00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 264 ـ آخر البقرة ( من ص 302 ـ 373) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِ وَالاَْذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّيَقْدِرُونَ عَلَى شَيء مِمّا كَسَبُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ(264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةِ بِرَبْوَة أَصَابَهَا وَابِلٌ فَـَاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(265)

التّفسير

دوافع الإنفاق ونتائجه :

في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المنّ والأذى عند إنفاقهم في سبيل الله، لأنّ ذلك يحبط أعمالهم. ثمّ يضرب القرآن مثلاً للإنفاق المقترن بالمنّ والأذى، ومثلاً آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية.

(302)

يقول تعالى في المثال الأوّل : (فمثله كمثل صفوان عليه تراب...).

تصوّر قطعة حجر صلد تغطّيه طبقه خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثمّ عرّض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأنّ أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سيء، بل لأنّ البذر لم يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه. قشرة خارجية من التربة لا تعين على نموّ النبات الذي يتطلّب الوصول إلى الأعماق لتتغذّى الجذور.

ويشبّه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنّة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة من التربة التي تغطّي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها، بل أنّها بمظهرها تخدع الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح. هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية الاُولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المنّ والأذى(1).

وفي نهاية الآية يقول تعالى : (والله لا يهدي القوم الكافرين) وهو إشارة إلى أنّ الله تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية، لأنّهم أقدموا على الرياء والمنّة والأذى باقدامهم، واختاروا طريق الكفر بإختيارهم، ومثل هذا الشخص لا يليق بالهداية، وبذلك وضع القرآن الكريم الإنفاق مع الرياء والمنّة والأذى في عرض واحد.

_____________________________

1 ـ صفوان : جمع مفرده صفوانة، وتعني الصخرة الصافية. والوبل : هو المطر الشديد الكبير والصلد : بمعنى الحجر الأملس. وضعف : تثنية الضعف ولكنه لا يعني أربع مرّات بل مرّتين مثل زوجين التي تعني طرفين، تأمّل بدقّة.

(303)

مثال رائع آخر

في الآية التالية نقرأ مثالاً جميلاً آخر يقع في النقطة المقابلة لهذه الطائفة من المنفقين، وهؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بدافع من الإيمان والإخلاص فتقول الآية : (ومثل الذين ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله).

تصوّر هذه الآية مزرعة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل لنسيم الطلق وأشعة الشمس الوافرة والمطر الكثير النافع،وإذا لم يهطل المطر ينزل الطلّ وهو المطر الخفيف وذرّات الهباب ليحافظ على طراوة المزرعة ولطافتها، فتكون النتيجة أنّ مزرعة كهذه تعطي ضعف ما تعطي المزارع الاُخرى، فهذه الأرض فضلاً عن كونها خصبة بحيث يكفيها الطلّ والمطر الخفيف ناهيك عن المطر الغزير لأيناع حاصلها، وفضلاً عن كونها تستفيد كثيراً من الهواء الطلق وإشعّة الشمس وتلفت الأنظار لجمالها، فإنّها لوقوعها على مرتفع تكون في مأمن من السيول.

فالآية الشريفة تريد أن تقول : إنّ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لتمكّن الإيمان واليقين في قلوبهم وأرواحهم هم أشبه بتلك المزرعة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.

وفي ختام الآية تقول : (والله بما تعملون بصير) فهو سبحانه يعلم ما إذا كان الدافع على هذا الإنفاق إلهيّاً مقترناً بالمحبّة والاحترام، أو للرياء المشفوع بالمنّة والأذى.

* * *

بحوث

1 ـ إنّ عبارة (لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى) تفيد بأنّ بعض الأعمال

(304)

يمكن أن تبدّد نتائج بعض الأعمال الحسنة، وهذا هو الإحباط الذي مرّ شرحه في ذيل الآية 217 من هذه السورة.

2 ـ إنّ تشبيه العمل مع الرياء بالصخرة التي خطّتها قشرة ناعمة من التراب تشبيهٌ دقيقٌ جدّاً لأنّ المرائي له باطن خشن ومجدب فيحاول تغطيته بمظهر حسن وجميل، وهو حبّ الخير والإحسان للنّاس، فأعماله غير متجذّرة في وجوده وروحه وليس لها أساس عاطفيّ ثابت فما أسرع ما ينقشع هذا الحجاب بسبب الأحداث والوقائع في الحياة فيظهر باطنهم بذلك.

3 ـ جملة (ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم) تبيّن دوافع الإنفاق الإلهي السليم، وهما دافعان : ابتغاء مرضاة الله، وتقوية روح الإيمان والإطمئنان في القلب.

هذه الآية تقول إنّ المنفقين الحقيقيّين هم الذين يكون دافعهم رضا الله وتربية الفضائل الإنسانية وتثبيتها في قلوبهم، وإزالة الإضطراب والقلق اللذين يحصلان في نفس المرء بإزاء مسؤوليته نحو المحرومين. وعليه فإنّ «من» في الآية تعني «في» أي في نفوسهم.

4 ـ وجملة (والله بما تعلمون بصير) المذكورة في آخر الآية الثانية تحذير إلى جميع الذين يريدون القيام بعمل صالح كي يأخذوا حذرهم لئلاّ يخالط عملهم ونيّتهم واُسلوب عملهم أي تلوّث، لأنّ الله يراقب أعمالهم.

* * *

(305)

الآية

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيل وأَعْنَاب تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ ِ الَّثمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الاَْيَـاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

التّفسير

مثال آخر للإنفاق الملوث بالرياء والمنّة :

هنا يضرب القرآن مثلاً آخر يبيّن حاجة الإنسان الشديدة إلى الأعمال الصالحات يوم القيامة، وكيف أنّ الرياء والمنّ والأذى تؤثّر على الأعمال الصالحات فتزيل بركتها.

يتجسّد هذا التمثيل في صاحب مزرعة مخضرة ذات أشجار متنوّعة كالنخيل والأعناب، وتجري فيها المياه بحيث لا تتطلّب السقي، لكن السنون نالت من صاحبها وتحلّق حوله أبناؤه الضعفاء، وليس ثمّة ما يقيم أودهم سوى هذه المزرعة، فإذا جفّت فلن يقدر هو ولا أبناؤه على إحيائها، وفجأةً تهبّ عاصفة

(306)

محرقة فتحرقها وتبيدها.في هذه الحالة ترى كيف يكون حال هذا العجوز الهرم الذي لا يقوى على الإرتزاق وتأمين معيشته ومعيشة أبنائه الضعفاء ؟ وما أعظم أحزانه وحسراته !.

(أَيودّ أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار فيها من كل الثمرات وأصابه الكبرُ وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت...).

إنّ حال أُولئك الذين يعملون عملاً صالحاً ثمّ يحبطونه بالرياء والمنّ والأذى أشبه بحال من تعب وعانى كثيراً حتّى إذاحان وقت اقتطاف النتيجة ذهب كلّ شيء ولم يبق سوى الحسرات والآهات. وتضيف الآية :

(كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون).

لمّا كان منشأ كلّ تعاسة وشقاء ـ وعلى الأخصّ كلّ عمل أحمق كالمنّ على الناس ـ هو عدم أعمال العقل والتفكير في الاُمور، فإنّ الله في ختام الآية يحثّ الناس على التعمّق في التفكير في آياته (كذلك يبيّن اللهُ لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون)

* * *

بحوث

1 ـ هذه الأمثلة بالتوالي كلّ واحدة منها تدلّ على الاُمور الزراعية اللطيفة، لأن هذه الآيات لم تنزل على أهل المدينة الذين كانوا زرّاعاً فحسب، بل أنها نزلت على جميع الناس، على أية حال كانت الزراعة تشكل جانباً من حياتهم.

2 ـ يستفاد من (وأصابه الكِبرَ وله ذريّة ضعفاء) إنّ الإنفاق في سبيل الله

(307)

ومدّ يد العون للمحتاجين أشبه بالبستان اليانع الذي ينتفع بثمره صاحبه وأبناؤه أيضاً. ولكن الرياء والمنّ والأذى لا تحرم صاحبه وحده من ثمرات عمله، بل أنّ ذلك يحرم حتّى أبناءه والأجيال التالية من بركات تلك الأعمال الصالحات. وهذا دليل على أنّ الأجيال القادمة تشارك الأجيال السابقة في الإنتفاع بثمرات العلم الطيّب.

وهو كذلك أيضاً على الصعيد الإجتماعي، إذ أنّ المحبوبية والثقة التي ينالها الآباء نتيجةً لأعمالهم الصالحة بين الناس، وتكون خير رأسمال لأبنائهم من بعدهم.

3 ـ عبارة (إعصار فيه نار) قد تكون إشارة إلى رياح السموم التي تحرق الزرع وتجفّف المياه، أو الرياح التي تكتسب الحراة من المرور على الحرائق فتكتسح معها النيران المحرقة وتحملها إلى مناطق اُخرى، أو قد تكون إشارة إلى العواصف التي تصاحبها الصواعق فتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد، إنّها على كلّ حال إشارة إلى إبادة سريعة(1).

* * *

_____________________________

1 ـ «الإعصار» ريح تثير الغبار، وهي تهبّ من اتجاهين مختلفين، بحيث إنّها تتجه من الأرض عمودياً إلى السماء.

(308)

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَـاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِنَ الاَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِـَاخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(267)

سبب النّزول

عن الصادق (عليه السلام) أنّها نزلت في أقوام لهم رِبَاً في الجاهلية، وكانوا يتصدّقون منه، فنهاهم الله عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيّب الحلال.

عن علي (عليه السلام) أنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف (وهو أردأ التمر) فيدخلونه في الصدقة(1).

وليس بين الروايتين أي تعارض، ولعلّ الآية نزلت في كلتا الفئتين، فالشأن الأوّل يخصت الطهارة المعنوية، ويخص الثاني طيب الظاهر المادّي.

ولكن ينبغي الإشارة إلى أنّ المرابين في الجاهلية امتنعوا عن تعاطي الربا بعد

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان للطبرسي.

(309)

نزول الآية 275 من سورة البقرة ولم تحرم عليهم أموالهم السابقة، أي أنّ الآية لم يكن لها أثر رجعي، ولكن من الواضح أنّ هذا المال وإن يكن حلالاً، فهو يختلف عن الأموال الأُخرى، فكان في الحقيقة أشبه بتحصيل أموال عن طرق مكروهة.

التّفسير

الأموال التي يمكن إنفاقها :

شرحت الآيات السابقة ثمار الإنفاق وصفات المنفقين والأعمال التي قد تبطل أعمال الإنفاق الإنسانية في سبيل الله. وهذه الآية تبيّن نوعيّة الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل الله.

في بداية الآية يأمر الله المؤمنين أن ينفقوا من (طيبات) أموالهم. و «الطيب» في اللغة هو الطاهر النقي من الناحية المعنوية والمادّية، أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حلّيتها.ويؤيّد عمومية الآية الروايتان المذكورتان في سبب النزول.

كما انّ جملة (لستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه) أي أنكم أنفسكم لاتأخذون غير الطيّب من المال إلاَّ إذا أغمضتم أعينكم كارهين، دليل على أنّ المقصود ليس الطهارة الظاهريّة فقط، لأنّ المؤمنين لايقبلون مالاً تافهاً ملوّثاً في ظاهره، كما لا يقبلون مالاً مشبوهاً مكروهاً إلاَّ بالإكراه والتغاضي.

(وممّا أخرجنا لكم من الأرض).

كانت عبارة (ما كسبتم) إشارة إلى الدخل التجاري، وهذه العبارة إشارة إلى الدخل الزراعي وعائدات المناجم، فهو يشمل كلّ أنواع الدخل، لأنّ أصل دخل الإنسان ينبع من الأرض ومصادرها المتنوّعة، بما فيها الصناعة والتجارة وتربية المواشي وغير ذلك.

تقول هذه الآية : إننا وضعنا مصادر الثروة هذه تحت تصرّفكم، لذلك ينبغي

(310)

أن لا تمتنعوا عن إنفاق خير ما عندكم في سبيل الله.

(ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه)(1).

اعتاد معظم الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها أو الساقطة التي لم تعد تنفعهم في شيء. إنّ هذا النوع من الإنفاق لا هو يربّي روح المنفق، ولاهو يرتق فتقاً لمحتاج، بل لعلّه إهانة له وتحقير. فجاءت هذه الآية تنهي بصراحة عن هذا وتقول للناس : كيف تنفقون مثل هذا المال الذي لا تقبلونه أنتم إذا عرض عليكم إلاَّ إذا اضطررتم إلى قبوله ؟ أترون إخوانكم المسلمين، بل أترون الله الذي في سبيله تنفقون أقلّ شأناً منكم ؟

الآية تشير في الواقع إلى فكرة عميقة وهي أنّ للإنفاق في سبيل الله طرفين، فالمحتاجون في طرف، والله في طرف آخر. فإذا اختير المال المنفق من زهيد الأشياء ففي ذلك إهانة لمقام الله العزيز الذي لم يجده المنفق جديراً بطيّبات ما عنده كما هو إهانة للذين يحتاجونه، وهم ربما يكونون من ذوي الدرجات الإيمانية السامية، وعندئذ يسبّب لهم هذا المال الرديء الألم والعذاب النفسي.

التعبير بكلمة (الطيّبات) يشمل الطيّب الظاهري الذي يستحقّ الإنفاق والمصرف، وكذلك الطيّب المعنوي، أي الطاهر من الأموال المشتبه والحرام لأنّ المؤمنين لا يرغبون في تناول مثل هذه الأموال.

وجملة (إلاّ أن تغمضوا فيه)تشمل الجميع، فما ذهب إليه بعض المفسّرين من حصرها بأحد هذين المعنيين بعيدٌ عن الصواب، ونظير هذه الآية ما جاء في سورة آل عمران الآية 92 حيث يقول : (لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون)وطبعاً هذه الآية ناظرة أكثر إلى الآثار المعنويّة للإنفاق.

_____________________________

1 ـ «يتمم» في الأصل بمعنى القصد أي شيء وجاءت هنا بهذا المعنى واُطلقت هذه الكلمة على التيمم لأن الإنسان يقصد الاستفادة من التراب الطاهر كما يقول القرآن : (فتيمموا صعيداً طيباً)(النساء : 43).

(311)

وفي ختام الآية يقول : (واعلموا أنّ الله غني حميد) أي لا تنسوا أنّ الله لا حاجة به لإنفاقكم فهو غنيٌّ من كلّ جهة، بل أنّ جميع المواهب والنعم تحت أمره وفي دائرة قدرته، ولذلك فهو حميد ومستحق للثناء والحمد، لأنّه وضع كلّ هذه النعم بين أيديكم.

واحتمل البعض أنّ كلمة (حميد) تأتي هنا بمعنى إسم الفاعل (حامد) لا بمعنى محمود، أي أنّه على الرغم من غناه عن إنفاقكم فإنّه يحمدكم على ما تنفقون.

* * *

ملاحظة

لاشكّ أنّ الإنفاق في سبيل الله هو من أجل نيل القرب من ساحته المقدّسة، وعندما يريد الناس التقرّب إلى السلاطين وأصحاب النفوذ فإنّهم يقدّمون إليهم هدايا من أفضل أموالهم وأحسن ثرواتهم، في حين أنّ هؤلاء السلاطين أناسٌ مثلهم فكيف يتقرّب الإنسان إلى ربّه وخالقه وربّ السموات والأرض لتقديم بعض أمواله الدنيئة كهديّة ؟ ! فما نرى في الأحكام الشرعيّة من وجوب كون الزكاة وحتّى الهديّ في الحجّ من المرغوب والجيّد يدخل في دائرة هذا الإعتبار. وعلى كلّ حال يجب الإلتزام ونشر هذه الثقافة القرآنية بين صفوف المسلمين في إنفاقهم الجيّد من الأموال.

* * *

(312)

الآية

الشَّيْطَـانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

التّفسير

مكافحة موانع الإنفاق :

تشير الآية هنا وتعقيباً على آيات الإنفاق إلى أحد الموانع المهمّة للإنفاق، وهو الوساوس الشيطانيّة التي تخوّف الإنسان من ا لفقر والعوز وخاصّة إذا أراد التصدّق بالأموال الطيّبة والمرغوبة، وما اكثر ما منعت الوساوس الشيطانيّة من الإنفاق المستحبّ في سبيل الله وحتّى من الإنفاق الواجب كالزكاة والخُمس أيضاً.

فتقول الآية في هذا الصدد (الشيطان يعدكم الفقر) ويقول لكم : لا تنسوا مستقبل أطفالكم وتدبّروا في غدكم، وأمثال هذه الوساوس المظلّة، ومضافاً إلى ذلك يدعوكم إلى الإثم وإرتكاب المعصية (ويأمركم بالفحشاء).

(الفحشاء) تعني كلّ عمل قبيح وشنيع، ويكون المراد به في سياق معنى الآية البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد حيث يكون نوعٌ من المعصية والإثم

(313)

 (رغم أنّ مفرده الفحشاء تعني عادةً الأعمال المنافية للعفّة ولكنّنا نعلم أنّ هذا المعنى لا يناسب السياق).

حتّى أنّ بعض المفسّرين صرّح بأنّ العرب يسمّون الشخص البخيل (فاحش)(1).

ويحتمل أيضاً أنّ الفحشاء هنا بمعنى إختيار الأموال الرديئة وغير القابلة للمصرف والتصدّق بها، وقيل أيضاً : أنّ المراد بها كلّ معصية، لأنّ الشيطان يحمل الإنسان من خلال تخويفه من الفقر على إكتساب الأموال من الطرق غير المشروعة.

والتعبير عن وسوسة الشيطان بالأمر (ويأمركم) إشارة لنفس الوسوسة أيضاً، وأساساً فكلّ فكرة سلبيّة وضيّقة ومانعة للخير فإنّ مصدرها هو التسليم مقابل وساوس الشيطان، وفي المقابل فإنّ كلّ فكرة إيجابيّة وبنّاءة وذات بعد عقلي فإنّ مصدرها هو الإلهامات الإلهيّة والفطرة السليمة.

ولتوضيح هذا المعنى ينبغي أن نقول : إنّ النظرة الاُولى إلى الإنفاق وبذل المال توحي أنه يؤدي إلى نقص المال، وهذه هي النظرة الشيطانية الضيّقة، ولكنّنا بتدقيق النظر ندرك أن الإنفاق هو ضمان بقاء المجتمع، وتحكيم العدل الإجتماعي، وتقليل الفواصل الطبقية، والتقدّم العام.

وبديهيّ أنّ تقدّم المجتمع يعني أنّ الأفراد الذين يعيشون فيه يكونون في رخاء ورفاه، وهذه هي النظرة الواقعية الإلهيّة.

يريد القرآن بهذا أن يعلم الناس أنّ الإنفاق وإن بدأ في الظاهرأنّه أخذ، ولكنّه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادّياً ومعنوياً.

في عالمنا اليوم حيث نشاهد نتائج الإختلافات الطبقية والمآسي الناتجة عن

_____________________________

1 ـ تفسير روح البيان : ج 1 ص 431 ذيل الآية المبحوثة.

(314)

الظلم واحتكار الثروة، نستطيع أن نفهم معنى هذه الآية بوضوح.

كما أنّ الآية تفيد أيضاً أنّ هناك نوعاً من الإرتباط بين ترك الإنفاق والفحشاء. فإذا كانت الفحشاء تعني البخل، فتكون علاقتها بترك الإنفاق هو أنّ هذا الترك يكرّس صفة البخل الذميمة في الإنسان شيئاً فشيئاً. وإذا كانت تعني الإثم مطلقاً أو الفحشاء في الاُمور الجنسية فإن علامة ذلك بترك الإنفاق لا تخفى، إذ أنّ منشأ كثير من المعاصي والإنحرافات الجنسية هو الفقر والحاجة. يضاف إلى ذلك أن للإنفاق آثاراً ونتائج معنوية مباركة لا يمكن إنكارها.

(والله يعِدُكم مغفرةً منه وفضلاً).

جاء في تفسير «مجمع البيان» عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أنّ في الإنفاق شيئين من الله وشيئين من الشيطان، فاللذان من الله هما غفران الذنوب والسعة في المال، واللذان من الشيطان هما الفقر والأمر بالفحشاء».

وعليه فإنّ المقصود بالمغفرة هو غفران الذنوب، والمقصود بالفضل هو ازدياد رؤوس الأموال بالإنفاق، كما رواه ابن عبّاس.

وقد جاء عن الإمام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «اذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة»(1).

(والله واسعٌ عليم).

في هذا إشارة إلى أنّ لله قدرة واسعة وعلماً غير محدود، فهو قادر على أن يفي بما يعد، ولا شكّ أنّ المرء يطمئّن إلى هذا الوعد، لا كالوعد الذي يعده الشيطان المخادع الضعيف الذي يجرّ المرء إلى العصيان، فالشيطان ضعيف وجاهل بالمستقبل، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم.

* * *

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة : الكلمات القصار : رقم 258 .

(315)

الآية

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِي خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُواْ الاَْلْبَـابِ (269)

التّفسير

أفضل النعم الإلهيّة :

مع الإلتفات إلى ما تقدّم في الآية السابقة التي تحدّثت عن تخويف الشيطان من الفقر ووعد الرحمن بالمغفرة والفضل الإلهى، ففي هذه الآية مورد البحث دار الحديث عن الحكمة والمعرفة والعلم لأنّ الحكمة فقط هي التي يمكنّها التفريق والتمييز بين هذين الدافعين الرحماني والشيطاني وتدعوا الإنسان إلى ساحل المغفرة والرحمة الإلهيّة وترك الوساوس الشيطانيّة وعدم الإعتناء بالتخويف من الفقر.

وبعبارة اُخرى، أنّنا نلاحظ في بعض الأشخاص نوعٌ من العلم والمعرفة بسبب الطهارة القلبيّة ورياضة النفس حيث تترتّب عليها آثار وفوائد جمّة، منها أن يدرك الشخص فوائد الإنفاق ودوره المهم والحيوي في المجتمع ويميّز بينه وبين ما تدعوه إليه وساوس الشيطان فتقول الآية :

(316)

 (يؤتي الحكمة من يشاء).

وقد ذكر لكلمة (الحكمة) معان كثيرة منها (المعرفة والعلم بأسرار العالم) ومنها (العلم بحقائق القرآن) و (الوصول إلى الحقّ بالقول والعمل) و (معرفة الله تعالى) و (أنّها النور الإلهي الذي يميّز بين وساوس الشيطان وإلهامات الرحمان).

والظاهر هو أنّ الحكمة تأتي بالمعنى الواسع حيث تشمل جميع هذه الاُمور بما فيها النبوّة التي هي نوعٌ من العلم والأطّلاع والإدراك، فهي في الأصل أخذت من مادة (حكم) ـ على وزن حرف ـ بمعنى المنع، وبما أنّ العلم والمعرفة والتدبير تمنع الإنسان من إرتباك الأعمال الممنوعة والمحرّمة، فلذا يقال عنها أنّها حكمة.

بديهيّ أنّ القصد من (مَن يشاء) ليس إسباغ الحكمة على كلّ من هبّ ودبّ بغير حساب، بل أنّ مشيئة الله هي دائماً منبعثة عن حكمة، أي أنّه يمنحها لمن يستحقّها، ويرويه من سلسبيل هذه العين الزلال.

(ومَن يؤتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً).

رغم أنّ واهب الحكمة هو الله فإنّ اسمه لم يرد في هذه الآية وإنما بني الفعل للمجهول (ومن يؤتَ الحكمة).

ولعلّ المقصود هو أنّ الحكمة أمر حسن بذاته بصرف النظر عن مصدرها ومنشئها.

من الملاحظ أنّ الآية تقول : إذا نزلت الحكمة بساحة أحد فقد نزلت بساحته البركة والخير الكثير لا الخير المطلق، لأنّ السعادة والخير المطلق ليسا في العلم وحده، بل العلم أهمّ عامل لهما.

(وما يذّكّر إلاَّ اُولوا الألباب).

«التذكّر» هو حفظ العلوم والعارف في داخل الروح. والألباب جمع لب وهو قلب كلّ شيء ومركزه، ولهذا قيل العقل اللب.

(317)

تقول هذه الفقرة من الآية إنّ أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكّرونها. رغم أنّ جميع الناس ذو عقل ـ عدا المجانين ـ فلا يوصفون جميعاً بأُولي الألباب، بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقّون طريقهم على ضوء نورها الساطع.

ونختم هذا البحث بكلام لأحد علماء الإسلام (ويحتمل أنّه مقتبس من كلام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)) حيث يقول : قد يريد الله تعالى أحياناً تعذيب أمّة على الأرض ولكنّه يرى معلّماً يعلّم الأولاد الحكمة فيرفع عن تلك الأُمّة العذاب بسبب ذلك(1).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي : ج 2 ص 1138.

(318)

الآيتان

وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَة أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْر فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَار (270) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَـاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفَّرُ عَنكُم مِّن سَيّئاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(271)

التّفسير

كيفيّة الإنفاق :

تحدّثت الآيات السابقة عن الإنفاق وبذل المال في سبيل الله، وأن ينفق الشخص ذلك المال من الطيّب دون الخبيث، وأن يكون مشفوعاً بالمحبّة والإخلاص وحسن الخلق، أمّا في هاتين الآيتين أعلاه فيدور الحديث عن كيفيّة الإنفاق وعلم الله تعالى بذلك.

فيقول الله تعالى في الآية الاُولى : (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإنّ الله يعلمه).

تقول الآية : إنّ كلّ ما تنفقونه في سبيل الله سواءً كان قليلاً أو كثيراً، جيّداً أم رديئاً، من حلال إكتسب أم من حرام، مخلصاً كان في نيّته أم مرائياً، إتّبعه المن

(319)

والأذى أم لم يتبعه، أكان الإنفاق ممّا أوجب الله تعالى عليه أم ممّا أوجبه الإنسان على نفسه بنذر وشبهه، فإنّ الله تعالى يعلم تفاصيله ويثيب عليه أو يعاقب.

وفي ختام الآية تقول : (وما للظالمين من أنصار)

(الظالمين) هنا إشارة إلى المحتكرين والبخلاء والمرائين والّذين ينفقون بالمنّ والأذى، فإنّ الله تعالى لا ينصرهم، وسوف لا ينفعهم ما أنفقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أو أنّ المراد هم الأشخاص الّذين إمتنعوا من الإنفاق إلى المحرومين والمعوزين، فإنّهم بذلك قد ظلموهم وظلموا كذلك أنفسهم ومجتمعهم.

أو أنّهم الأشخاص الّذين لا ينفقون في موارد الإنفاق، لأنّ مفهوم الظلم واسعٌ يشمل كلّ عمل يأتي به الإنسان في غير مورده، وبما أنّه لا منافاة بين هذه المعاني الثلاثة لذلك يمكن أن تدخل هذه المعاني في مفهوم الآية بأجمعها.

أجل فهؤلاء ليس لهم ناصر في الدنيا ولا شفيع في الآخرة، وهذه النتيجة من الخصائص المترتّبة على الظلم والجور بأيّ صورة كان.

ويستفاد من هذه الآية ضمناً مشروعيّة النذر ووجوب العمل بمؤدّاه، وهو من الاُمور التي كانت موجودة قبل الإسلام وقد أمضاها الإسلام وأيدّها.

في الآية الثانية إشارة إلى كيفيّة الإنفاق من حيث السرّ والعلن فتقول : (إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم).

وسوف يعفوالله عنكم بذلك (ويكفّرعنكم من سيئاتكم والله بماتعملون خبير).

* * *

بحوث

1 ـ لاشكّ أنّ لكلّ من الإنفاق العلني والإنفاق الخفيّ في سبيل الله آثاراً نافعة، فإذا كان الإنفاق واجباً فالإعلان عنه يشجع الآخرين على القيام بمثله، كما

(320)

يرفع عن المنفق تهمة إهماله لواجبه.

أمّا إذا كان الإنفاق مستحبّاً، فإنّه يكون في الواقع أشبه بالدعاية والإعلان العملي لحثّ الناس على فعل الخير، ومساعدة المحتاجين، والقيام بالأعمال الخيرية الإجتماعية العامّة.

أمّا الإنفاق الخفيّ البعيد عن الأنظار فلا شكّ أنه أبعد عن الرياء وحبّ الظهور وخلوص النيّة فيه أكثر، خاصّة وأن مدّ يد العون إلى المحتاجين في الخفاء يحفظ لهم ماء وجههم وكرامتهم، ولذلك تثني الآية على كلا الأسلوبين.

وذهب بعض المفسرين إلى أنّ الإخفاء يقتصر على الإنفاق المستحب، وأمّا الإنفاق الواجب كالزكاة وغيره فيفضّل في حالة الجهر، وليست هذه بقاعدة عامّة، بل تختلف باختلاف حالات الإنفاق.

ففي الحالات التي يكون فيها الجانب التشجيعي أكثر ولايصادر فيها الإخلاص فالإظهار أولى،وفي الحالات التي يكون فيها المحتاجون من ذوي العزّة والكرامة فإن حفظ ماء وجوههم يقتضي إخفاء الإنفاق، كما أنّه إذا خشي الرياء وعدم الإخلاص فالإخفاء أولى.

وقد جاء في بعض الأحاديث أنّ الإنفاق الواجب يفضّل فيه الإظهار، والمستحبّ يفضّل فيه الإخفاء.

وقد نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : الزكاة المفروضة تخرج علانية وتدفع علانية، وغير الزكاة إن دفعه سرّاً فهو أفضل(1).

إلاّ أنّ هذه الأحاديث لا تتعارض مع ما قلناه آنفاً، لأنّ أداء الواجب يكون أقلّ امتزاجاً بالرياء، فهو واجب لابدّ أن يؤدّيه كلّ مسلم في محيط الاسلامي كالضريبة اللازمة التي يدفعها الجميع، وعليه فإنّ إظهار الإنفاق أفضل، أمّا الإنفاق

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان : ج 1 ص 384 نقلاً عن علي بن إبراهيم : ج 1 ص 93.

(321)

المستحبّ فليس إلزامياً لذلك، فإنّ إظهار إنفاقه قد يشوبه شيء من الرياء وعدم خلوص النيّة، فيكون الأجدر إخفاؤه.

2 ـ قوله : (ويكفّر عنكم من سيّئاتكم) يُوضّح أنّ للإنفاق في سبيل الله أثراً في غفران الذنوب، فالتكفير عن السيئات ـ أي تطغية الذنوب ـ كناية عن ذلك.

بديهيّ أنّ هذا لا يعني أنّ إنفاق بعض المال يذهب بكلّ ذنوب الإنسان، ولذلك لابدّ من ملاحظة استعمال «من» التبعيضية، أي أنّ الغفران يشمل قسماً من ذنوب الإنسان، وأنّ هذا القسم يتناسب مع مقدار الإنفاق وميزان الإخلاص.

هنالك أحاديث كثيره بشأن غفران الذنوب بالإنفاق وردت عن أهل البيت (عليهم السلام)وفي كتب أهل السنّة.

من ذلك : «صدقة السرّ تطفيء غضب الربّ وتطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار»(1).

كما جاء أيضاً : «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاَّ ظلُّه : الإمام العدل، والشابّ الذي نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه يتعلّق بالمساجد حتّى يعود إليها، ورجلان تحابّا في الله واجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنّي أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق فأخفاه حتّى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»(2).

3 ـ يستفاد من جملة (والله بما تعلون خبير). هو أنّ الله عالم بما تنفقون سواء أكان علانيهً أم سرّاً، كما أنّه عالم بنيّاتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن إخفائه. على كلّ حال أنّ الذي له تأثير في الإنفاق هو النيّة الطاهرة والخلوص في العمل لله وحده، لأنّه هو الذي يجزي أعمال العبد،وهو عالم بما يخفي ويعلن.

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 385.

2 ـ المصدر السابق.

(322)

الآية

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَيهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْر فَلاَِنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللهِ وَ مَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْر يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون (272)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان عن ابن عبّاس أنّ المسلمين لم يرضوا بالإنفاق على غير المسلمين، فنزلت هذه الآية تجيز لهم ذلك عند الضرورة.

وهناك سبب نزول آخر لهذه الآية قريب من سبب النزول السابق. فقد جاء أنّ أمرأة مسلمة تدعى «أسماء» كانت في رحلة عمرة القضاء مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاءتها أمّها وجدّتها تطلبان بعض العون منها، ولكن لمّا كانتا من المشركين وعبدة الأصنام.، فقد امتنعت أسماء عن مدّ يد المساعدة إليهما، وقالت : لابدّ أن أستجيز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك لأنكما لستما على ديني. وأقبلت إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)تستجيزه، فنزلت الآية المذكورة.

التّفسير

الإنفاق على غير المسلمين :

تحدّثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام، ولكن

(323)

في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين، بمعنى أنّه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتّى تشتدّ بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.

تقول الآية (ليس عليك هداهم) فلا يصحّ أن تجبرهم على الإيمان، وترك الإنفاق عليهم نوعٌ من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام، وهذا الاُسلوب مرفوض، ورغم أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّه في الواقع يستوعب كلّ المسلمين.

ثمّ تضيف الآية(ولكنّ الله يهدي من يشاء) ومن تكون له اللياقة للهداية.

فبعد هذا التذكّر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل الله فتقول : (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلاّ إبتغاء وجه الله).

هذا في صورة ما إذا قلنا أنّ جملة (وما تنفقون) قد أخذت هنا بمعنى النهي، فيكون معناها أنّ إنفاقكم لا ينفعكم شيئاً إلاّ إذا كان في سبيل الله تعالى.

ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة خبريّة، أي أنكم أيّها المسلمون لا تنفقون شيئاً إلاّ في سبيل الله تعالى وكسب رضاه.

وفي آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيداً أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيّته حيث تقول الآية (وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون).

يعني أنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل، بل أنّ جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملاً، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدّة، فعلى هذا لا تتردّدوا في الإنفاق أبداً.

ويستفاد من ظاهر هذه الجملة أنّ نفس المال المنفق سيعود على صاحبه (لاثوابه) فيمكن أن تكون الآية دليلاً على تجسّم الأعمال الذي سيأتي بحثه

(324)

مفصّلاً في الآيات اللاحقة(1).

* * *

بحوث

1 ـ الآية أعلاه تقول أنّ نعم الله وآلاءه في هذا العالم كما أنّها تشمل الجميع بغضّ النظر عن العقيدة والدين، كذلك ينبغي أن يشمل إنفاق المؤمنين المستحبّ رفع حاجات الناس غير المسلمين أيضاً إذا إقتضت الضرورة.

ومن الواضح أنّ الإنفاق على غير المسلمين يجب أن يكون ذا طابع إنساني ففي هذه الصورة يكون جائزاً، لا ما إذا كان موجباً لتقوية الكفر ودعم خطط الأعداء المشؤومة.

2 ـ للهداية أنواع مختلفة : من الواضح أنّ المقصود من عدم وجوب هداية الناس على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعني أنّه غير مكلّف بإرشاد الناس وهدايتهم لأنّ الإرشاد والدعوة من أهم جوانب مسؤوليات النبي، وإنّما المقصود أنّه غير مكلّف بممارسة الضغط وعوامل الإكراه لحمل الناس على إعتناق الإسلام.

وهل أنّ المقصود من هذه الهداية هو الهداية التكوينيّة أو التشريعيّة ؟ لأن الهداية لها عدّة أنواع :

أ ـ الهداية التكوينية : وتعني أنّ الله تعالى خلق مجموعة من عوامل التقدّم والتكامل في مختلف كائنات هذا العالم، يشمل ذلك الإنسان وجميع الكائنات الحيّة، بل حتّى الجمادات، وهذه العوامل تدفع الموجودات نحو تكاملها.

إنّ نموّ الجنين في رحم أُمّه ورشده، ونموَّّ البذرة في باطن الأرض ورشدها،

_____________________________

1 ـ سوف تأتي هذه المسألة مفصلاً في ذيل الآية (30) من سورة آل عمران وفي هذا المجلد بالذات.

(325)

وحركة السيارات والمنظومات الشمسية في مداراتها، وأمثال ذلك نماذج مختلفة من الهداية التكوينية. وهذا النوع من الهداية خاصّ بالله تعالى، ووسائلها عوامل وأسباب طبيعية وما وراء الطبيعية. يقول القرآن المجيد : (الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى)(1).

ب ـ الهداية التشريعية : وتعني هداية الناس عن طريق التعليم والتربية، والقوانين، والحكومات العادلة، والموعظة والنصيحة. وهذه الهداية يقوم بها الأنبياء والأئمّة والصالحون والمربّون المخلصون. وقد أشار القرآن إلى هذا بقوله : (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين)(2).

ج ـ الهداية التوفيقية : وهي الهداية إلى تهيئة الوسائل ووضعها في متناول الأفراد لكي يستفيدوا منها حسبما يشاؤون في مضان التقدّم، كبناء المدارس والمساجد ومعاهد التربية، وإعداد الكتب ووضع الخطط وتدريب المربّين والمعلّمين المؤهّلين، وهذا النوع من الهداية يقع بين الهدايتين التكوينية والتشريعية. يقول القرآن : (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا)(3).

د ـ الهداية نحو النعمة والمثوبة : وهذه تعني هداية الأفراد اللائقين للإنتفاع بنتائج أعمالهم الصالحة في العالم الآخر، وهي هداية تختصّ بالمؤمنين الصالحين. يقول القرآن : (سيهديهم ويصلح بالهم)(4).

هذه الآية جاءت بعد ذكر تضحية الشهداء في سبيل الله. واضح أنّ هذا النوع من الهداية ترتبط بتمتّع هؤلاء بثمار أعمالهم في الآخرة.

الواقع أنّ هذه الأنواع الأربعة من الهداية تشكّل مراحل مختلفة متوالية

_____________________________

1 ـ طه : 50.

2 ـ البقرة : 2.

3 ـ العنكبوت : 69.

4 ـ محمّد : 5.

(326)

لحقيقة واحدة. ففي البداية تكون الهداية التكوينية التي يهدي بها الله مخلوقاته ومنها الإنسان الذي أودع فيه العقل والفكر والقوى الاُخرى.

يلي تلك الهداية هداية الأنبياء والرسل الذين يهدون الناس إلى طريق الحقّ. والهداية هنا بمعنى الإرشاد والتبليغ.

ثمّ تأتي مرحلة العمل فيشمل الله مخلوقاته بتوفيقه فتتمهّد لهم سبل وطرائق تسير عليها نحو التكامل. وهذه هي هداية التوفيق.

وفي العالم الآخر ينالون جزاء أعمالهم الصالحات.

هداية الإرشاد والدعوة التي تشكّل واحداً من أنواع الهداية الأربعة هي من واجبات الأنبياء والأئمّة، وقسم منها ممّا يتناول تمهيد الطرق، يدخل معظمه ضمن واجبات الحكومات الإلهية للأنبياء والأئمّة، والباقي يختصّ بالله تعالى.

وعليه حيثما نجد في القرآن سلب الهداية عن أنبياء، فذلك لا يخصّ النوعين الأوّلين.

(ولكنَّ الله يهدي من يشاء).

وهي هدايه لا تأتي اتباطاً بدون حكمة ولا حساب، أي أنّه لا يمكن أن يهدى يهذا ويحرم ذاك بغير سبب، فعلى الإنسان أن يكون جدير بالهداية لكي ينالها ويستفيد منها.

نستخلص من هذه الآية حقيقة أُخرى، وهي أنّه يخاطب نبيّه قائلاً : إذا ظهر بين المسلمين ـ بعد كلّ ذلك التحذير من الإنفاق المصحوب بالرياء والمنّ والأذى ـ أفراد ما يزالون يلوّثون إنفاقهم بهذه الأُمور، فلا يسؤك ذلك، إنّ واجبك هو بيان الأحكام وتهيئة المناخ الإجتماعي السليم، وليس من واجبك أبداً أن تجبرهم على تجنّب هذه الأُمور. وهذا التفسير لايتنافى مع التفسير السابق، فكلاهما محتملان.

(327)

3 ـ أثر الإنفاق في حياة المنفق :

نلاحظ في جملة (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) أنّ فوائد الإنفاق تعود على المنفقين أنفسهم، وبهذا تدفعهم نحو هذا العمل الإنساني، وطبيعي أنّ الإنسان يزداد حماساً لممارسة علمه حين يعلم أنّ منافع هذا العمل تعود إليه.

قد يبدو للوهلة الأُولى أنّ المنافع التي تعود على المنفق من إنفاقه هي ما يناله من ثواب في الآخرة، هذا بالطبع صحيح، ولكن لاينبغي أن يتصوّر أنّ نتائج الإنفاق أُخروية فحسب، بل أنّ له منافع في هذه الدنيا أيضاً مادّية ومعنوية. ففائدته المعنوية هي أنّ روح البذل والإنسانية والتضحية والأخوّة تتربّى في المنفق. وهذه في الواقع وسيلة مؤثّره في تكامل شخصية الإنسان وتربيته.

أمّا فائدته المادّية فإنّ وجود أُناس معدمين فقراء في مجتمع ما يكون سبباً في أزمات اجتماعية خطرة قد تبتلع مبدأ الملكية نفسه في ثورتها، فلا تبقي ولا تذر.

الإنفاق يقلّل من الفواصل الطبقيّة ويزل هذا الخطر الذي يهدّد الأفراد الأثرياء في المجتمع، فالإنفاق يطفيء لهيب غضب الطبقات المحرومة ويقضي على روح الإنتقام في نفوسهم.

من هنا فالإنفاق لصالح المنفقين من حيث الأهميّة الإجتماعية والسلامة الإقتصادية والجوانب المختلفة المادّية والمعنوية.

4 ـ ما معنى (وجه الله) ؟

«وجه» بالإضافة إلى معناها المعروف قد تستعمل بمعنى ذات، وعندئذ (وجه الله) تعني ذات الله التي يجب أن يتوجّه إليها المنفقون في إنفاقهم، وعليه فإنّ ورود كلمة «وجه» في هذه الآية وفي غيرها إنّما يقصد به التوكيد، فمن

(328)

الواضح أنّ قولنا «لوجه الله» أو «لذات الله» أكثر تأكيداً من قولنا «لله». فيكون المعنى أنّ الإنفاق لله حتماً لا لغير الله.

ثمَّ إنَّ الوجه أشرف جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، ففيه أهمّ أعضاء الإنسان كالبصر والسمع والنطق. ولهذا حيثما استعملت كلمة «الوجه» كان القصد إيصال معاني الشرف والأهميّة، واستعمالها هنا استعمال كناية يفهم منه الإحترام والأهميّة، وإلاَّ فإنّ الله منزّه عن الصورة الجسدية.

* * *

(329)

الآية

لِلْفُقَرَآء الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الاَْرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تُعْرِفُهُم بِسِيمَـاهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْر فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

سبب النّزول

نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال : إنّ هذه الآية نزلت في أصحاب «الصفّة». وهم جمع نحو أربعمائة شخص من مسلمي مكّة وأطراف المدينة ممّن لم يكن لهم مأوى يأوون إليه في المدينة، ولا قريب يؤويهم في منزله، فاتّخذوا من مسجد النبيّ منزلاً معلنين استعدادهم للذهاب إلى ميادين الجهاد دائماً، ولكن بما أنّ بقاءهم في المسجد لم يكن ينسجم مع شؤونه فقد أُمروا بالإنتقال إلى «صفّة» دكّة عريضة كانت خارج المسجد. ونزلت الآية تحثّ المسلمين أن يغدقوا مساعداتهم على إخوتهم هؤلاء فأعانوهم(1).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، أبو الفتوح الرازي، البحر المحيط، القرطبي، روح المعاني، وتفاسير اُخرى ومع تفاوت في العبارات.

(330)

صرّح بعض المفسّرين : «لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم; وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرساً لبيوت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخلص إليها من دونهم عدو...»(1)

التّفسير

خير مواضع الإنفاق :

يبيّن الله في هذه الآية أفضل مواضع الإنفاق، وهي التي تتّصف بالصفات التالية :

1 ـ (للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله) أي الذين شغلتهم الأعمال الهامّة كالجهاد ومحاربة العدو، وتعليم فنون الحرب، وتحصيل العلوم الأُخرى، عن العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفّة الذين كانوا خير مصداق لهذا الوصف(2).

ثمّ للتأكيد تضيف الآية : (لا يستطيعون ضرباً في الأرض) أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الاُخرى حيث تتوفر نِعم الله تعالى. وعليه فإنّ القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحمّلوا عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلاَّ إذا كانوا منشغلين بعمل أهمّ من كسب العيش كالجهاد في سبيل الله.

2 ـ الذين (يحسبُهم الجاهل أغنياء من التعفّف) هؤلاء الذين لا يعرف الآخرون شيئاً عن بواطن أُمورهم، ولكنهم ـ لما فيهم من عفّة النفس والكرامة ـ

_____________________________

1 ـ في ظلال القرآن : ذيل الآية المبحوثة.

2 ـ «حصر» بمعنى الحبس والمنع والتضييق وجاءت هنا بمعنى جميع الاُمور التي تمنع الإنسان من تأمين معاشه.

(331)

يظنّون أنهم من الأغنياء.

ولكن هذا لايعني أنهم غير معروفين. لذا تضيف الآية (تعرفهم بسيماهم).

السيماء : العلامة(1). فهؤلاء وإن لم يفصحوا بشيء عن حالهم، فإنّ على وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون، فلون وجناتهم ينبيء عمّا خفي من أسرارهم.

3 ـ والثالث من صفات هؤلاء أنهم لايصرّون في الطلب والسؤال : (لا يسألون الناس إلحافاً)(2) أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلاً عن الإلحاف، فالإلحاح في السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديّين، وهؤلاء ليسوا عاديّين. وقول القرآن إنّهم لا يلحفون في السؤال لا يعني أنّهم يسألون بدون إلحاف، بل يعني أنّهم ليسوا من الفقراء العاديّين حتّى يسألوا، ولذلك لا تتعارض هذه الفقرة من الآية مع قوله تعالى : (تعرفهم بسيماهم)لأنّهم لا يُعرفون بالسؤال.

ثمّة احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّهم إذا اضطرّتهم الحالة إلى إظهار عوزهم فإنّهم لا يلحفون في السؤال أبداً، بل يكشفون عن حاجتهم باسلوب مؤدّب أمام إخوانهم المسلمين.

(وما تنفقون من خير فإنّ الله به عليم).

في هذه الآية حثّ على الإنفاق، وعلى الأخصّ الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ الله عالم بما ينفقون حتّى وإن كان سرّاً وأنّه سوف يثيبهم على ذلك، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.

* * *

_____________________________

1 ـ قيل أنها من مادة «وسم»، وقيل أنها من مادة «سوم».

2 ـ «الحاف» من مادة «لِحاف» بمعنى الغطاء المعروف، واُطلق على الاصرار في السؤال لأنّه يغطي قلب الشخص المقابل.

(332)

بحث

الاستجداء بدون حاجة حرام :

إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة، لذلك وقد ورد في روايات متعدّدة النهي عن هذا العمل بشدّة، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : «لا تحل الصدقة لغني».

وورد في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من جمرة جهنّم»(1) وكذلك ورد في الأحاديث الشريفة «أنّه لا تقبل شهادة من يسأل الناس بكفّه»(2).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير المراغي : ج 3 ص 50.

2 ـ وسائل الشيعة : ج 8 ص 281 كتاب الشهادات ب 35.

(333)

الآية

الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (274)

سبب النّزول

ورد في أحاديث كثيرة أنّ هذه الآية الشريفة نزلت في عليٍّ (عليه السلام) لأنّه كان لديه أربعة دراهم فأنفق منها درهماً في الليل وآخر في النهار وثالث علانيّة ورابع(1)خفيةً، فنزلت هذه الآية، ولكن من الواضح أنّ نزول الآية في مورد خاصّ لا يحدّد مفهوم تلك الآية ولا ينفي شموليّة الحكم لغيره من الموارد.

التّفسير

الإنفاق محمودٌ بكلّ أشكاله :

في هذه الآية يدور الحديث أيضاً عن مسألة اُخرى ممّا يرتبط بالإنفاق في

_____________________________

1 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 290 و 291 . ورد مضمون هذا الحديث في كتب تفسير أهل السنّة أيضاً، وينقله صاحب (الدر المنثور) عن ابن عساكر والطبراني وأبي حاتم وابن جرير وغيرهم. ويرى البعض أن علماء الشيعة بالاتفاق وأكثر علماء السنّة ذهبوا إلى أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفي علماء السنّة، الواحدي، ثعلبي، الخوارزمي، السدّي، العكبي، الزمخشري، الكافي، القشيري، الحاوردي، ابن المغازلي، ابن أبي الحديد، وغيرهم، وراجع تفسير البرهان.

(334)

سبيل الله وهي الكيفيّات المتنوّعة والمخلفة للإنفاق فتقول الآية : (الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أُجرهم عند ربهم).

ومن الواضح أنّ إنتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية والإجتماعية في إنفاقه اللّيلي أو النهاري العلني أو السرّي، فحين لا يكون ثمّة مبرّر لإظهار الإنفاق على المحتاجين فينبغي أن يكون في الخفاء لحفظ كرامة المحتاجين وتركيزاً لإخلاص النيّة.

وإذا تطلّبت المصلحة إعلان الإنفاق كتعظيم الشعائر الدينيّة والترغيب والحثّ على الإنفاق دون أن يؤدّي ذلك إلى هتك حرمة أحد من المسلمين، فليعلن عنه (كالإنفاق في الجهاد والمراكز الخيريّة وأمثال ذلك).

ولا يبعد أن يكون تقديم اللّيل على النهار والسرّ على العلانية في الآية مورد البحث إشارة إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلاّ أن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كلّ حال.

ومن المسلّم أنّ الشيء الذي يكون عند الله (وخاصّة بالنظر إلى صفة الربوبيّة الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئاً قليلاً وغير ذا قيمة، بل يكون متناسباً مع ألطاف الله تعالى وعناياته التي تتضمّن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى الله تعالى.

ثمّ تضيف الآية (ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون).

إنّ الإنسان يعلم أنّه لكي يدبّر اُموره المعاشية والحياتية يحتاج إلى المال والثروة، فإذا فقد ثروته ينتابه الحزن على ذلك، ويشتدّ به الخوف على مستقبله، لأنّه لا يعلم ما ينتظره في مقبلات الأيام. هذه الحالة غالباً ما تمنع الإنسان من الإنفاق، إلاَّ الذين يؤمنون من جهة بوعود الله ويعرفون من جهة اُخرى آثار

(335)

الإنفاق الإجتماعية. فهؤلاء لا ينتابهم الخوف والقلق من الإنفاق في سبيل الله على مستقبلهم ولا يحزنون على نقص أموالهم بالإنفاق، لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل الله وبركات إنفاقهم الفردية والإجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة.

* * *

(336)

الآيات

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئَكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُون (275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَـاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّار أَثِيم (276) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (277)

التّفسير

الربا في القرآن :

في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع. وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق، والواقع هو أنّ هذه الآيات تكمل هدف

(337)

الآيات السابقة، لأنّ تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية ويركّز الثروة في أيدي فئة قليلة، ويسبّب فقر الأكثرية، والإنفاق سبب طهارة القلوب والنفوس واستقرار المجتمع، والربا سبب البخل والحقد والكراهية والدنس.

هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا، ولكن يبدو منها أنّ موضوع الربا قد سبق التطرّق إليه. فإذا لاحظنا تاريخ نزول هذه الآيات تتّضح لنا صحّة ذلك، فبحسب ترتيب نزول القرآن، السورة التي ورد فيها ذكر الربا لأول مرّة هي سورة الروم، وهي السورة الثلاثون التي نزلت في مكّة، ولا نجد في غيرها من السور المكّية إشارة إلى الربا.

لكن الحديث عن الربا في السورة المكّية جاء على شكل نصيحة أخلاقية (وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله)(1).

أي أنّ قصيري النظر قد يرون أنّ الثروة تزداد بالربا، ولكنّه لا يزداد عند الله.

ثمّ بعد الهجرة، تناول القرآن الربا في ثلاث سور أُخرى من السور التي نزلت في المدينة وهي بالترتيب : سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء. وعلى الرغم من أنّ سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران، فلا يُستبعد أن تكون الآية 130 من سورة آل عمران ـ وهي التي تحرّم الربا تحريماً صريحاً ـ قد نزلت قبل سورة البقرة والآيات المذكورة أعلاه.

على كلّ حال، هذه الآية وسائر الآيات التي تخصّ الربا نزلت في وقت كان فيه تعاطي الربا قد راج بشدّة في مكّة والمدينة والجزيرة العربية حتّى غدا عاملاً مهمّاً من عوامل الحياة الطبقية، وسبباً من أهمّ أسباب ضعف الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية، لذلك فإنّ الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من

_____________________________

1 ـ الروم : 39.

(338)

أهمّ الحروب الإجتماعية التي خاضها الإسلام.

يقول تعالى :

(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبّطه(1) الشيطان من المس).

فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الإحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبّط في خطواته.

ولعلّ المقصود هو وصف طريقة «سير المرابين الإجتماعي» في الدنيا على اعتبار أنّهم أشبه بالمجانين في أعمالهم، فهم يفتقرون إلى التفكير الإجتماعي السليم، بل أنّهم لا يشخّصون حتّى منافعهم الخاصّة، وأنّ مشاعر المواساة والعواطف الإنسانية وأمثالها لا مفهوم لها في عقولهم إذ أنّ عبادة المال تسيطر على عقولهم إلى درجة أنّها تعميهم عن إدراك ما ستؤدّي إليه أعمالهم الجشعة الإستغلالية من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة وما سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرض أساس الملكية للخطر، وفي مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والإستقرار، وستصادر الراحة من جميع الناس بمن فيهم هذا المرابي، ولذلك فإنّه يجني على نفسه أيضاً بعمله الجنوني هذا.

ولكن بما أنّ وضع الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين. أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياماً غير معتقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سسيحشرون يوم القيامة كالمجانين.

الطريف الروايات والأحاديث تشير إلى كلا المفهومين. ففي حديث عن

_____________________________

1 ـ «يتخبَّطُه» من مادة «الخبط» هو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام.

(339)

الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال :

«آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبّطه الشيطان»(1).

وفي رواية أُخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا يهمّهم غير مصالحهم الخاصّة، وما ستجرّه عليهم أموالهم المحرّمة قال : «لمّا أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ! قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس»(2).

الحديث الأوّل يبيّن اضطراب الإنسان في هذه الدنيا، ويعكس الحديث الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة، فكما أنّ الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب، كذلك المرابون الذين يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالاً عليهم.

سؤال : هل الجنون والصرع اللذين أشارت إليهما الآية المذكورة من عمل الشيطان، مع أننا نعلم أنّ الصرع والجنون من الأمراض النفسية التي لها أسباب معروفة في الغالب ؟

الجواب : يرى بعضهم أنّ تعبير «مسّ الشيطان» كناية عن الأمراض النفسية والجنون، وهو تعبير كان شائعاً عند العرب، ولا يعني أنّ للشيطان تأثيراً فعلياً في روح الإنسان.

ولكن مع ذلك لا يُستبعد أن يكون لبعض الأعمال الشيطانية التي يرتكبها الإنسان دون تروٍّ أثر يؤدّي إلى نوع من الجنون الشيطاني، أي يكون للشيطان على إثر هذه الأعمال فاعلية في الشخص يسبّب اختلال تعادله النفسي. ثمّ إنّ الأعمال الشيطانية الخاطئة إذا تكرّرت وتراكمت يكون أثرها الطبيعي هو أن يفقد

_____________________________

1 ـ تفسير العياشي : ج 1 ص 152 ح 503.

2 ـ تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 291 ح 1157.

(340)

الإنسان قدرته على تمييز السقيم من السليم والصالح من الطالح والتفكير المنطقي من المعوج.

منطق المرابين :

(ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا).

هذه الآية تبيّن منطق المرابين فهم يقولون : ما الفرق بين التجارة والربا ؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما.

يقول القرآن جواباً على ذلك : (وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) ولم يزد في ذلك شرحاً وتفصيلاً، ربما لوضوح الإختلاف :

فأوّلاً : في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح والخسارة، فقد يربح كلاهما، وقد يخسر كلاهما، ومرّة يربح هذا ويخسر ذاك، ومرّة يخسر هذا ويربح ذاك، بينما في المعاملة الربوية لا يتحمّل المرابي أيّة خسارة، فكلّ الخسائر المحتملة يتحمّل ثقلها الطرف الآخر، ولذلك نرى المؤسّسات الربوية تتوسّع يوماً فيوماً، ويكبر رأسمالها بقدر اضمحلال وتلاشي الطبقات الضعيفة.

وثانياً : في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في «الإنتاج والإستهلاك»، بينما المرابي لا يخطو أيّة خطوة إيجابية في هذا المجال.

وثالثاً : بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم وتتزعزع قواعد الإقتصاد الذي هو أساس المجتمع، بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس الأموال في تداول سليم.

ورابعاً : الربا يتسبّب في المخاصمات والمنازعات الطبقية، بينما التجارة السليمة لا تجرّ المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي.

(فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فَلَهُ ما سلف وأمره إلى الله).

(341)

تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل «أي أنّ القانون ليس رجعياً» لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والإضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادةً من تاريخ سنّها.

وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.

ثمّ يقول (وأمره إلى الله) أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى الله، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو. ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة.

وردت احتمالات اُخرى في معنى هذه الجملة، أعرضنا عن ذكرها كونها خلاف الظاهر(1).

(ومن عاد فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كلّ تلك التحذيرات، فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً.

إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن بالله. لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله، ويلجّون في ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقّون الخلود في النار.

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي : ج 2 ص 169، هنا ذكر أربع تفاسير، وفي مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث وذكرت احتمالات عديدة اُخرى أيضاً.

(342)

كما يمكن القول إنّ خلود العذاب هنا كما في الآية 93 من سورة النساء، يعني العذاب المديد الطويل الأمد لا الأبديّ الدائم.

ثمّ أن الآية التالية تبيّن الفرق بين الربا والصدقة وتقول :

(يمحق الله الربا ويربي الصدقات).

ثُمّ يضيف : (والله لا يحبّ كلَّ كفّار أثيم) يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.

«المـَحق» النقصان التدريجي. و «الربا» هو النموّ التدريجي. فالمرابي بما لديه من رأسمال وثروة يستحوذ على أتعاب الطبقة الكادحة، وقد يؤدّي عمله هذا إلى القضاء عليهم، أو يبذر على الأقل بذور العداء والحقد في قلوبهم بحيث يصبحون بالتدريج متعطّشين إلى شرب دماء المرابين ويهدّدون أموالهم وأرواحهم. فالقرآن يقول إنّ الله يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.

إنّ هذا الفناء التدريجي الذي يحيق بالفرد المرابي يحيق بالمجتمع المرابي أيضاً.

وبالمقابل، فالاشخاص الذين يتقدّمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبّة الناس وعواطفهم عموماً، وأموال هؤلاء فضلاً عن عدم تعرّضها لأيّ خطر تنمو بالتعاون العامّ نموّاً طبيعياً. وهذا ما يعنيه القرآن بقوله :

(ويربي الصدقات).

وهذا الحكم يجري في الفرد كما يجري في المجتمع. فالمجتمع الذي يعني بالحاجات العامّة تتحرّك فيه الطاقات الفكرية والجسمية للطبقة الكادحة التي تؤلّف أكثرية المجتمع وتبدأ العمل، وعلى أثر ذلك يظهر إلى حيّز الوجود ذلك النظام الإقتصادي القائم على التكافل وتبادل المنافع العامّة.

(343)

 (والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم).

«الكفّار» من الكفور، بوزن فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة، و «الأثيم» هو الموغل في ارتكاب الآثام.

هذه الفقرة من الآية تشير إلى أنّ المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامّة يكفرون بما أغدق الله عليهم من النِعم، بل أكثر من ذلك يسخّرون هذه النِعم على طريق الإثم والظلم والفساد، ومن الطبيعي أنّ الله لا يحبّ أمثال هؤلاء.

(إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربّهم).

مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم الله هناك أُناس من المؤمنين تركوا حبّ الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا بالله بإقامة الصلاة، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الإختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم. هؤلاء ثوابهم محفوظ عند الله ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.

ثمّ إنّ هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهدّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع.

وأخيراً فإنّهم يعيشون في اطمئنان تام (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

* * *

(344)

الآيات

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)  فَإِن لَّم تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْب مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرةٌ إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن

(345)

كُنتُمْ تَعْلَمُون (280) وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون (281)

سبب النّزول

جاء في تفسير علي بن إبراهيم(1) أنّه بعد نزول آيات الربا جاء «خالد بن الوليد» إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وقال : كانت لأبي معاملات ربوية مع بني ثقيف، فمات ولم يتسلّم دَينه، وقد أوصاني أن أقبض بعض الفوائد التي لم تدفع بعد. فهل يجوز لي ذلك ؟ فنزلت الآيات المذكورة تنهي الناس عن ذلك نهياً شديداً.

وفي رواية أُخرى أنّه بعد نزول هذه الآية قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «ألا كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العبّاس بن عبدالمطّلب»(2).

يتضح من هذا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حملته لإلغاء الديون الربوية في الجاهلية قد بدأ بأقربائه أوّلاً. وإذا كان بينهم أشخاص أثرياء مثل العبّاس ممّن كانوا مثل غيرهم يتعاطون الربا في الجاهلية، فقد ألغى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ أوّلاًـ ربا هؤلاء.

وجاء في الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآيات امر أمير مكّة بأنه لو استمر آل المغيرة الذين كانوا معروفين بالربا في عملهم فليقاتلهم(3).

التّفسير

في الآية الأُولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثمّ يأمرهم أن

_____________________________

1 ـ تفسير علي بن إبراهيم : ج 1 ص 93.

2 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 392، والدر المنثور : ج 2 ص 109 مع تفاوت يسير.

3 ـ الدر المنثور : ج 2 ص 108 ـ 107.

(346)

يتنازعوا عمّا بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية.

يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان بالله واختتمت بذكره، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله.

(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).

تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكلّ شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحقّ والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ أن يتوسّل بالقوّة لاَيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم. وهي الحرب التي تنطلق من قانون : (قاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله)(1).

لذلك عندما سمع الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ مرابياً يتعاطى الربا بكلّ صراحة ويستهزيء بحرمته هدّده بالقتل.

ويستفاد من هذا الحديث أن حكم القتل إنّما هو لمنكر تحريم الربا. (فاذنوا)من مادة «اذن» وكلما كانت متعدية بالأمر بالمعنى هو السماح وإذا تعدت بالياء فتعني العلم فعلى هذا يكون قوله (فاذنوا بحرب من الله)(2) يعني أعلموا أن الله ورسوله سيحاربوكم وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه الفئة، فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنه «اسمحوا بإعلان الحرب من الله».

عن أبي بكير قال : بلغ أبا عبدالله الصادق (عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا

_____________________________

1 ـ الحجرات : 9.

2 و 3 ـ وسائل الشيعة : ج 12 ص 439 باب ثبوت القتل والكفر باستحلال الربا ح 1.

(347)

ويسمّيه اللبا.

فقال : لئن أمكنني الله منه لأَضربنّ عنقه(1).

يتّضح من هذا أنّ هذا الحكم يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام.

على كلّ حال يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسّل بالقوّة لمكافحة الربا(2).

(وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون).

أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط «بغير ربح». وهذا قانون عادل تماماً، لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.

إنّ تعبير (لا تَظلِمون ولا تُظلَمون) وإن كان قد جاء بشأن المرابين، ولكنّه في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق، يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنّب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم. وفي الحقيقة لو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً، ولو أنّ المسلمين أعدّوا العدّة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكّن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم. فقبل أن نقول الظالم : لاتظلم، علينا أن نقول المظلوم : لا تستسلم للظلم.

(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)(3).

استكمالاً لبيان حقّ الدائن في الحصول على رأسماله «بدون ربح» تبيّن الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع، ففضلاً عن عدم جواز الضغط

_____________________________

2 ـ فسّر «فأذنوا» بـ «فاعلموا» غالباً من قبل المفسّرين أمثال : الطبري في مجمع البيان، أبو الفتوح الرازي، الفخر الرازي، الآلوسي في روح المعاني، العلاّمة الطباطبائي في الميزان... وغيرهم.

3 ـ يحتمل أن تكون (كان) في الجملة أعلاه تامّة حيث لا تحتاج إلى خبر أو ناقصة ويكون التقدير «إن كان هناك ذو عسرة».

(348)

عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدَين عند القدرة والإستطاعة.

إنّ القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من استيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دَينه، إنّما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك. وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع.

(وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية. أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدّم. تقول الآية للدائنين أن الأفضل من كلّ ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو ان يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عمّا بقي له بذمتّه، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكلّ من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.

* * *

من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيّات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيراً عامّاً شاملاً يؤكّد به ما سبق قوله، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذاً جيّداً في العقل والنفس.

لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كلّ امرىء جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان، وكلّ ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره. ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد، إنّما هو نفسه ظلم نفسه (وهم لا يظلمون).

جدير بالذكر أنّ هذه الآية من الأدلّة الأُخرى على تجسّد أعمال الإنسان في العالم الآخر.

(349)

ومما يلفت النظر أنّ تفسير «الدرّ المنثور» ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يُستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.

وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لاحقة لها، وذلك بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه.

* * *

أضرار الربا

1 ـ الربا يخلّ بالتوازن الإقتصادي في المجتمع، ويؤدي إلى تراكم الثروة لدى فئة قليلة، لأنّ هذه الفئة هي وحدها التي تستفيد من الأرباح بينما لا يجني الآخرون سوى الخسائر والأضرار والضغوط.

الربا يشكّل اليوم أهم عوامل اتّساع الهوة المستمر بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وما يعقب ذلك من حروب دموية طاحنة.

2 ـ الربا لون من ألوان التبادل الإقتصادي غير السليم، يضعف العلائق العاطفية، ويغرس روح الحقد في القلوب، ذلك لأنّ الربا يقوم في الواقع على أساس أنّ المرابي لا ينظر إلاَّ إلى أرباحه، ولا يهمّه الضرر الذي يصيب المدّين.

هنايبدأالمدين بالإعتقادبأنّ المرابي يتّخذمن أموالهوسيلة لتدميرحياة الآخرين.

3 ـ صحيح أنّ دافع الربا يرضخ لعمله هذا نتيجة حاجة قد ألجأته إلى ذلك. ولكنّه لن ينسى هذا الظلم أبداً، وقد يصل به الأمر إلى الإحساس بأصابع المرابي تشدّد من ضغطها على عنقه وتكاد تخنفه. وفي هذه الحالة تبدأ كلّ جوارح المدين المسكين ترسل اللعنات على المرابي، ويتعطّش لشرب دمه. إنّه يرى بأُمّ عينيه كيف أنّ حاصل شقاءه وتعبه وثمن حياته يدخل إلى جيب هذا المرابي، في مثل

(350)

هذه الحالة الهائجة تُترتكب عشرات الجرائم المرعبة، فقد يقدم المدين على الإنتحار، وقد تدفعه حالته اليائسة إلى أن يقتل المرابي شرّ قتلة، وقد ينفجر الشعب المضطهد انفجاراً عامّاً في ثورة عارمة.

إنّ انفصام علائق التعاون بين الدول المرابية والدول التي تستقرض منها بالربا واضح للعيان أيضاً. إنّ الدول التي تجد ثرواتها تصبّ في خزائن دولة أُخرى باسم الربا تنظر دون شكّ بعين البغض والحقد إلى الدولة المرابية، وفي الوقت الذي هي تستقرض منها لحاجتها الماسة فإنّها تتحيّن الفرصة للإعراب عن نقمتها وكرهها بشتّى الوسائل والطرق.

وهذا هو الذي يحدونا إلى القول بأنّ للربا أثراً أخلاقياً سيئاً جدّاً في نفسيّة المدين ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الإجتماعي بين الأفراد والملل.

4 ـ في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في جملة قصيرة ولكنها عميقة المعنى. جاء في كتاب «وسائل الشيعة» عن علّة تحريم الربا عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : «إنّما حرّم الله عزّوجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس عن اصطناع المعروف»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة : ج 12، أبواب الربا، الباب 1، ص 422.

(351)

الآية

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْن إِلَى أَجَل مُّسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يُكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلُْيمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أوَْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الاُْخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَادُعُوا وَلاَ تَسْئَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرةً تُدِيرُونَهَا بَيْنُكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَشَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقُ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلّ ِ شَىْء عَلِيمٌ (282)

التّفسير

(352)

تدوين الأوراق التجارية :

بعد أن شنّ القرآن على الربا والإحتكار والبخل حرباً شعواء، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والإقتصادية، لكي تنمو رؤوس الأموال نموّاً طبيعياً دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.

تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بنداً من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي :(1)

1 ـ إذا أقرض شخص شخصاً أو عقد صفقة، بحيث كان أحدهما مديناً، فلكي لا يقع أيّ سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله (يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمّى فاكتبوه).

من الجدير بالذكر أنّه يستعمل كلمة «دَين» هنا ولا يستعمل كلمة «قرض»، وذلك لأنّ القرض هو تبادل شيئين متشابهين كالنقود أو البضاعة التي يقترضها المقترض ويستفيد منها،ثمّ يعيد نقوداً أو بضاعةً إلى المقرض مثلاً بمثل. أمّا «الدَين» فأوسع معنى، فهو يشمل كلّ تعامل، مثل المصالحة والإيجار والشراء والبيع وأمثالها، بحيث إنّ أحد الطرفين يصبح مديناً للطرف الآخر. وعليه فهذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دَين يبقى في ذمّة المدين، بما في ذلك القرض.

2 ـ لكي يطمئن الطرفان على صحّة العقد ويأمنا احتمال تدخّل أحدهما فيه، فيجب أن يكون الكاتب شخصاً ثالثاً (وليكتب بينكم كاتب).

على الرغم من أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب كتابة العقد، يتبيّن من الآية التالية (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته) أنّ لزوم الكتابة يتحقّق إذا

_____________________________

1 ـ وطبعاً يستفاد من بعض الأحكام ضمناً «وليس بالدلالة المطابقية» أنه لو اضيفت تلك الأحكام إلى الأحكام التسعة عشر المذكورة لبلغت أكثر من واحد وعشرين حكماً.

(353)

لم يطمئن الطرفان أحدهما إلى الآخر واحتمل حصول خلافات فيما بعد.

3 ـ عل كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحقّ، وأن يكتب الحقيقة الواقعة (بالعدل).

4 ـ يجب على كاتب العقد، الذي وهبه الله علماً بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل، أن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الإجتماعي (ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علّمه الله فليكتب).

إنّ تعبير (كما علّمه الله) حسب التفسير المذكور للتوكيد ولزيادة الترغيب. ويمكن القول إنّه يشير إلى أمر آخر، وهو ضرورة التزامه الأمانة، وأن يكتب العقد، كما علّمه الله، كتابة متقنة.

بديهيّ أنّ قبول الدعوة إلى تنظيم العقود ليست واجباً عينياً، كما يتّضح من قوله سبحانه(ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً).

5 ـ على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب. ولكن أيّ الطرفين ؟ تقول الآية : المدين الذي عليه الحق : (وليملل الذي عليه الحقّ).

من المتّفق عليه أنّ التوقيع المهمّ في العقد هو توقيع المدين، ولذلك فإنّ العقد الذي يكتب بإملائه يعتبر مستمسكاً لا يمكنه انكاره(1).

6 ـ على المدين عند الإملاء أن يضع الله نصب عينيه، فلا يترك شيئاً إلاَّ قاله ليكتبه الكاتب (وليتّق الله ربّه ولا يبخس منه شيئاً).

7 ـ إذا كان المدين واحداً ممّن تنطبق عليه صفة «السفيه»، وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته، أو «الضعيف» القاصر في فكره والضعيف في عقله المجنون، أو «الأبكم والأصم» الذي لا يقدر على النطق،

_____________________________

1 ـ «وليملل» من مادة «ملة» بمعنى الدين والأحكام الإلهية وقال بعض أنها من مادة «ملال» وبما أن في الملاء هناك تكرار مملل اُطلقت هذه الكلمة عليه (تارة بصورة املاء واُخرى بصورة املال).

(354)

فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه (فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه).

8 ـ على «الولي» في الإملاء والإعتراف بالدَين، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله، وأن يتجنّب الإبتعاد عن الحقّ (فليملل وليّه بالعدل).

9 ـ بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين (واستشهدوا شهيدين)(1).

10 و 11 ـ يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة (من رجالكم) أي ممّن هم على دينكم.

12 ـ يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان).

13 ـ لابدّ أن يكون الشاهدان موضع ثقة (ممّن ترضَون من الشهداء). يتبيّن من هذه الآية أنّ الشهود يجب أن يكونوا ممّن يُطمأنّ إليهم من جميع الوجوه، وهذه هي «العدالة» التي وردت في الأخبار أيضاً.

14 ـ وإذا كان الشاهدان من الرجال، فلكلّ منهما أن يشهد منفرداً. أمّا إذا كانوا رجلاً واحداً وامرأتين، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معاً لكي تذكّر إحداهما الاُخرى إذا نسيت شيئاً أو أخطأت فيه.

أمّا سبب اعتبار شهادة أمرأتين تعدل شهادة رجل واحد، فهو لأنّ المرأة كائن عاطفي وقد تقع تحت مؤثّرات خارجية، لذلك فوجود امرأة أُخرى معها يحول بينها وبين التأثير العاطفي وغيره : (أن تَضِلّ إحداهما فتُذكّر إحداهما الأُخرى).

15 ـ ويجب على الشهود إذا دُعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير

_____________________________

1 ـ قال بعض ان التفاوت بين «شاهد» و «شهيد» هو أن الشاهد يقال لمن حضر الواقعة حتّى يمكنه أن يشهد عليها والشهيد هو الذي يؤدي الشهادة.

(355)

ولا عُذر كما قال : (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا).

وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلاَّ به.

16 ـ تجب كتابة الدين سواء أكان الدَين صغيراً أو كبيراً، لأنّ الإسلام يريد أن لا يقع أيّ نزاع في الشؤون التجارية، حتّى في العقود الصغيرة التي قد تجرّ إلى مشاكل كبيرة (ولا تسأموا أن تَكْتُبُوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله)(1) والسأم هو الملل من أمر لكثرة لبثه.

وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام، فتقول إنّ الدقّة في تنظيم العقود والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة، كما أنّها تطمئن الشهود من جهة أُخرى عند أداء الشهادة، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظنّ بين أفراد المجتمع (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألاَّ ترتابوا).

17 ـ إذا كان التعاقد نقداً فلا ضرورة للكتابة (إلاَّ أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاَّ تكتبوها).

«التجارة الحاضرة» تعني التعامل النقدي، و «تديرونها» تعني الجارية في التداول لتوضيح معنى التجارة الحاضرة. وتعبير (فليس عليكم جناح) يعني : ليس هناك ما يمنع من كتابة العقود النقدية أيضاً، وهو خير، لأنّه يزيل كلّ خطأ أو اعتراض محتملين فيما بعد.

18 ـ في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة عقد، لابدّ من شهود : (وأشهِدوا إذا تبايعتم).

19 ـ وآخر حكم تذكره الآية هو أنّه ينبغي ألاَّ يصيب كاتب العقد ولا الشهود

_____________________________

1 ـ تقديم «الصغير» على «الكبير» من أجل أن الناس عادة يهملون المعاملات الصغيرة أو لا يلتزمون بكتابتها وهذا يؤدي إلى التنازع أو أنه يحتمل أن الناس يظنون أن كتابة المعاملات الصغيرة دليل على البخل، ولذلك تعرض القرآن لنفيه.

(356)

أيّ ضرر بسبب تأييدهم الحقّ والعدالة : (ولا يضارّ كاتب ولا شهيد).

والفعل «يضارّ» يعني ـ كما فسّرناه ـ أن لا يصيب الكتاب والشهود ضرر، أي أنّه مجهول. ولا حاجة إلى تفسيره بأنّه يعني أن لا يصدر من الكاتب والشهود ضرر في الكتابة والشهادة، بعبارة أُخرى لا حاجة إلى اعتباره فعلاً معلوماً، لأنّ هذا التأكيد ورد في فقرة سابقة من الآية.

ثمّ تقول الآية إنّه إذا آذى أحد شاهداً أو كاتباً لقوله الحق فهو إثم وفسوق يخرج المرء من مسيرة العبادة لله : (وإن تفعلوا فإنّه فُسُوق بكم).

وفي الختام، وبعد كلّ تلك الأحكام، تدعو الآية الناس إلى التقوى وامتثال أمر الله : (واتقوا الله) ثمّ تقول إنّ الله يعلّمكم كلّ ما تحتاجونه في حياتكم المادّية والمعنوية : (ويعلّمكم الله) وهو يعلم كلّ مصالح الناس ومفاسدهم ويقرّر ما هو الصالح لهم : (والله بكلّ شيء عليم).

* * *

بحوث

1 ـ إنّ الأحكام الدقيقة المذكورة في هذه الآية لتنظيم الأسناد والمعاملات وذكر الجزئيّات أيضاً في جميع المراحل في أطول آية من القرآن الكريم يبيّن الأهتمام الكبير الذي يليه القرآن الكريم بالنسبة للاُمور الاقتصادية بين المسلمين وتنظيمها، وخاصّةً مع الإلتفات إلى أنّ هذا الكتاب قد نزل في مجتمع متخلّف إلى درجة أنّ القراءة والكتابة كانتا سلعة نادرة جدّاً، وحتّى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو صاحب القرآن لم يكن قد درس شيئاً ولم يذهب إلى مدرسة أو مكتب، وهذا بنفسه دليل على عظمة القرآن من جهة، وأهميّة النظام الاقتصادي للمسلمين من

(357)

جهة اُخرى.

يقول (علي بن إبراهيم) في تفسيره المعروف : جاء في الخبر أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكم إسلامي وفي هذه الآية ورد خمسة عشر حكماً(1).

وكما رأينا أنّ عدد أحكام هذه الآية يصل إلى تسعة عشر حكماً، بل أنّنا إذا أخذنا بنظر الإعتبار الأحكام الضمنيّة لها فسيكون عدد الأحكام أكثر إلى حدٍّ أنّ الفاضل المقداد إستفاد منها في كتابه (كنز العرفان) واحداً وعشرين حكماً بالإضافة إلى الفروع المتعدّدة الاُخرى، فعلى هذا يكون قوله بأنّ عدد أحكام هذه الآية خمسة عشر حكماً إنّما هو بسبب إدغام بعض أحكام هذه الآية بالبعض الآخر.

2 ـ إنّ جملة (واتقوا الله) وجملة (ويعلّمكم الله) رغم أنّهما ذكرتا في الآية بصوره مستقلّة وقد عطفت إحداهما على الاُخرى، ولكنّ إقترانهما معاً إشارة إلى الإرتباط الوثيق بينهما، ومفهوم ذلك هو أنّ التقوى والورع وخشية الله لها أثر عميق في معرفة الإنسان وزيادة علمه وإطّلاعه.

أجل عندما يتطّهر قلب الإنسان من الشوائب بوسيلة التقوى فسيغدوا كالمرآة الصافية تعكس الحقائق الإلهيّة، وهذا المعنى لا شكّ فيه ولا إشكال من جانبه المنطقي، لأنّ الصفات الخبيثة والأعمال الذميمة تشكّل حجباً على فكر الإنسان ولا تدعه يرى وجه الحقيقة كما هي عليه، وعندما يقوم الإنسان بإزاحة هذه الحجب بوسيلة التقوى فإنّ وجه الحقّ سيظهر ويتجلّى.

ولكنّ بعض الصوفيّين الجهلاء أساءوا الإستفادة من هذا المعنى وجعلوه دليلاً على ترك تحصيل العلوم الرسميّة في حين أنّ هذا الكلام يخالف الكثير من آيات القرآن والروايات الإسلامية الشريفة.

_____________________________

1 ـ تفسير القمي : ج 1 ص 94.

(358)

والحقّ أنّ بعض العلوم يجب إكتسابها عن طريق العلم والتعلّم بالشكل السائد والمتعارف، وقسمٌ آخر من العلوم الإلهيّة لا تتحصّل للإنسان إلاّ بوسيلة تزكية القلب وتصفية الباطن بماء المعرفة والتقوى، وهذا هو النور الذي ورد في الروايات أنّ الله يقذفه في قلب من يليق بهذه الكرامة «العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء».

* * *

(359)

الآية

وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَـانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِن بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَـادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

التّفسير

هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على احكام اُخرى :

1 ـ عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم، كأن يقع ذلك في سفر، عندئذ على المدين أن يضع شيئاً عند الدائن باسم الرهن لكي يطمئّن الدائن (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة).

قد يبدو من ظاهر الآية لأول وهلة أنّ تشريع «قانون الرهن» يختصّ بالسفر، ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي (ولم تجدوا كاتباً) يتبيّن أنّ القصد هو بيان نموذج لحاله لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب، وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن حتّى في موطنهما. وكذلك وردت الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام). وفي المصادر

(360)

الشيعية والسنّيّة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رهن درعه في المدينة عند شخص غير مسلم واقترض منه مبلغاً من المال(1).

2 ـ يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتّى يطمئن (فرهان مقبوضة).

جاء في تفسير العيّاشي أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال : «لا رهن إلاَّ مقبوضة»(2).

3 ـ جميع هذه الأحكام ـ من كتابة العقد، واستشهاد الشهود، وأخذ الرهن ـ تكون في حالة عدم وجود ثقة تامّة بين الجانبين، وإلاَّ فلا حاجة إلى كتابة عقد، وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به، فيسدّد دَينه في الوقت المعيّن، وأن لا ينسى تقوى الله (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته وليتّق الله ربّه).

4 ـ على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أو في غيرها، إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها، لأنّ كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبُه).

طبيعيّ أنّ الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحقّ بشهادتهم، أمّا إذا ثبت الحقّ فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين، أي أنّ أداء الشهادة واجب كفائي.

وبما أنّ كتمان الشهادة والإمتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب، فقد نسب هذا الإثم إلى القلب(3)، فقال : (فإنه آثم قلبه) ومرّة اُخرى يؤكّد في ختام الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين : (والله بما تعملون عليم).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي : ج 2 ص 420، وتفسير المراغي ذيل الآية المبحوثة.

2 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 301.

3 ـ لتوضيح معنى القلب انظر الجزء الأوّل ص 72. (المراد من القلب في القرآن هو الروح والعقل).

(361)

الآية

للهِ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكمُ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللهُ عَلَى كُلّ ِ شَىْء قَدِيرٌ (284)

التّفسير

مالك كلّ شيء :

هذه في الحقيقة تكملة للجملة الأخيرة في الآية السابقة وتقول : (لله ما في السموات وما في الأرض) ولهذا السبب فهو يعلم جميع أفعال الإنسان الظاهريّة منها والباطنيّة (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله).

يعني لاينبغي لكم أن تتصوروا أعمالكم الباطنيّة مثل كتمان الشهادة والذنوب القلبيّة الاُخرى سوف تخفى على الله تعالى الحاكم على الكون بأجمعه والمالك للسموات والأرض، فإنّه لا يخفى عليه شيء، فلا عجب إذا قيل أنّ الله تعالى يحاسبكم على ذنوبكم القلبيّة ويجازيكم عليها (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء).

ويحتمل أيضاً أنّ الآية أعلاه تشير إلى جميع الأحكام المذكورة في الآيات

(362)

السابقة من قبيل الإنفاق الخالص والإنفاق المشوب بالرياء أو المنّة والأذى وكذلك الصلاه والصوم وسائر الأحكام الشرعيّة والعقائد القلبيّة.

في ختام الآية تقول.: (والله على كلّ شيء قدر) فهو عالمٌ بكل شيء يجري في هذا العالم، وقادرٌ أيضاً على تشخيص اللّياقات والملكات، وقادرٌ أيضاً على مجازات المتخلّفين.

* * *

ملاحظتان

1 ـ قد يتصوّر أنّ هذه الآية مخالفة للأحاديث الكثيرة التي تؤكّد على النيّة المجرّدة، ولكنّ الجواب واضح، حيث إنّ تلك الأحاديث تتعلق بالذنوب التي لها تطبيقات خارجيّة وعمليّة بحيث تكون النيّة مقدّمة لها من قبيل الظلم والكذب وغصب حقوق الآخرين وأمثال ذلك، لا من قبيل الذنوب التي لها جنبة نفسيّة ذاتاً وتعتبر من الأعمال القلبيّة مثل (الشرك والرياء وكتمان الشهادة).

وهناك تفسير آخر لهذه الآية، وهو أنّه يمكن أن يكون لعمل واحد صور مختلفة، مثلاً الإنفاق تارةً يكون في سبيل الله، واُخرى يكون للرياء وطلب الشهرة، فالآية تقول : أنّكم إذا أعلنتم نيّتكم أو أخفيتموها فإنّ الله تعالى أعلم بها وسيجازيكم عليها، فهي في الحقيقة إشارة إلى مضمون الحديث الشريف «لا عمل إلاّ بنيّة»(1).

2 ـ من الواضح أنّ قوله تعالى (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء) أنّ إرادته لا تكون بدون دليل، بل أنّ عفوه أيضاً يرتكز على دليل ومبرّر، وهو لياقة الشخص للعفو الإلهي، وهكذا في عقابه وعدم عفوه.

* * *

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة : ج 1 ص 33.

(363)

الآية

ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللهِ وَمَلائَكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعَنا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

التّفسير

علائم الإيمان وطريقه :

لقد شرعت سورة البقرة ببيان بعض المعارف الإسلامية والاعتقادات الحقّة واختتمت بهذه المواضيع أيضاً كما في الآية أعلاه والآية التي بعدها، وبهذا تكون بدايتها ونهايتها متوافقة ومنسجمة.

وقد ذكر بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية أنّه حين نزلت الآية السابقة وأنّ الله تعالى يعلم ما في أنفسكم ويحاسبكم بما أظهرتم وأخفيتم في قلوبكم، خاف بعض الصحابة وقالوا : ليس أحدٌ منّا إلاّ وفي قلبه خطرات ووساوس شيطانيّة، فعرضوا الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية أعلاه، وبيّنت طريق الحقّ والإيمان، ومنهج التضرّع والمناجاة والتسليم لأوامر الله تعالى(1).

_____________________________

1 ـ اقتباس من (البحر المحيط) : ج 2 ص 363.

(364)

في البداية تقول (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه) فهذا المعنى وهذه الخصيصة تعتبر من إمتيازات الأنبياء الإلهيين جميعاً بأنّهم مؤمنون بما جاءوا به إيماناً قاطعاً، فلا شكّ ولا شبهة في قلوبهم عن معتقداتهم، فقد آمنوا بها قبل الآخرين واستقاموا وصبروا عليها قبل الآخرين.

ونقرأ في الآية 158 من سورة الأعراف أنّ هذه الخصيصة تعتبر من صفات الرسول الأكرم ومن إمتيازاته حيث تقول : (فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته).

ثمّ تضيف الآية الكريمة : (والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله)(1) وهذه الجملة الأخيرة من كلام المؤمنين أنفسهم، حيث يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين وشرائعهم بخلاف البعض من الناس الذين تقول عنهم الآية 150 من سورة النساء (ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض)(2).

المؤمنون لا يرون تفاوتاً بين رسل الله من جهة أنّهم مرسلون من قبل الله تعالى، ويحترمونهم ويقدّسونهم جميعاً. ومعلوم أنّ هذا الموضوع لاينافي مقولة نسخ الشرائع السابقة بواسطة الشريعة البعديّة، لأنّه كما سبقت الإشارة إليه أنّ تعليمات الأنبياء وشرائعهم من قبيل المراحل الدراسيّة المختلفة من الإبتدائية والمتوسطة والاعدادية والجامعة، فبالرغم من أنّها تشترك جميعاً في الاُصول والمباديء الأساسيّة، إلاَّ أنّها تختلف في السطوح والتطبيقات المختلفة، فعندما يرتقي الإنسان إلى مرحلة أسمى فإنّه يترك البرامج المعدّة للمرحلة السابقة ويأخذ

_____________________________

1 ـ جملة «والمؤمنون» يمكن أن تكون جملة مستأنفة كما ذكر في التفسير أعلاه ويمكن أن تكون معطوفة على (الرسول) ولا يختلف المعنى كثيراً وإن كان المعنى الأول أنسب.

2 ـ النساء : 150.

(365)

بالبرامج المعدّة لهذه المرحلة، ومع ذلك يبقى إحترامه وتقديسه للمرحلة السابقة في محلّه.

ثمّ تضيف الآية أنّ المؤمنين مضافاً إلى إيمانهم الراسخ والجامع فإنّهم في مقام العمل أيضاً كذلك (وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

(سمعنا) وردت في بعض الموارد بمعنى فهمنا وصدّقنا من قبيل هذه الآية، أي أنّنا قبلنا دعوة أنبيائك بجميع وجودنا وعلى إستعداد تام للإطاعة والإتّباع.

ولكن يا إلهنا وربّنا نحن بشر وقد تتسلط علينا الغرائز والأهواء وتجرّنا إلى المعصية أحياناً، ولهذا ننتظر عفوك ونتوقع منك المغفرة لأنّ مصيرنا إليك(1).

وبهذا يتناغم الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الإلتزام العملي بجميع الأحكام الشرعيّة والدساتير الإلهيّة.

* * *

_____________________________

1 ـ ذهب كثير من المفسّرين إلى أن في الجملة الأخيرة فعل محذوف وتقديره (نسألك) أو (نريد غفرانك).

(366)

الآية

لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَااكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِدْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَـنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ (286)

التّفسير

عدّة حاجات مهمّة :

كما تقدّم في تفسير الآية السابقة أنّ هاتين الآيتين تتعلّقان بالأشخاص الّذين إستوحشوا من تعبير الآية السابقة في أنّ الله تعالى مطّلع على نيّاتهم وسيحاسبهم ويجازيهم عليها فقالوا : لا أحد منّا يصفو قلبه عن الوسوسة والخاطرات القلبيّة.

فالآية الحاضرة تقول : (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها).

(الوسع) لغة تعني القدرة والإستيعاب، وعليه فإنّ الآية تؤيّد الحقيقة المنطقيّة القائلة أنّ التكاليف والفرائض الإلهيّة لا تتجاوز طاقة الأفراد وميزان تحملّهم

(367)

إطلاقاً، لذلك يمكن القول بأنّ كلّ الأحكام يمكن تقييدها وتفسيرها بهذه الآية حيث تتحدّد في إطار قدرة الإنسان، ومن البديهي أنّ المشرّع الحكيم والعادل لا يمكن أن يضع قانوناً على نحو آخر.

كما أنّ الآية تؤكّد أنّ الأحكام الشرعيّة لا تنفصل أبداً عن أحكام العقل والحكمة، بل هي متواكبة معها في كلّ المراحل.

ثمّ تضيف الآية (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).

أجل فإنّ كلّ شخص يحصد ما جنته يداه حسناً كان أم سيئاً، وسيواجه في هذا العالم أو في العالم الآخر نتائج وعواقب هذه الأعمال، فالآية تنبّه الناس إلى مسؤولياتهم وعواقب أعمالهم، وتفنّد الأساطير التي تبريء بعض الناس من عواقب أعمالهم، أو تجعلهم مسؤولين عن أعمال الآخرين دون دليل.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الآية تطلق على الأعمال الصالحة اسم «الكسب» وعلى الأعمال السيّئة اسم «الإكتساب». ولعلّ السبب هو أنّ «الكسب» يستعمل بالنسبة إلى الأُمور التي يحقّقها المرء برغبة داخلية وبلا تكليف وهي تناسب فطرته، بينما «الإكتساب» هو النقطة المقابلة للكسب، أي الأعمال التي تنافي الفطرة وطبيعة الإنسان. يُفهم من هذا أنّ الأعمال الصالحة مطابقة لمسيرة الفطرة وطبيعة الإنسان، بينما أعمال الشرّ تخالف الفطرة والطبيعة.

أمّا الراغب الإصفهاني في «مفرداته» فيرى رأياً غير هذا وجدير بالملاحظة يقول : الكسب ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظّ ككسب المال، ويقال فيما أخذه لنفسه ولغيره (كأعمال الخير التي لاتقتصر فائدتها على الفاعل وحده، بل قد تعمَّ الأقارب وغيرهم) في حين أنّ الإكتساب لا يقال إلاَّ فيما تعود نتائجه على الفاعل نفسه، وهو الذنب. هذه الإختلافات في المعنى تصلح طبعاً عندما تستعمل الواحدة في قبال الاُخرى.

(368)

 (ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).

لمّا كان المؤمنون يعرفون أنّ مصيرهم يتحدّد بما كسبت أيديهم من أعمال صالحة أو سيئة بموجب قانون «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» لذلك يتضرّعون ويخاطبون الله بلفظ «الرب» الذي يوحي بمعاني اللطف في النشأة والتربية قائلين : إذا كنّا قد أذنبنا بسبب النسيان أو الخطأ، فاغفر لنا ذنوبنا برحمتك الواسعة وجنّبنا العقاب.

العقاب على النسيان والخطأ :

لماذا الدعاء لأن يغفر الله الذنوب المرتكبة نسياناً أو خطأً ؟

فهل الله يعاقب على مثل هذه الذنوب ؟

في الجواب لابدّ من القول بأنّ النسيان يكون أحياناً من باب التماهل والتساهل من جانب الإنسان نفسه. بديهيّ أنّ هذا النوع من النسيان لا يضع المسؤولية عن الإنسان، كما جاء في القرآن.

(فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)(1) وعليه فإنّ النسيان الناشيء عن التساهل يوجب العقاب.

ثمّ لابدّ من ملاحظة أنّ هناك فرقاً بين النسيان والخطأ. فالخطأ يقال عادة في الاُمور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم انتباه منه، كأن يطلق رصاصة ليصيد صيداً فتصيب رصاصته إنساناً فتجرحه. أمّا النسيان فهو أن يتّجه الإنسان للقيام بعمل ما ولكنّه ينسى كيف يقوم بذلك، كأن يعاقب المرء إنساناً بريئاً ظنّاً منه أنّه المذنب، لنسيانه مميّزات المذنب الحقيقي.

_____________________________

1 ـ السجدة : 14.

(369)

 (ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا).

«الإصر» عقد الشيء وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة. وكذلك العهد المؤكّد الذي يقيّد الإنسان. ولهذا تطلق هذه الكلمة على العقاب أيضاً.

وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من الله تعالى طلبين : الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة الله، وهذا هو ما ورد على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بشأن التعاليم الإسلامية، إذ قال «بعثت بالشريعة السهلة السمحة»(1).

هنا قد يسأل سائل : إذا كانت السهولة والسماحة في الدين جيّدة، فلماذا لم يكن للأقوام السابقة مثلها ؟

في الجواب نقول : تفيد آيات في القرآن أنّ التكاليف الشاقّة لم تكن موجودة في أصل شرائع الأديان السابقة، بل فرضت كعقوبات على أثر عصيان تلك الأقوام وعدم إطاعتها، كحرمان بني إسرائيل من أكل بعض اللحوم المحلّلة بسبب عصيانهم المتكرّر(2).

وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الإمتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق (ولاتحملّنا ما لا طاقة لنا به). ونرى في الفقرة السابقة صيغة (لاتحمل)، وهنا نرى عبارة (لا تحمّل)، فالأُولى تستعمل عادة في الاُمور الصعبة، والثانية فيما لا يطاق.

(فاعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا).

«عفا» بمعنى أزال آثار الشيء، وأكثر استعمالها مع الذنب بمعنى محو آثار

_____________________________

1 ـ بحار الأنوار : ج 65 ص 319 ط بيروت، وورد مثله في فروع الكافي : ج 5 ص 494 باب كراهة الرهبانية.

2 ـ الأنعام : 146، النساء : 160.

(370)

الإثم، وتشمل الآثار الطبيعية والآثار الجزائية والعقوبات.

أمَّا «الغفران» فتعني أن يصون الله العبد من أن يمسّه العذاب عقوبة على ذنبه.

وعليه، فإنّ استعمال الكلمتين يفيد أنّ المؤمنين طلبوا من الله أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم، لكي لا تصيبهم عواقبها السيّئة. كما أنّهم طلبوا منه أن لا يقعوا تحت طائلة عقابها. وفي المرحلة الثالثة يطلبون «رحمته الواسعة» التي تشمل كلّ شيء.

(أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).

وفي آخر دعواهم يخاطبون الله على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والإنتصار على الأعداء.

في هاتين الآيتين خلاصة لسورة البقرة كلّها، وهما تهدياننا إلى روح التسليم أمام ربّ العالمين، وتشيران إلى أن المؤمنين إذا أرادوا من الله أن يغفر لهم زلاَّتهم وأن ينصرهم على الأعداء كافّة، فلابدّ لهم أن ينفذوا برنامج «سمعنا وأطعنا» أن يقولوا : إنَّنا سمعنا دعوات الداعين وقبلناها بكلّ جوارحنا وإنّنا متّبعوها، ولن ندخّر وسعاً في حثّ السير على هذا السبيل. وعندئذ لهم أن يطلبوا الإنتصار على الموانع والأعداء.

إنّ تكرار كلمة «ربّ» أي الذي يلطف بعباده ويربّيهم يكمل هذه الحقيقة. ولهذا حثَّنا أئمة الدين في أحاديثهم على قراءة هاتين الآيتين، وبيّنوا ما فيهما من أبواب الثواب. فإذا تناغم اللسان والقلب في تلاوتهما ولم تكن التلاوة مجرّد ألفاظ تجري على اللسان، تغدو حينئذ برنامجاً حياتياً، فإنّ تلاوتهما تربط بين القلب وخالق الكون، وتضفي الصفاء على الروح وتكون عاملاً على التحرّك والنشاط.

يستفاد جيّداً من هذه الآية أنّ (التكليف بما لايطاق) لا يوجد في الشريعة المقدّسة، لا في الإسلام ولا في الأديان الاُخرى، والأصل هو حريّة الإنسان

(371)

وإرادته لأنّ الآية تقول : أنّ كلّ إنسان يلاقي جزاء أعماله الحسنة والسيئة، فما عمله من حسنات فسيعود إليه، وما ارتكبه من سيئات فعليه، ومن هذا المنطلق يكون طلب العفو والمغفرة والصفح.

وهذا المعنى يتطابق تماماً مع منطق العقل ومسألة الحسن والقبح، لأنّ الله تعالى حكيم ولا يمكن أن يكلّف العباد بما لا طاقة لهم به، وهذا بنفسه دليل على نفي مسألة الجبر، فكيف يحتمل أنّ الله تعالى يجبر العباد على إرتكاب الذنب والإثم وفي نفس الوقت ينهاهم عنه ؟ !

ولكنّ التكاليف الشاقّة والصعبة ليست بالأمر المحال كما قرأنا عن تكاليف بني إسرائيل الشاقّة، وهذه التكاليف أيضاً ناشئة من أعمالهم وعبارة عن عقوبة لما ارتكبوه من آثام.

 (373)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21403999

  • التاريخ : 20/04/2024 - 03:51

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net