00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 229 ـ 243 ( من ص 159 ـ 210) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآيـة

الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَـان وَلاَيَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيَما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ (229)

سبب النّزول

جاءت إمرأة إلى إحدى زوجات النبيّ وشكت لها من زوجها الّذي يطلّقها مراراً ثمّ يعود إليها للإضرار بها، وكان للزّوج في تقاليد الجهاليّة الحقّ في أن يطلّق زوجته ألف مرّة ثمّ يعود إليها وهكذا، فلم يكن للطّلاق حدٌّ حين ذاك، وحينما اطّلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على شكوى هذه الإمرأة نزلت الآيات أعلاه وبيّنت حدّ الطّلاق(1).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 329. وورد هذا السبب في تفسير الكبير، والقرطبي وروح المعاني أيضاً في ذيل الآية المبحوثة.

(159)

التّفسير

إمّا الحياة الزوجيّة أو الطّلاق بالمعروف :

ذكرنا في تفسير الآية السابقة إنّ الإسلام قرّر قانون (العدّة) و (الرّجوع) لإصلاح وضع الاُسرة ومنع تشتتّها وتمزّقها، لكنّ بعض المسلمين الجدد استغلّوا هذا القانون كما كانوا عليه في الجاهليّة، وعمدوا إلى التضييق على الزّوجة بتطليقها المرّة بعد الاُخرى والرّجوع إليها قبل انتهاء العدّة، وبهذه الوسيلة ضيّقوا الخناق على النساء.

هذه الآية تحول بين هذا السّلوك المنحط وتقرّر أنّ الطّلاق والرّجوع مشروعان لمرّتين، أمّا إذا تكرّر الطّلاق للمرّة الثالثة فلا رجوع، والطّلاق الأخير هو الثالث، والمراد من عبارة (الطّلاق مرّتان) هو أنّ الطّلاق الّذي يُمكن معه الرّجوع مرّتان والطّلاق الثالث لا رجوع بعده، وتضيف الآية (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان).

فعلى هذا يكون الطّلاق الثالث هو الأخير لا رجعة فيه، وبعبارة اُخرى أنّ المحبّة والحنان المتقابل بين الزّوجين يمكن إعادتهما في المرّتين السابقتين وتعود المياه إلى مجاريها، وفي غير هذه الصّورة إذا تكرّر منه الطّلاق في المرّة الثالثة فلا يحقّ له الرّجوع إلاّ بشرائط معيّنة تأتي في الآية التالية.

ويجب الإلتفات إلى أنّ (إمساك) يعني الحفظ و (تسريح) بمعنى إطلاق السّراح ومجيء جملة (تسريح بإحسان) بعد جملة (الطّلاق مرّتان) إشارة إلى الطّلاق الثالث الّذي يفصل بين الزّوجين لابدّ أن يكون مع مراعاة موازين الحقّ والإنصاف والقيم الأخلاقيّة (جاء في أحاديث متعدّدة أنّ المراد من قوله (تسريح بإحسان) هو الطّلاق الثالث)(1).

_____________________________

1 ـ تفسير العياشي : ج 1 ص 116.

(160)

فعلى هذا يكون المراد من التسريح بإحسان أن يؤدّي للمرأة حقوقها بعد الإنفصال النهائي، ولايسعى الإضرار بها عملاً وقولاً بأن يعيبها في غيابها أو يتّهمها بكلمات رخيصة ويُسقط شخصيّتها وسمعتها أمام الناس، وبذلك يحرمها من إمكانيّة الزّواج المجدّد، فكما أنّ الصّلح والرّجوع إلى الزّوجة يجب أن يكون بالمعروف والإحسان والمودّة، فكذلك الإنفصال النهائي يجب أن يكون مشفوعاً بالإحسان أيضاً، ولهذا تضيف الآية الشريفة (ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً).

فعلى هذا الأساس لا يستطيع الزّوج عند الإنفصال النهائي أن يأخذ ما أعطاها من مهرها شيئاً، وهذا المعنى أحد مصاديق التسريح بإحسان.

وقد ذُكرهذاالحكم بالتفصيل في سورة النّساء الآيات 20و21 حيث يأتي ذكره.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مفهوم هذه الجملة أوسع من (المهر) وقالوا أنّه يشمل كلّما أعطاه الزوج من الهدايا لزوجته أيضاً(1).

وممّا يستجلب النظر في مورد الرّجوع والصّلح هو التعبير بـ (المعروف) ولكن في مورد الفرقة والإنفصال ورد التعبير (بإحسان) الّذي يفهم منه ما هو أعلى وأسمى من المعروف، وذلك من أجل جبران ما يتخلّف من المرارة والكآبة لدى المرأة بسبب الإنفصال والطّلاق(2).

وتستطرق الآية إلى ذكر مسألة (طلاق الخلع) وتقرّر أنّه في حالة واحدة تجوز استعادة المهر وذلك عند رغبة المرأة نفسها بالطّلاق(3) حيث تقول الآية (إلاّ

_____________________________

1 ـ تفسير الكبير : ج 9 ص 99.

2 ـ الميزان : ج 2 ص 234 ذيل الآية.

3 ـ وهو الطلاق الخلعي المشروح في كتب الفقه.

(161)

أن يخافا ألاّ يُقيما حدود الله) ثمّ تضيف (فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به).

أي الفدية أو التعويض الّذي تدفعه المرأة للتّخلّص من الرّابطة الزّوجية، هذه الحالة تختلف عن الاُولى في أنّ الطّالب للفرقة هي المرأة نفسها ويجب عليها دفع الغرامة والتعويض للرّجل الّذي يريد ويطلب بقاء العُلقة الزوجيّة، وبذلك يتمكّن الزّوج بهذه الغرامة والفدية أن يتزوّج مرّة اُخرى ويختار له زوجة ثانية.

والجدير بالذكر أنّ الضّمير في جملة (ألاّ يُقيما) الوارد بصورة التثنية إشارة إلى الزّوجين، ولكنّ في جملة (فإن خفتم) ورد بصيغة الجمع للمخاطب، وهذا التفاوت يمكن أن يكون إشارة إلى لزوم نظارة حكّام الشرع على هذا اللّون من الطّلاق، أو إشارة إلى أنّ تشخيص عدم إمكانيّة استمرار الحياة الزوجيّة مع رعاية حدود الإلهيّة لايمكن أن تكون بعهدة الزّوجين، لأنّه في كثير من الحالات يظنّ الزوجين ولأسباب نفسيّة وحالات عصبيّة عدم إمكانيّة إدامة الحياة الزّوجيّة لأسباب تافهة، ولهذا يجب أن تُطرح المسألة على العرف ومن له علاقة بهذين الزّوجين يثبت بهذه الصورة جواز الطّلاق الخلعي.

وفي ختام الآية تشير إلى مُجمل الأحكام الواردة فيها وتقول : (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظّالمون).

* * *

مسائل مهمة

1 ـ لزوم تعدّد مجالس الطّلاق

يُستفاد من جملة (الطّلاق مرّتان) أنّ تعدّد الطّلاق لايصحّ أن يكون في مجلس واحد، بل يجب أن يقع الطّلاق في مجالس متعدّدة، وخاصّةً إذا عرفنا بأنّ

(162)

الغاية هو إعطاء فرصة أكثر للرّجوع واحتمال عودة المؤدة بعد النّزاع الأوّل.

فإن لم يتحقق الصلح في المرحلة الاُولى فسيتحقّق في الثانية ولكنّ وقوع عدّة طلقات مرّة واحدة يوصد هذا الباب كليّاً وينفصل الزّوجان بعد ذلك نهائيّاً فلا أثر لتعدّد الطّلاق عملاً.

وهذا الحكم المذكور آنفاً مقبول لدى فقهاء الشيعة، ولكن هناك اختلاف بين أهل السّنة بالرّغم من أنّ أكثرهم يرى جواز تعدّد الطّلاق في مجلس واحد.

أمّا كاتب تفسير المنار فينقل عن مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم أنّ حكم ثلاث طلقات في مجلس واحد لا يُحسب إلاّ طلاق واحد، وهذا ما كانت السّنة جارية عليه منذ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتّى سنتين من خلافة عمر حيث يتّفق على ذلك جميع الصّحابة، ولكنّ الخليفة الثاني بعد ذلك حكم بأنّ الطّلاق ثلاثاً في مجلس واحد صحيح ويقع ثلاثاً.

2 ـ شيخ الأزهر يأخذ برأي الشيعة

مع حكم الخليفة الثاني بوقوع الطّلاقات الثلاثة في مجلس واحد ذهب جماعة من أهل السّنة إلى عدم وقوعها، ومنهم الشيخ الأزهر الأكبر (الشيخ محمود شلتوت) حيث كتب في مجلّة «رسالة الإسلام» وفي مقارنة بين آراء المذاهب الإسلاميّة وأخذ في كثير من الأحايين بآراء الشيعة، لأنّها كما يقول أقوى دليلاً ومن ذلك مسألة تعدّد الطّلاق وأفتى (رحمه الله) بأنّ الطلاقات الثلاثة في مجلس واحد هي بمثابة الطّلاق الواحد(1).

_____________________________

1 ـ رسالة الإسلام : العدد الأول السنة 11 ص 108، نقلاً عن هامش كنز العرفان : ج 2 ص 271.

(163)

3 ـ الحدود الإلهيّة

في هذه الآية وآيات كثيرة اُخرى عبّرت عن القوانين الإلهيّة بكلمة (حد) وبهذا فإن المعصية ومخالفة هذه القوانين تُعدّ تجاوزاً للحد، وفي الواقع فأنّ بين الأعمال التي يؤدّيها الإنسان توجد مجموعة مناطق ممنوعة، أي يكون الدخول فيها خطراً وترسم القوانين والأحكام الإلهيّة حدود هذه المناطق الممنوعة كالعلامات المنصوبة على تلك المناطق، ولهذا نقرأ في سورة البقرة النهي عن الإقتراب من هذه الحدود (تلك حدود الله فلا تقربوها)(1) لأنّ الإقتراب منها يُعرّض الإنسان إلى خطر السقوط في الهاوية، وكذلك ورد النهي في روايات أهل البيت (عليهم السلام) عن مواضع الشبهة، لأنّه بحكم الإقتراب من شفا الهاوية الذي قد يستتبعه السقوط بأدنى غفلة (من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه).

* * *

_____________________________

1 ـ البقرة : 187.

(164)

الآيـة

فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِما أَن يَتَرَاجَعَآ إن ظَنَّآ أَن يُقِيَما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْم يَعْلَمُونَ (230)

سبب النّزول

جاءت امرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت.: كنتُ عند ابن عمّي (رفاعة) فطلّقني ثلاثاً، فتزوّجت بعده عبدالرحمن بن الزبير، ولكنّه أيضاً طلّقني قبل أن يمسّني، فهل لي أن أعود إلى زوجي الأول ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا، حتّى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته» أي حتّى يتمّ النكاح مع الزوج الثاني(1).

التّفسير

جاء في الآية السابقة إجمالاً أنّ للمرأة وللرجل بعد الطلاق الثاني أحد

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 330، مع التلخيص من سبب النّزول الوارد في تفسير روح المعاني، والقرطبي، والمراغي.

(165)

أمرين : إمّا أن يتصالحا ويرجعا إلى الحياة الزوجية، وإمّا أن ينفصلا إنفصالاً نهائياً.

هذه الآية حكمها حكم الفقرة التابعة لمادّة قانونية.

فهذه الآية تقول إن حكم الإنفصال حكم دائمي، إلاَّ إذا اتخذت المرأة زوجاً آخر، وطلّقها بعد الدخول بها، فعندئذ لها أن ترجع إلى زوجها الأوّل إذا رأيا أنهما قادران على أن يعيشا معاً ضمن حدود الله.

ويستفاد من الرّوايات عن أئمّة الدّين أنّ لهذا الزّواج الثاني شرطين، أوّلاً : أن يكون هذا الزّواج دائميّاً، والثاني : أن يتبع عقد الزّواج الإتّصال الجنسي، ويمكن استفادة هذين الشرطين من مفهوم الآية أيضاً، أمّا الأوّل وهو أن يكون العقد دائميّاً فلجملة (فإن طلّقها) الشاهدة على هذا المعنى، لأنّ الطّلاق لايكون إلاّ في العقد الدائمي، وأمّا الوطىء فيمكن أن يُستفاد من جملة (حتّى تنكح زوجاً غيره) لأنّ المستعمل في سيرة اُدباء العرب أنّهم حينما يقولون (نكح فلاناً فلانة) فيُمكن أن يراد منه مجرّد العقد، أمّا لو قيل (نكح زوجته) فهذا يدلّ على الوطىء (لأنّه حسب الفرض أنّها زوجته فعندما يقال (نكح) في مورد الزوجة فلا يعني سوى العمليّة الجنسيّة)(1) مضافاً إلى أنّ المطلّق ينصرف إلى الفرد الغالب والغالب في عقد الزواج هو إقترانه بالوطىء، ومضافاً إلى ما تقدّم فإنّ لهذا الحكم فلسفة خاصّة لا تتحقّق بمجرّد إجراء العقد كما سنشير إلى ذلك لاحقاً.

* * *

بحث

المحلّل مانع من تكرّر الطّلاق :

المعمول بين الفقهاء أنّهم يطلقون على الزّوج الثاني في هذه الموارد قسم

_____________________________

1 ـ تفسير الكبير : ج 6 ص 104.

(166)

 (المحلّل) لأنّه يؤدّي إلى أن تكون هذه المرأة حلال لزوجها السّابق (طبعاً بعد الطّلاق والعدّة) والظّاهر أنّ مراد الشارع المقدّس من ذلك هو منع تعدّد الطّلقات.

توضيح ذلك : كما أنّ الزّواج أمر ضروريٌّ وحياتيٌّ بالنّسبة للإنسان، فكذلك الطّلاق تحت شرائط خاصّة يكون ضروريّاً أيضاً، ولذلك نجد أنّ الإسلام (وخلافاً للمسيحيّة المحرّفة) يُبيح الطّلاق، ولكن بما أنّه يؤدّي إلى تشتيت العائلة وإلى إنزال ضربات موجعة بالفرد والمجتمع، فقد وضعت شروط متنوعة للحيلولة دون وقوع الطّلاق قدر إمكان.

إنّ موضوع الزواج المجدّد أو «المحلّل» واحد من تلك الشروط، إذ أنّ زواج المرأة من رجل جديد بعد طلاقها من زوجها الأول ثلاثاً يعتبر عائقاً كبيراً بوجه استمرار الطلاق أو التمادي فيه. فالذي يريد أن يطلّق زوجته الطلاق الثالث، يشعر أنّه إن فعل ذلك فلن تعود إليه وتكون من نصيب غيره، وهذا الشعور يجرح كرامته، ولذلك فهو لن يقدم على هذا العمل عادةً إلاَّ مضطرّاً.

في الحقيقة أنّ قضية «المحلّل» أو الأصحّ زواج المرأة برجل آخر زواجاً دائمياً يعتبر مانعاً يقف بوجه الرجال من ذوي الأهواء المتقلّبة والمخادعين لكي لا يجعلوا من النساء ألاعيب بين أيديهم وغرضاً لخدمة أهوائهم، وأن لا يمارسوا ـ بلا حدود ـ قانون الطلاق والعودة.

إنّ شروط هذا الزواج (كأن يكون دائمياً) تدلّ على أنّ هذا الزواج ليس هدفه إيجاد وسيلة لإيصال الزوجة إلى زوجها الأول، لأنه يحتمل أن لا يطلقها الزوج الثاني، لذلك فلا يمكن استغلال هذا القانون ورفع العائق عن طريق زواج مؤقّت.

ومع الإلتفات إلى ما ذُكر أعلاه يمكن القول أنّ هدف الزّواج الثاني بعد ثلاث طلقات والسّماح لكلّ من الزوجين في تشكيل حياة زوجيّة جديدة من أجل أن لا يصبح الزّواج هذا الرّباط المقدّس مدعاة للتّغالب وفق أهواء الزوج الأوّل

(167)

ومشتهياته الشّيطانية، وفي نفس الوقت إذا طلّقها الزوج الثاني فإنّ طريق العودة والرّجوع سيكون مفتوحاً أمامهما فيجوز للزّوج الأوّل نكاحها من جديد، ولذلك اُطلق على الزوج الثاني (المحلّل).

ومن هنا يتّضح أنّ البحث يخص الزّواج الواقعي الجاد بالنّسبة إلى المحلّل، أمّا إذا قصد شخص منذ البداية أن يتوسّل بزواج مؤقّت، واعتبر القضية مجرّد شكليّات يحلّها (المحلّل) فإنّ زواجاً هذا شأنه لا يُؤخذ به ويكون باطلاً، كما أنّ المرأة لا تحلّ لزوجها الأوّل، ولعلّ الحديث المذكور (لعن الله المحلّل والمحلّل له)(1) يشير إلى هذا النوع من المحلّلين، وهذا الأُسلوب من الزّواج الظّاهري والشكلي.

وذهب البعض إلى أنّ الزوج الثاني إذا قصد الزّواج الدائمي الجدّي، ولكن كانت نيّته أن يفتح طريق عودة المرأة ورجوعها إلى الزّوج الأوّل، فإن هذا الزّواج يُعتبر باطلاً أيضاً، وذهب البعض أيضاً إلى أنّه في هذه الحالة يقع الزّواج صحيحاً رغم أن نيّته هي إرجاع المرأة إلى زوجها الأوّل، ولكنّه مكروهاً بشرط أن لا يُذكر هذا المعنى كالجزء من شرائط العقد.

ومن هنا يتتضح أيضاً الضجّة المفتعلة للمغرضين الّذين اتّخذوا من (المحلّل) ذريعة لِشن حملاتهم الظّالمة على أحكام الإسلام ومقدّساته، فهذه الضجّة المفتعلة دليل على جهلهم وحقدهم على الإسلام، وإلاّ فإنّ هذا الحكم الإلهي بالشّرائط المذكورة عامل على منع الطّلاق المتكرّر والحدّ من التصرّفات الهوجاء لبعض الأزواج، ودافعٌ على إصلاح الوضع العائلي وإصلاح الحياة الزوجيّة.

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 2 ص 331، ونقل هذا الحديث تفسير القرطبي والمنار والمراغي في ذيل الآية المبحوثة أيضاً.

(168)

الآيـة

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ الِنّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أَو سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ ءَايَـاتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنَزلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَـابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ (231)

التّفسير

تستمرّ هذه الآية في تبيان الأحكام التي أقرّها الإسلام للطلاق، لكي لا تهمل حقوق المرأة وحرمتها.

تقول الآية : ما دامت العدّة لم تنته، وحتّى في آخر يوم من أيامها، فإنّ للرجل أن يصالح زوجته ويعيدها إليه في حياة زوجية حميمة : (فأمسكوهنّ بمعروف).

وإذا لم تتحسّن الظروف بينهما فيطلق سراحها (أو سرّحوهنّ بمعروف).

ولكن كلّ رجوع أو تسريح يجب أن يكون في جوّ من الإحسان والمعروف

(169)

وأن لا يخالطه شيء من روح الإنتقام. ثمّ تشير الآية إلى المفهوم المقابل لذلك وتقول :

(ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه).

هذه الجملة في الحقيقة تفسير لكلمة «معروف» أي أنّ الرجوع يجب أن يكون على أساس من الصفاء والوئام، وذلك لأن الجاهليّين كانوا يتّخذون من الطّلاق والرجوع وسيلة للإنتقام، ولهذا يقول القرآن بلهجة قاطعة : إنّ استرجاع الزوجة يجب أن لا يكون رغبة في الإيذاء والإعتداء، إذ أنّ ذلك ـ فضلاً عن كونه ظلماً للزوجة ـ ظلم لنفس الزوج أيضاً.

والآن علينا أن نعرف لماذا يكون ظلم الزوج زوجته ظلماً لنفسه أيضاً ؟

أولاً : إنّ الرجوع المبني على غمط الحقوق لايمكن أن يمنح الهدوء والاستقرار.

ثانياً : الرجل والمرأة ـ بالنظرة القرآنية ـ جزءان من جسد واحد في نظام الخلقة، فكلّ غمط لحقوق المرأة هو ظلم وعدوان على الرجل نفسه.

ثالثاً : إنّ من يستسيغ ظلم الآخرين يكون غرضاً لنيل العقاب الإلهي، فيكون بذلك قد ظلم نفسه.

ثمّ يحذّر القرآن الجميع :(ولا تتّخذوا آيات الله هزواً)

هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى بعض التقاليد الجاهلية المترسّخة في أفكار الناس، ففي الرواية أنّ بعض الرجال في العصر الجاهلي يقولون حين الطّلاق : أنّ هدفنا من الطّلاق هو اللّعب والمزاح، وكذلك الحال عندما يعتقون عبداً أو يتزّوجون من امرأة.

فنزلت الآية أعلاه لتحذّرهم بأنّ كلّ من يطلّق زوجته أو يعتق عبده أو يتزوّج من إمرأة أو يزوّجها من شخص آخر، ثمّ يدّعي أنّه كان يمزح ويلعب فإنّه لا يُقبل

(170)

منه، ويتحقّق ما أقدم عليه في الواقع العملي بشكل جاد(1).

ويُحتمل أيضاً أنّ الآية ناظرة إلى حال الأشخاص الّذين يستغلّون الأحكام الشرعيّة لتبرير مخالفاتهم ويتمسّكون بالظّواهر من أجل بعض الحيل الشرعيّة، فالقرآن يعتبر هذا العمل نوع من الإستهزاء بآيات الله، ومن ذلك نفس مسألة الزّواج والطّلاق والرّجوع في زمان العدّة بنيّة الإنتقام وإلحاق الضرّر بالمرأة والتّظاهر بأنَّه يستفيد من حقّه القانوني.

فعلى هذا لاينبغي الإغماض عن روح الأحكام الإلهيّة والتمسّك فقط بالظّواهر الجامدة لها، فلا ينبغي إتّخاذ آيات الله ملعبة بيد هؤلاء، فإنّه يُعتبر ذنب عظيم ويترتّب عليه عقوبة أليمة.

ثمّ تضيف الآية (واذكروا نعمة الله عليكم وما اُنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعضكم به واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بكلّ شيء عليم).

هذه تحذيرات من أجل أن تعلموا : أوّلاً : أنّ الله تعالى عدّ تلك التصرّفات من خرافات وتقاليد الجاهليّة الشنيعة بالنّسبة إلى الزّواج والطّلاق وغير ذلك، فأنقذكم منها وأرشدكم إلى أحكام الإسلام الحياتية، فينبغي أن تعرفوا قدر هذه النّعمة العظيمة وتؤدّوا حقّها، وثانياً : بالنسبة إلى حقوق المرأة ينبغي أن لا تسيئوا إليها بالإستفاده من موقعيّتكم، ويجب أن تعلموا أنّ الله تعالى مُطّلعٌ حتّى على نيّاتكم(2).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي : ج 2 ص 964، ومثله في تفسير المراغي : ج 2 ص 179.

2 ـ فعلى هذا تكون جملة «وما نزل عليكم من الكتاب والحكمة» عطف «نعمة الله» أو من قبيل عطف الخاصّ على العامّ وفي هذه الصورة يكون مفهوم «نعمة الله» واسعاً حيث يشمل جميع النعم الإلهية التي منها نعمة المحبّة والاُلفة التي جعلها الله بين الزوجين.

(171)

الآيـة

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ الِنّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الاَْخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لكم وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232)

سبب النّزول

كان أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو «معقل بن يسار» يعارض زواج أُخته «جملاء» من زوجها الأوّل «عاصم بن عدي» لأنّ عاصماً كان قد طلّقها من قبل، ولكن بعد انقضاء العدّة رغب الزوجان بالعودة بعقد نكاح جديد. فنزلت الآية ونهت الأخ عن معارضة هذا الزواج.

وقيل إنّ الآية نزلت في معارضة «جابر بن عبدالله» زواج ابنة عمّه من زوجها السابق(1).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 332. ونقل أكثر المفسّرين مثل : القرطبي، تفسير الكبير، روح المعاني، في ظلال القرآن أحد سبب نزول أو كلاهما في ذيل الآية المبحوثة.

(172)

وربّما كان حقّ المنع هذا يعطي في الجاهلية للأقربين.

لاشكّ أنّ الأخ وابن العمّ لا ولاية لهما ـ في فقهنا ـ على الاُخت وابنة العم. إلاّ أنّ هذه الآية تتحدّث عن حكم عام ـ كما سنرى ـ يشمل الأولياء وغير الأولياء، وتقول أنّه حتّى الأب والأُم وابن العم، وكذلك الغرباء لا حقّ لهم في الوقوف بوجه هذا الزواج.

التّفسير

ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات الجاهلية، وكيف كنّ تحت سيطرة الرجال دون أن يعني أحد برغبتهنّ ورأيهنّ.

وإختيار الزوج كان واحداً من قيود ذلك الأسر، إذ أنّ رغبة المرأة وإرادتها لم يكن لها أيّ تأثير في الأمر، فحتّى من كانت تتزوج زواجاً رسمياً ثمّ تطلّق لم يكن لها حقّ الرجوع ثانية بمحض إرادتها، بل كان ذلك منوطاً برغبة وليّها أو أوليائها، وكانت ثمّة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجيّة بينهما، ولكن أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعاً لمصالحهم أو لتخيّلاتهم وأوهامهم.

إلاّ أنّ القرآن أدان هذه العادة، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحقّ، إذ أنّ الزوجين ـ وهما ركنا الزواج الأصليان، إذا توصّلا إلى إتفاق بالعودة بعد الإنفصال ـ يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حقّ الإعتراض عليهما. تقول الآية (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) هذا إذا كان المخاطب في هذه الآية هم الأولياء من الرجال الأقارب، ولكن يحتمل أن يكون المخاطب هو الزوج الأوّل. بمعنى أنكم إذا طلقتم زوجاتكم فلا تمنعوهن من الزواج المجدّد مع رجال آخرين، حيث إن بعض الأشخاص المعاندين في السابق وفي الحال الحاضر يشعرون بحساسية

(173)

شديدة تجاه زواج زوجاتهم السابقة من آخرين، وما ذلك سوى نزعة جاهلية فحسب(1).

في الآية السابقة «بلوغ الأجل» يعني بلوغ أواخر أيام العدّة، ولكن في هذه الآية المقصود هو انقضاء آخر يوم من العدّة، بقرينة الزواج المجدّد. فالغاية في الآية السابقة جزء من المغيا وفي الآية محل البحث خارجة عن المغيا.

ويتبين من هذه الآية أنّ الثيّبات ـ أي اللّواتي سبق لهنًّ الزواج ثمّ طلّقن أو مات أزواجهنّ ـ إذا شئن الزّواج ثانية فلا يلزمهنّ موافقة أوليائهنّ أبداً.

ثمّ تضيف الآية وتحذّر ثانية وتقول : (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر)ثمّ من أجل التأكيد أكثر تقول : (ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

يشير هذا المقطع من الآية إلى أنّ هذه الأحكام قد شُرّعت لمصلحتكم غاية الأمر أنّ الأشخاص الّذين ينتفعون بها هم الّذين لهم أساس عقائدي من الإيمان بالله والمعاد ولا يتبّعون أهوائهم.

وبعباره اُخرى أنّ هذه الجملة تقول : أنّ نتيجة العلم بهذه الأحكام يصبُّ في مصلحتكم، لكنّكم قد لاتدركون الحكمة والغاية منها لجهلكم وقلّة معارفكم، والله هو العالم بكلّ الأسرار، ولذلك قرّر هذه الأحكام وشرّعها لما فيها من تزكيتكم وحفظ طهارتكم.

والجدير بالذّكر أنّ الآية تشير إلى أنّ العمل بهذه الأحكام يستوجب : (التزكية) و (الطهارة) فتقول (أزكى لكم وأطهر) يعني أنّ العمل بها يطهّر أفراد العائلة من مختلف الأدناس والخبائث، وكذلك يوجب لهم الخير والبركة والتكامل

_____________________________

1 ـ رجح البعض التفسير الثاني لأن المخاطب في الآيات السابقة هو الأزواج ولكنه يشكل بأن تعبير «أزواجهن» يكون تعبيراً مجازياً بالنسبة إلى الأزواج مضافاً إلى انه لا ينسجم مع شأن النّزول.

(174)

المعنوي، لأنّ «التّزكية» في الأصل (الزّكاة) بمعنى النمو.

وذكر بعض المفسّرين إنّ جملة (أزكى لكم) تشير إلى الثواب المترتّب على الأعمال، وجملة (أطهر) تشير إلى الطّهارة والنّقاء من الذّنوب. ومن البديهي أنّ الزّوجين بالرّغم من كلّ تلك العلاقة الوطيدة والحميمة التي تربط بينهما قد ينفصلا بسبب بعض الحوادث المؤسفة، ولكن بعد الإنفصال والفرقة ومشاهدة الآثار الوخيمة المترتّبة على هذه الفرقة يندمان ويصمّمان على العودة إلى الحياة المشتركة، وهنا لاينبغي التشدّد والتعصّب لمنع عودتهما لأنّ ذلك يخلّد آثاراً سلبيّة وخيمة في روحيّة كلٌّ منهما، وقد يؤدّي إلى إنحرافهما وتلوّثهما بالرّذيلة، وإن كان لهما أبناء كما هو الغالب فإنّ مصيرهم سوف يكون تعيساً جدّاً، ومسؤوليّة هذه العواقب الأليمة والإفرازات المشؤومة تكون بعهدة من يمنع هذين الزّوجين من المصالحة.

* * *

(175)

الآيـة

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَتُكَلَّفُ نَفْسٌ إلاّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاض مِنْهُمَا وَتَشَاوُر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بصِيرٌ (233)

التّفسير

أحكام الرّضاع السّبعة :

هذه الآية في الواقع إستمرار للأبحاث المتعلّقة بمسائل الزّواج والحياة الزّوجيّة، وتبحث مسألة مهمّة هي مسألة (الرّضاع)، وتذكر بعبارات مقتضبة وفي نفس الوقت ذات معنىً عميق الجزئيات المتعلّقة بالرّضاع المختلفة، فهناك على العموم سبعة أحكام في هذا الباب :

(176)

1 ـ تقول الآية في أوّلها (والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين). (والدات) جمع (والدة) وهي في اللّغة بمعنى الاُم، ولكنّ كلمة الاُم لها معنىً أوسع وهي قد تُطلق على الوالدة وعلى الجدّة أي والدة الوالدة، وقد تعني أصل الشيء وأساسه.

وفي هذا المقطع من الآية نلاحظ أنّ حقّ الإرضاع خلال سنتي الرضاعة يعود للاُم، فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدّة وأن تعتني به، وعلى الرغم من أنّ (الولاية) على الأطفال الصغار قد أُعطيت للأب، ولكن لمّا كانت تغذية الوليد الجسمية والروحية خلال هذه المدّة ترتبط إرتباطاً لا ينفصم بلبن الأُم وعواطفها، فقد أُعطيت حقّ الإحتفاظ به، كما تجب مراعاة عواطف الأُمومة، لأنّ الأُم لا تستطيع في هذه اللحظات الحسّاسة أن ترى حضنها خالياً من وليدها وأن لا تبالي به، وعليه فإنّ تخصيصها بحقّ الحضانة والرعاية والرضاعة يعتبر حقاً ذا جانبين، فهو يرعى حال الطفل كما يرعى حال الأُم، والتعبير بـ «أولادهن» إشارة لطيفة إلى هذا المعنى. وبالرغم من أن الجملة مطلقة ظاهراً وتشمل النساء المطلقات وغير المطلقات، ولكن الجملة اللاحقة توضح أن الآية تقصد النساء المطلقات مع وجود هذا الحقّ لسائر الاُمهات، ولكن في صورة عدم وجود الطلاق فلا أثر عملي لهذا الحكم.

2 ـ ليس من الضروري أن تكون مدّة رضاعة الطفل سنتين حتماً، إنّما السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة (لمن أراد أن يتمّ الرضاعة) ولكن للأُم أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحّة الطفل وسلامته.

في الروايات التي وصلتنا من أهل البيت (عليهم السلام) أنّ دورة رضاعة الطفل الكاملة سنتان كاملتان، ودورتها غير الكاملة 21 شهراً(1)، ولعلّ هذا يأخذ أيضاً بنظر

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة : ج 15 ص 177 (باب أقلّ مدّة الرضاع وأكثره) ج 2 و 5، وورد في بعض هذه الروايات إذا نقص عن (21) شهراً كان ظلماً للرضيع.

(177)

الاعتبار مفاد هذه الآية مع الآية (15) من سورة الأحقاف التي تقول (وحملُهُ وفصالُهُ ثلاثون شهراً). ولمّا كانت فترة الحمل 9 أشهر، فتكون فترة الرضاعة الإعتيادية 21 شهراً.

ولمّا لم يكن في آية سورة الأحقاف ما يفيد الإلزام والوجوب، فإنّ للوالدات الحقّ في تخفيض فترة الـ 21 شهراً بما يتّفق وصحّة الوليد وسلامته.

3 ـ نفقة الأُم في الطعام واللباس، حتّى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون على والد الطفل، لكي تتمكن الأُم من الإنصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه مرتاحة البال وبدون قلق.

(وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف).

هنا تعبير «المولود له» بدلاً من «الأب» يستلفت الإنتباه، ولعلّه جاء لاستثارة عواطف الأُبوة فيه في سبيل حثّه على أداء واجبه. أي أنّه إذا كان قد وضع على عاتقه الإنفاق على الوليد وأُمه خلال هذه الفترة، فذلك لأنّ الطفل ابنه وثمرة فؤاده، وليس غريباً عنه.

إنّ الإتيان بقيد «المعروف» يشير إلى أنّ طعام الأُم ولباسها ينبغي أن يكونا من اللائق بها والمتعارف عليه، فلا يجوز التقتير ولا الإسراف.

ولرفع كلّ غموض محتمل تشير الآية إلى أنّ على كلّ أب أن يؤدّي واجبه على قدر طاقته (لا تكلّف نفس إلاّ وسعها). ويرى البعض أن هذه الجملة بمثابة العلّة لأصل الحكم. والبعض الآخر بعنوان تفسير الحكم السابق (والنتيجة واحدة).

4 ـ لايحقّ لأيّ من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمراً مرتبطاً بما قد يكون بينهما من اختلافات، فيكون من أثر ذلك أن تصاب نفسية الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها.

(لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده).

على الأب أن يحذر انتزاع الوليد من أحضان أُمه خلال فترة الرضاعة

(178)

فيعتدي بذلك على حقّ الأُم في حضانة وليدها. كما أنّ على الأُم التي أُعطيت هذا الحقّ أن لا تستغله وأن لا تتذرّع بمختلف الأعذار الموهومة للتنصّل من إرضاع وليدها، أو أن تحرم الأب من رؤية طفله.

وذكر إحتمال آخر في تفسير الآية وهو أنّ المراد أنّ الأب ليس له أن يسلب الزّوجة حقّها في المقاربة الجنسيّة بسبب الخوف من الحمل وفي النتيجة الإضرار بالمُرضع، ولا الاُم بإمكانها منع زوجها من هذا الحقّ لهذا السبب، ولكنّ التفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية(1).

التعبير بـ (ولدِها) و (ولدُه) من أجل تشويق الآباء والاُمهّات برعاية حال الأطفال الرُّضع، مضافاً إلى أنّه إشارة إلى أنّ الرّضيع متعلّق لكليهما خلافاً لما هو المرسوم من تقاليد الجاهليّة من أنّ الولد متعلّق بالأب خاصّة وليس للاُم سهم من الحقّ فيه.

5 ـ ثمّ تبيّن الآية حكماً آخر يتعلّق بما بعد وفاة الأب فتقول : (وعلى الوارث مثل ذلك).

يعني أنّ الورثة يجب عليهم تأمين احتياجات الاُم في مرحلة الرّضاعة للطفل، وهناك احتمالات اُخرى في تفسير الآية الشريفة ولكنّها ضعيفة.

6 ـ وتتحدّث الآية أيضاً عن مسألة فطام الطّفل عن الرّضاعة وتجعله بعهدة كلّ من الأبوين على الرّغم ممّا جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرّضاعة، إلاّ أنّ للأبوين أن يفطما الطّفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحّة الطّفل وسلامته الجسميّة، وتقول الآية : (فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما).

وفي الواقع أنّ الأب والاُم يجب أن يراعيا مصالح الطّفل ويتشاوران في ذلك

_____________________________

1 ـ على التفسير الأوّل فعل «لاتضار» فعل معلوم، وعلى التفسير الثاني فعل مجهول وإن كان تلفظ الاثنين واحداً، تأمل جيداً.

(179)

للوصول إلى التّوافق والتّراضي، فيضعان برنامج مدروس لفطام الطّفل من الرّضاع دون أن يحدث لهما مشاجرة في هذه المسألة والتي قد تؤدّي إلى ضياع حقوق الطّفل.

7 ـ أحياناً تمتنع الاُم من حضانة الطّفل وحقّها في إرضاعه ورعايته أو أنّه يوجد هناك مانع حقيقي لذلك، ففي هذه الصّورة يجب التفكير في حلّ هذه المسألة ولهذا تقول الآية (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف).

وهناك عدّة تفاسير لجملة (إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف) فذهب بعض المفسّرين.

وأنّه لا مانع من اختيار مرضعة بدل الاُم بعد توافق الطرفين بشرط أنّ هذا الأمر لا يسبّب إهدار حقوق الاُم بالنسبة إلى المدّة الفائتة من الرّضاعة، بل يجب إعطاءها حقّها في المدّة الفائتة التي أرضعت فيها الطّفل حسب ما تقتضيه الأعراف والعادات.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ العبارة ناظرة إلى حقّ المرضعة، فيجب أداء حقّها وفقاً لمقتضيات العرف والعادة، وذهب آخرون إلى أنّ المراد من هذه الجملة هو اتّفاق الأب والاُم في مسألة انتخاب المرضعة، فعلى هذا تكون تأكيداً للجملة السابقة، ولكنّ هذا التفسير ضعيف ظاهراً، والصحيح هو التفسير الأوّل والثاني، وقد اختار المرحوم (الطبرسي) التفسير الأولّ(1).

وفي الختام تحذّر الآية الجميع و تقول (واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير).

فلا ينبغي للإختلافات التي تحصل بين الزّوجين أن تؤدّي إلى إيقاد روح الإنتقام فيهما حيث يعرّض مستقبلهما ومستقبل الطّفل إلى الخطر، فلابدّ أن يعلم

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 336.

(180)

الجميع بأنّ الله تعالى يراقب أعمالهم بدقّة.

هذه الأحكام المدروسة بدقّة والمشفوعة بالتّحذيرات تبيّن بوضوح درجة اهتمام الإسلام بحقوق الأطفال وكذلك الاُمّهات حيث يدعو إلى رعاية الحدّ الأكثر من العدالة في هذا المجال.

أجل، فإنّ الإسلام ـ وعلى خلاف ما هو السائد في العالم المادي المعاصر حيث تسحق فيه حقوق الطبقة الضعيفة ـ يهتم غاية الإهتمام بحفظ حقوقهم.

* * *

(181)

الآيتان

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234) وَلاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ الِنّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

التّفسير

خرافات تبعث على تعاسة المرأة :

إنّ واحدة من المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي الزواج بعد موت زوجها. ولمّا كان بناء الأرملة بزوج جديد بعد موت زوجها السابق مباشرةً لا ينسجم مع ما تكنّه من حبّ واحترام لزوجها المتوفى، ولا مع الإطمئنان إلى عدم وجود

(182)

حمل في رحمها منه، وقد يؤدّي إلى جرح مشاعر أهل زوجها الأول، فقد جاءت الآية تشترط للزواج الجديد أن يمرّ على موت زوجها السابق أربعة أشهر وعشرة أيّام.

إنّ احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمر فطري، بحيث نجد في مختلف القبائل تقاليداً وطقوساً خاصّة بهذا الموضوع على الرغم من أنّ بعض هذه العادات كانت تبلغ حدّ الإفراط الذي يقيّد المرأة بقيود ثقيلة تبلغ حدّ القضاء على حياتها احتراماً لذكرى زوجها الراحل. كقيام بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت زوجها، أو بدفنها حيّة معه في قبره. وبعض آخر كانوا يحرمون المرأة من الزواج بعد زوجها مدى الحياة، وفي بعض القبائل كان على المرأة أن تقضي بعض الوقت بجانب قبر زوجها تحت خيمه سوداء قذرة وفي ملابس رثّة بعيدة عن كلّ نظافة أو زينة أو اغتسال(1).

إلاَّ أنّ الآية المذكورة تلغي كلّ هذه الخرافات، ولكنّها تحافظ على احترام الحياة الزوجيّة بإقرار العدّة.

(والذين يُتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف).

وبما أنّ أولياء وأقرباء المرأة يتدخّلون أحياناً في أمرها أو يأخذون بمصالحهم بنظر الإعتبار في زواجها المجدّد تقول الآية في ختامها : (والله بما تعملون خبير)وسيُجازي كلّ شخص بما عمله من أعمال سيئة أو حسنة.

وجملة (لا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف) والتي تشير إلى أنّ المخاطب فيها هم الرّجال من أقرباء المرأة تدلّ على أنّهم كانوا يرون في تحرّر

_____________________________

1 ـ الإسلام وعقائد الإنسان : ص 617.

(183)

المرأة بعد وفاة زوجها عيباً وإثماً، ويعتقدون بأنّ التضييق عليها والتشدّد في أمرها من واجباتهم، فهذه الآية تأمر بصراحة بترك هذه الإمرأة حرّة في اختيارها ولا إثم عليكم من ذلك (ويستفاد ضمناً من هذه العبارة سقوط ولاية الأب والجد أيضاً عليها) ولكن في نفس الوقت تتضمّن الآية تحذيراً للمرأة بأنّه لا ينبغي أن تسيء الاستفادة من هذه الحريّة، بل تتقدّم إلى اختيار الزوج الجديد بخطّوات مدروسة واُسلوب لائق (بالمعروف).

وحسب ما وصلنا من أئمّة المسلمين فإنّ على الأرامل في هذه الفترة أن يحافظن على مظاهر الحزن، أي ليس لهنَّ أن يتزينَّ مطلقاً، بل ينبغي التجرّد من كلّ زينة، ولاشكّ أنّ فلسفة المحافظة على هذه العدّة توجب ذلك أيضاً.

لقد حرّر الإسلام المرأة من الخرافات الجاهليّة واقتصر على هذه العدّة القصيرة بحيث ظنَّ بعضهم أنّ لها أن تتزوّج حتّى خلال هذه الفترة، ومن ذلك أنّ امرأة قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تستجيزه أن تكتحل وهي في العدّة فنهاها رسول الله وذكّرها بما كان يفرض على المرأة في الجاهليّة خلال سنة كاملة بعد الوفاة من حداد شديد وإرهاق فظيع مشيراً إلى سماحة الإسلام في هذا الأمر(1)وإنّه ممّا يلفت النّظر أنّ الأحكام الإسلاميّة بشأن العدّة تأمر المرأة بإلتزام العدّة حتّى وإن لم يكن هناك أيّ احتمال بأن تكون حاملاً، حيث إنّ عدّتها لاتبدأ بتاريخ موت زوجها، بل بتاريخ وصول خبر موت زوجها إليها وإن يكن بعد شهور، وهذا يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الهدف من هذا التشريع هو الحفاظ على احترام الحياة الزوجيّة وحرمتها إضافهً إلى ما لهذا التشريع من أهميّة بالنّسبة لاحتمال حمل المرأة.

_____________________________

1 ـ المنار : ج 2 ص 422.

(184)

الآية الثانية تشير إلى أحد الأحكام المهمّة للنّساء في العدّة (بمناسبة البحث عن عدّة الوفاة في الآيات السّابقة) فتقول : (ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنّكم ستذكرونهنَّ ولكن لا تواعدوهنَّ سرّاً إلاّ أن تقولوا قولاً معروفاً).

فهذه الآية تبيح للرّجال أن يخطبوا النّساء اللّواتي في عدّة الوفاة بالكناية أو الإضمار في النّفس (أو أكننتم في أنفسكم) وهذا الحكم في الواقع من أجل الحفاظ على حريم الزّواج السّابق من جهة، وكذلك لايحرم الأرملة من حقّها في تعيين مصيرها من جهة اُخرى، فهذا الحكم يُراعي العدالة وكذلك حفظ احترام الطّرفين.

ومن الطّبيعي أن تفكّر المرأة في مصيرها بعد وفاة زوجها، وكذلك يفكّر بعض الرّجال بالزّواج بهنّ للشروط اليسيرة السهلة في الزّواج بالأرامل، ولكن من جهة لابدّ من حفظ حريم دائرة الزّوجيّة السّابقة كما ورد من الحكم آنفاً يدلّ بوضوح على رعاية كلّ هذه المسائل المذكورة، ونفهم من عبارة (ولكن لا تواعدوهنّ سرّاً) أنّه مضافاًإلى النهي عن الخطبة العلنيّة فإنّه لايجوز كذلك أن تصارحوهنّ بالخطبة سرّاً أيضاً إلاّ إذا كان الكلام بهذا الشأن يتّفق مع الآداب الإجتماعيّة في موضوع موت الزّوج، أي أن يكون الكلام بالكناية وبشكل مبطّن.

وعبارة (عرّضتم) من مادّة (التّعريض) والتي تعني كما يقول الرّاغب في المفردات : الحديث الّذي يُحتمل معنيين الصدق والكذب أو الظّاهر والباطن.

وعلى قول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّ التّعريض ضدالتصريح، وهو في الأصل من مادّة (عرض) الذي هو بمعنى جانب الشيء(1).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2، ص 338.

(185)

ويضرب أئمة الإسلام في تفسير هذه الآية بشأن الخطبة الخفيّة أو القول المعروف كما يقول القرآن أمثلة عديدة، من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)قال (يلقاها فيقول إنّي فيك راغب وإنّي للنّساء لمكرم فلا تسبقيني بنفسك)(1).

وقد ورد هذا المضمون أو ما يماثله في كلام كثير من الفقهاء والجدير بالذّكر أنّ الآية أعلاه على الرّغم من أنها وردت بعد الآية التي تذكر عدّة الوفاة، ولكنّ الفقهاء صرّحوا بأنّ الحكم أعلاه لايختصّ بعدّة الوفاه بل يشمل غيرها أيضاً.

يقول المرحوم الفقيه والمحدّث المعروف صاحب الحدائق : (وقد صرّح الأصحاب بأنّه لا يجوز التعريض بالخطبة لذات العدّة الرجعية لأنّها زوجة، فيجوز للمطلّقة ثلاثاً من الزوج وغيره، ولايجوز التصريح لها منه ولا من غيره، أمّا المطلّقة تسعاً للعدّة ينكحها بينها رجلان فلا يجوز التعريض لها من الزوج ويجوز من غيره، ولا يجوز التصريح في العدّة منه ولا من غيره.

أمّا العدّة البائنة فيجوز التعريض من الزوج وغيره والتصريح من الزوج دون غيره)(2).

وإذا أردتم التفصيل راجعوا الكتب الفقهية بالأخص كتاب الحدائق في استمرار هذا البحث.

ثمّ تضيف الآية (ولا تعزموا عقدة النكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله) فمن المسلّم أنّ الشخص إذا عقد على المرأة في عدّتها يقع العقد باطلاً، بل أنّه إذا أقدم على هذا العمل عالماً بالحرمة فإنّ هذه المرأة ستحرم عليها أبداً.

وبعد ذلك تعقّب الآية : (واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 232 ح 905.

2 ـ الحدائق : ج 24 ص 90.

(186)

أنّ الله غفور حليم).

وبهذا لابدّ أن تعلموا أنّ الله تعالى مطّلع على أعمالكم ونيّاتكم وفي نفس الوقت لايؤاخذ المذنبين بسرعة.

جملة (لاتعزموا) من مادّة (عزم) بمعنى قصد، فعندما تقول الآية (ولا تعزموا عقده النّكاح) فهو في الواقع نهيٌ مؤكّد عن الإقدام العملي على عقد الزّواج ويعني التّحذير حتّى من نيّة وقصد هذا العمل في زمان العدّة.

* * *

(187)

الآيتان

لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن طَلَّقْتُمُ الِنّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَـاعَاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الُْمحْسِنِينَ (236) وَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاَّ أَن يَعْفُونَ أَو يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ أللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(237)

التّفسير

كيفيّة أداء المهر :

في هاتين الآيتين نلاحظ أحكام اُخرى للطّلاق أستمراراً للأبحاث السّابقة.

تقول الآية في البداية (لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء ما لم تمسّوهنّ(1) أو

_____________________________

1 ـ «مس»في اللغة بمعنى الملامسة،وهناكناية عن الجماع و«فريضة»بمعنى الواجب،وهناجاءت بمعنى المهر.

(188)

تفرضوا لهنّ فريضة) وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسيّة وقبل تعيين المهر، وهذا في صورة ما إذا علم الرّجل أو كلا الزّوجين بعد العقد وقبل المواقعة أنّهما لا يستطيعان إستمرار الحياة الزّوجيّة هذه، فمن الأفضل أن يتفارقا في هذا الوقت بالذّات، لأنّ الطّلاق في المراحل اللاّحقة سيكون أصعب.

وعلى كلّ حال فهذا التعبير في الآية جوابٌ على من يتصوّر أنّ الطّلاق قبل المواقعة أو قبل تعيين المهر لا يقع صحيحاً، فالقرآن يقول أنّ هذا الطّلاق صحيح ولا إثم عليه (وقد يمنع من كثير من المفاسد).

وذهب البعض أن (جناح) في هذه الآية بمعنى (المهر) الّذي يثقل على الزّوج، يعني أنّ الرّجل حين الطّلاق وقبل المقاربة الزوجيّة وتعيين المهر ليس مكلّفاً بدفع أي شيء بعنوان المهر إلى المرأة، وبالرّغم من أنّ بعض المفسّرين(1) أورد كلاماً طويلاً حول هذا التفسير، ولكن استعمال كلمة «جناح» بمعنى المهر يعتبر غريباً وغير مأنوس.

واحتمل آخرون أنّ معنى الجملة أعلاه هو جواز طلاق المرأة قبل المقاربة الجنسيّة في جميع الأحوال (سواء كانت في العادة الشهريّة أو لم تكن) والحال أنّ الطّلاق بعد المواقعة الجنسيّة يجب أن يكون في الزّمان الطّهر الّذي لم يواقعها فيه حتماً(2)، ولكن هذا التفسير بعيد جدّاً لأنّه لا ينسجم مع جملة (أو تفرضوا لهنّ فريضة).

ثمّ تبيّن الآية حكماً آخراً في هذا المجال وتقول : (ومتّعوهنّ) أي يجب أن تمنح المرأة هديّة تناسب شؤونها فيما لو جرى الطّلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين المهر، ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الإعتبار قدرة الزّوج الماليّة في هذه الهديّة،

_____________________________

1 ـ تفسير الكبير : ج 6 ص 137.

2 ـ المصدر السابق.

(189)

ولذلك تعقّب الآية الشريفة بالقول (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقّاً على المحسنين).

(الموسع) بمعنى المقتدر والثّري و (المقتر) بمعنى الفقير (من مادّة قتر وكذلك وردت بمعنى البخل أيضاً) كقوله تعالى (وكان الإنسان قتورا)(1).

وجملة (متاعاً بالمعروف) يمكن أن تشير إلى جميع ما ذكرناه، أي أنّ الهديّة لابدّ أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل.

ومناسبة لحال المُهدي والمُهدى إليه.

ولمّا كان لهذه الهديّة أثر كبير للقضاء على روح الإنتقام وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعُقدَ نفسيّة بسبب فسخ عقد الزّواج، فإنّ الآية تعتبر هذا العمل من باب الإحسان (حقّاً على المحسنين)(2) أي أن يكون ممزوجاً بروح الإحسان واللّطف، ولا حاجة إلى القول بأنّ تعبير (المحسنين) لم يأت ليشير إلى أنّ الحكم المذكور ليس إلزاميّاً، بل جاء لإثارة المشاعر والعواطف الخيّرة في الناس للقيام بهذا الواجب الإلزامي.

الملاحظة الاُخرى في هذه الآية هي أنّ القرآن يعبّر عن الهدية الّتي يجب أن يعطيها الرجل للمرأة باسم (متاع) فالمتاع في اللّغة هو كلّ ما يستمتع به المرء وينتفع به، ويطلق غالباً على غير النقود، لأنّ الأموال لايمكن التمتّع بها مباشرةً، بل لابدّ أوّلاً من تبديلها إلى متاع، ولهذا كان تعبير القرآن عن الهديّة بالمتاع.

ولهذا العمل أثر نفسي خاص، فكثيراً ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المُهدى إليهم لا يبلغه أبداً أثر الهديّة النقديّة، لذلك نجد أنّ الروايات الواصلة إلينا عن أئمّة

_____________________________

1 ـ الاسراء : 100.

2 ـ «حقّاً» يمكن أن تكون صفة لـ «متاعاً»، أو حال أو مفعول مطلق لفعل محذوف ـ «متاعاً» مفعول مطلق أيضاً عن جملة «ومتعوهن».

(190)

الأطهار (عليهم السلام)تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعيّة.

كذلك يتّضح من هذه الآية أنّ تعيين المهر قبل إجراء العقد في النكاح الدائم ليس ضروريّاً إذ يمكن للطرفين أن يتّفقا على ذلك بعد(1) إذ كما تفيد الآية أيضاً أنّه إذا حصل الطّلاق قبل تعيين المهر وقبل المضاجعة فلا يجب المهر، بل يُستعاض عنه بالهديّة المذكورة.

ويجب الإلتفات إلى أنّ الزّمان والمكان مؤثّران في مقدار الهديّة المناسبة.

وتتحدّث الآية التالية عن حالة الطّلاق الّذي لم يسبقه المضاجعة ولكن بعد تعيين المهر فتُبيّن أنّ الحكم في هذا اللّون من الطّلاق الّذي يكون قبل المضاجعة وبعد تعيين المهر يوجب على الزّوج دفع نصف المهر المعيّن (وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنَّ وقد فرضتم لهنّ فريضة فنصف ما فرضتم).

وهذا هو حكم القانوني لهذه المسألة، فيجب دفع نصف المهر إلى المرأة بدون أيّة نقيصة، ولكن الآية تتناول الجوانب الأخلاقيّة والعاطفيّة وتقول : (إلاّ أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح).

والمراد من ضمير (يعفون) هم الأزواج، أمّا في قوله (أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح) هو وليّ الصغير أو السفيه، ومن الواضح أنّ الوليّ ليس له الحقّ من أن يعفو أو يتنازل عن حقّ الصغير إلاّ إذا تضمّن مصلحة الصغير.

فعلى هذا يكون حكم دفع نصف المهر بغض النظر عن مسألة العفو والتنازل عن الحقّ، وممّا تقدّم يتّضح أن من له العفو هو الولي للصّغير أو السفيه لأنّه هو الّذي بيده أمر زواج المولّى عليه، ولكن بعض المفسّرين تصوّروا أنّ المراد هو الزّوج، بمعنى أنّ الزوج متى ما دفع تمام المهر قبلاً (كما هو المتعارف عند الكثير من

_____________________________

1 ـ لاشكّ أنّ المهر لا يسقط إن لم يذكر في العقد الدائم بل يعبر (مهر المثل) أي المهر الذي يعادل مهور نساء مماثلات إلاّ إذا حصل الطلاق قبل الدخول عندئذ يتوجب تقديم هديّة كما ذكرنا.

(191)

العرب) فله الحقّ في أن يسترجع نصف المهر إلاّ أن يعفو ويتنازل عنه.

أمّا مع الملاحظة الدقيقة في مضمون الآية يتبيّن أنّ التفسير الأوّل هو الصحيح، وأنّ المخاطب في هذه الآية هم الأزواج حيث تقول : (وإن طلّقتموهنّ)في حين أنّ الضمير في جملة (أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح) جاء حكايةً عن الغائب ولا يتناسب ذلك مع عوده إلى الأزواج.

أجل، فإنّ الآية في الجملة التالية تقول (وإن تعفو أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إنّ الله بما تعملون بصير).

فمن الواضح أنّ المخاطب في هذه الجملة هم الأزواج، فتكون النتيجة أنّ الحديث في الجملة السّابقة كان عن عفو الأولياء، وفي هذه الجملة تتحدّث الآية عن عفو الأزواج، وجملة (ولا تنسوا الفضل بينكم) خطاب لعموم المسلمين أن لا ينسوا المُثُل الإنسانية في العقو والصفح والإيثار في جميع الموارد.

وهذا ما ورد في الروايات الّتي وصلتنا من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية، وكذلك نرى أنّ المفسّرين الشّيعة قد اختاروا هذا الرّأي بالتّوجه إلى مضمون الآية والرّوايات الشريفة، فذهبوا إلى أنّ المقصود في هذه العبارة هم أولياء الزّوجة.

ومن الطبيعي أن تطرأ ظروف تجعل الإضطرار إلى أخذ نصف المهر حتّى قبل الدّخول أمراً قد يُثير مشاعر الرّجل وأقرباءه ويجرح عواطفهم وقد ينزعون إلى الإنتقام، ويُحتمل أن تتعرّض سمعة المرأة وكرامتها إلى الخطر، فهنا قد يرى الأب أنّ من مصلحه ابنته أن يتنازل عن حقّها.

جملة (وأن تعفوا أقرب للتقوى) تبيّن جانباً آخر من واجبات الزّوج الإنسانيّة، وهو أن يظهر الزّوج التنازل والكرم فلا يسترجع شيئاً من المهر إن كان قد دفعه، وإن لم يكن دفعه بعد فمن الأفضل دفعه كاملاً متنازلاً عن النصف الّذي

(192)

هو من حقّه، وذلك لأنّ المرأة الّتي تنفصل عن زوجها بعد العقد تواجه صدمة نفسيّة شديدة، ولا شكَّ أنّ تنازل الرجل عن حقّه من المهر لها يكون بمثابة البلسم لجرحها.

ونلاحظ تأكيداً في سياق الآية الشريفة على أصل (المعروف) و (الإحسان) فحتّى بالنّسبة إلى الطّلاق والإنفصال لا ينبغي أن يكون مقترناً بروح الإنتقام والعداوة، بل ينبغي أن يتم على أساس السماحة والإحسان بين الرّجل والمرأة، لأنّ الزوجين إذا لم يتمكنّا من العيش سويّة وفضّلا الإفتراق بدلائل مختلفة، فلا دليل حينئذ لوجود العداوة والبغضاء بينهما.

* * *

(193)

الآيتان

حَـافِظُواْ عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للهِ قَـانِتِينَ (238) فإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ(239)

سبب النّزول

تذرّع جمع من المنافقين بحرارة الجو لإلقاء التفرقة في صفوف المسلمين، فلم يكونوا يشتركون في صلاه الجماعة، فتبعهم آخرون وأخذوا يتخلّفون عن صلاة الجماعة، فقلّ بذلك عدد المصلّين، فتألّم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك كثيراً حتّى أنّه هدّدهم بعقاب أليم، وفي حديث عن زيد بن ثابت قال : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يؤدّي صلاة الظهر جماعة والحرّ على أشدّه ممّا كان يثقل على أصحابه كثيراً بحيث أنّ صلاة الجماعة أحياناً لم تتجاوز صفاً واحداً أو صفّين، فهنا هدّد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هؤلاء المنافقين ومن لم يشترك صلاة الجماعة بإحراق منازلهم، فنزلت الآية أعلاه وبيّنت أهميّة صلاة الظهر جماعةً بصورة مؤكّدة(1).

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 342 ـ وبنفس المضمون في تفسير «الدّر المنثور» في ذيل الآية المبحوثة حسب نقل الميزان.

(194)

وهذا التأكيد يدلّ على أنّ مسألة عدم المشاركة في صلاة الجماعة لم تكن بسبب حرارة الجو فقط، بل أنّ جماعة أرادوا تضعيف الإسلام بهذه الذّريعة وإيجاد الفرقة في صفوف المسلمين بحيث دعى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يتّخذ مثل ذلك الموقف الحازم من هؤلاء.

التّفسير

أهميّة الصّلاة وخاصّةً الوسطى :

بما أن الصلاة أفضل وسيلة مؤثرة تربط بين الإنسان وخالقه، وإذا اُقيمت على وجهها الصحيح ملأت القلب بحبّ الله واستطاع الإنسان بتأثير أنوارها أن يتجنّب الذنوب والتلوّث بالمعصية، لذلك ورد التأكيد في آيات القرآن الكريم عليها، ومن ذلك ما ورد في الآية محل البحث حيث تقول : (حافظوا على الصلاة والصلوات الوسطى وقوموا لله قانتين).

فلا ينبغي للمسلمين أن يتركوا هذا الأمر المهم بحجّة البرد والحرّ ومشكلات الحياة ودوافع الزوجة والأولاد والأموال.

أمّا ما هو المراد بقوله (الصلـوة الوسطى) ؟ ذكر المفسّرون معان مختلفة للمراد من الصلواة الوسطى، وذكر صاحب تفسير مجمع البيان ستّة أقوال، والفخر الرّازي ذكر في تفسيره سبعة أقوال، وبلغ بها القرطبي في تفسيره إلى عشرة أقوال، أمّا تفسير روح المعاني فذكر لها ثلاثة عشر قولاً.

فالبعض يرى أنّها صلاة الظهر، وآخر صلاة العصر، وبعض صلاة المغرب، وبعض صلاة العشاء، وبعض صلاة الصبح، وبعض صلاة الجمعة، وبعض صلاة اللّيل أو خصوص صلاة الوتر، وذكروا لكلّ واحد من هذه الأقوال أدلّة وتوجيهات مختلفة، ولكنّ القرائن المختلفة المتوفّرة تثبت أنّها صلاة الظهر، لأنّها فضلاً عن

(195)

كونها تقع في وسط النّهار، فإنّ سبب نزول هذه الآية يدلّ على أنّ المقصود بالصّلاة الوسطى هو صلاة الظهر التي كان الناس يتخلّفون عنها لحرارة الجو، كما أنّ هناك روايات كثيرة تصرّح بأنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الظّهر(1). والتأكيد على هذه الصّلاة كان بسبب حرارة الجو في الصّيف، أو بسبب انشغال الناس في اُمور الدنيا والكسب فلذلك كانوا لا يعيرون لها أهميّة، فنزلت الآية آنفة الذكر تبيّن أهميّة صلاة الوسطى ولزوم المحافظة عليها(2).

(قانتين) من مادّة (قنوت) وتأتي بمعنيين.

1 ـ الطاعة والإتّباع.

2 ـ الخضوع والخشوع والتّواضع.

ولايبعد أن يكون المعنيان مرادين في هذه الآية، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية (وقوموا لله قانتين) قال : «إقبال الرّجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها ولايشغله شيء».

وفي رواية اُخرى قال :

وفي الآية الثانية تؤكّد على أنّ المسلم لا ينبغي له ترك الصلاة حتّى في أصعب الظروف والشّرائط كما في ميدان القتال، غاية الأمر أنّ الكثير من شرائط الصّلاة في هذا الحال تكون غير لازمة كالإتّجاه نحو القبلة وأداء الرّكوع والسّجود بالشكل الطبيعي، ولذا تقول الآية (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً).

سواءً كان الخوف في حال الحرب أو من خطر آخر، فإنّ الصّلاة يجب أداءها

_____________________________

1 ـ انظر الكتب الفقهية للأستزادة.

2 ـ المشهور بين فقهاء الشيعة أن المراد منها «صلاة الظهر» بل ادعي الإجماع على ذلك ومن عدّة روايات معتبرة وردت في كتاب وسائل الشيعة : ج 3 ص 14 الباب 5 أو هناك قول شاذ وضعيف بأن المراد منها صلاة العصر «وذهب أغلب فقهاء أهل السنّة إلى هذا الرأي» واستدلوا على ذلك بعدّة روايات ضعيفة السند وقد اعرض الأصحاب عنها (لمزيد الإيضاح راجع الكتب الفقهية).

(196)

بالإيماء والإشارة للرّكوع والسّجود، سواءً كنتم مشاة أو راكبين.

(فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون) ففي هذه الصّورة، أي في حالة الأمان يجب عليكم أداء الصّلاة بالصّورة الطبيعيّة مع جميع آدابها وشرائطها.

ومن الواضح أنّ أداء الشكر لهذا التعليم الإلهي للصّلاة في حالة الأمن والخوف هو العمل على وفق هذه التعليمات.

(رجال) جمع (راجل) و (ركبان) جمع (راكب) والمقصود هو أنّكم إذا خفتم العدو في ميدان القتال لكم أن تؤدّوا الصلاة راجلين أو راكبين في حالة الحركة.

وقد ورد عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّه في بعض الحروب أمر المقاتلين أن يصلّوا بالتّسبيح والتكبير وقول (لا إله إلاّ الله)(1)، وكذلك نقرأ في حديث آخر : إنّ النبي صلّى يوم الأحزاب إيماءً(2).

وكذلك ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) جواز أداء الصلاة في حالة الخوف إلى غير جهة القبلة ويُومي للرّكوع والسجود في حال القيام(3).

فهذه الصلاة هي صلاة الخوف التي شرحها الفقهاء في كتبهم شرحاً مفصّلاً، وعليه فالآية توضّح أنّ إقامة الصلاة والإرتباط بين العبد وخالقه يجب أن يتحقّق في جميع الظروف والحالات، وبهذا تتحصّل نقطة ارتكاز للإنسان واعتماده على الله، فتكون مبعث الأمل والرّجاء في الحياة وتعينه في التغلّب على جميع المصاعب والمشكلات.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين.

2 ـ مجمع البيان، في ذيل الآية المبحوثة.

3 ـ وسائل الشيعة : ج 5 ، ص 483 الباب 3، الحديث 3 مع التلخيص ونقل الحديث بالمعنى، ووردت أحاديث اُخرى بهذا المضمون في هذا الباب.

(197)

بحث

دور الصلاة في تقوية المعنويّات :

قد يحسب البعض أنّ هذا الإصرار والتوكيد على الصلاة ضرب من التعسير، ولربّما منع ذلك الإنسان من القيام بواجبه الخطير في الدّفاع عن نفسه في مثل ظروف القتال الصّعبة.

في حين أنّ هذا الكلام اشتباه كبير، فالإنسان في مثل هذه الحالات أحوج إلى تقوية معنويّته من أي شيء آخر، لأنّه إذا ضعفت معنويّته واستولى عليه الخوف والفزع فإنّ هزيمته تكاد تكون حتميّة، فأيّ عمل أفضل من الصّلاه والإتّصال بالله القادر على كلّ شيء وبيده كلّ شيء من أجل تقويّة معنويّات المجاهدين أو من يواجه الخطر.

لو تركنا الشواهد الكثيرة في جهاد المجاهدين المسلمين في صدر الإسلام فإنّنا نقرأ عن حرب الصهاينة الرّابعة مع العرب في شهر رمضان عام 1393هـ .ق أنّ توجّه الجنود المسلمين إلى الصّلاة والمباديء الإسلام كان له أثر فعّال في تقوية عزائمهم وفي التالي انتصارهم على عدوّهم. وعلى أي حال فإنّ أهميّة الصلاة وتأثيرها الإيجابي في الحياه أكبر من أن يستوعبها هذا المختصر، فلا شكّ في أنّ الصّلاة إذا روعيت معها آدابها الخاصّة وحضور القلب فيها فإنّ لها تأثيراً إيجابيّاً عظيماً في حياة الفرد والمجتمع، وبإمكانها أن تحل الكثير من المشاكل وتطهّر المجتمع من الكثير من المفاسد، وتكون للإنسان في الأزمات والشدائد خير معين وصديق(1).

* * *

_____________________________

1 ـ للاستزادة ومعرفة فوائد الصلاة تراجع الآية (45) من سورة العنكبوت من هذا التفسير.

(198)

الآيات

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لاَّزْوَاجِهِم مَّتَـاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاج فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوف وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(240)ولِلْمُطلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْروْفِ حَقّاً عَلَى المُتقّين (241)كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُوْنَ (242)

التّفسير

قسم آخر من أحكام الطّلاق :

تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطّلاق والاُمور المتعلّقة بها، وفي البداية تتحدّث عن الأزواج الّذين يتوسّدون فراش الإحتضار ولهم زوجات فتقول : (والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّة لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج).

أي أنّ الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدّة

(199)

سنة كاملة، وهذا طبعاً في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج خارج البيت، ولهذا تضيف الآية : (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف) كأن يخترن زوجاً جديداً، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم، ولكن يسقط حقّها في النفقة والسكنى.

وفي ختام الآية تشير إلى أنّه لا ينبغي التخوّف من عاقبة خروج النسوة، فتقول بأنّ الله قادر على فتح أبواب اُخرى أمامهنّ بعد وفاة الأزواج فلو حدثت مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإنّ ذلك سيكون لحكمة حتماً لأنّ الله تعالى عزيز حكيم (والله عزيز حكيم)، فلو أغلق باباً بحكمته فسوف يفتح اُخرى بلطفه، فلا محلّ للقلق والتخوّف، ويُعلم من ذلك أنّ جملة (يتوفّون) هنا لا تعني الموت، بل تعني المُشرف على الموت بقرينة ذكر الوصيّة.

وقوله (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف) تدلّ على وجوب دفع ورثة الزّوج نفقة الزوجة لمدّة سنة كاملة، وفيما إذا لم ترض هذه المرأة بالبقاء في بيت الزوج والإستفادة من النفقة، فلا مانع من ذلك، ولا مانع كذلك من أن تختار زوجاً آخر أيضاً، ولكنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لهذه العبارة وهو أنّها إذا صبرت في بيت زوجها مدّة سنة كاملة ثمّ خرجت من البيت فتزوّجت فلا مانع من ذلك.

وطبقاً للتفسير الثاني يجب على المرأة العدّة لمدّة سنة كاملة، ولكن على التفسير الأوّل لا يلزم ذلك. وبعبارة أُخرى أنّ دوام العدّة لمدّة سنة كاملة على التفسير الأوّل يُعتبر حقٌّ للمرأة، ولكنّه على التفسير الثاني حكم وإلزام، ولكنّ ظاهر الآية ينسجم أكثر مع التفسير الأوّل، لأنّ ظاهر الجملة الأخيرة هو أنّه إستثناء من الحكم السابق.

(200)

مسألة :

هل نسخت هذه الآية ؟

يعتقد الكثير من المفسّرين أنّ هذه الآية قد نسخت بالآية 234 من هذه السورة التي سبق بيانها وفيها ورد أنّ عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيّام، وعلى الرغم من أنّ تلك الآية تأتي قبل هذه الآية من حيث الترتيب ولكننا نعلم أنّ الآيات في السورة لم ترتّب بحسب نزولها، بل قد نجد آيات متأخّرة في النّزول وضعت متقدّمة في الترتيب، وقد جرى ذلك للتّناسب بين الآيات ولأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويرى هؤلاء المفسّرين أيضاً أنّ حقّ النفقة لمدّة سنة كاملة كان قبل نزول آيات الإرث، ولكن بعد أن قرّرت آيات الإرث للزّوجين مقداراً من الإرث زال هذا الحقّ عنها، فعلى هذا فإنّ الآية محل البحث منسوخة من جهتين (من جهة مقدار زمان العدّة ومن جهة النفقة).

وذكر المرحوم (الطبرسي) في «مجمع البيان» أنّ جميع العلماء اتّفقوا أنّ هذه الآية منسوخة. ثمّ يذكر حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ الرجل في العصر الجاهلي إذا مات كانت زوجته تتمتّع بالنفقة لمدّة سنة كاملة ثمّ أنّها تخرج من بيت زوجها بدون ميراث، وبعد ذلك نزلت الآيات المتعلّقة بإرث الزّوجة ونسخت هذه الآية بتعيين الرُبع أو الثُمن من الميراث لها.

وعلى هذا يجب أن تحسب نفقة المرأة في مدّة العدّة من حصّتها من الإرث، وكذلك ورد عن الإمام الصادق أيضاً أنّ الآية التي تقرّر العدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام وكذلك آية الإرث قد نسختا هذه الآية(1).

وعلى كلّ حال، يُستفاد من كلمات العلماء أنّ عدّة الوفاة كانت في زمان

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 345 ذيل الآية المبحوثة.

(201)

الجاهليّة سنة كاملة تمرّ خلالها الارملة بكثير من التقاليد والعادات الخرافيّة الشّاقة، فجاء الإسلام وألغى تلك العادات وأبقى مدّة العدّة سنة في بداية الأمر، ثمّ جعلها أربعة أشهر وعشرة أيّام، كما منع المرأة فقط من الزّينة خلال هذه المدّة.

ويستفاد من كلام «الفخر الرازي» هو أن الآية أعلاه نُسخت بآيات الإرث وعدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام(1).

ولكن لولا إجماع العلماء والروايات المتعدّدة في هذا المجال لأمكن القول بعدم وجود التعارض بين هذه الآيات، فإنّ الحكم بأربعة أشهر وعشرة أيّام للعدّة هو حكم إلهي، وأمّا المحافظة على العدّة لمدّة سنة كاملة والبقاء في بيت الزوج والإستفادة من النفقة فإنّه حقٌّ لها، أي أنّه قد اُعطي الحقّ للمرأة أن تبقى في بيت زوجها المتوفّى سنة كاملة إن أرادت ذلك وتستفيد من النفقة طبقاً لوصيّة زوجها في جميع هذه المدّة، وإن رفضت ذلك ولم ترغب في البقاء، فيجوز لها الخروج من البيت بعد أربعة أشهر وعشرة أيّام، ويمكنها كذلك إختيار زوج آخر، وحينئذ سوف تُقطع عنها بطبيعة الحال النفقة من مال زوجها السابق.

ولكن مع ملاحظة الروايات المتعدّدة عن أهل البيت (عليهم السلام) وشهرة حكم النسخ أو اتفاق العلماء على ذلك، فلا يمكن قبول مثل هذا التفسير رغم أنّه موافق لظواهر الآيات الشريفة.

في الآية الثانية يبيّن القرآن الكريم حكماً آخر من أحكام الطّلاق ويقول : (وللمطلّقات متاع بالمعروف حقّاً على المتّقين) أي أنّ المتقين يجب عليهم تقديم هديّة لائقة للنساء المطلّقات.

وبالرّغم من أنّ ظاهر الآية يشمل جميع النساء المطلّقات، ولكن بقرينة الآية 236 السابقة نفهم أنّ هذا الحكم يختص بمورد النسوة التي لم يقرّر لهنّ مهر بعد

_____________________________

1 ـ الفخر الرازي : ج 6 ص 158.

(202)

وقوع الطّلاق قبل الوطىء، وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تأكيد للحكم المذكور كيلا يتعرّض للإهمال، ويحتمل أيضاً أنّ الحكم المذكور يشمل جميع النسّاء المطلّقات، غاية الأمر أنّ المورد أعلاه من الموارد الوجوبيّة والموارد الاُخرى لها جنبة استحبابيّة.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا الحكم هو أحد الأحكام الإنسانيّة والأخلاقيّة في الإسلام والتي لها أثر إيجابي على إزالة الرسوبات المتخلّفة من عملية الطّلاق ومنع حالة العداوة والإنتقام والكراهيّة الناشئة منه.

وذكر البعض أن دفع هدية لائقة للنساء المطلّقات أمر واجب وهو غير المهر، ولكنّ الظاهر بين علماء الشيعة كما يُستفاد من عبارة المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّه لا قائل بهذا القول (ويصرّح المرحوم صاحب الجواهر أيضاً أنّ الهديّة المذكورة لا تجب إلاَّ في ذلك المورد الخاص وأنّ هذه المسألة إجماعيّة)(1).

وقد احتمل البعض أنّ المراد من المتاع هنا النفقة وهو احتمال بعيدٌ جدّاً.

وعلى كلّ حال أنّ هذه الهديّة وطبق الرّوايات الواردة من الأئمّة المعصومين تُعطى إلى المرأة بعد تمام العدّة والإفتراق الكامل لا في عدّة الطّلاق الرّجعي، وبعبارة أُخرى أنّ هذه الهديّة ليست وسيلة للعودة، بل للوداع النهائي(2).

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث والتي هي آخر آية من الآيات المتعلّقة بالطّلاق تقول : (كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تعقلون).

ومن البديهي أنّ المراد من التفكّر والتعقّل هو ما يتعقّبه التحرّك نحو العمل، وإلاَّ فإنّ التفكّر والتعقّل لوحده في الأحكام والآيات لا يُثمر نتيجة، ويتبيّن من دراسة الآيات والأحاديث الإسلاميّة أن لفظة «العقل» تستعمل غالباً عند ايراد

_____________________________

1 ـ جواهر الكلام : ج 31 ص 58.

2 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 240 ح 956 و 957.

(203)

التعبير عن امتزاج الإدراك والفهم مع العواطف والأحاسيس ثمّ يستتبع ذلك العمل. فعندما يتحدّث القرآن في مواضع كثيرة عن معرفة الله مثلاً يشير إلى نماذج من نظام هذا الكون العجيب، ثمّ يقول إننا نبين هذه الآيات (لعلّكم تعقلون).

وهذا لا يعني أنّ القصد هو ملء الأدمغة ببعض المعلومات عن نظام الطبيعة، إذ أنّ العلوم الطبيعية إذا لم تبعث في القلب والعواطف حركة نحو معرفة الله وحبّه والإنشداد به فلا ارتباط لها بقضايا التوحيد. وهكذا المعارف العلمية لا تكون تعقّلاً إلاَّ إذا اقترنت بالعمل.

صاحب تفسير الميزان(1) يؤيّد هذا الإتجاه في فهم معنى التعقّل، ويرى أنّه الذي يدفع الإنسان بعد الفهم والإدراك إلى مرحلة العمل، والدليل على ذلك قوله تعالى : (لو كنّا نَسمعُ أو نَعقِلُ ما كنّا في أصحاب السعير)(2).

وقوله سبحانه (أفلم يَسيروا في الأرضِ فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها)(3)فالتعقّل الذي يتحدّث عنه المجرمون يوم القيامة هو ذلك الذي يرافقه العمل، وهكذا التعقّل الناتج عن السير في الأرض والتفكير في خلق الله إنّما هو المعرفة التي تحمل الإنسان على تغيّر مسير حياته والإتجاه إلى الصراط المستقيم.

وبعبارة اُخرى أنّ التفكّر والتعقّل والتدبّر إذا كان متعمّقاً ومتجذّراً في روح الإنسان فلا يمكن أن يكون عديم الآثار في دائرة الواقع العملي، فكيف يمكن أن يقطع الإنسان ويعتقد جازماً بمسموميّة الغذاء ثمّ يتناوله ؟ ! أو يعتقد جزماً بتأثير الدّواء الفلاني على معالجة أحد الأمراض الخطرة التي يعاني منها ثمّ لا يتناوله ! !

* * *

_____________________________

1 ـ الميزان : ج 2 ص 250 ـ 249.

2 ـ الملك : 10.

3 ـ الحج : 46.

(204)

الآية

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون (243)

سبب النّزول

انتشر مرض الطاعون في إحدى مدن الشام وأخذ يحصد الناس بسرعة عجيبة، فهجر المدينة جمع من الناس أملاً في النجاة من مخالب الموت. وإذ نجوا من الموت فعلاً بهروبهم من ذلك الجو المبوء، شعروا في أنفسهم بشيء من القدرة والإستقلالية، وحسبوا أنّ نجاتهم مدينة لعوامل طبيعية غافلين عن إرادة الله

(205)

ومشيئته، فأماتهم الله في تلك الصحراء بالمرض نفسه.

قيل : إنَّ نزول المرض بأهل هذه المدينة كان عقاباً لهم، لأنّ زعيمهم وقائدهم طلب منهم أن يستعدّوا للحرب وأن يخرجوا من المدينة. ولكنّهم رفضوا الخروج للحرب بحجّة أنّ مرض الطاعون متفشيّ في ميادينها، فابتلاهم الله بما كانوا يخشونه ويفرّون منه، فانتشر بينهم مرض الطاعون، فهجروا بيوتهم وهربوا من المرض إلى خارج المدينة حيث انشب المرض مخالبه فيهم وماتوا. ومضى زمان على هذا حتّى مرّ يوماً «حزقيل»(1) أحد أنبياء بني إسرائيل بذلك المكان ودعا الله أن يحييهم، فأستجاب الله دعاءه وأحياهم.

التّفسير

كيف ماتوا وكيف عادوا إلى الحياة ؟ !

هذه الآية كما مرّ في سبب نزولها تشير إشارة عابرة ولكنّها معبّرة إلى قصّة أحد الأقوام السّالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية : (ألم ترَ إلى الَّذين خرجوا من ديارهم وهم اُلوف حذر الموت).

من الأساليب الشايعة في الأدب العربي استعمال تعبير (ألم تر) فيما يطلب الفات النظر إليه، وبالرّغم من أنّ المخاطب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ولكنّ الكلام موجّه بطبيعة الحال إلى جميع الناس.

ورغم أنّ الآية أعلاه لا تشير إلى عدد خاص واكتفت بكلمة (اُلوف)ولكنّ

_____________________________

1 ـ في بعض الروايات أنّ حزقيل هو النبيّ الثالث بعد موسى (عليه السلام) في بني إسرائيل.

(206)

الوارد في الروايات أنّ عددهم كان عشرة آلاف، وذكرت روايات اُخرى أنّهم كانوا سبعين ألف أو ثمانين ألف(1).

ثمّ أنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت : (فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم)لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة اُخرى عبرة للآخرين. ومن الواضح أنّ المراد من (موتوا) ليس هو الأمر اللفظي بل هو أمر الله التكويني الحاكم على كلّ حيّ في عالم الوجود، أي أنّ الله تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعاً في وقت قصير، وهذه أشبه بالأمر الذي أورد في الآية 82 من سورة يس (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(2).

وجملة (ثمّ أحياهم) إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم إستجابة لدعاء (حزقيل النبي) كما ذكرنا في سبب نزول الآية، ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة اُخرى من النعم الإلهيّة البيّنة (نعمة لهم ونعمة لبقيّة الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول (إنّ الله لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون)فليست نعمة الله وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.

* * *

بحوث

هنا ينبغي أن نشير إلى بعض النقاط :

1 ـ هل هذه الحادثة التاريخيّة حقيقيّة، أم مجرّد تمثيل ؟

هذه الحكاية التي ذكرناها، أهي حدث تاريخي واقعي أشار إليه القرآن إشارة عابرة، ثمّ شرحته الروايات والأحاديث، أم أنّها أُقصوصة لتجسيد الحقائق العقلية

_____________________________

1 ـ راجع التفاسير : مجمع البيان، القرطبي، روح البيان، في ذيل الآية المبحوثة.

2 ـ يس  : 82 .

(207)

وبيانها بلغة حسّية ؟

لمّا كان لهذه الحكاية جوانب غير عادية بحيث صعب هضمها على بعض المفسّرين، فإنّهم أنكروا كونها حقيقة واقعة، وقالوا إنّ ما جاء في الآية إنّما هو من باب ضرب المثل بقوم يضعفون عن الجهاد ضدّ العدوّ فيُهزمون ثمّ يعتبرون بما جرى فيستيقظون ويستأنفون الجهاد ومحاربة العدوّ وينتصرون.

وبموجب هذا التفسير يكون معنى «موتوا» الهزيمة في الحرب بسبب الضعف والتهاون. و «أحياهم» إشارة إلى الوعي واليقظة ومن ثمّ النصر.

هذا التفسير يرى أنّ الروايات التي تعتبر هذه الحادثة واقعة تاريخية روايات مجعولة وإسرائيلية.

وعلى الرغم من أن مسألة «الهزيمة» بعد التهاون و «الانتصار» بعد اليقظة مسألة هامّة ورائعة، ولكن لا يمكن إنكار كون ظاهر الآية يدلّ على بيان حادثة تاريخية بعينها، وليست تمثيلاً.

إنّ الآية تتحدّث عن قوم من الماضين ماتوا على أثر هروبهم من حدث مروّع ثمّ أحياهم الله. فإذا كانت غرابة الحادثة وبعدها عن المألوف هو السبب في تأويلها ذاك التأويل، فهذا إذاً ما ينبغي أن نفعله بشأن جميع معاجز الأنبياء.

ولو أنّ أمثال هذه التأويلات والتوجيهات وجدت طريقها إلى القرآن لأمكن إنكار معاجز الأنبياء، فضلاً عن إنكار معظم قصص القرآن التاريخية واعتبارها من قبيل القصص الرمزي التمثيلي، كأن نعتبر قصّة هابيل وقابيل قصّة موضوعة لتمثّل الصراع بين العدالة وطلب الحقّ من جهة، والقسوة والظلم من جهة اُخرى، وبهذا تفقد قصص القرآن قيمتها التاريخية.

وفضلاً عن ذلك فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الروايات الواردة في تفسير هذه الآية، لأنّ بعضها قد ورد في الكتب الموثوق بها ولا يمكن أن تكون من

(208)

الإسرائيلات المجعولة.

2 ـ درسٌ للعبرة

هدف الآية في الواقع كما ورد في سبب النزول هو إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل الّذين كانوا يتذرّعون تهرّباً من الجهاد بمختلف المعاذير، فابتلاهم الله بمرض الطّاعون حيث فتك بهم سريعاً وأفناهم وأبادهم إلى درجة أنّه لا يستطيع أي عدوّ شرس أن يصنع ذلك في ميدان القتال، فبهذا تقول الآية لهم أنّه لا تتصوّروا أنّ التهرّب من المسؤوليّة والتوسّل بالأعذار الواهية يجعلكم في مأمن من الخطر، فأنتم أعجز من أن تقفوا أمام قدرة الله تعالى، فإنّه تعالى قادرٌ على أن يبتليكم بعدوٍّ صغير لايرى بالعين وهو مكروب الطّاعون أو الوباء وأمثال ذلك فيختطف أرواحكم فيذركم كعصف مأكول.

3 ـ مسألة الرّجعة

النقطة الاُخرى التي لابدّ من الإلتفات إليها هنا هي مسألة إمكان الرّجعة التي تُستفاد من الآية بوضوح.

وتوضيح ذلك : أنّ التاريخ يحدّثنا عن بعض الأقوام من السالفين ماتوا ثمّ اُعيدوا إلى هذه الدنيا، كما في حادثة طائفة من بني إسرائيل الّذين توجّهوا مع النبي موسى (عليه السلام) إلى جبل طور الواردة في آية 55 و 56 من سورة البقرة وقصّة «عزير» أو إرميا الواردة في الآية 259 من هذه السورة، وكذلك الحادثة المذكورة في هذه الآية مورد البحث.

فلا مانع أن تتكرّر هذه الحادثة مرّة اُخرى في المستقبل.

العالم الشيعي المعروف بـ «الصدوق» (رحمه الله) استدلّ بهذه الآية على القول

(209)

بالرّجعة وقال : (إنّ من معتقداتنا الرّجعة) أي رجوع طائفة من الناس الّذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدّنيا مرّة اُخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلاً على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة.

(210)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336574

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:32

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net