإِنسان شيئاً، والآية الحاضرة تداركت كل وهم قد يطرأ على الذهن من سياق الآيات السابقة، فأوضحت أفضيلة شريعة الإِسلام وتفوقها على سائر الشرائع الموجودة، حيث قالت (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتّبع ملّة إِبراهيم حنيفاً).

ومع أنّ هذه الآية قد جاءت بصيغة الإِستفهام، إلاّ أِنّها تهدف إِلى كسب الإِعتراف من السامع بالحقيقة التي أوضحتها.

لقد بيّنت الآية ـ موضوع البحث ـ أُموراً ثلاثة تكون مقياساً للتفاضل بين الشرائع وبياناً لخيرها:

1 ـ الإِستسلام والخضوع المطلق لله العزيز القدير، حيث تقول الآية: (أسلم

[468]

وجهه لله)(1).

2 ـ فعل الخير، كما تقول الآية: (وهو محسن) والمقصود بفعل الخير ـ هنا ـ كل خير يفعله الإِنسان بقلبه أو لسانه أو عمله، وفي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذكره صاحب تفسير الثقلين في تفسيره للآية ـ هذه ـ وهو جواب لمن سأل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)تحديد معنى الإِحسان، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «أن تعبد الله كأنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنّه يراك».

فالإِحسان في هذه الآية هو كل عمل ينجزه الإِنسان ويقصد به التعبد لله والتقرب إِليه، وأن يكون الإِنسان لدى إنجازه لهذا العمل قد جعل الله نصب عينيه، وكأنّه يراه، فإِن كان هو يعجز عن رؤية الله فإِن الله يراه ويشهد على أعماله.

3 ـ إِتّباع شريعة إِبراهيم النقية الخالصة، كما في الآية: (واتبع ملّة إِبراهيم حنيفاً)(2).

ودليل الإِعتماد على شريعة إِبراهيم ما ذكرته الآية نفسها في آخرها: إِذ تقول: (واتّخذ الله إِبراهيم خليلا).

ما هو معنى الخليل؟

إِنّ كلمة «خليل» قد تكون مشتقة من المصدر «خلّة» على وزن «حجّة» الذي يعني الصداقة، وقد يكون اشتقاقها من المصدر «خلة» على وزن «ضربة» بمعنى الحاجة.

____________________________

1 ـ الوجه في اللغة هو مقدمة الرأس، أو ذلك الجزء من البدن الذي يشمل الجبهة والعينين والأنف والفم والجبين، ولما كان الوجه بمثابة مرآة لروح الإِنسان وقلبه، وفيه الحواس التي تربط باطن الإِنسان بالعالم الخارجي، لذلك جاء في الآية التعبير عنه بذات الإِنسان ونفسه.

2 ـ إنّ عبارة «ملّة» الواردة في الآية أعلاه تعني «الشريعة أو الدين» والفرق بين الملّة والدين أن الأُولى لا تنسب إِلى الله، أي لا يقال «ملّة الله» ويمكن أن تضاف إِلى النّبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إِلى لفظ الجلالة فيقال: «دين الله» أو «شريعة الله» كما يمكن إضافتهما إِلى النّبي أيضاً، وعبارة «حنيف» تعني الشخص الذي يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.

[469]

وقد اختلف المفسّرون في أي المعنيين أقرب إِلى مفهوم الآية موضوع البحث.

فرأى البعض منهم أنّ المعنى الثّاني أقرب لحقيقة هذه الآية، لأنّ إِبراهيم(عليه السلام)كان يؤمن بأنّه محتاج إِلى الله في كل شؤونه بدون استثناء، ولكن مفسّرين آخرين يرون أنّه ما دامت الآية تتحدث عن منزلة وهبها الله لنبيه إِبراهيم فالمقصود بكلمة «الخليل» الواردة هو «الصديق» لأننا لو قلنا أنّ الله قد انتخب إِبراهيم صديقاً له، يكون أقرب كثيراً إِلى الذهن من قولنا أن الله انتخب إِبراهيم ليكون محتاجاً إِليه. لأنّ الحاجة إِلى الله لا تقتصر على إِبراهيم وحده، بل يشاركه ويساويه فيها جميع المخلوقات، فالكل محتاجون إِلى الله دون استثناء، وكان تقول الآية (15) من سورة فاطر: (يا أيّها الناس أنتم الفقراء إِلى الله) وهذا على عكس الصداقة والخلّة مع الله التي لا يتساوى فيها كل المخلوقات.

وفي رواية عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: «أنّه (الله) إِنّما اتّخذ إِبراهيم خليلا لطاعته ومسارعته إِلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إِلى خلته» وتدل هذه الرواية(1)أيضاً بأن عبارة «خليل» الواردة في الآية المذكورة إِنّما تعني الصديق ولا تعني غيره.

وعلى هذا الأساس لنرى ما الذي امتاز به إِبراهيم لينال هذه المنزلة العظيمة من الله، لقد ذكرت الروايات الواردة في هذا المجال عللا مختلفة تكون بمجملها دليلا لهذا الإِنتخاب، ومن هذه الروايات قول الإِمام الصّادق(عليه السلام) «إِنّما اتّخذ الله إِبراهيم خليلا لأنّه لم يرد أحداً ولم يسأل أحداً غير الله»(2).

وتفيد روايات أُخرى أن إِبراهيم قد حاز هذه الدرجة لكثرة سجوده لله، وإِطعامه للجياع وإِقامة صلاة الليل، أو لسعيه في طريق مرضاة الله وطاعته.

____________________________

1 ـ مجمع البيان في هامش الآية الشريفة.

2 ـ عيون أخبار الرضا، وتفسير الصافي في هامش الآية المذكورة وفي تفسير البرهان الجزء الأوّل، ص 417.

[470]

بعد ذلك تتحدث الآية التالية بملكية الله والمطلقة وإِحاطته بجميع الأشياء، حيث تقول: (ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطاً)وهذه إِشارة إِلى أنّ الله حين انتخب إِبراهيم خليلا له، ليس من أجل الحاجة إِلى إِبراهيم فالله منزّه عن الإِحتياج لأحد، بل أن هذا الإِختيار قد تمّ لما لإِبراهيم من صفات وخصال وسجايا طيبة بارزة لم توجد في غيره.

* * *

[471]

الآية

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـبِ فِى يَتَـمَى النِّسَآءِ الَّـتىِ لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَنِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـمَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً(127)

التّفسير

عود على حقوق المرأة:

تجيب الآية الأخيرة هذه على أسئلة وردت حول النساء من قبل المسلمين (وبالأخص حول اليتامى منهنّ) فتخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتبيّن له أنّ الله هو الذي يفتي في الأسئلة التي وجهت إِليك يا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حول الأحكام الخاصّة بحقوق النساء، فتقول: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم ...).

وتضيف الآية إِنّ ما ورد في القرآن الكريم حول الفتيات اليتامى اللواتي كنتم تتصرفون في أموالهنّ، ولم تكونوا لتتزوجوا بهنّ، ولم تدفعوا أموالهنّ إِليهنّ لكي يتزوجن من آخرين، فإِنّه يجيب على قسم آخر من اسئلتكم ويبيّن لكم قبح ما كنتم تعملون من ظلم بحق هؤلاء النسوة، (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى

[472]

النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ وترغبون أن تنكحوهنّ ...)(1).

ثمّ توصي الآية الكريمة بالأولاد الذكور الصغار الذين كانوا يحرمون من الإِرث وفق التقاليد الجاهلية، فتؤكد ضرورة رعاية حقوقهم، حيث تقول: (والمستضعفين من الولدان).

كما تعود الآية فتكرر التأكيد على حقوق اليتامى، فتذكر أن الله يوصيكم في أن تراعوا العدالة في تعاملكم مع اليتامى: (وأن تقوموا لليتامى بالقسط ...).

وفي الختام تجلب الآية الإِنتباه إِلى أن أي عمل خير يصدر منكم وبالأخص إِذا كان في حق اليتامى والمستضعفين ـ فإِنّه لا يخفى على الله ـ وإِنّكم ستنالون أجر ذلك في النهاية، حيث تقول الآية: (وما تفعلوا من خير فإِنّ الله كان به عليماً).

هذا ويجب الإِلتفات إِلى أنّ عبارة (يستفتونك) مشتقة من المصدر «فتوى» أو «فتيا» ومعناها الإِجابة على كل سؤال معضل، ولما كانت هذه الكلمة تعود في الأصل إِلى كلمة «فتى» أي الشاب اليافع، فمن الممكن أن الفتوى كانت تستخدم للتعبير عن الإِجابة على الأسئلة المستحدثة، وبعد ذلك أصبحت تطلق بصورة شاملة على كل أنواع الأجوبة الخاصّة بالمسائل المنتخبة.

* * *

____________________________

1 ـ بناء على التّفسير الذي أوردناه بشأن الآية أعلاه يتبيّن لنا أنّ عبارة «ما يتلى» مبتدأ وخبرها جملة «يفتيكم فيهنّ» التي حذفت للقرينة الموجودة في القسم السابق من الآية. كما أنّ عبارة «ترغبون» هنا تعني عدم الميل والرغبة، حيث تشير القرائن إِلى تقدير «عن» بعد عبارة «ترغبون» في هذه الآية والفرق بين «رغب عنه» و«رغب فيه» واضح.

[473]

الآية

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الاَْنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(128)

سبب النّزول

لقد ورد في الكثير من كتب التّفسير والحديث، في سبب نزول هذه الآية، أنّه كان في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شخص يدعى «رافع بن خديج» وكانت له زوجتان، إِحداهما كبيرة السن عجوز، والأُخرى شابة، فطلق «رافع» زوجته العجوز (اثر خلافات بينهما) لكنه ـ قبل أي تنتهي عدّتها ـ عرض عليها الصلح مشترطاً عليها أن لا تضجر إِذا قدم عليها زوجته الشابة، أو أن تصبر حتى تنتهي عدتها فيتم الفصل والفراق بينهما، فقلبت زوجته العجوز الشرط أو الإِقتراح الأوّل، فاصطلحا، فنزلت هذه الآية الكريمة مبيّنة حكم هذا العمل.

[474]

التّفسير

الصّلح خير:

لقد قلنا سابقاً ـ في هامش الآيتين (34 و35) من نفس سورة النساء ـ إِنّ كلمة «نشوز» مشتقة من المصدر «نشز» بمعنى «الأرض المرتفعة» وحين تستخدم هذه العبارة في شأن الرجل والمرأة تعني ذلك «التكبر» و«الطغيان».

وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة، وفي هذه الآية إِشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إِذا أحست من زوجها التكبر والإِعراض عنها، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: (وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً).

ولمّا كانت المرأة تتنازل عن بعض حقوقها طوعاً وعن طيب خاطر ومن غير إِكراه فلا ذنب في هذا العمل، حيث عبّرت الآية عن ذلك بعبارة «فلا جناح» أي لا ذنب، للدلالة على الحقيقة المذكورة.

وعند النظر إِلى سبب نزول الآية، نستخلص منها مسألتين فقهيتين:

الأُولى: إِنّ حكماً مثل تقسيم أيّام الأُسبوع بين الزوجات، له طابع الحق أكثر من طابع الحكم، ولذلك فبإِمكان المرأة التخلي عن هذا الحق بشكل تام إِذا شاءت أو بصورة جزيئة.

والمسألة الثّانية: إِنّ التراضي والتصالح لا يشترط أن يكون بالمال، بل يصح أن يكون بالتنازل عن حق من الحقوق.

بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن، حيث تقول: (والصلح خير) وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها تبيّن قانوناً كلياً عاماً شاملا، وتؤكد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإِنسانية السليمة، ولذلك فلا تسوغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إِلاّ في

[475]

الحالات الإِستثنائية الطارئة.

وهذا الأمر على عكس ما يصوّره الماديون من أنّ الصراع من أجل البقاء هو الأصل في حياة الموجودات الحيّة، ويزعمون أن التكامل يحصل من خلال هذا الصراع.

وقد كان هذا النوع من التفكير سبباً في بروز الكثير من النزاعات الدّموية والحروب في القرون الأخيرة، لكن الإِنسان لا يقاس بالحيوانات الأُخرى المفترسة بسبب ما يملكه من عقل وإِحساس، وإِنّ تكامله يتمّ في ظل التعاون وليس في ظل النزاع، ومن حيث المبدأ فإِن الصراع من أجل البقاء حتى في الحيوانات لا يعتبر مبدأ مقبولا للتكامل(1).

وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إِلى أنّ الإِنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث أنّ كل إِنسان يسعى إِلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شيء منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية: (وأحضرت الأنفس الشح).

ولذلك فلو أحسّ كلّ من الزوجين بأنّ البخل هو منبع الكثير من الخلاف وأدركوا حقيقة البخل وأنّه من الصفات القبيحة، وسعوا لإِصلاح ذات بينهم وأبدوا العفو والصفح، فسوف لا يؤدي هذا إِلى زوال الخلاف والنزاع العائلي فحسب، بل سيؤدي أيضاً إِلى إِنهاء الكثير من الصراعات الإِجتماعية.

ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب إِليهم في نهايتها ودعوا إِلى فعل الخير والتزام التقوى، ونبهوا إِلى أنّ الله يراقب أعمالهم دائماً فليحذروا الإِنحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا المجال: (وإِن تحسنوا وتتقوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً).

* * *

____________________________

1 ـ من أجل معرفة تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع راجع الجزء الثّاني من هذا التّفسير في فصل «الصراع من أجل البقاء».

[476]

الآيتان

وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلِّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَسِعاً حَكِيماً(130)

التّفسير

العدالة شرط في تعدد الزّوجات:

نستنتج من الجملة التي وردت في نهاية الآية السابقة ـ التي تمّ البحث عنها والتي دعت الرجال إِلى فعل الخير والتزام التقوى ـ إنّها تعتبر نوعاً من التهديد للأزواج من الرجال، بأن يراقبوا حالهم ولا ينحرفوا قيد شعرة عن جادة الحق والعدالة لدى التعامل مع زوجاتهم.

وقد يرد إعتراض وهو: إِنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ والعلاقات القلبية أمر بعيد المنال، فكيف يمكن إِذن والحالة هذه اتباع العدل مع الزوجات؟

ورداً على الإِعتراض المذكور توضح الآية (129) من سورة النساء، بأنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ بين الزوجات أمر غير ممكن، مهما بذل الإِنسان من سعي في هذا المجال فتقول الآية: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو

[477]

حرصتم)ويتبيّن من عبارة (ولو حرصتم) هذه وجود أشخاص بين المسلمين كانوا يسعون كثيراً لتحقيق تلك العدالة المطلوبة، ولعل سعيهم ذلك كان من أجل الحكم المطلق الذي طالب المسلمين باتّباع العدل من زوجاتهم والذي ورد في الآية الثّالثة من سورة النساء، التي تقول: (... وإِن خفتم ألا تعدلوا فواحدة).

بديهي أنّ أي حكم سماوي لا يمكن أن ينزل على خلاف فطرة البشر، كما لا يمكن أن يكون تكليفاً بما لا يطاق، ولمّا كانت العلاقات القلبية تنتج عن عوامل يكون بعضها خارجاً عن إِرادة الإِنسان، لم يحكم الله بتحقيق العدالة في مجال الحبّ القلبي بين الزوجات، أمّا فيما يخص الأعمال وأسلوب التعامل ورعاية الحقوق بين الأزواج ممّا يمكن للإِنسان تحقيقه، فقد تمّ التأكيد على تحقيق العدالة فيه.

ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم، طالبت الآية الرجال بأن لا يظهروا الميل الكامل لإِحدى الزوجات إِذا تعسر عليهم تحقيق المساواة في حبّهم لهنّ جميعاً، كي لا يضيع حق الأُخريات ولا يحرن في أمرهنّ ماذا يفعلن! حيث تقول الآية: (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ...).

وتحذر الآية في آخرها اُولئك الذين يجحفون في حقّ زوجاتهم، وتطالبهم بأن يتبعوا طريق الإِصلاح والتقوى، ويعرضوا عمّا فات في الماضي، كي يشملهم الله برحمته وعفوه، فتقول الآية: (وأن تصلحوا وتتقوا فإِن الله كان غفوراً رحيماً ...).

لقد وردت روايات اشتملت على مواضيع تخص مسألة تحقيق العدالة بين الزّوجات، وتبيّن عظمة هذا الحكم والقانون الإِسلامي.

من هذا الروايات ما روي عن علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الاُخرى»(1).

____________________________

1 ـ تفسير التبيان، الجزء الثّالث، ص 350.

[478]

وروي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن أبائه(عليهم السلام) «أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهن».(1)

وكان معاذ بن جبل له إمرأتان ماتتا في الطاعون أقرع بينهما أيّهما تدفن قبل الاُخرى؟(2) أي أيّهما يقدم أوّلا في الدفن لكي يتجنب ما من شأنه أن يخدش العدل المفروض اتباعه بين الزوجات.

جواب على سؤال ضروري:

كنّا قد نوهّنا ـ في هامش الآية (3) من نفس هذه السورة ـ بأنّ بعضاً ممن ليس لهم علم استنتجوا ـ من ضم تلك الآية إِلى هذه الآية ـ أن تعدد الزوجات مشروط بتحقيق العدالة بينهنّ، وأنّه لمّا كان تحقيق العدالة أمراً غير ممكن، فلذلك قالوا بأنّ الإِسلام قد منع تعدد الزوجات.

ويفهم من الروايات الإِسلامية أنّ أوّل من طرح هذا الرأي هو «ابن أبي العوجاء» وكان من أصحاب المذهب المادي، ومن المعاصرين للإِمام الصّادق(عليه السلام)، وجاء طرحه لرأيه هذا في نقاش له مع المفكر الإِسلامي المجاهد «هشام بن الحكم» فلما أعيى «هشاماً» الجواب توجه من بلدته الكوفة إِلى المدينة المنورة «لمعرفة الجواب» فقدم على الإِمام الصّادق(عليه السلام) فتعجب الإِمام من مقدمه قبل حلول موسم الحج أم العمرة، ولكن هشاماً أخبر الإِمام بسؤال ابن أبي العوجاء، فكان جواب الإِمام الصّادق(عليه السلام) على السؤال هو أنّ المقصود بالعدالة الواردة في الآية الثّالثة من سورة النساء، هي العدالة في النفقة (وضرورة رعاية الحقوق الزوجية وأُسلوب التعامل مع الزوجة) أمّا العدالة الواردة في الآية (29)1 من نفس السورة (والتي اعتبر تحقيقها أمراً مستحيلا) فالمقصود بها العدالة في

____________________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ المصدر السابق.

[479]

الميول القلبية، (وعلى هذا الأساس فإِن تعدد الزوجات ليس ممنوعاً ولا مستحيلا إِذا روعيت فيه الشروط الإِسلامية)، فلما رجع هشام بالجواب إِلى ابن ابي العوجاء حلف هذا الاخير أن هذا الجواب ليس من عندك.

ومعلوم أنّ تفسيرنا لكلمتي العدالة ـ الواردتين في الآية الثّالثة والآية (129) من سورة النساء ـ بمعنين يختلف أحدهما عن الآخر، إِنّما هو للقرينة الواضحة الواردة مع كل من الآيتين المذكورتين، لأنّ الآية الأخيرة تأمر الإِنسان أن لا يميل ميلا شديداً لإِحدى زوجاته ويترك الأُخريات في الحيرة من شأنهنّ، ولهذا فهي تدل على جواز تعدد الزوجات مع اشتراط أن لا يحصل إجحاف بحق إِحداهنّ لحساب الأُخرى، مع الإِذعان باستحالة تحقق المساواة في الحب القلبي لكلا الزوجتين، أمّا في الآية الثّالثة من سورة النساء فقد ورد التصريح في أوّلها بجواز تعدد الزوجات.

أمّا الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فهي تشير إِلى هذه الحقيقة، وهي أنّه لو استحال مواصلة الحياة الزوجية للطرفين ـ الزوج والزوجة ـ واستحال الإِصلاح بينهما، فإِنّهما ـ والحالة هذه ـ غير مرغمين على الإِستمرار في مثل هذه الحياة المُرّة الكريهة، بل يستطيعان أن ينفصلا عن بعضهما وعليهما اتخاذ موقف شجاع وحاسم في هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل، لأنّهما لو انفصلا في مثل تلك الحالة فإِن الله العليم الحكيم سيغنيهما من فضله ورحمته، فلا يعدمان الأمل في حياة مستقبلية أفضل، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: (وإِن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً).

* * *

[480]

الآيات

وَللهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً(131) وَللهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا(132) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِأَخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً(133) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً(134)

التّفسير

لقد أوضحت الآية السابقة أن إِذا اقتضت الضرورة لزوجين أن ينفصلا عن بعضهما دون أن يجدا حلا بديلا عن الإِنفصال فلا مانع من ذلك، وليس عليهما أن يخافا من حياة المستقبل، لأن الله سيشملهما بكرمه وفضله، ويزيل احتياجتهما برحمته وبركته.

أمّا في الآية ـ موضوع البحث ـ فإِنّ الله يؤكّد قدرته على إِزالة ورفع تلك الإِحتياجات، لأنّه مالك ما في السموات وما في الأرض (ولله ما في السموات وما في الأرض) وإِنّ من يملك ملكاً لا نهاية له كهذا الملك، ويملك قدرة لا نفاذ

[481]

لها أبداً، لن يكون عاجزاً ـ مطلقاً ـ عن رفع احتياجات خلقه وعباده.

ولكي تؤكّد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر، تشير الآية إِلى أنّ اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طلب منهم جميعاً كما طلب منكم مراعاة التقوى (ولقد وصينا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم وإِيّاكم أَنِ اتَّقوا الله ...).

بعد ذلك تتوجه الآية إِلى مخاطبة المسلمين، فتؤكد لهم أن الإِلتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم، وأن ليس لله بتقواهم حاجة، كما تؤكد أنّهم إِذا عصوا وبغوا، فإِنّ ذلك لا يضرّ الله أبداً، لأنّ اللّه هو مالك ما في السّموات وما في الارض، فهو غير محتاج إلى أحد أبداً، ومن حقّه أن يشكره عباده دائماً وأبداً، (وإن تكفروا فإِن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيّاً حميداً).

الغنى وعدم الحاجة هما من صفات الله سبحانه وتعالى ـ حقيقة ـ لأنّه عزَّ وجلّ غني بالذات، وارتفاع حاجات غيره وزوالها إِنّما يتمّ بعونه ومدده، وكل المخلوقات محتاجة إِليه احتياجاً ذاتياً، لذلك فهو يستحق ـ لذاته ـ أن يشكره عباده ومخلوقاته، كما أنّ كمالاته التي تجعله أهلا للشكر ليست خارجة عن ذاته، بل هي كلّها في ذاته، وهو ليس كالمخلوقات التي تمتلك صفاتاً كمالية عرضية خارجية مكتسبة من الغير.

وفي الآية التالية جرى التأكيد ـ وللمرة الثّالثة ـ على أنّ كل ما في السموات وما في الأرض هو ملك لله، وإِنّ الله هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات (ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا).

وقد يرد سؤال ـ هنا ـ عن سبب تكرار موضوع واحد لثلاث مرات وفي فواصل متقاربة جدّاً، وهل أن هذا التكرار من أجل التأكيد على الأمر الوارد في هذا الموضوع، أم هناك سرّ آخر؟

وبالإِمعان في مضمون الآيات يظهر لنا أن الموضوع المتكرر ينطوي في كل

[482]

مرّة على أمر خاص:

ففي المرّة الأُولى حيث تحمل الآية وعداً لزوجين بأنّهما إِذا انفصلا فإِن الله سيغنيهما ولأجل إِثبات قدرة الله على ذلك، يذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض.

أمّا في المرّة الثّانية فإِنّ الآية توصي بالتقوى، ولكي لا يحصل وهم بأن إطاعة هذا الأمر ينطوي على نفع أو فائدة لله، أو أن مخالفته ينطوي على الضرر له، فقد تكررت الجملة للتأكيد على عدم حاجة الله لشيء، وهو مالك ما في السموات وما في الأرض.

وهذا الكلام يشبه في الحقيقة ما قاله أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في مستهل خطبة الهمّام الواردة في كتاب نهج البلاغة حيث قال(عليه السلام): «بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيّاً عن طاعتهم آمناً عن معصيتهم لأنه لا تضرّه معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه»(1).

ويذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض للمرّة الثّالثة كمقدمة للموضوع الذي يلي في الآية (133)، ثمّ يبيّن ـ عز من قائل ـ أنّه لا يأبه في أن يزيل قوماً عن الوجود، ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعداداً وعزماً وأكثر دأباً في طاعة الله وعبادته، والله قادر على هذا الأمر (إن يشأيذهبكم أيّها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً).

وفي تفسير «التبيان» وتفسير «مجمع البيان» نقلا عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه حين نزلت هذه الآية ربت على كتف سلمان الفارسي وقال بأن المعنى بالآخرين في الآية هم قوم من العجم من بلاد فارس.

وهذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تنبؤ بالخدمات الكبيرة التي قدمها المسلمون الإِيرانيون إِلى الإِسلام.

____________________________

1 ـ نهج البلاغه، الخطبة 193.

[483]

والآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية، ورد الحديث فيها عن أُناس يزعمون أنّهم مسلمون، ويشاركون في ميادين الجهاد، ويطبقون أحكام الإِسلام، دون أن يكون لهم هدف إِلهي، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إِلى أنّ الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا، لأنّ الله عنده ثواب الدنيا والآخرة معاً (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة).

فلماذا لا يطلب ـ ولا يرجوا ـ هؤلاء، الثوابين معاً؟! والله يعلم بنوايا الجميع، ويسمع كل صوت، ويرى كل مشهد، ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم، (وكان الله سميعاً يصيراً).

وتكرر هذه الآية الأخيرة حقيقة أنّ الإِسلام لا ينظر فقط إِلى الجوانب المعنوية والأُخروية، بل أن ينشد لأتباعه السعادتين المادية والمعنوية معاً.

* * *

[484]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِالْوَلِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَتَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(135)

التّفسير

العدالة الإِجتماعية:

على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ مبدأ أساسياً وقانوناً كلياً في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإِقامة العدالة (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ...).

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ كلمة «قوامين» هي جمع لكلمة «قوّام» وهي صيغة مبالغة من «قائم» وتعني «كثير القيام» أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءاً من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الإِنحراف عن العدل مخالفاً ومناقضاً لطبعهم وروحهم.

[485]

والإِتيان بكلمة «القيام» في هذا المكان، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإِنسان حين يريد القيام بأي عمل، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل، وعلى هذا الأساس فإِن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإِرادة الرّاسخة والإِجراء لإِنجاز العمل، حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إِلى القيام لدى ممارسة عمله.

ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر، وهو أنّ كلمة «القائم» تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إِلى اليمين أو الشمال، وعلى هذا فإِن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيداً لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إِلى أي جهة كانت.

ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة «الشهادة» فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه (شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين  والأقربين ...).

وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات، وبالأخص المجتمعات الجاهلية، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون.

وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أنّ المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم إِلى المدينة يتجنبون الإِدلاء بالشهادة لإِعتبارات القرابة والنسب، إِذا كانت الشهادة تؤدي إِلى الاضرار بمصالح اقربائهم، فنزلت الآية المذكورة محذرة لمثل هؤلاء(1).

ولكن ـ وكما تشير الآية الكريمة ـ فإِنّ هذا العمل لا يتناسب وروح الإِيمان،

____________________________

1 ـ تفسير المنار، الجزء الخامس، ص 455.

[486]

لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماماً للإِعتبارات في مجال الحق والعدل، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل.

وتفيد هذه الآية أنّ للأقارب الحق في الإِدلاء بالشهادة لصالح ـ أو ضد ـ بعضهما البعض، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إِلاّ إِذا كانت القرائن تشير إِلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع).

وتشير الآية بعد ذلك عوامل الإِنحراف عن مبدأ العدالة، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإِدلاء بالشهادة العادلة، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإِنسان من أجل الفقراء، يجب أن تكون سبباً في الإِمتناع عن الادلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء، لأنّ الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية الله، ولا الفقير سيبيت جوعاناً بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال: (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما).

وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب اتّباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إِذ تقول الآية: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)(1).

ويتّضح من هذه الجملة ـ بجلاء ـ أن مصدر الظلم والجور كلّه، هو اتّباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.

ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكّد القرآن هذا الحكم مرّة أُخرى، فيبيّن أنّ الله ناظر وعالم بأعمال العباد ـ فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب

____________________________

1 ـ يمكن أن تكون عبارة «تعدلوا» اشتقاقاً إمّا من مادة «العدالة» أو من مادة «العدول» فإن كانت من مادة «العدالة» يكون معنى الجملة القرآنية هكذا: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل، وأما إذا كانت من مادة «العدول» يكون المعنى هكذا: فلا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتبعوا الهوى في سبيل الإِنحراف عن الحق.

[487]

الحق عن حقّه، أو تحريف الحق، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول الآية: (وإن تلووا(1) أو تعرضوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً).

وجملة (أن تلووا) تشير ـ في الواقع ـ إِلى تحريف الحق وتغييره، بينما تشير جملة «تعرضوا» إِلى الإِمتناع عن الحكم بالحق، وهذا هو ذات الشيء المنقول عن الإِمام الباقر(عليه السلام)(2).

والطريف أن الآية اختتمت بكلمة (خبيراً) ولم تختتم بكلمة «عليماً» لأنّ كلمة «خبير» تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعاً على جزئيات ودقائق موضوع معين، وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإِنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إِظهار الباطل حقاً، ويجازي على هذا العمل.

وتثبت الآية اهتمام الإِسلام المفرط بقضية العدالة الإِجتماعية، وإِن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الإِهتمام الذي يوليه الإِسلام لمثل هذه القضية الإِنسانية الإِجتماعية الحساسة، وممّا يُؤسف له كثيراً أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإِسلامي السامي، وإِن هذا هو سرّ تخلف المسلمين.

* * *

____________________________

1 ـ إن عبارة «تلووا» مشتقة من المصدر «لي» على وزن «طي» وتعني المنع والإِعاقة وقد وردت في الأصل بمعنى اللي والبرم.

2 ـ تفسير التبيان، الجزء الخامس، ص 356.

[488]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَـبِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَـبِ الَّذِى أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـلا بَعِيداً(136)

سبب النّزول

نقل عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في شأن جمع من كبار شخصيات أهل الكتاب ـ مثل عبد الله بن سلام وأسد بن كعب وأخيه أسيد بن كعب ونفر آخر من هؤلاء ـ والسبب هو أنّهم قدموا منذ البداية على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: إِنّهم قد آمنوا به وبكتابه السماوي وبموسى والتوراة والعزير، ولم يؤمنوا ببقية الأنبياء، فنزلت هذه الآية وأعلمتهم ضرورة الإِيمان بجميع الأنبياء والكتب السماوية(1).

التّفسير

يتبيّن من سبب النّزول أنّ الكلام في الآية موجه إِلى جمع من مؤمني أهل

____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان والمنار.

[489]

الكتاب الذين قبلوا الإِسلام، ولكنهم لعصبيات خاصّة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإِسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإِيمان والإِقرار والإِعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، لأنّ هؤلاء جميعاً يسيرون نحو هدف واحد، وهم مبعوثون من مبدأ واحد (علماً بأن لكل واحد منهم مرتبة خاصّة به، فكل واحد منهم جاء ليكمل ما أتى به النّبي أو الرّسول الذي سبقه من شريعة ودين).

ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإِنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل، فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها، وأنّ العصبيات ليس بإِمكانها الوقوف أمام الحقائق، لذلك تقول الآية الكريمة: (يا أيّها الذين آمنوا آمِنوا باللّه ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من  قبل ...).

وبعض النظر عن سبب النّزول المذكور، فإِنّنا لدى تفسيرنا لهذه الآية نحتمل أن يكون الخطاب موجهاً فيها لعامّة المؤمنين، اُولئك الذين اعتنقوا الإِسلام إِلاّ أنّه لم يتغلغل بعد في أعماق قلوبهم، ولهذا السبب يطلب منهم أن يكونوا مؤمنين من أعماقهم.

كما يوجد احتمال آخر، وهو أنّ الكلام في هذه الآية موجه لجميع المؤمنين الذين آمنوا بصورة إِجمالية بالله والأنبياء، إِلاّ أنّهم ما زالوا لم يتعرفوا على جزئيات وتفاصيل العقائد الإِسلامية.

ومن هذا المنطلق يبيّن القرآن أنّ المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعتقدوا بجميع الأنبياء والكتب السماوية السابقة وملائكة الله، لأن عدم الإِيمان بالمذكورين يعطي مفهوم إِنكار حكمة الله، فهل يمكن أن يترك الله الحكيم الملل السابقة بدون قائد أو زعيم يرشدهم في حياتهم؟!

وهل أنّ الملائكة المعنيين بالآية هم ملائكة الوحي ـ فقط ـ الذين يعد

[490]

الإِيمان بهم جزءاً لا يتجزأ من الإِيمان الضروري بالأنبياء والكتب السماوية، أو أنّهم جميع الملائكة؟ فكما أن بعض الملائكة مكلّفون بأمر الوحي والتشريع، يلتزم جمع آخر منهم بتدبير وإِرادة عالم الكون والخليقة; وإِن الإِيمان بهم في الحقيقة جزء من الإِيمان بالله سبحانه وتعالى وقد بيّنت الآية ـ في آخرها ـ مصير الذين يجهلون هذه الحقائق، حيث قالت: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيداً).

وفي هذه الآية اعتبر الإِيمان واجباً وضرورياً بخمسة مبادىء، فبالإِضافة إِلى ضرورة الإِيمان بالمبدأ والمعاد، فإن الإِيمان لازم وضروري بالنسبة إِلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.

إِنّ عبارة «ضلال بعيد» عبارة دقيقة، وتعني أنّ الذين لا يؤمنون بالمبادىء الخمسة المارة الذكر، قد انجرفوا خارج الصراط أو الطريق المبدئي، وأن عودتهم إِلى هذا الطريق لا تتحقق بسهولة.

* * *

[491]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لَيَغْفِرَلَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا(137) بَشِّرِ الْمُنَـفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَـفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنيِنَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً(139)

التّفسير

مصير المنافقين المعاندين:

تماشياً مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار وضلالهم البعيد، تشير هذه الآيات الأخيرة إِلى وضع مجموعة من الكفار الذين يتلوّنون في كل يوم تلون الحرباء، فهم في يوم إِلى جانب المؤمنين، وفي يوم آخر إِلى جانب الكفار، ثمّ إِلى جانب المؤمنين، وفي النهاية إِلى جانب الكفار المعاندين، حتى يموتوا على هذه الحالة!

فالآية الأُولى من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء، فتؤكد بأنّ الله لن يغفر لهم أبداً، ولن يرشدهم إِلى طريق الصواب: (إنّ الذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا).

[492]

إِنّ هذا السلوك الحربائي في التلون المتوالي، إمّا أن يكون نابعاً من الجهل وعدم إِدراك الأّسس الإِسلامية، وإمّا أن يكون خطّة نفّذها المنافقون والكفار المتطرفون من أهل الكتاب لزعزعة إِيمان المسلمين الحقيقيين، وقد سبق شرح هذا الموضوع في الآية (72) من سورة آل عمران.

ولا تدل الآية ـ موضوع البحث ـ على عدم قبول توبة أمثال هؤلاء، ولكنها تتناول أفراداً يموتون وهم في كفر شديد، فإِنّ هؤلاء ـ نتيجة لأعمالهم ـ لا يستحقون العفو والهداية إِلاّ إِذا غيروا اسلوبهم ذلك.

ثمّ تؤكّد الآية التالية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول: (بشر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً).

واستخدام عبارة (بشر) في الآية إِنّما جاء من باب التهكم والإِستهزاء بالأفكار الخاوية الواهية التي يحملها هؤلاء المنافقون، أو أنّ العبارة مشتقة من المصدر «بشر» بمعنى الوجه، وفي هذه الحالة تحتمل معاني واسعة فتشمل كل خبر يؤثر في سحنة الإِنسان، سواء كان الخبر مفرحاً أو محزناً.

وقد أشارت الآية الأخيرة إِلى المنافقين بأنّهم يتخذون الكفار اصدقاءاً وأحباءاً لهم بدلا من المؤمنين، بقولها: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين).

ثمّ يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين، وهل أنّهم يريدون حقّاً أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية: (أيبتغون عندهم العزة) بينما العزة والشرف كلها لله (فإِنّ العزّة لله جميعاً) لأنّها تنبع من العلم والقدرة، وأن الكفار لا يمتلكون من القوّة والعلم شيئاً، ولذلك فإِنّ علمهم لا شيء أيضاً، ولا يستطيعون إِنجاز شيء لكي يصبحوا مصدراً للعزّة والشرف.

إِنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزّة

[493]

في شؤونهم الإِقتصادية والسياسية والإِجتماعية والثقافية عن طريق إِنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإِسلام، بل إنّ عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإِلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله، وأعداء الإِسلام لا عزّة لديهم لكي يهبوها لأحد، وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إِليهم والإِعتماد عليهم، لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقاً، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الإِنتهازي.

* * *

[494]

الآية

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَـتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيث غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَـفِقِينَ وَالْكَـفِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً(140)

سبب النّزول

نقل عن ابن عباس أنّ نفراً من المنافقين كانوا يحضرون اجتماعات لعلماء اليهود، حيث كانوا يستهزئون بآيات القرآن في تلك الإِجتماعات، فنزلت هذه الآية وأوضحت النهاية المشؤومة لهذه اللقاءات.

التّفسير

النّهي عن المشاركة في مجالس يعصى الله فيها:

لقد ورد في الآية (68) من سورة الانعام أمر صريح إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يعرض عن أُناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق، وطبيعي أنّ هذا الحكم لا ينحصر بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحده بل يعتبر حكماً وأمراً عاماً يجب على جميع المسلمين اتّباعه، وقد جاء هذا الحكم على شكل خطاب موجه إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)،

[495]

وفلسفته جلية واضحة، لأنّه يكون بمثابة كفاح سلبي ضد مثل تلك الأعمال.

والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرّة أُخرى، وتحذر المسلمين مذكرة إياهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الإِستهزاء ويدخلوا في حديث آخر، تقول الآية: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إِذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره).

بعد ذلك تبيّن الآية لنا نتيجة هذا العمل، وتؤكد أن من يشارك في مجالس الإِستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير اُولئك المستهزئين، تقول الآية: (إِنّكم إِذاً مثلهم).

ثمّ تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون، وإِن الله يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم، تقول الآية: (إِنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً).

إِنّ الآية تخبرنا عن عدة أمور:

1 ـ إِنّ المشاركة في مجالس المعصية تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب المعصية، حتى لو بقي المشارك ساكتاً أو ساكناً و لم يشارك في الإِستهزاء بنفسه، لأنّ السكوت في مثل هذه الأحوال دليلا على رضا صاحبه بالذنب المرتكب.

2 ـ لو تعذر النهي عن المنكر بالشكل الإِيجابي له، فلابدّ أن يتحقق النهي ولو بالصورة السلبية، مثل أن يبتعد الإِنسان عن مجالس المعصية ويتجنب الحضور فيها.

3 ـ إِنّ الذين يشجعون أهل المعاصي بسكوتهم وحضورهم في مجالس المعصية، إِنّما يجازون ويعاقبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.

[496]

4 ـ لا ضير من مجالسة الكفار إِن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر بالآيات الإِلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطراً آخر، ويدل على إِباحة المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها الله قوله تعالى في الآية: (حتى يخوضوا في حديث غيره).

5 ـ إِنّ المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين، إِنّما تدل على وجود روح النفاق لدى الشخص المجامل، وذلك لأن المسلم الحقيقي الواقعي لا يمكنه أن يشارك في مجلس يعصى فيه الله ويستهزأ بآياته الكريمة وأحكامه السامية، دون أن يبدي إعتراضاً على هذه المعاصي، أو ـ على الأقل ـ أن عدم رضاه عليها بترك هذا المجلس.

* * *

[497]

الآية

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَـفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا(141)

التّفسير

صفات المنافقين:

تبيّن هذه الآية ـ وآيات أُخرى تالية ـ قسماً آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة، فتؤكد أنّ المنافقين يسعون دائماً لإِستغلال أي حدث لصالحهم، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعماً مؤثراً للمؤمنين في هذا المجال، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم: (الذين يتربصون بكم فإِن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ...).

وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإِسلام فيتقربون إِلى هؤلاء الأعداء، ويعلنون لهم الرضى والموافقة

[498]

بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الإِستسلام لهم، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإِسلام تقول الآية: (وإِن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ...).(1)

وعلى هذا المنول تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى إنتصار المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم، ولإِظهار المنّة على المسلمين، وفي حالة إِنكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى الكفار، وتدفعهم إِلى الإِصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم، وتهيىء لهم أسباب الفوز المادي، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار، وتارة شركاؤهم في الجريمة، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.

ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء، ويبيّن أنّهم ـ لا محالة ـ سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة، وعند ذلك ـ أي في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة ـ سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين، فتقول الآية في هذا المجال: (فالله يحكم بينكم يوم القيامة).

ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء، تؤكد هذه الآية ـ في آخرها ـ بأنّ الله لن يجعل للكافرين مجالا للإِنتصار أو التسلط على المسلمين، وذلك حيث تقول الآية: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا).

وهنا يرد هذا السؤال، وهو: هل أنّ العبارة الأخيرة تفيد عدم إنتصار الكفار على المؤمنين من حيث المنطق، أو أنّها تشمل عدم إنتصار الكفار من الناحية العسكرية أيضاً؟

ولما كانت كلمة «سبيل» نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاماً،

____________________________

1 ـ إن عبارة «إستحوذ» مشتقة من «حوذ» وهي تعني هنا دفع أو ساق إِلى القيام بأمر معين.

[499]

لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإِضافة إِلى عدم إنتصارهم من حيث المنطق على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والإِقتصادية، بل ولا في أي مجال آخر.

وما نشاهده من إنتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة، إِنّما هو بسبب أنّ المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا ـ في الحقيقة ـ المسلمين، المؤمنين الحقيقيين، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإِيمانية، وتخلوا عن مسؤولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامّة، فلا كلام عن الإِتحاد والتضامن والأُخوة الإِسلامية بينهم، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقيقي، كما لم يبادروا إِلى إكتساب العلم الذي أوجبه الإِسلام وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعا إِلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة الوفاة، حيث قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أُطلب العلم من المهد إِلى اللّحد».

ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.

وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآية على أنّ الكفار لا يمكن أن يتسلطوا على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية، ونظراً للعمومية الملحوظة في الآية، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضاً.

وممّا يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة «الفتح» بينما عبّرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة «النصيب» وهو إِشارة إِلى أن إنتصار الكفار إِنّما هو نصيب محدود وزائل، وأنّ الفتح والنصر النهائي هو للمؤمنين.

* * *

[500]

الآيتان

إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ يُخَـدِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَـدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَيَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا(142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَـؤُلاَءِ وَمَن يُضلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا(143)

التّفسير

لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين، في عبارة قصيرة، وهي: ـ

1 ـ إِنّ هؤلاء ـ لاجل تحقيق أهدافهم الدنيئة ـ يتوسلون بالخدعة والحيلة، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا الله تعالى أيضاً، ولكنهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم، إِذ هم ـ لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة ـ يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم، تقول الآية في هذا المجال: (إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ...).

ويستفاد التّفسير المذكور أعلاه بالواو الحالية الواردة مع عبارة: (وهو خادعهم).

هناك قصّة مشهورة مفادها أن أحد الأكابر كان ينصح أهل الحرف من

[501]

مواطنيه، بأن ينتبهوا لكي لا يخدعهم المسافرون الغرباء، فقال أحدهم: كيف يمكن للغرباء البسطاء الذين لا يعرفون شيئاً عن وضع المدينة وأهلها، أن يخدعوا أهل الحرف فيها نحن بمقدورنا خداع اُولئك الغرباء، فأجابهم بأن قصده من الإِنخداع بالغرباء هو هذا المعنى، أي أن تنالوا من هؤلاء ثروة تافهة بالخداع، وتفقدوا بذلك ثروة الإِيمان العظيمة!

2 ـ إِنّ المنافقين بعيدون عن رحمة الله، ولذلك فهم لا يتلذذون بعبادة الله والتقرب إليه، ويدل على ذلك أنّهم حين يريدون أداء الصّلاة يقومون إِليها وهم كسالى خائرو القوى، تقول الآية في هذا الأمر: (وإِذا قاموا إِلى الصّلاة قاموا كسالى...).

3 ـ ولما كان المنافقون لا يؤمنون باللّه وبوعوده، فهم حين يقومون بأداء عبادة معينة، إِنّما يفعلون ذلك رياءاً ونفاقاً وليس من أجل مرضاة الله، تقول الآية: (يراؤن الناس ...).

4 ـ ولو نطقت ألسن هؤلاء المنافقين بشيء من ذكر الله، فإِنّ هذا الذكر لا يتجاوز حدود الألسن، لأنّه ليس من قلوبهم، ولا هو نابع من وعيهم ويقظتهم، وحتى لو حصل هذا الأمر فهو نادرٌ وقليل، تقول الآية: (ولا يذكرون الله إِلاّ قليلا).

5 ـ إِنّ المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطّة لطريقة الحياة معينة، ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين حقّاً ولا هم يقفون إِلى جانب الكفار ظاهراً، وفي هذا تقول الآية الكريمة: (مذبذبين بين ذلك لا إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء...).

ويحسن هنا الإِلتفات إِلى أنّ كلمة «مذبذب» اسم مفعول من الأصل «ذبذب» وهي تعني في الأصل صوتاً خاصاً يسمع لدى تحريك شيء معلق إِثر تصادمه بأمواج الهواء، وقد اُطلقت كلمة «مذبذب» على الإِنسان الحائر الذي يفتقر إِلى

[502]

الهدف أو إِلى أي خطّة وطريقة للحياة.

هذا واحد من أدق التعابير التي أطلقها القرآن الكريم على المنافقين، كما هي إِشارة إِلى إمكانية معرفة المنافقين عن طريق هذا التذبذب الظاهر في حركتهم ونطقهم، كما يمكن أن يفهم من هذا التعبير أن المنافقين هم كشيء معلق يتحرك بدون أي هدف وليس لحركته أي اتجاه معين، بل يحركه الهواء من أي صوب كان اتجاهه ويأخذه معه إِلى الجهة التي يتحرك فيها.

وتيبن الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين، وتوضح أنّهم أُناس قد سلب الله عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي سلكوه بأنفسهم، فهم لن يهتدوا أبداً إِلى طريق النجاة، لأنّ الله كتب عليهم التيه والضلالة عقاباً لهم على أعمالهم.

تقول الآية الكريمة في ذلك: (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا)، (وقد شرحنا معنى الإِضلال، وبيّنا كيف أنّه لا يتنافي مع حرية الإِرادة والإِنتخاب، وذلك في الجزء الأوّل من هذا التّفسير في هامش الآية (26) من سورة البقرة).

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336519

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:07

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net