00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة آل عمران من آية 116 ـ 138 من ص ( 657 ـ 708 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُوْلَئكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هَـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيح فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْم ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون (117)

التّفسير

في مقابل العناصر التي تبحث عن الحقّ، وتؤمن به من الذين وصفتهم الآية السابقة، هناك عناصر كافرة ظالمة وصفهم الله سبحانه في هاتين الآيتين بقوله : (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً) لأنه لا ينفع في الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الإمتيازات المادية، في هذه الحياة : (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم)(1).

يبقى أن نعرف لماذا أُشير في هذه الآية إلى الثروة والأولاد من بين بقية

_____________________________

1 ـ الشعراء : 88 و 89.

(657)

الإمكانات ؟ وجه ذلك أن أهم الإمكانات المادية تنحصر في أمرين :

الأول : الطاقة البشرية وقد ذكرت الأولاد كأفضل نموذج لها.

الثاني : الثروة الاقتصادية.

وأما بقية الإمكانات المادية الاُخرى فتتفرع من هاتين.

إن القرآن ينادي بصراحة بأن الإمتيازات المالية والقدرة البشرية الجماعية لا تعد إمتيازاً في ميزان الله، وأن الإعتماد عليها وحدها هو الخطأ الجسيم إلاَّ إذا قرنت بالإيمان والعمل الصالح، واستخدمت في سبيلهما، وإلاَّ فستؤول بأصحابها إلى الجحيم وعذابها الخالد. (اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

ولما كان الكلام عن الثروة والمال كان لابدّ من الإشارة إلى مسألة الإنفاق فيقول سبحانه : (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته).

و «الصرّ» مأخوذ من «الأصرار» لغة، وتعني الشد بقوّة وشدّة، والمراد بها هنا هي الريح الشديدة سواء كانت مصحوبة بالبرد القارص، أو الحر اللافح.

إنفاق الكفّار :

وفي هذه الآية إشارة إلى كيفية إنفاق الكفّار وبذلهم المصحوب بالرياء، ضمن إعطاء مثل رائع يجسد مصير هذا الإنفاق والبذل، ويصوره في أبلغ تصوير.

القرآن يمثل إنفاق الكفّار بالريح الشديدة الباردة أو اللافحة جدّاً التي إذا هبت على الزرع لا تبقي منه شيئاً ولا تذر، بل تترك الزرع حطاماً والأرض بلاقع.

إنه لا شكّ أن النسائم الخفيفة تنعش الزرع وتحيي الطبيعة، فنسائم الربيع تفتح الأزهار، وتصب في عروق الأشجار والنباتات روحاً جديدة وحياة ونشاطاً، وتساعد على لقاحها، وكذلك يكون الإنفاق الصحيح والبذل الذي ينبع

(658)

من الإخلاص والإيمان. إنه يعالج مشاكل المجتمع كما يكون له أثر حسن وعميق في نفس الباذل المنفق، لأنه يرسخ فيها السجايا الإنسانية ويعمق مشاعر العطف واللطف والرفق والحبّ بما يستشعره من آثار إيجابية لإنفاقه، وبما يسببه الإنفاق في رفع الآلام الإجتماعية، وتوفير السعادة للآخرين.

أما إذا تبدلت هذه النسائم الرقيقة إلى رياح عاصفة لافحة، أو زوبعة شديدة البرودة، فسوف تؤدي إلى إحراق جميع النباتات والأزهار أو تجميدها.

وهذا هو حال غير المؤمن في إنفاقه، فإنه لا ينفق ماله بدافع صحيح، بل ينفقه رياءاً وسمعة وأهواء وأهداف شريرة، وبذلك يكون كالريح العاتية، اللافحة أو الباردة، تأتي على كلّ ما أنفقه كما تأتي على الزرع، فتصيبه بالجفاف والفناء، والدمار والهلاك.

إن مثل هذا الإنفاق لا يعالج أية مشكلة إجتماعية (لأنه صرف للمال في غير محله في الأغلب) كما لا ينطوي على أي أثر أخلاقي ونفسي للمنفق الباذل.

والذي يلفت النظر أن القرآن الكريم يقول في هذه الآية (حرث قوم ظلموا أنفسهم) وهو يشير إلى أن هؤلاء المزارعين تعرضوا لما تعرضوا له لأنهم تساهلوا في إختيار مكان الزرع وزمانه، ولأنهم زرعوا في أرض معرضة للرياح الشديدة، أو أنهم إختاروا للزرع وقتاً يكثر فيه هبوب رياح السموم، وبهذا ظلموا أنفسهم، وكذلك حال غير المؤمن في إنفاقه، فإنه ظلم نفسه بإنفاقه غير الصحيح وغير المناسب من حيث الزمان والمكان والهدف، وبهذا عرض أمواله وثرواته للرياح.

من كلّ ما أشرنا إليه، وبملاحظة القرائن الموجودة في الآية تبين أن هذا التمثيل لإنفاق الكفّار بالزرع الذي أهلكته الرياح العاصفة تمثيل به من ناحيتين :

الأولى : تشبيه لإنفاق الكافر بالزرع في غير محله وموسمه المناسب.

الثانية : تشبيه لنواياه وأهدافه من الإنفاق بالرياح العاصفة الباردة أو

(659)

السموم، ولهذا فإن المقام لا يخلو عن تقدير شيء محذوف وأن معنى قوله : (مثل ما ينفقون)أن مثل نوايا الكافر في الإنفاق مثل الرياح الباردة أو السموم التي تهب على الزرع فتفنيه.

قال جماعة من المفسّرين : إن هذه الآية إشارة إلى الأموال التي يستخدمها الكفّار للإيقاع بالإسلام وصد حركته، والتي يحركون بها الأعداء ضد النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). أو الأموال التي يعطيها اليهود لأحبارهم ليحرفوا آيات الله عن مواضعها ويزيدوا أو ينقصوا في الكتب السماوية.

ولكن من الواضح جدّاً أن هذه الآية تنطوي على معنى واسع يشمل هذا الرأي وغيره.

ثمّ إنه سبحانه يعقب على ما قال بشأن إنفاق الكفّار الذي لا يعود عليهم إلاَّ بالوبال والويل بقوله : (وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون).

أجل، إن العمل الفاسد لا يجر على صاحبه إلاَّ النتيجة الفاسدة، فما يحصده الكفّار من إنفاقهم من الوبال والبطلان، إنما هو بسبب نواياهم الباطلة الفاسدة من هذا الإنفاق.

* * *

(660)

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الاَْيَـاتِ إِن كُنتُم تَعْقِلُونَ (118)هَـأَنتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمْ الاَْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةُ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بَمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)

سبب النّزول

عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت عندما أقدم بعض المسلمين ـ بسبب ما كان بينهم وبين اليهود من الصداقة أو القرابة أو الجوار أو الحلف أو الرضاع ـ على

(661)

ذكر أسرار المسلمين عندهم، وبهذا كان اليهود الذين يتظاهرون بالمودة للمسلمين ـ وهم ألدّ أعداء الإسلام في باطنهم ـ يطلعون على أسرار المسلمين، فنزلت هذه الآيات تحذر اُولئك الرجال من المسلمين من مغبة هذه الصداقات والعلاقات، وتوصيهم بأن لا يتخذوا اليهود بطانة يسرون إليهم بأسرارهم، لأنهم لا يتورعون عن استخدام كلّ وسيلة ممكنة ـ حتّى هذه الأسرار ـ لإلحاق الأذى والضرر بكم، لأنهم يهمهم ـ دائماً ـ أن تكونوا في نصب وتعب ومحن ومشاكل، وعناء وشقاء.

التّفسير

لا تتخذوا الأعداء بطانة :

هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية، وتحذر المؤمنين ـ ضمن تمثيل لطيف ـ بان لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصّة بهم، قال سبحانه :

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة(1) من دونكم...).

وهذا يعني أن الكفّار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم، كما لا يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم، وذلك لأنهم لا يتورعون عن الكيد والإيقاع بهم ما استطاعوا : (لا يألونكم خبالاً)(2).

_____________________________

1 ـ «البطانة» مأخوذة من بطانة الثوب، وهي الوجه الذي يلي البدن لقربه منه، ونقيضها «الظهارة» والبطانة في المقام كناية عن خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويطلعون على أسراره.

2 ـ «الخبال» في الأصل بمعنى ذهاب شيء، وهي تطلق في الأغلب على الأضرار التي تؤثر على عقل الإنسان وتلحق به الضرر.

(662)

فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع اُولئك الكفّار ـ بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك ـ من أضمار الشر للمسلمين، وتمني الشقاء والعناء لهم (ودوا ما عنتم) أي احبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.

إنهم ـ لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم ـ يحاولون دائماً أن يراقبوا تصرفاتهم، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم، بيد أن آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحياناً في أحاديثهم وكلماتهم، عندما تقفز منهم كلمة أو اُخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم : (قد بدت البغضاء من أفواههم).

وتلك حقيقة من حقائق النفس يذكرها الإمام أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) في إحدى كلماته إذ يقول :

«ما أضمر أحد شيئاً إلاَّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(1).

إنه لابدّ أن يَرْشَح شيء إلى الخارج إذا ما امتلأ الداخل، كما يطفح الكيل فتنفضح السرائر، وتبدو الدخائل.

وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم، ثمّ إنه سبحانه يقول : (وما تخفي صدورهم أكبر) أي أن ما يبدو من أفواههم ما هي إلاَّ شرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.

ثمّ إنه تعالى يضيف قائلاً : (قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) أي أن ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه، فهو يوقفكم على وسيلة جداً فعالة لمعرفة ما يكنه الآخرون ويضمرونه تجاهكم، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة ـ الحكمة 26.

(663)

البغض في مقابل الحبّ :

يحسب بعض المسلمين أن في مقدورهم أن يكسبوا حبّ الأعداء والأجانب إذا أعطوهم حبهم وودهم، وهو خطأ فظيع، وتصور باطل، يقول سبحانه : (ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه).

إنه سبحانه يخاطب هذا الفريق من المسلمين ويقول لهم : إنكم تحبون من يفارقكم في الدين لما بينكم من الصداقة أو القرابة أو الجوار، وتظهرون لهم المودة والمحبة، والحال أنهم لا يحبونكم أبداً، وتؤمنون بكتبهم وكتابكم المنزل من السماء ـ على السواء ـ في حين أنهم لا يؤمنون بكتابكم ولا يعترفون بأنه منزل من السماء.

إن هذا الفريق من أهل الكتاب ينافقون ويخادعون (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ).

ولاشكّ أن هذا الغيظ لن يضر المسلمين في الواقع، إذن فقل لهم يا رسول الله : (قل موتوا بغيظكم) واستمروا على هذا الحنق فإنه لن يفارقكم حتّى تموتوا.

هذه هي حقيقة الكفّار التي غفلتم عنها، ولم يغفل عنها سبحانه : (إن الله عليم بذات الصدور).

ثمّ إن الله يذكر علامة اُخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفّار إذ يقول (ان تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها).

ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة بالمسلمين ؟

هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه : (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط).

وعلى هذا يستفاد من ذيل هذه الآية أن أمن المسلمين، وسلامة حوزتهم من

(664)

كيد الأعداء، يتوقف على استقامة المسلمين وحذرهم وتقواهم، ففي مثل هذه الحالة فقط يمكنهم أن يضمنوا أمنهم وسلامتهم من كيد الكائدين.

تحذير إلى المسلمين :

حذر الله سبحانه المسلمين في هذه الآية من أن يتخذوا أعداءهم بطانة يسرون إليهم بأسرارهم وأُمورهم وهو تحذير عام لا يختص بزمان دون زمان، ولا بمكان دون مكان، ولا بطائفة من المسلمين دون طائفة.

فلابدّ أن يحذر المسلمون من هذا العمل في جميع الأزمنة والأمكنة، حفاظاً على أمن المسلمين وكيانهم.

ولكننا مع الأسف نجد الكثيرين من أتباع القرآن قد غفلوا عن هذا التحذير الإلهي المهم، فتعرضوا لتبعات هذا العمل وآثاره السلبية.

فها نحن نجد أعداء كثيرين يحيطون بالمسلمين من كلّ جانب، يتظاهرون بمحبة المسلمين وصداقتهم، وربّما أعلنوا تأييدهم في بعض الاُمور، ولكنهم بما يظهرون ـ في بعض الأحيان ـ من مواقف عدائية يكشفون عن كذبهم، ومع ذلك ينخدع المسلمون بما يتظاهر هؤلاء الأعداء به من صداقة وحب وتأييد، ويعتمدون عليهم أكثر ممّا يعتمدون على إخوانهم من المسلمين المشاركين لهم في العقيدة والمصير. في حين أن الأعداء والأجانب لا يريدون للأمة الإسلامية إلاَّ الشقاء والتأخر، وإلاَّ الهلاك والدمار، ولا يألون جهداً في إثارة المشاكل في وجه المسلمين وإيجاد الصعوبات في حياتهم.

ولا نذهب بعيداً، فإن الأعوام الأخيرة شهدت حربين بين المسلمين وأعدائهم الصهاينة، ففي الحرب الاُولى (حرب حزيران) تحمل المسلمون هزيمة ساحقة ونكسة قاطمة، في حين أنهم في حربهم الثانية (حرب رمضان) استطاعوا

(665)

تحقيق إنتصارات باهرة على الأعداء وتغيّرت الخارطة السياسية لصالحهم. وتمكنوا من دفن اُسطورة الجيش الإسرائيلي والرعب والخوف في صحراء «سيناء» وهضبة «الجولان» منذ الأيّام الاُولى للحرب، وذاق المسلمون أخيراً طعم النصر لأول مرّة في العقود الأخيرة.

ماذا حصل في هذه المدّة القصيرة التي شهدت هذا التحول الكبير ؟ الجواب بحاجة إلى بحث طويل، ولكن من المتيقّن أن أحد الأسباب المؤثرة في تلك الهزيمة وهذا النصر هو أن الأجانب والذين كانوا يظهرون الود والصداقة للمسلمين كانوا على علم بأمر الحرب وتفاصيلها. ولكن في الحرب الثانية لم يطلع على أسرار الحرب سوى اثنان أو ثلاثة من رؤساء البلدان الإسلامية، وهذا هو أحد عوامل النصر، وشاهد حيّ على عظمة هذا الدستور السماوي والقرآني.

* * *

(666)

الآيتان

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَـاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)  إذْ هَمَّت طَّآئفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

التّفسير

من هنا تبدأ الآيات التي نزلت حول واحدة من أهم الأحداث الإسلامية ألا وهي معركة «أُحد» لأن القرائن التي توجد في الآيتين الحاضرتين يستفاد منها أن هاتين الآيتين نزلتا بعد معركة أُحد، وتشير إلى بعض وقائعها المرعبة، وعلى هذا أكثر المفسّرين.

في البدء تشير الآية الأُولى إلى خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة لإختيار المحل الذي يعسكر فيه عند «أُحد» وتقول (وإذا غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال).

أي واذكر عندما خرجت غدوة من المدينة تهيىء للمؤمنين مواطن للقتال لغزوة «أُحد».

(667)

ولقد كانت بين المسلمين في ذلك اليوم آراء مختلفة وكثيرة ـ كما ستعرفها قريباً ـ حول الموطن الذي ينبغي أن يعسكر فيه المسلمون، بل وكيفية مقابلة الأعداء القادمين، وأنه يتعيَّن عليهم أن يتحصنوا بالمدينة، أم يخرجوا إليهم ويحاربوهم خارجها.

ولقد كان هناك خلاف شديد في الرأي بين المسلمين في هذه الاُمور، فاختار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد المشاورة رأي الأغلبية، والتي كانت تتألف ـ في الأكثر من الشباب المتحمسين، وهو الخروج من المدينة ومقاتلة العدو خارجها، بعد الإستقرار عند جبل «أُحد».

ومن الطبيعي أن يكون هناك بين المسلمين من كان يخفي أشياء وأُموراً يحجم عن الإفصاح بها لعلل خاصة، ومن الممكن أن تكون عبارة (والله سميع عليم)ناظرة إلى هذه الأُمور المكنونة، فهو سبحانه سميع لما يقولون، عليم بما يضمرون.

ثمّ إن الآية الثانية تشير إلى زاوية أُخرى من هذا الحدث إذ تقول : (وإذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون).

والطائفتان كما يذكر المؤرخون هما «بنو سلمة» من الأوس و «بنو حارثة» من الخزرج.

فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى المدينة، وهمتا بذلك.

وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنهما كانتا ممّن يؤيد فكرة البقاء في المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال خارجها، وقد خالف النبي هذا الرأي، مضافاً إلى أن «عبدالله بن أبي سلول» الذي التحق بالمسلمين

(668)

على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة، لأن النبي عارض بقاءهم في عسكر المسلمين، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.

ولكن يستفاد من ذيل الآية أن هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار، واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين، ولهذا قال سبحانه (والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون) يعني أن الله ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان على الله بالإضافة إلى تأييده سبحانه للمؤمنين.

ثمّ لابدّ من التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن ذكر هذه المقاطع من غزوة «أحد» بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن لزوم عدم الوثوق بالكفّار، إشارة إلى نموذج واحد من هذه الحقيقة، لأن النبي ـ كما أسلفنا وكما سيأتي تفصيله ـ لم يسمح ببقاء اليهود ـ الذين تظاهروا بمساعدة المسلمين ـ فى المعسكر الإسلامي، لأنهم كانوا أجانب على كلّ حال، ولا يمكن السماح لهم بأن يبقوا بين صفوف المسلمين فيطلعوا على أسرارهم في تلك اللحظات الخطيرة، وأن يكونوا موضع إعتماد المسلمين في تلك المرحلة الحساسة.

غزوه أحد - سبب هذه الغزوة :

هنا لابدّ من الإشارة ـ قبل أي شيء ـ إلى مجموعة الحوادث التي وقعت في هذه الغزوة، فإنه يستفاد من الروايات والنصوص التاريخية الإسلامية، أن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنه قتل منهم سبعون شخصاً وأسر سبعون شخصاً، وقال أبو سفيان يا معشر قريش لا تدعوا

(669)

نساءكم يبكين على قتلاكم فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ أبو سفيان على نفسه العهد على أن لا يقرب فراش زوجته ما لم ينتقم لقتلى بدر.

وهكذا ألبت قريش الناس على المسلمين وحركتهم لمقاتلتهم وسرت نداءات «الإنتقام الإنتقام» في كلّ نواحي مكّة.

وفي السنة الثالثة للهجرة عزمت قريش على غزو النبي، وخرجوا من مكّة في ثلاث آلاف فارس وألفي راجل، مجهزين بكلّ ما يحتاجه القتال الحاسم، وأخرجوا معهم النساء والأطفال والأصنام، ليثبتوا في ساحات القتال.

العباس يرفع تقريراً إلى النبي :

لم يكن العباس عمّ النبي قد أسلم إلى تلك الساعة، بل كان باقياً على دين قريش، ولكنه كان يحب ابن أخيه غاية الحب، ولهذا فإنه عندما عرف بتعبئة قريش وعزمهم الأكيد على غزو المدينة ومقاتلة النبي، بادر إلى إخبار النبي، محمّلاً غفارياً (من بني غفار) رسالة عاجلة يذكر فيها الموقف في مكّة وعزم قريش. وكان الغفاري يسرع نحو المدينة، حتّى أبلغ النبي رسالة عمه العباس، ولما عرف (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخبر إلتقى سعد بن أبي وأخبره بما ذكره له عمه، وطلب منه أن يكتم ذلك بعض الوقت.

النبي يشاور المسلمين

عمد النبي ـ بعد أن بلغته رسالة عمه العباس ـ إلى بعث رجلين من المسلمين إلى طرق مكّة والمدينة للتجسس على قريش، وتحصيل المعلومات الممكنة عن تحركاتها.

(670)

ولم يمض وقت طويل حتّى عاد الرجلان وأخبرا النبي بما حصلا عليه حول قوات قريش وأن هذه القوات الكبيرة يقودها أبو سفيان.

وبعد أيّام استدعى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع أصحابه وأهل المدينة لدراسة الموقف، وما يمكن أو يجب إتخاذه للدفاع، وبحث معهم في أمر البقاء في المدينة ومحاربة الأعداء الغزاة في داخلها، أو الخروج منها ومقاتلتهم خارجها. فاقترح جماعة قائلين «لا نخرج من المدينة حتّى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودروبنا وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلاّ كان الظفر لهم علينا، وكان هذا هو ما قاله «عبدالله بن أبي».

وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يميل إلى هذا الرأي نظراً لوضع المدينة يومذاك، فهو كان (صلى الله عليه وآله وسلم)يرغب في البقاء في المدينة ومقاتلة العدو في داخلها، إلاَّ أن فريقاً من الشباب الأحداث الذين رغبوا في الشهادة وأحبوا لقاء العدو، خالفوا هذا الرأي الذي كان عليه الأكابر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : اخرج بنا إلى عدونا، وقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا : يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا وأنت فينا، لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل منا كان شهيداً، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله، وقال مثلها الآخرون.

وهكذا تزايدت الطلبات بالخروج من المدينة ومقابلة العدو خارجها حتّى أصبح المقترحون بالبقاء أقلية.

فوافقهم النبي ـ رغم أنه كان يمل إلى البقاء في المدينة ـ احتراماً لمشورتهم، ثمّ خرج مع أحد أصحابه ليرتب مواضع استقرار المقاتلين المسلمين خارج المدينة وإختار الشعب من «أُحد» لاستقرار الجيش الإسلامي بإعتباره

(671)

أفضل مكان من الناحية العسكرية والدفاعية.

المسلمون يتهيئون للدفاع :

لقد استشار النبي أصحابه في هذه المسألة يوم الجمعة، ولذلك فإنه بعد إنتهاء المشاورة قام يخطب لصلاة الجمعة وقال بعد حمد الله والثناء عليه :

«انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم».

ثمّ تولى (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه قيادة المقاتلين وقد أمر بأن تعقد ثلاث ألوية، دفع واحد منها للمهاجرين، واثنين منها للأنصار، ثمّ إن النبي قطع المسافة بين المدينة و «أُحد» مشياً على الأقدام، وكان يستعرض جيشه طوال الطريق، ويرتب صفوفهم، يقول المؤرخ المعروف الحلبي في سيرته :

وسار إلى أن وصل «رأس الثنية» وعندها وجد كتيبه كبيره فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هذا ؟ قالوا : هؤلاء خلفاء عبدالله بن أبي اليهودي فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أسلموا ؟ فقيل : لا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «انا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك» فردهم، ورجع عبدالله بن أبي اليهودي ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثة مائة رجل(1).

ولكن المفسّرين كتبوا أن «عبدالله بن أبي» رجع من أثناء الطريق مع جماعة من أعوانه، يبلغون ثلاثمائة رجل، لأنه لم يؤخذ برأيه في الشورى.

وعلى أي حال فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن أجرى التصفية اللازمة في صفوف جيشه واستغنى عن بعض أهل الريب والشكّ والنفاق استقر عند الشعب من «أُحد» في عدوة الوادي إلى الجبل وجعل «أحداً» خلف ظهره واستقبل المدينة.

وبعد أن صلّى بالمسلمين الصبح صف صفوفهم وتعبأ للقتال.

فأمّر على الرمّاة «عبدالله بن جبير» والرماة خمسون رجلاً جعلهم (صلى الله عليه وآله وسلم) على

_____________________________

1 ـ السيرة الحلبية المجلد الثاني الصفحة 233.

(672)

الجبل خلف المسلمين وأوعز إليهم قائلاً :

«إن رأيتمونا قد هزمناهم حتّى أدخلناهم مكّة فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتّى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم».

ومن جانب آخر، وضع أبو سفيان «خالد بن الوليد» في مأتي فارس كميناً يتحينون الفرصة للتسلل من ذلك الشعب ومباغتة المسلمين من ورائهم وقالوا : «إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتّى تكونوا وراءهم».

بدء القتال :

ثمّ اصطف الجيشان للحرب، وراح كلّ واحد منهما يشجع رجاله على القتال بشكل من الأشكال ويحرضهم على الجلاد بما لديه من وسيلة.

وقد كان أبو سفيان يحرض رجاله باسم الأصنام ويغريهم بالنساء الجميلات.

وأمّا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان يحث المسلمين على الصمود والإستقامة، مذكراً إياهم بالنصر الإلهي والتأييدات الربانية.

ها هي تكبيرات المسلمين ونداءات «الله أكبر، الله أكبر» تدوي في جنبات ذلك المكان، وتملأ شعاب «أُحد» وسهولها، بينما تحرض هند والنسوة اللاتي معها من نساء قريش وبناتها الرجال ويضربن بالدفوف ويقرأن الأشعار المثيرة.

وبدأ القتال وحمل المسلمون على المشركين حملة شديدة هزمتهم شر هزيمة، وألجأتهم إلى الفرار وراح المسلمون يتعقبونهم ويلاحقون فلولهم.

ولما علم «خالد» بهزيمة المشركين وأراد أن يتسلل من خلف الجبل ليهجم على المسلمين من الخلف شقه الرماة بنبالهم، وحالوا بينه وبين نيته.

هذه الهزيمة القبيحة التي لحقت بالمشركين دفعت ببعض المسلمين الجديدي العهد بالإسلام إلى التفكر في جمع الغنائم والإنصراف عن الحرب، بظن أن

(673)

المشركين هزموا هزيمة كاملة، حتّى أن بعض الرماة تركوا مواقعهم في الجبل متجاهلين تذكير قائدهم «عبدالله بن جبير» إياهم بما أوصاهم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبق معه إلاَّ قليل ظلوا يحافظون على تلك الثغرة الخطرة في الجبل محافظة على المسلمين.

فتنبه «خالد بن الوليد» إلى قلة الرماة في ذلك المكان، فكر راجعاً بالخيل (وعددهم مائتا رجل كانوا معه في الكمين) فحملوا على «عبدالله بن جبير» ومن بقي معه من الرماة وقتلوهم بأجمعهم، ثمّ هجموا على المسلمين من خلفهم.

وفجأة وجد المسلمون أنفسهم وقد أحاط بهم العدو بسيوفهم، وداخلهم الرعب، فإختل نظامهم، وأكثر المشركون من قتل المسلمين فاستشهد ـ في هذه الكرة ـ «حمزة» سيد الشهداء وطائفة من أصحاب النبي الشجعان، وفر بعضهم خوفاً، ولم يبق حول النبي سوى نفر قليل جداً يدافعون عنه ويردون عنه عادية الأعداء، وكان أكثرهم دفاعاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورداً لهجمات العدو، وفداء بنفسه هو «الإمام علي بن أبي طالب» (عليه السلام) الذي كان يذب عن النبي الطاهر ببسالة منقطعة النظير، حتّى أنه تكسر سيفه فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيفه المسمى بذي الفقار، ثمّ تترس النبي بمكان، وبقي علي (عليه السلام) يدفع عنه حتّى لحقه ـ حسب ما ذكره المؤرخون ـ ما يزيد عن ستين جراحة في رأسه ووجهه، ويديه وكلّ جسمه المبارك، وفي هذه اللحظة قال جبرائيل «إن هذه لهي المواساة يا محمّد» فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «إنه مني وأنا منه» فقال جبرائيل : «وأنا منكما».

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جبرائيل بين السماء والأرض وهو يقول : « لاسيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي»(1).

وفي هذه اللحظة صاح صائح : قتل محمّد.

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان المجلد الأول الصفحة 497.

(674)

من الصائح : قتل محمّد ؟

يذهب بعض المؤرخين إلى أن «ابن قمئة» الذي قتل الجندي الإسلامي البطل «مصعب بن عمير» وهو يظن أنه النبي، هو الذي صاح «واللات والعزى : لقد قتل محمّد».

وسواء كانت هذه الشائعة من جانب المسلمين،أو العدو فإنها ـ ولاريب ـ كانت في صالح الإسلام والمسلمين لأنها جعلت العدو يترك ساحة القتال ويتجه إلى مكّة بظنّه أن النبي قد قتل وانتهى الأمر، ولولا ذلك لكان جيش قريش الفاتح الغالب لا يترك المسلمين حتّى يأتي على آخرهم لما كانوا يحملونه من غيظ وحنق على النبي، بل ولما كانوا يتركون ساحة القتال حتّى يقتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لأنهم لم يجيئوا إلى «أُحد» إلاّ لهذه الغاية.

لم يرد ذلك الجيش الذي كان قوامه ما يقارب خمسة آلاف ـ وبعد تلك الإنتصارات ـ أن يبقى ولو لحظة واحدة في ساحة القتال، ولذلك غادرها في نفس الليلة إلى مكّة، وقبل أن يندلع لسان الصباح.

إلاّ أن شائعة مقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوجدت زلزالاً كبيراً في نفوس بعض المسلمين، ولذلك فر هؤلاء من ساحة المعركة.

وأما من بقي من المسلمين في الساحة فقد عمدوا ـ بهدف الحفاظ على البقية من التفرق وإزالة الخوف والرعب عنهم ـ إلى أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الشعب من «أُحد» ليطلع المسلمون على وجوده الشريف ويطمئّنوا إلى حياته، وهكذا كان، فإنهم لما عرفوا رسول الله عاد الفارون وآب المنهزمون واجتمعوا حول الرسول ولامهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على فرارهم في تلك الساعة الخطيرة، فقالوا يا رسول الله أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين.

وهكذا لحقت بالمسلمين ـ في معركة أحد ـ خسائر كبيرة في الأموال

(675)

والنفوس، فقد قتل منهم في هذه الموقعة اثنان وسبعون من المسلمين في ميدان القتال، كما جرح جماعة كبيرة، ولكنهم أخذوا من هذه الهزيمة والنكسة درساً كبيراً ضمن إنتصاراتهم في المعارك القادمة، وسوف نعرض بتفصيل عند دراسة الآيات القادمة لآثار هذه الحادثة الكبرى بإذن الله سبحانه.

* * *

(676)

الآيات

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْر وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَـثَةِ ءَالَـف مِّنَ الْمَلاَئكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَـف مِّن الْمَلاَئكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئبِينَ(127)

التّفسير

المرحلة الخطيرة من الحرب :

بعد إنتهاء معركة «أُحد» عاد المشركون المنتصرون إلى مكّة بسرعة، ولكنّهم بدالهم في أثناء الطريق أن لا يتركوا هذا الإنتصار دون أن يكملوه ويجعلوه ساحقاً، أليس من الأحسن أن يعودوا إلى المدينة، وينهبوها ويلحقوا بالمسلمين

(677)

مزيداً من الضربات القاضية وأن يقتلوا محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان لايزال حيّاً ليتخلصوا من الإسلام والمسلمين ويطمئن بالهم من ناحيتهم بالمرّة.

لهذا صدر قرار بالعودة إلى المدينة، ولا ريب أنه كان أخطر مراحل معركة «أُحد» بالنظر إلى ما كان قد لحق بالمسلمين من القتل والجراحة والخسائر، الذي كان قد سلب منهم كلّ طاقة للدخول في معركة جديدة أو لإستئناف القتال، فيما كان العدو في ذروة القوّة والروحية العسكرية التي كانت تمكن العدو من تحقيق إنتصارات جديدة، وإحراز النتيجة لصالحه، فنهاية هذه العودة ونتيجتها كانت معروفة سلفاً.

وقد بلغ خبر العودة هذه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولولا شهامته البالغة، وقدرته المكتسبة من الوحي على الأخذ بزمام المبادرة لإنتهى تاريخ الإسلام وحياته عند تلك النقطة.

في هذه المرحلة الحساسة بالذات نزلت الآيات الحاضرة لتقوي روحية المسلمين وتصعد من معنوياتهم، وفي أعقاب ذلك صدر أمر من النبي إلى المسلمين بالتهيؤ لمقابلة المشركين، فاستعد جميع المسلمين حتّى المجروحين (ومنهم الإمام علي (عليه السلام) الذي كان يحمل في جسمه أكثر من ستين جراحة) لمقابلة المشركين، وخرجوا بأجمعهم من المدينة لذلك.

فبلغ هذا الخبر مسامع زعماء قريش فأرعبتهم هذه المعنوية العالية التي يتمتع بها المسلمون وظنوا أن عناصر جديدة التحقت بالمسلمين وإن هذا يمكن أن يغير نتائج المواجهة الجديدة لصالح المسلمين، ولذلك فكروا في العدول عن قرارهم بمهاجمة المدينة، حفاظاً على قواهم، وهكذا قفلوا راجعين إلى مكة بسرعة، وانتهت القضية عند هذا الحدّ.

وإليك شرحاً للآيات التي نزلت لتقوّي روحية المسلمين، وتجبر ما نزل بهم من هزيمة في هذه المعركة.

(678)

فقد بدأت هذه الآيات بتذكير المسلمين بما تحقق لهم من نصر ساحق بتأييد الله لهم في «بدر»(1) إذ قال سبحانه (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) وقد كان الهدف من هذا التذكير هو شد عزائم المسلمين وزرع الثقة في نفوسهم والإطمئنان إلى قدراتهم، والأمل بالمستقبل، فقد نصرهم الله وهم على درجة كبيرة من الضعف، وقلة العدد وضآلة العدة (حيث كان عددهم 313 مع امكانيات بسيطة قليلة، وكان عدد المشركين يفوق ألف مقاتل مع امكانيات كبيرة).

فإذا كان الأمر كذلك فليتقوا الله، وليجتنبوا مخالفة أوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكونوا بذلك قد أدوا شكر المواهب الإلهية (فاتقوا الله لعلكم تشكرون).

ثمّ تتعرض الآية اللاحقة لذكر بعض التفاصيل حول ما جرى في «بدر» إذ قالت : (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين)أي اذكروا واذكر أيّها النبي يوم كنت تقول للمسلمين الضعفاء آنذاك اخرجوا وسيمدكم الله بالملائكة ألا يكفيكم ذلك لتحقيق النصر الساحق على جحافل المشركين المدججين بالسلاح ؟

نعم أيها المسلمون لقد تحقّق لكم ذلك في «بدر» نتيجة صبركم واستقامتكم، واليوم يتحقّق لكم ذلك أيضاً إذا أطعتم أوامر النبي، وسرتم وفق تعليماته وصبرتم : (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم (2) هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).

على أن نزول الملائكة هذا لن يكون هو العامل الأساسي لتحقيق هذا الإنتصار لكم بل النصر من عند الله، وليس نزول الملائكة إلاَّ لتطمئن قلوبكم (وما جعله الله إلاَّ بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلاّ من عند الله العزيز

_____________________________

1 ـ «بدر» سميت بدر لأن الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر (مجمع البحرين).

   وبدر من حيث اللغة يعني الممتلى الكامل. ولهذا سمي القمر إذا امتلأ : بدراً.

2 ـ «الفور» السرعة التي تقلب المعادلات كما يفور القدر وتتقلب محتوياتها بسرعة.

(679)

الحكيم) فهو العالم بسبل النصر ومفاتيح الظفر، وهو القادر على تحقيقه.

ثمّ إنه سبحانه عقب هذه الآيات بقوله : (ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين).

وهذه الآية وإن ذهب المفسّرون في تفسيرها مذاهب مختلفة، إلاّ أنها ـ في ضوء ما ذكرناه في تفسير الآيات السابقة بمعونة الآيات نفسها وبمعونة الشواهد التاريخية ـ واضحة المراد بيّنة المقصود كذلك. فهي تقصد أن تأييد الله للمسلمين بإنزال الملائكة عليهم إنما هو لأجل القضاء على جانب من قوّة العدو العسكرية، وإلحاق الذلة بهم.

يبقى أن نعرف أن «طرف» الشيء يعني جانبه وقطعة منه. وأمّا «يكبتهم» فيعني الرد بعنف وإذلال.

ثمّ إن هاهنا أسئلة تطرح نفسها حول كيفية نصرة الملائكة للمسلمين ومساعدتهم على تحقيق الإنتصار فسنجيب عليها ـ بإذن الله ـ لدى تفسير الآيات 7 ـ 12 من سورة الأنفال.

* * *

(680)

الآية

لَيْسَ لَكَ مِنَ الاَْمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فإِنَّهُمْ ظَـالِمُونَ (128)

التّفسير

وقع بين المفسّرين في تفسير هذه الآية كلام كثير، إلاّ أن ما هو مسلّم تقريباً هو أن الآية الحاضرة نزلت بعد «معركة أُحد» وهي ترتبط بأحداث تلك المعركة، والآيات السابقة تؤيد هذه الحقيقة أيضاً.

ثمّ إنّ هناك معنيين يلفتان النظر من بين المعاني المذكورة في تفسير هذه الآية وهما :

أولاً : إن هذه الآية تشكل جملة مستقلة، وعلى هذا تكون جملة (أو يتوب عليهم) بمعنى «إلاّ أن يتوب عليهم» ويكون معنى مجموع الآية كالتالي : ليس لك حول مصيرهم شيء، فإنهم قد استحقوا العذاب بما فعلوه، بل ذلك إلى الله، يعفو عنهم إن شاء أو يأخذهم بظلمهم، والمراد بالضمير «هم» إمّا الكفّار الذين ألحقوا بالمسلمين ضربات مؤلمة، حتّى أنهم كسروا رباعية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشجوا جبينه

(681)

المبارك، وأما المسلمين الذين فروا من ساحة المعركة، ثمّ ندموا على ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها واعتذروا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه العفو.

فالآية تقول : إن العفو عنهم، أو معاقبتهم على ما فعلوا، أمر يعود إلى الله تعالى، وأن النبي لن يفعل شيئاً بدون إذنه سبحانه.

وهناك تفسير آخر، وهو أن يعتبر قوله (ليس لك من الأمر شيء) جملة إعتراضية، وتكون جملة (أو يتوب عليهم) جملة معطوفة على (أو يكبتهم)وتعتبر هذه الآية متصلة بالآية السابقة.

وعلى هذا يكون المراد من مجموع الآيتين، السابقة والحاضرة هو : إن الله سيمكنكم من وسائل النصر ويصيب الكفّار بإحدى اُمور أربعة : إما أن يقطع طرفاً من جيش المشركين، أو يردهم على أعقابهم خائبين مخزيين، أو يتوب عليهم إذا أصلحوا، أو يعذبهم بظلمهم، وعلى كلّ حال فإنه سيعامل كلّ طائفة وفق ما تقتضيه الحكمة والعدالة، وليس لك أن تتخذ أي موقف من عندك إذ كلّ ذلك إلى الله تعالى.

ولقد نقلت في سبب نزول هذه الآية روايات عديدة منها أنه لما كان من المشركين يوم «أحد» ما كان من كسر رباعية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وشجه حتّى جرى الدم على وجهه الشريف، ولحق بالمسلمين ما لحق من الخسائر في الأرواح والإصابات في الأبدان قلق النبي على مصير اُولئك القوم، وفكر في نفسه، كيف يمكن أن تهتدي تلك الجماعة المتمادية في غيها وعنادها وقال : «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» ؟ فنزلت الآية وأخبره تعالى فيها أنه ليس إليه إلاّ ما اُمر به من تبليغ الرسالة ودعائهم إلى الهدى، فهو ليس مسؤولاً عن هدايتهم إن لم يهتدوا ولم يستجيبوا لندائه.

تصحيح خطأ :

لابدّ هنا من الإنتباه إلى نقطتين :

(682)

1 ـ إن المفسّر المعروف صاحب تفسير «المنار» يعتقد أن هذه الآية تُعلم المسلمين درساً كبيراً في مجال الإستفادة من الوسائل والأسباب الطبيعية للنصر، وإن وعد الله لهم بإنزال النصر عليهم، ليس بمعنى أن للمسلمين أن يتجاهلوا الوسائل الحربية، والتخطيط العسكري، وما شاكل ذلك من الأسباب المادية اللازمة للقتال ولتحقيق الإنتصار، وإنتظار أن يدعو لهم النبي لينزل عليهم النصر الالهي، دون الأخذ بالأسباب القتالية المتعارفة، ولهذا جاءت الآية تخاطب النبي قائلة (ليس لك من الأمر شيء) بمعنى أن أمر النصر لم يوكل إليك، بل هو إلى الله، وقد جعل الله لتحقيقه سننا ً ونواميس يجب أن يستخدمها الناس حتّى يتحقّق لهم النصر والغلبة (وبالتالي فإن دعاء النبي وإن كان مؤثراً ومفيداً، إلاّ أن له موارد استثنائية خاصّة).

وهذا الكلام وإن كان منطقياً في حد ذاته، إلاّ أنه لا يلائم ما جاء في ذيل الآية إذ يقول سبحانه : (أو يتوب عليهم، أو يعذبهم) ولهذا لا يمكن تفسير الآية بما قاله هذا الكاتب.

2 ـ إن هذه الآية وإن كانت تنفي أن يكون للنبي الحقّ في أن يغفر للكفار والمشركين أو يعذبهم، إلاّ أنها لا تتعارض مع ما يستفاد من الآيات الاُخرى من تأثير دعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعفوه وشفاعته، لأن المقصود في الآية الحاضرة هو نفي أن يكون للنبي كلّ ذلك على نحو الإستقلال، وعلى هذا لاينافي أن يكون له كلّ ذلك (من العفو أو المجازاة) بإذن الله سبحانه.

فله بالتالي أن يعفو ـ بإذن الله ـ لمن أراد، أو يجازي حيث تصح المجازاة، كما أن له أن يهيىء عوامل النصر وأسباب الظفر، بل وله ـ بإذن الله ـ أن يحيي الموتى كما كان يفعل المسيح (عليه السلام) بإذنه سبحانه.

إن الذين تمسكوا بقوله تعالى : (ليس لك من الأمر شيء) لنفي وإنكار قدرة

(683)

الرسول على هذا الأمر نسوا ـ في الحقيقة ـ الآيات القرآنية الأُخرى في هذا المجال.

فالقرآن الكريم يقول في سورة النساء الآية 64 (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً).

فاستغفار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عُد ـ طبق هذه الآية ـ من العوامل المؤثرة لمغفرة الذنوب، وسوف نوضح هذه الحقيقة في أبحاثنا القادمة عند تفسير الآيات المناسبة إن شاء الله.

* * *

(684)

الآية

وَللهِ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129)

التّفسير

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تأكيد لمفاد الآية السابقة، فيكون المعنى هو : أن العفو أو المجازاة ليس بيد النبي، بل هو لله الذي بيده كلّ ما في السماوات وكلّ ما في الأرض، فهو الحاكم المطلق لأنه هو الخالق، فله الملك وله التدبير، وعلى هذا الأساس فإن له أن يغفر لمن يشاء من المذنبين، أو يعذّب، حسب ما تقتضيه الحكمة، لأن مشيئته تطابق الحكمة : (ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء).

ثمّ إنه سبحانه يختم الآية بقوله : (والله غفور رحيم) تنبيهاً إلى أنه وإن كان شديد العذاب، إلاّ أن رحمته سبقت غضبه، فهو غفور رحيم قبل أن يكون شديد العقاب والعذاب.

وهنا يحسن بنا أن نشير إلى ما ذكره أحد كبار العلماء المفسّرين الإسلاميين

(685)

وهو العلاّمة الطبرسي من سؤال وجواب حول هذه الآية، لكونه على إختصاره في غاية الأهمية من الناحية الإعتقادية، فقد ذكر في ذيل هذه الآية أنه : سُئل بعض العلماء : كيف يعذب الله عباده بذنوبهم مع سعة رحمته ؟

فقال : «رحمته لا تغلب حكمته، إذ لا تكون رحمته برقة القلب كما تكون الرحمة منا».

بمعنى أن الرحمة الإلهية لا تكون على أساس عاطفي كما هو الحال فينا، بل إن رحمته ممتزجة دائماً مع حكمته، وحكمته توجب عقوبة المذنبين (إلاّ في موارد خاصّة).

* * *

(686)

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَواْ أَضْعَـافاً مُّضَـاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتىِ أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

التّفسير

حول الإرتباط بين الآيات القرآنية :

الآيات السابقة ـ كما عرفت ـ تحدثت حول معركة «أُحد» وحوادثها ووقائعها، والدروس والعبر المختلفة التي تعلمها منها المسلمون، غير أن هذه الآيات الثلاث، والآيات الست اللاحقة بها تحتوي على سلسلة من البرامج الإقتصادية، والإجتماعية، والتربوية، ثمّ يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع، حديثه حول معركة «أُحد» ووقائعها.

ويمكن أن يكون هذا النوع من الحديث والبيان مبعث إستغراب ودهشة للبعض، إلاّ أن الإنتباه إلى مبدأ أساسي يوضح حقيقة هذا الأمر، ويكشف الغطاء عن سر هذا الأُسلوب. وذلك المبدأ هو :

(687)

إن القرآن ليس كتاباً كبقية الكتب ذات النمط الكلاسيكي الذي يعتمد نظام الفصول والأبواب الخاصة، بل هو كتاب نزل «نجوماً» وبصورة تدريجية طوال ثلاثة وعشرين عاماً، وذلك طبقاً للإحتياجات التربوية المختلفة، وفي أماكن وأزمنة مختلفة، فيوم حدثت معركة أُحد ووقائعها نزلت الآيات التي تتحدث عمّا يرتبط بهذه المعركة من برامج وقضايا حربية، ويوم كانت الحاجة تتطلب بيان بعض البرامج والتعاليم الإقتصادية كالموقف من الربا، أو بعض المسائل الحقوقية كأحكام الزوجية أو بعض القضايا التربوية والأخلاقية كالتوبة كانت تنزل الآيات التي تتناول هذه الأُمور.

فيستنتج من هذا أنه قد لايوجد أي إرتباط خاص بين بعض الآيات وبين ما قبلها أو ما بعدها، وليس من الضروري أن نبحث عن مثل هذا الإرتباط ـ كما يحاول بعض المفسّرين ذلك ـ أو أن نتكلف إفتعال ذلك بين قضايا لم يرد الله سبحانه الإتصال والإرتباط بينها، لأن مثل هذا العمل لا يتفق مع روح القرآن وكيفية نزوله في الحوادث المختلفة، والمناسبات المتنوعة وحسب الإحتياجات والظروف المنفصلة.

على أنه لا ريب في أن جميع السور والآيات القرآنية مرتبطة ومترابطة ـ على وجه ـ وهو أن جميعها تؤلف برنامجاً كاملاً ومنهاجاً متكاملاً مترابطاً لصنع الإنسان وصياغته، وتربيته بأفضل تربية وصياغة وأسماها، كما أنها بمجموعها نزلت لإيجاد مجتمع فاضل، واع متقدم في جميع الأبعاد والجوانب المادية والمعنوية.

وبما قلناه يعلل عدم إرتباط الآيات التسع التي أشرنا إليها مع ما تقدمها أو يلحقها من الآيات في هذه السورة المباركة.

(688)

تحريم الرّبا في مراحل :

كلنا يعرف أن أُسلوب القرآن في مكافحة الإنحرافات الإجتماعية المتجذرة في حياة الناس يعتمد معالجة الأُمور خطوة فخطوة، فهو أولاً يهيىء الأرضية المناسبة، ويُطلع الرأي العام على مفاسد ما يطلب محاربته ومكافحته، ثمّ بعد أن تتهيأ النفوس لتقبل التحريم النهائي يعلن عن التحريم في صيغته القانونية النهائية (ويتبع هذا الأُسلوب خاصة إذا كان ذلك الأمر الفاسد ممّا استشرى في المجتمع، وكانت رقعة إنتشاره واسعة).

كما أننا نعلم أيضاً أن المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصاباً ـ بشدة ـ بداء الربا، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحاً للمرابين. و قد كان هذا الأمر مبعثاً للكثير من المآسي الإجتماعية، ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء أُسلوب المراحل، فحرم الربا في مراحل أربع :

1 ـ يكتفي في الآية 39 من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا إذ قال سبحانه وتعالى : (وما أتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعِفون).

بهذا يكشف عن خطأ الذين يتصورون أن الربا يزيد من ثروتهم، في حين أن إعطاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله هو الذي يضاعف الثروة.

2 ـ يشير ـ ضمن إنتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة ـ إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات، إذ يقول في الآية 161 من سورة النساء : (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه).

3 ـ يذكر في الآية الحاضرة ـ كما سيأتي تفسيرها المفصل ـ حكم التحريم بصراحة، ولكنه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.

(689)

4 ـ وأخيراً أعلن في الآيات 275 إلى 279 من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا، وإعتباره بمنزلة إعلان الحرب على الله سبحانه.

التحريم في الآية الحاضرة :

قلنا إن الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله (اضعافاً مضاعفة).

والمراد من «الربا الفاحش» هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية، بمعنى أن تُضم الزيادة المفروضة أولاً على رأس المال ثمّ يصبح المجموع مورداً للربا، بمعنى أن الزيادة ثانياً تقاس بمجموع المبلغ (الذي هو عبارة عن رأس المال والزيادة المفروضة في المرة الأُولى) ثمّ تضم الزيادة المفروضة ثانياً إلى ذلك المبلغ، وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع(1).

وهكذا يصبح مجموع رأس المال والزيادة في كلّ مرّة رأس مال جديد تضاف عليه زيادة جديدة بالنسبة، وبهذا يبلغ الدين أضعاف المبلغ الأصلي المدفوع إلى المديون حتّى يستغرق كلّ ماله.

ولهذا قال القرآن الكريم : (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة).

ويستفاد من الأخبار والروايات أن الرجل ـ في الجاهلية ـ إذا كان يتخلف عن أداء دينه عند الموعد المقرر طلب من الدائن أن يضيف الزيادة على المبلغ ثمّ يؤخره إلى أجل آخر، وهكذا حتّى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون.

_____________________________

1 ـ فإذا كان أصل المبلغ المدفوع إلى المديون أول مرّة هو (100) والزيادة المفروضة (10) فإذا تخلف عن الأداء ضمت الزيادة (10) إلى المبلغ (100) فيكون رأس المال (110) وأضيفت إلى المجموع زيادة بنسبة (11%) فإذا تخلف عن الأداء ثانياً، ضمت الزيادة(11) إلى (110) فكان المجموع (121) وهكذا فصاعداً.

(690)

وهذا هو السائد بعينه في عصرنا الحاضر ويفعله المرابون الكبار دون رحمة.

ولاشكّ أن مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء، فلا يمكن الإرتداع عنه الإّ بتقوى الله، ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا الظالم بقوله : (واتقوا الله لعلكم تفلحون).

ولكن هل يكفي الأمر بتقوى الله والترغيب في الفلاح في صورة ترك الربا ؟ أم لابدّ من التلويح بالعذاب الأخروي للمرابين ؟ ولهذا قال سبحانه في الآية الثانية (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) فهذه الآية تأكيد لحكم التقوى الذي مرّ في الآية السابقة.

ويوحي التعبير بـ «الكافرين» أن أخذ الربا لا يتفق أساساً مع روح الإيمان، ولهذا ينتظر المرابين ما ينتظر الكافرين من النار والعذاب.

كما يستفاد من ذلك أن النار أعدت أساساً للكافرين، وينال العصاة والمذنبون من هذه النار بقدر شباهتهم بالكفار، وتعاونهم معهم.

ثم إنه سبحانه يمزج ذلك التهديد بشيء من التشجيع والترغيب للمطيعين والممتثلين لأوامره تعالى إذ يقول : (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون).

* * *

(691)

الآيات

وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُها السَّمَـاوَاتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّـاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ (136)

السباق في مضمار السعادة :

بعد أن هددت الآيات السابقة العصاة وتوعدتهم بالعذاب والجحيم، وبشرت الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهية وشوقتهم إليها جاءت الآية الأُولى من هذه الآيات تشبه سعي المطيعين واجتهادهم بالسباق، والمسابقة المعنوية التي تهدف

(692)

الوصول إلى الرحمة الإلهية، والنعم والعطايا الربانية الخالدة (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم).

(وسارعوا) تعني تسابق اثنين أو أكثر للوصول إلى هدف معين فيحاول كلّ واحد ـ باستخدام المزيد من السرعة ـ أن يسبق صاحبه ومنافسه وهو أمر مندوب في الأعمال والأخلاق الصالحة، ومقبوح مذموم في الأفعال السيئة والأخلاق القبيحة.

إن القرآن الكريم يستفيد هنا ـ في الحقيقة ـ من نقطة نفسية هي أن الإنسان لا يؤدي عمله بسرعة فائقة إذا كان بمفرده، وكان العمل من النوع الروتيني، أما إذا اتخذ العمل طابع المسابقة والتنافس الذي يستعقب جائزة قيمة ومكافأة ثمينة نجده يستخدم كلّ طاقاته، ويزيد من سرعته لبلوغ ذلك الهدف، ونيل تلك الجائزة.

ثمّ إذا كان الهدف المجعول في هذه الآية هو «المغفرة» في الدرجة الأُولى فلأن الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران الذنوب، فلابدّ إذن من تطهير النفس من الذنوب أولاً، ثمّ الدخول في رحاب القرب الإلهي، ونيل الزلفى لديه.

هذا هو الهدف أول.

وأما الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو «الجنة» التي يصرح القرآن الكريم أن سعتها سعة السماوات والأرض (وجنة عرضها السماوات والأرض).

ثمّ إن هناك تفاوتاً قليلاً بين هذه الآية وبين الآية 21 من سورة الحديد (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).

ففي هذه الآية ذكرت لفظة «المسابقة» مكان «المسارعة» كما ذكرت السماء

(693)

بصورة المفرد المصدّر بألف ولام الجنس الذي يفيد العموم.

كما استعمل هنا كاف التشبيه فيكون معنى هذه الآية هو أن سعة الجنة مثل سعة السماء والأرض، ومعنى الآية المبحوثة هنا هو أن سعة الجنة هي سعة السماوات والأرض فيكون المعنيان سواء.

ثم إنه سبحانه يختم الآية الحاضرة بقوله (أعدت للمتقين) فهذه الجنة العظيمة الموصوفة بتلك السعة قد هيئت للذين يتقون الله ويخشونه ويجتنبون معاصيه ويمتثلون أوامره.

وينبغي أن نعلم أن المراد بالعرض هنا ليس هو الطول والعرض الهندسي بل المراد ـ كما عليه اهل اللغة ـ هو السعة.

وهنا سؤالان :

أولاً : هل الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان بالفعل، أم أنهما توجدان فيما بعد على أثر أعمال الناس ؟

ثانياً : إذا كانت الجنة والنار موجودتين فعلاً فأين تقعان، وقد قال سبحانه بأن عرض الجنة عرض السماوات والأرض.

هل الجنة والنار موجودتان الآن ؟

يعتقد أكثر العلماء المسلمين أن للجنة والنار وجوداً خارجياً وفعلياً، وأن ظواهر الآيات القرآنية تؤيد هذه النظرية نذكر من باب النموذج ما يلي :

1 ـ ذكرت في الآية الحاضرة وآيات قرآنية اُخرى لفظة «أعدت» وما شابه ذلك من مادة هذه اللفظة، وقد استعملت تارة بشأن الجنة وتارة بشأن النار(1).

_____________________________

1 ـ راجع الآيات التالية : التوبة : 89 ، التوبة : 100، الفتح : 6، البقرة : 24، آل عمران : 131، آل عمران : 133، الحديد : 21.

(694)

فيستفاد من هذه الآيات أن الجنة والنار معدتان فعلاً، وإن كانتا تتوسعان فيما بعد على أثر أعمال الناس. (تأمل).

2 ـ نقرأ في الآيات 13 و 14 و 15 المرتبطة بالمعراج في سورة «والنجم» قوله سبحانه : (ولقد رآه نزلة أخرى * عن سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى)وهذا يشهد مرّة أُخرى بأن الجنة موجودة فعلاً.

3 ـ يقول سبحانه في سورة «التكاثر» الآية 5 و 6 و 7 (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثمّ لترونها عين اليقين).

أي لو كان لديكم علم يقيني لشاهدتم الجحيم، بل لرأيتموها رأى العين.

ثمّ إن هناك روايات ترتبط بالمعراج، وروايات اُخرى تحمل شواهد على هذه المسألة(1).

أين تقع الجنة والنار ؟

إذا ثبت أن الجنة والنار موجودتان بالفعل يُطرح سؤال ا خر هو : أين تقعان إذن ؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال على نحوين :

الأول : إن الجنة والنار تقعان في باطن هذا العالم ولا غرابة في هذا، فإننا نرى السماء والأرض والكواكب بأعيننا، ولكننا لا نرى العوالم التي توجد في باطن هذا العالم، ولو أننا ملكنا وسيلة اُخرى للإدراك والعلم لأدركنا تلك العوالم أيضاً، ولوقفنا على موجودات اُخرى لا تخضع أمواجها لرؤية البصر، ولا تدخل ضمن نطاق حواسنا الفعلية.

_____________________________

1 ـ لابدّ من الإنتباه إلى أن الجنة المبحوث عنها هنا والتي ترتبط بالعالم الآخر هي غير الجنة التي أسكن آدم وحواء فيها وكانت قبل خلقهما.

(695)

والآية المنقولة عن سورة «التكاثر» وهي قوله سبحانه : (كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم) هي الاُخرى شاهدة على هذه الحقيقة ومؤيدة لهذا الرأي.

كما ويستفاد من بعض الأحاديث أيضاً أنه كان بين الأتقياء والأولياء من قد زودوا ببصيرة ثاقبة، ورؤية نفاذة استطاعوا بها أن يشاهدوا الجنة والنار مشاهدة حقيقية.

ويمكن التمثيل لهذا الموضوع بالمثال الآتي :

لنفترض أن هناك في مكان ما من الأرض جهازاً قوياً للإرسال الإذاعي يبث في العالم ـ وبمعونة الأقمار الفضائية والأمواج الصوتية ـ تلاوات شيقة لآيات القرآن الكريم. بينما يقوم جهاز قوي إذاعي آخر ببث أصوات مزعجة وصاخبة بنفس القوّة.

لا شكّ أننا لا نملك القدرة على إدراك هذين النوعين من البث بحواسنا العادية، ولا أن نعلم بوجودهما إلاّ إذا استعنا بجهاز استقبال فإننا حينما ندير المؤشر على الموج المختص بكل واحد من هذين البثين نستطيع فوراً أن نلتقط ما بثته كلّ واحدة من تينك الإذاعتين ونستطيع أن نميز بينهما بجلاء، ودون عناء.

وهذا المثال وإن لم يكن كاملاً من جميع الجهات إلاّ أنه يصور لنا حقيقة هامة، وهي أنه قد توجد الجنة والنار في باطن هذا العالم غير أننا لا نملك إدراكها بحواسنا، بينما يدركها من يملك الحاسة النفاذة المناسبة.

الثاني : إن عالم الآخرة والجنة والنار عالم محيط بهذا الكون، وبعبارة اُخرى : إن كوننا هذا يقع في دائرة ذلك العالم، تماماً كما يقع عالم الجنين ضمن عالم الدنيا، إذ كلنا يعلم أن عالم الجنين عالم مستقل له قوانينه وأوضاعه ولكنه مع ذلك غير منفصل عن هذا العالم الذي نحن فيه، بل يقع في ضمنه وفي محيطه ونطاقه، وهكذا الحال في عالم الدنيا بالنسبة إلى عالم الآخرة.

(696)

وإذا وجدنا القرآن يقول : بأن سعة الجنة سعة السماوات والأرض فإنما هو لأجل أن الإنسان لا يعرف شيئاً أوسع من السماوات والأرض ليقيس به سعة الجنة، ولهذا يصور القرآن عظمة الجنة وسعتها وعرضها بأنها كعرض السماوات والأرض، ولم يكن بد من هذا، فكما لو أننا أردنا أن نصور للجنين ـ فيما لو عقل ـ حجم الدنيا التي سينزل إليها، لم يكن لنا مناص من التحدث إليه بالمنطق الذي يدركه وهو في ذلك المحيط.

ثمّ إنه تبين من ما مرّ الجواب على السؤال الآخر، وهو إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار ؟

لأنه حسب الجواب الأول يتضح أن النار هي الأُخرى تقع في باطن هذا العالم، ولا ينافي وجودها فيه وجود الجنة فيه أيضاً (كما تبين من مثال جهازي الإرسال).

وأما حسب الجواب الثاني (وهو كون عالم الجنة والنار محيطاً بهذا العالم الذي نعيش فيه) فيكون الجواب على هذا السؤال أوضح لأنه يمكن أن تكون النار محيطة بهذا العالم، وتكون الجنة محيطة بها فتكون النتيجة أن تكون الجنة أوسع من النار.

سيماء المتقين :

لما صرّح في الآية السابقة بأن الجنة أُعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمساً من صفاتهم الإنسانية السامية هي :

1 ـ إنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدّة والرخاء، في السرّاء والضرّاء (الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء).

وهم بهذا العمل يثبتون روح التعاطف مع الآخرين، وحب الخير الذي تغلغل

(697)

في نفوسهم، ولهذا فهم يقدمون على هذا العمل الصالح والخطوة الإنسانية في جميع الظروف والأحوال.

ولاشكّ أن الإنفاق في حال الرخاء فقط لا يدلّ على التغلغل الكامل للصفات الإنسانية في أعماق الروح وإنما يدلّ على ذلك إذا أقدم الإنسان على الإنفاق والبذل في مختلف الظروف وفي جميع الأحوال، فإن ذلك ممّا يدلّ على تجذر تلك الصفة في النفوس.

يمكن أن يقال : وكيف يمكن للإنسان أن ينفق عندما يكون فقيراً ؟

والجواب واضح تمام الوضوح :

أولاً : لأن الفقراء يمكنهم إنفاق ما يستطيعون عليه، فليس للإنفاق حدّ معين لا في القلة ولا في الكثرة.

وثانياً : لأن الإنفاق لا ينحصر في بذل المال والثروة فحسب، إذ للإنسان أن ينفق من كلّ ما وهبه الله، ثروة كان أو علماً أو جاهاً أو غير ذلك من المواهب الإلهية الاُخرى.

وبهذا يريد الله سبحانه أن يركز روح التضحية والعطاء، والبذل والسخاء حتّى في نفوس الفقراء والمقلين حتّى يبقوا ـ بذلك ـ في منأى عن الرذائل الأخلاقية التي تنشأ من «البخل».

إن الذين يستصغرون الإنفاقات القليلة في سبيل الله ويحتقرونها إنما يذهبون هذا المذهب، لأنهم حسبوا لكلّ واحد منها حساباً مستقلاً وخاصاً، ولو أنهم ضموا هذه الإنفاقات الجزئية بعضها إلى بعض، ودرسوها مجتمعة لتغيرت نظرتهم هذه.

فلو أن كلّ واحد من أهل قطر من الأقطار ـ فقراء وأغنياء ـ قدم مبلغاً صغيراً لمساعدة الآخرين من عباد الله، ولتقدم الأهداف والمشاريع الإجتماعية، لاستطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة وكبيرة، مضافاً إلى ما يجنونه من هذا العمل

(698)

من آثار معنوية لا ترتبط بحجم الإنفاق، وتعود إلى المنفق في كلّ حال.

والملفت للنظر هو أن أول صفة ذكرت للمتقين هنا هو «الإنفاق» لأن هذه الآيات تذكر ـ في الحقيقة ـ ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة. هذا مضافاً إلى أن غض النظر عن المال والثروة في السرّاء والضراء من أبرز علائم التقوى.

2 ـ أنهم قادرون على السيطرة على غضبهم : (والكاظمين الغيظ).

ولفظة «الكظم» تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثمّ شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلىء غضباً ولكنه لا ينتقم.

وأما لفظة «الغيظ» فتكون بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره.

وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعتري الإنسان، ولو تركت وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة على أعصابه وتصرفاته وردود فعله.

ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته هي التي تحصل في هذه الحالة، ولهذا تجعل الآية «كظم الغيظ» و «كبح جماح الغضب» الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين.

قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً».

وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنوياً، وفي تقوية روح الإيمان لديه.

3 ـ أنهم يصفحون عمن ظلمهم (والعافين عن الناس).

(699)

إن كظم الغيظ أمر حسن جداً، إلاّ أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن
لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابدّ للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن «كظم الغيظ» بخطوة أُخرى وهي «العفو والصفح» ولهذا أردفت صفة «الكظم للغيظ» التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.

ثمّ إنّ المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.

4 ـ أنهم محسنون : (والله يحب المحسنين).

وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من «العفو والصفح» وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي.

وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسىء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسيء إليه أيضاً، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.

وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولاً ثمّ يطهر قلبه بالعفو عنه، ثمّ يطهر فؤاد خصمه من كلّ رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه.

إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيّرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي.

ولقد روي في المصادر الشيعية والسنية في ذيل هذه الآية أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إن الله تعالى يقول : (والكاظمين الغيظ) فقال

(700)

لها : قد كظمت غيظي. قالت : (والعافين عن الناس) قال : «قد عفوت وقد عفى الله عنك» قالت : (والله يحب المحسنين) قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله(1).

إن هذا الحديث شاهد حي بأن كلّ مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل من المرحلة المتقدمة.

5 ـ إنهم لا يصرون على ذنب : (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم).

و«الفاحشة» مشتقة أصلاً من الفحش، وهو كلّ ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأن الفحش ـ في الأصل ـ يعني «تجاوز الحدّ» الذي يشمل كلّ ذنب.

هذا وفي الآية أعلاه إشارة إلى إحدى صفات المتقين، فالمتقون مضافاً إلى الإتصاف بما ذكر من الصفات الإيجابية، إذا اقترفوا ذنباً، (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلاّ الله ، ولم يصروا على ما فعلوا).

يستفاد من هذه الآية أن الإنسان لا يذنب مادام يتذكر الله، فهو إنما يذنب إذا نسي الله تماماً واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة ـ لدى المتقين ـ حتّى تزول عنهم سريعاً ويذكرون الله، فيتداركون ما فات منهم، ويصلحون ما أفسدوه.

إن المتقين يحسون إحساساً عميقاً بأنه لا ملجأ لهم إلاّ الله، فلابدّ أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه (ومن يغفر الذنوب إلاّ الله).

وينبغي أن نعلم أن القرآن ذكر مضافاً إلى «الفاحشة» «ظلم النفس» (أو ظلموا أنفسهم) ويمكن أن يكون الفرق بين هذين هو أن الفاحشة إشارة إلى الذنوب الكبيرة، و «ظلم النفس» إشارة إلى الذنوب الصغيرة.

_____________________________

1 ـ راجع تفسير الدر المنثور، ونور الثقلين في ذيل هذه الآية.

(701)

ثمّ إنه سبحانه تأكيداً لهذه الصفة قال :(ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).

وقد نقل عن إلامام الباقر (عليه السلام) أنه قال : «الإصرار : أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار»(1).

وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال : «لما نزلت هذه الآية (وإذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه فقالوا يا سيدنا لم دعوتنا ؟

قال : نزلت هذه الآية فمن لها ؟ فقام عفريت من الشياطين.

فقال : أنا لها بكذا وكذا.

قال : لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك.

فقال : لست لها.

فقال : الوسواس الخناس أنا لها.

قال : بماذا ؟ قال : أعدهم وامنيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الإستغفار.

فقال : أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة»(2).

ومن الواضح أن النسيان ناشىء من التساهل، والوساوس الشيطانية، وإنما يبتلى بها من سلم نفسه لها، وخضع لتأثيرها، وتعاون مع الوسواس الخناس واستجاب له.

ولكن اليقظين المؤمنين تجدهم في أعلى درجة من مراقبة النفس، فكلّما صدرت منهم خطيئة أو بدر ذنب، بادروا ـ في أقرب فرصة ـ إلى غسل ما ران على قلوبهم ونفوسهم من درن المعصية، وأغلقوا منافذ أفئدتهم على جنود الشيطان

_____________________________

1 و 2 ـ تفسير العياشي في ذيل الآية.

(702)

الذين لا يستطيعون النفوذ إلى القلوب من الأبواب المؤصدة.

هذه هي أبرز صفات المتقين وأقوى المعالم في سلوكهم وخلقهم، قد تعرضت لذكرها الآيات السابقة.

والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق.

وكان ذلك إذ قال سبحانه : (أُولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم * وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).

لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر أوصافهم وأبرز صفاتهم، وهذا الجزاء عبارة عن : مغفرة ربانية، وجنات خالدات تجري من تحتها الأنهار بدون إنقطاع أبداً.

والحقيقة أن الإشارة هنا كانت إلى المواهب المعنوية (وهي المغفرة والطهارة الروحية والتكامل المعنوي) أولاً، ثمّ إلى المواهب المادية.

ثمّ إنه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله : (ونعم أجر العاملين) أي ما أروع هذا الجزاء الذي يعطي للعاملين لا للكسالى، الذين يتهربون من مسؤولياتهم، ويتملصون من إلتزاماتهم.

* * *

(703)

الآيتان

قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَانظُرُواْ كيَفْ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَـذاَ بَيَانٌ لِلّنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلّمُتَّقِينَ (138)

التّفسير

النظر في تاريخ الماضين وآثارهم :

يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق، لأن الإرتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها، ولهذا قال سبحانه : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

وهذا يعني أن لله في الأُمم سنناً لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدّم والبقاء وسنن للتدهور والإندحار، التقدّم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين، والتدهور والإندحار للأُمم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.

(704)

أجل إن للتاريخ أهمية حيوية لكلّ أمة من الأُمم، لأن التاريخ يعكس الخصوصيات الأخلاقية والأعمال الصالحة وغير الصالحة، والأفكار التي كانت سائدة في الأجيال السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها، ونجاحها وفشلها في العصور الغابرة المختلفة.

وبكلمة واحدة : إن التاريخ مرآة الحياة الروحية والمعنوية للمجتمعات البشرية وهو لذلك خير مرشد محذر للأجيال القادمة.

ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان وتدبر في آثار الأُمم والشعوب التي سادت ثمّ بادت إذ يقول : (فسيروا في الأرض * فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

إن آثار الماضين خير عِبرة للقادمين، وبالنظر فيها والإعتبار بها يمكن للناس أن يعرفوا المسير الصحيح للسلوك والحياة.

السياحة والسير في الأرض :

إن الآثار المتبقية في مختلف بلدان العالم من الأُمم والعهود السابقة ما هي ـ في الحقيقة ـ إلاّ وثائق التاريخ الحية والناطقة. بل هي قادرة على أن تعطينا من الحقائق والأسرار أكثر ممّا يعطينا التاريخ المدون.

إن الآثار الباقية من العصور السالفة بما فيها من أشكال وصور ونقوش وكيفيات تدلنا على ما كانت تتمتع به الأُمم البائدة من روح وفكر، وثقافات ومبادىء، وعظمة أو صغار، في حين لا يجسّد التاريخ المدون سوى الحوادث الواقعة وسوى صور خاوية عنها.

أجل، إن خرائب قصور الطغاة وبقايا آثار عظيمة مثل الأهرام، وبرج بابل، وقصور كسرى، وآثار الحضارة المندثرة لقوم سبأ، ومئات من نظائرها الاُخرى

(705)

من هذه الآثار المنتشرة في شتى أنحاء هذا الكوكب تنطوي ـ رغم صمتها ـ على ألف حديث وحديث، وألف كلمة وكلمة.

ولهذا عمد كبار الشعراء إلى الإستلهام من هذه الأطلال والآثار واستوحوا منها الدروس والعبر والعظات، ونقلوا إلى الآخرين عبر قصائدهم ما كان يجيش في صدورهم، وينقدح في نفوسهم من المشاعر والأحاسيس المختلفة، تجاه ما تحكيه هذه الأطلال والآثار من معاني وتعطيه من دلالات.

ولقد لخص أحد الأدباء هذه الحقيقة في بيت شعري إذ قال :

ان آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار

إن مطالعة سطر واحد من هذه التواريخ الحية الناطقة تعادل ـ في الحقيقة ـ مطالعة كتاب ضخم في مجال التاريخ، وأن ما تبعثه تلك المطالعة في النفس والروح البشرية لا يقاس به شيء مهما عظم.

ذلك لأننا عندما نقف أمام آثار الماضين تتمثل أمامنا تلك الآثار وكأنها قد استعادت حياتها، ودب فيها الروح، وكأن العظام النخرة قد خرجت من تحت الأرض حية، وكأن كلّ شيء قد عاد إلى سيرته الأُولى، وكأن جميع الأشياء تنطق وتتحدث، ثمّ إذا أعدنا النظر وجدناها صامتة ميتة منسية، وهذه المقايسة بين هاتين الحالتين ترينا غباء أُولئك المستبدون الذين يرتكبون آلاف الجرائم، وأفظع الجنايات للوصول إلى الشهوات العابرة، واللذائذ الخاطفة.

ولهذا يحث القرآن المسلمين على السير في الأرض، والنظر إلى آثار الماضين المدفونة تحت التراب أو الباقية على ظهر الأرض بأم أعينهم، وأن يتخذوا من كلّ ذلك العظة والعبرة وما أكثر العبر.

أجل، إن الإسلام يقر مسألة السياحة والسير في الأرض، ويوليها أهمية كبرى، لكن لا كما يريد السياح وطلاب اللذة والهوى، بل لدراسة آثار الأُمم

(706)

الماضية والتدبر فيها، والإعتبار بها، والوقوف على آثار العظمة الإلهية في شتى نقاط العالم وهذا هو ما يسميه القرآن الكريم بالسير في الأرض، والذي تأمر به الآيات العديدة ومن ذلك :

1 ـ (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين)(1).

2 ـ (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها)(2) وآيات اُخرى...

3 ـ (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)(3).

إن هذه الآية تقول بأن السير في الأرض والنظر في آثار الماضيين يفتح العقول والعيون، وينير القلوب والأفئدة، ويخلص الإنسان من الجمود والركود.

وقد أشار الإمام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في كلمات وخطب عديدة منها قوله :

«فاعتبروا بما أصاب الأُمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر...

واحذروا ما نزل بالأُمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الإجتناب للفرقة واللزوم للالفة والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور

_____________________________

1 ـ النمل : 71.

2 ـ الحج : 46.

3 ـ العنكبوت : 20.

(707)

وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي...»(1).

ولكن هذا التعليم الإسلامي الحي قد نسي ـ مع الأسف ـ كبقية التعاليم الإسلامية ولم يلتفت إليه المسلمون، بل إنّ بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين حصروا الزمان والمكان في فكرهم، فعاشوا في عالم غير عالم الحياة هذا، وبقوا في معزل عن التحولات الإجتماعية، وأشغلوا أنفسهم باُمور حقيرة وقضايا جزئية قليله الأثر بالقياس إلى الأعمال الجوهرية والقضايا الأساسية.

ففي عالم نجد فيه البابوات والقساوسة المسيحيين الذين طال ما حبسوا أنفسهم بين جدران الكنائس قد خرجوا من تلك العزلة الطويلة والإنقطاع عن الحياه الإجتماعية إلى العالم الخارجي وراحوا يسيحون في الأرض، ويقيمون الجسور والعلاقات مع الأُمم والشعوب ليزدادوا خبرة بالعصر، ويقفوا على متطلباته ومستجداته ومتغيراته الكثيرة، أفلا يجدر بالمسلمين أن يعملوا بهذا التعليم الإسلامي الصريح، ويخرجوا من النطاق الفكري الضيق الذي هم فيه حتّى يتحقق التحول المطلوب في حياة الأُمة الإسلامية، وتحل الحركة الصاعدة محل الجمود والتقهقر، والتقدّم المطرد مكان التخلّف والتراجع.

ولما كان التعليم الإلهي العظيم ـ رغم كونه موجهاً إلى عامة المخاطبين ـ لا ينتفع به ولا يستلهمه إلاّ المتقون قال سبحانه تعقيباً على الآية السابقة (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين).

أجل، إن المتقين الهادفين هم الذين يتعظون بهذه الأُمور لأنهم يبحثون عن كلّ ما يعمق روح التقوى في نفوسهم، ويزيد بصيرتهم بالحقّ.

* * *

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 192.

(708)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335009

  • التاريخ : 28/03/2024 - 13:53

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net