00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يونس 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الثاني   ||   تأليف : الدكتور محمود البستاني

سورة يونس

 

______________________________________________________

الصفحة 216

 

______________________________________________________

الصفحة 217

 

قال تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أنَّ لهم قَدَمَ صدقٍ عند ربهم، قال الكافرون إنَّ هذا لساحر مبين).

بهذا المقطع تفتح سورة يونس عليه السلام، حيث استهل المقطع بصياغة فنية خاصة في طرحها للموضوعات. لقد تساءل النص أولاً (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم؟) وهذا التساؤل له أهمّيته الفنية الفائقة حينما نضع في الاعتبار، ان القارئ أو المستمع سوف يستخلص بأن المنحرفين قد اعترضوا على نزول الرسالة على واحدٍ من البشر، وهذا الشخص قد يكون اعتراضهم عليه بسبب من يتمه مثلاً، أو قد يستخلص بأن الاعتراض من بسبب كونه بشراً قبالة العناصر الأخرى مثل الملائكة. كل هذا يستخلصه القارئ. نتيجة لصياغة العبارة بهذا النحو من الغموض الفني الجميل. بيد أن المهم ـ بعد ذلك ـ هو: أن النص قد اعتمد على الاقتصاد اللغوي في هذا التساؤل، فبدلاً من أن يعرض لنا موقف المنحرفين أولاً ثم يرد عليهم، نجده يرد عليهم أولاً حتى يسمح للقارئ بأن يستخلص بنفسه موقفهم دون ان تكون هناك حاجة للعرض، حتى يتحقق بذلك ـ من جانب ـ الاقتصاد اللغوي، وحتى يسمح للقارئ بإسهامه في كشف الدلالات من جانب آخر، وهذه هي إحدى مهمات الفن العظيم.

ولعل الإثارة الفنية تتبلور بنحو أشد وضوحاً حينما نواجه العبارة التي تلت ذلك التساؤل، حيث انطوت على أسرار فنية مثيرة لافتة للنظر.

لقد عقب النص على تساؤله المذكور، قائلاً (وبشر الذين آمنوا أنَّ لهم

 

______________________________________________________

الصفحة 218

 

قَدَمَ صدقٍ عند ربهم)، ثم أردف ذلك بقوله (قال الكافرون: إنَّ هذا لساحر مبين). فهنا يواجه القارئ: أسلوباً قد لا يعهده في تجاربه الثقافية التي خبرها. فبينما يتحدث النص القرآني الكريم عن تبشير المؤمنين بأن لهم قدم صدق عند الله تعالى، إذا به ينقل لنا حواراً على لسان المنحرفين هو (قال الكافرون: إن هذا لساحر مبين) فالقارئ قد يتضبب لديه هذا النوع من الأداء الفني بحيث لا يهتدي إلى إدراك الروابط الفكرية بين هذه الموضوعات التي تبدو وكأنها مستقلة لا رابطة من التسلسل الموضوعي فيها. بيد أن أدنى تأمل في ذلك، يستاقنا إلى إدراك الأسرار الفنية وراء مثل هذه الصياغة. وفي تصورنا الفني: أن النص أراد أن يوضح لنا بأن الكافرين عندما عرضت عليهم رسالة الإسلام قالوا عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بأنه ساحر... لكن بما أن هذه التهمة لا يمكن أن يسوقها المنحرف إلا بعد أن يعجز عن تقديم دليل مقنع، حينئذٍ يستكشف القارئ من خلال تساؤل النص: (أكان للناس عجبا إن أوحينا إلى رجل منهم) يستكشف بأن المنحرفين حينما لم يرق لهم أن يضطلع بالرسالة شخص منهم: حينئذٍ قالوا (إن هذا لساحر مبين) بعد أن رأوا الإعجاز الفني للقرآن الكريم. وبهذا النمط من التقديم والتأخير والحذف والذكر للعبارات: تحقق الاقتصاد اللغوي من جانب، مثلما سمح للقارئ بأن يساهم من كشف هذه الدلالات من جانب آخر.

ويلاحظ أن النص ـ قد استخدم مضافاً لما تقدم عنصر (الاستيحاء) في صياغة الصورة الفنية أيضاً. قال النص: (وبشر الذين آمنوا أنَّ لهم قدم صدقٍ عند ربهم) إن عبارة (قدم صدق) تشكل صورة فنية هي (الرمز) أو (الاستعارة) حيث ان (قدم) تعني لغوياً: الشيء الذي يقدمه الإنسان أمامه. وحينئذٍ قد استخدم النص هذه العبارة ليرمز بها إلى ما يقدمه الناس من العمل الصالح ليجده أمامه يوم القيامة... وهكذا يكون النص بهذه الصورة الرمزية قد اختصر واقتصد في اللغة أيضاً بدلاً من أن يفصّل الكلام في قضية العمل

 

______________________________________________________

الصفحة 219

 

الصالح الذي بشرت الرسالة بنتائجه الاخروية، محققا بهذا التجانس بين الاقتصاد اللغوي في ذكر العبارات وحذفها، وفي تقديمها وتأخيرها، محققا بهذا التجانس: إحكام العمارة الفنية للسورة الكريمة، من حيث علاقة أجزائها: بعضاً مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (إنَّ ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون * إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون * هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون...).

هذا المقطع من سورة يونس يتناول ظواهر الإبداع الكوني، من السماء والأرض، والشمس والقمر والليل والنهار. وما تعنينا منه هو: علاقته بعمارة السورة الكريمة، والأداء الفني الذي سلكه النص في صياغة هذه الموضوعات. أما الأداء الفني فقد اعتمد عناصر صورية وايقاعية ولفظية في صياغة هذه الموضوعات، ففي نطاق (الصورة الفنية) نواجه (الصورة الرمزية) في قوله تعالى (ثم استوى على العرش). (فالاستواء على العرش) يرمز إلى هيمنة الله تعالى على الكون، وهي هيمنة كان من الممكن أن يصوغها النص بلغة مباشرة كما لو قيل (سيطر أو هيمن على العرش)، إلا أنه اعتمد الرمز بدلاً من الكلام المباشر حتى تتبلور الدلالة بنحو يتناسب وطبيعة القدرة المطلقة لله تعالى، حيث أن مهمة (الرمز) وافتراقه عن سائر الصور التركيبية (من استعارة وتشبيه وتمثيل وسواها)، تتمثل في كونه ـ أي الرمز ـ يجسّد تعبيراً عن شيء غير

 

______________________________________________________

الصفحة 220

 

محدود بلغة محدودة، أي: كونه ينطوي على إمكانات إيحائية لا تتوفر في الصور الفنية الأخرى، فالاستواء على العرش يوحي للقارئ بدلالات متنوعة غير محدودة بحيث يستخلص كل شخص منها ما يتناسب وخبرته العقلية عن الشيء.

مضافاً إلى أن الرمز هنا جاء متساوقا (من حيث علاقته بعمارة السورة الكريمة) مع طبيعة الظواهر الكونية التي عرض لها النص، وهي ظواهر تتصل بخلق السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار، والضياء والنور. وكلها ظواهر (حسية) وليست (تجريدية)، ولذلك كان من المناسب أن تجيء الفكرة المرتبطة بهذا الخلق للظواهر الكونية متجانسة مع ما هو حسي، فالسماء والأرض وخلقهما في ستة أيام: تعد شيئا يتحسسه الشخص من خلال البصر واللمس، أما السيطرة على ذلك، فأمر غير حسي بل هو (تجريدي).

ولذلك كان من المناسب أن يصوغ النص لهذه الظاهرة (أي: هيمنة الله تعالى على الكون) صورة (حسية) أيضاً، فجاء (الاستواء على العرش) تجسيداً للحقيقة المذكورة... لكن بما ان الله تعالى منزه عن الجسمية، حينئذٍ كان الاتجاه إلى (الرمز) دون سواه من الصور هو الأسلوب الأوفق لتحقيق التجانس بين ظواهر الكون وبين الهيمنة والسيطرة عليها، بصفة أن (الرمز) ـ خلافا للتشبيه الذي يتضمن شيئا من المماثلة، وخلافاً للاستعارة التي تخلع صفة شيء على شيء آخر ـ يلغي الحدود بين الشيئين، ويجعلهما شيئاً واحداً، لذلك جاء رمز (الاستواء على العرش) تعبيراً حسياً عن شيء تجريدي، تعبيراً عن السيطرة والهيمنة المطلقة على الكون، تعبيراً متجانساً مع مفردات السماء والأرض (من حيث كونهما حسيين): حيث ان (الاستواء) هو (حسي) أيضاً، وحيث ان (العرش) تنسحب نفس الصفة الحسية عليه (في تصور القارئ)، لكنهما (أي: الاستواء والعرش) هما مجرد (رمزين) عن شيء تجريدي، مجرد

 

______________________________________________________

الصفحة 221

 

رمزين لصفات الله تعالى، مجرد رمزين للسيطرة على الكون من حيث كونه تعالى منزها عن الجسمية، كما قلنا. والمهم، ان بهذا التجانس بين صفات اكتسبت رمزاً حسياً (هو الاستواء على العرش) وبين ظواهر هي حسية في واقعها (مثل السماء والأرض)، مثل هذا التجانس يكشف عن إحكام العمارة للسورة الكريمة من حيث تلاحم عناصرها بعضا مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون * وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون).

هذا المقطع من سورة يونس يطرح جملة من الموضوعات، منها: تركيبة الشخصية التي تقوم على الاتجاه إلى الله تعالى في حالة مواجهتها لشدائد الحياة، ولكنها تتعامى عن الله تعالى عندما تحيا بمنأى عن الشدائد... ان مثل هذا السلوك ينطوي على جملة من الحقائق العبادية والنفسية. أما الحقيقة العبادية فهي: أن البشرية جميعا مؤمنها وكافرها ترث جهازاً فطريا يقوم على توحيد الله تعالى بحيث يتجه الإنسان ـ عندما يواجه شدة من شدائد الحياة ـ نحو الله تعالى ويدعو إلى إزالتها. وأما الحقيقة النفسية فهي: أن الإنسان مطبوع على أن يتجه إلى الله تعالى (في حالة الشدة، بما في ذلك: الشخصية المؤمنة)، وإنه مطبوع على الابتعاد عن الله تعالى عند انفراج الشدة عنه. ترى، ماذا يعني مثل هذا السلوك؟.

واضح، إن هذا السلوك يفصح عن كون الإنسان معنياً بإشباع الحاجات الدنيوية العابرة، فهو يتحرك بقدر ما يحقق له تأمين حاجاته، فإذا واجه عدم التأمين، حينئذٍ يتحرك لمصدر الحاجات وهو الله تعالى، وإذا أشبع حاجاته:

 

______________________________________________________

الصفحة 222

 

انعزل عن الله تعالى، وهذا هو منتهى الجفاء والغلظة والكفران بالنعم مما يسلخ الإنسان من صعيد إنسانيته ويحوله إلى كائن ممسوخ لا يعنى إلا بحاجاته، على نحو مما تسلكه البهائم من إشباع غرائزها... المهم، أن النص القرآني الكريم طرح هذه الشريحة من السلوك وفق صياغة فنية ممتعة، فقدم أولا رسماً خارجياً للشخصية هو: كيفية تحركها نحو الله تعالى (من حيث المظهر الجسمي للحركة) إذ أن المظهر الحركي هو تعبير عن المظهر الداخلي للإنسان، فالأفكار والمشاعر والانفعالات تظل حيناً حبيسة في أعماق الشخص، وتبرز حيناً آخر إلى الخارج، متمثلة في تعبير لفظي (هو الكلام) أو في تعبير حركي هو: حركات الجسم المختلفة، أو في تعبير لفظي وحركي أيضاً، وهذا ما رسمه النصُّ القرآني الكريم حينما رسم المظاهر اللفظية والحركية للشخص عندما يواجه شدائد الحياة وهو قوله تعالى: (وإذا مسّ الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً) فالدعاء هو المظهر اللفظي، والاضطجاع والقعود والقيام هي مظاهر حركية: ترمز ـ فنياً ـ إلى التعبير عن شدة الحالة النفسية التي يصدر عنها الداعي. فهو يضطجع حيناً، ويقعد حيناً ثانياً، ويقوم حيناً ثالثاً: كلّ ذلك في حالة الدعاء والتوجه إلى الله تعالى لكشف الشدة التي يكابد منها.

لكن، ما أن تكشف الشدة: حتى يعرض الإنسان عن الله تعالى، وهذا مما رسمه النص القرآني الكريم وفق رسم خارجي حركي أيضاً، وهو قوله تعالى (فلما كشفنا عنه ضرَّه مرَّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسَّه) فهنا قدّم النص صورة أو مرأى حركيا هو: مرور الإنسان عابرا في طريقه دون أن يلتفت إلى أي شيء، وهذا المرور هو (رمز) أو صورة (صورة رمزية) تشير إلى مظهر داخلي هو: تغافل الإنسان عن الله تعالى، وانصرافه عن الله تعالى بعد أن فرّج الله تعالى عنه الشدائد.

 

______________________________________________________

الصفحة 223

 

إذن جاءت الصورتان الفنيتان الرمزيتان: مصوغتين وفق رسم خارجي: أحدهما يتصل بطريقة الدعاء: اضطجاعا وقعودا وقياماً، والآخر يظل (صورة رمزية تركيبية) أي: كونها (رمزاً) وليس حركة جسمية بالفعل، حيث أن المرور العابر هو (رمز) لعدم العناية بالشيء. والمهم، بعد ذلك: ان صياغة الصورة الفنية تكتسب جماليتها الفائقة عندما يتجانس مما هو داخلي من الأفكار والعواطف والانفعالات مع ما هو خارجي من الحركات التي تعكس الداخل، وهو أمر يكشف عن إحكام النص من حيث تلاحم أجزائه بعضاً مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاءي نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا ادراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون).

هذا المقطع من سورة يونس يتناول موقف الكافرين من رسالة الإسلام. والفكرة أو الموضوع الذي يحوم عليه المقطع القرآني الكريم ينطلق من إنكار هؤلاء المنحرفين لقضية اليوم الآخر، حيث وصفهم بقوله: (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا..) وهذا الوصف يتكرر في جملة من المقاطع السابقة مثل قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا) وقوله تعالى: (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا...) الخ. وهذا يعني (من حيث المبنى الهندسي للسورة الكريمة) إن فقرة (لا يرجون لقاءنا) تشكل رابطاً فنيا بين موضوعات السورة التي انطلقت من هذا المفهوم لتصب في موضوعات مختلفة، ومنها: موقف هؤلاء الكافرين من رسالة الإسلام حيث كان عدم إيمانهم باليوم الآخر: حافزاً على إثارة الأسئلة الهزيلة من نحو

 

______________________________________________________

الصفحة 224

 

اقتراحهم القائل: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله). طبيعياً، إن مثل هذا السؤال لا يحمل أي معنى سوى الكشف عن هزال تفكيرهم وانغلاقه، لأن المطالبة بإتيان قرآن آخر أو تبديل هذا القرآن تثير في ذهن السامع مجموعة من التساؤلات، مثل: هل أن موضوعاته ومبادئه وأحكامه قد صيغت بنحو يضاد تطلعاتهم دنيوياً أو يضادها عبادياً بحيث طالبوا بتبديلها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل أن نزول المبادئ من السماء ينبغي أن يتم وفق رغباتهم؟ وحينئذٍ ما فائدة تلقي المبادئ من مصدر لا يفقهون كنهه ولا يقرون بكماله؟

إذن، طرح مثل هذا الاقتراح (وقد أجراه النص القرآني على لسانهم في شكل حوار) إنما تم فلكي يكتشف القارئ بنفسه مدى انحدار الذهن وانغلاقه لدى الكافرين من خلال وقوفه مباشرةً على كلامهم الصادر عنهم. ولكي يكشف النص القرآني الكريم عن الأسباب الكامنة وراء مثل هذا الاقتراح (أي المطالبة بنزول قرآن آخر أو تبديله)، نجده يقدم الوصف الآتي لسلوكهم: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا). وبهذا المنحى الفني غير المباشر، أي من خلال عرض شريحة من سلوك الكافرين، يجعلنا نكتشف ـ دون أن يقول هذا مباشرة ـ بأن اقتراحهم المذكور لابدّ أن يكون مرتبطاً بسلوكهم الوثني، بمعنى ان هؤلاء الحمقى ما داموا يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم، وما داموا يقولن: (هؤلاء ـ أي الأصنام ـ شفعاؤنا)، حينئذ لابدّ أن يكون مطالبتهم بتبديل القرآن إنما هي في كونه يدعو إلى نبذ السلوك الوثني. خلال هذا السياق، يتقدم النص القرآني الكريم بطرح ظاهرة اجتماعية تظل في غاية الخطورة، ألا وهي قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) وقد يتساءل القارئ: ما هو السر الفني الكامن وراء طرح هذه الظاهرة التي تتحدث عن نشأة المجتمع البشري وكونه أمة واحدة قد اختلفت فيما بعد، مع أن النص كان يتحدث عن عبادة الأصنام؟.

 

______________________________________________________

الصفحة 225

 

إن عالم الاجتماع تعنيه هذه القضية كلّ العناية، لأنها تكشف عن حقيقة اجتماعية لا يزال البحث عنها محفوفا بالغموض. وحينئذٍ فإن طرحها في هذا السياق: يعني (من الزاوية الفنية) أن للموضوع خطورته بحيث يستهدف النص توصيله إلى القارئ بحيث قطع النص سلسلة حديثه ليتقدم لنا حقيقة اجتماعية تتصل بنشأة المجتمع البشري، ليعود بعدها إلى مواصلة الحديث عن هؤلاء المنحرفين: عبيد الأصنام.

لكن قبل ان نتحدث عن الدلالة الاجتماعية لهذا الطرح (أي: كون الناس أمة واحدة قد اختلفت فيما بعد) ينبغي أن نضع في الاعتبار بأن عبادة الأوثان تظل واحدة من مفردات هذا الاختلاف بين الناس بعد أن كانوا أمة واحدة، وهو أمر يكشف لنا الرابط الفني بين الموضوعات التي يطرحها النص بحيث نتبين من خلالها مدى إحكام النص من حيث صلة أجزائه واحداً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكراً إن رسلنا يكتبون ما تمكرون * هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون).

هذا المقطع من سورة يونس يتناول البناء النفسي للشخصية الكافرة أو مطلق الأشخاص المنحرفين: من حيث كونهم يتجهون إلى الله تعالى في حالات الشدة، ويعاهدونه بالطاعة في حالة انقاذه تعالى إياهم، ولكنهم بعد ان تفرج الشدة عنهم، يبغون في الأرض بغير الحق. ويلاحظ ان النص القرآني

 

______________________________________________________

الصفحة 226

 

الكريم، سبق أن طرح هذا السلوك في مقطع أسبق، وذلك قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون). والسؤال هو: هل أن القرآن الكريم يكرر هذا الموضوع في أكثر من مقطع: كما لحظنا، أم أن تكراره للموضوع يتم في سياق جديد؟ ونحن ما دمنا نعنى بدراسة عمارة السورة: حينئذٍ يتعين علينا إثارة مثل هذا السؤال. الحق، أن تكرار الحقيقة المتصلة بكون الإنسان المنحرف مطبوعاً على أن يتجه إلى الله تعالى في حالة الشدائد، وأن يغفل عن الله تعالى في حالة إنفراجها: إن تكرار هذه الحقيقة إنما تمّ في سياقات مختلفة. ففي المقطع الأسبق يتناول النص القرآني الكريم سلوكاً خاصاً هو: أن الإنسان عندما يكشف ضره يمر وكأنه لم يتجه إلى الله تعالى بعد ان كان يدعو مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً.

أما في المقطع الجديد، فإنه يتناول سلوكاً أشدّ مفارقة من سابقه، ألا وهو المكر والبغي، بينما كان السلوك السابق هو: مجرد التغافل عن الله تعالى وعن الدعاء. إذن، التكرار هنا جاء في سياق جديد، وهو أمرٌ يفسر لنا جانباً من السر الفني الكامن وراء عنصر التكرار.

والآن، لنقف عند هذا الموضوع الأخير لملاحظته فنياً وفكرياً... لقد قال النص: إن الناس إذا أذاقهم الله تعالى رحمة من بعد الشدة: إذا لهم مكر في آيات الله تعالى. هنا قدّم النص نموذجاً عملياً لهذا السلوك، موضحاً ردود الفعل التي يصدر عنها المنحرفون في مثل هذه الحالة التي ينتهون إليها، ونعني بذلك: كونهم يبغون في الأرض بغير الحق عندما يكشف الله تعالى عنهم الشدة. يقول النص: (هو الذي يسيّركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من

 

______________________________________________________

الصفحة 227

 

هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحقِّ...).

إن هذا المقطع الذي ينطوي أولاً على تذكير الإنسان بعطيّات الله تعالى بالنسبة إلى تأمين وسائل النقل، ثم بإنقاذ الإنسان. ثانياً عند مواجهته لشدائد الغرق في البحر. هذا العرض ينطوي (من الزاوية الفنية) على أسرار جمالية متنوعة ينبغي الوقوف عندها ولو عابراً.

ولعل أول ما ينبغي لفت الانتباه عليه هو ملاحظة الهيكل الهندسي للمقطع حيث تحدث النص أولاً عن معطيات الله تعالى بالنسبة إلى تيسيره تعالى للإنسان وسائل تنقّله في البرّ والبحر (هو الذي يسيركم في البرّ والبحر)، بعد ذلك تحدث عن أولئك الذين يسيرون في البحر ويتعرضون لعواصفه ولخطر الموت. إن هدف النص هو توضيح ان الناس إذا أذاقهم الله رحمة من بعد ضرّاء مسّتهم، نجدهم يمكرون في آيات الله تعالى بدلاً من الشكر على معطياته. إلا أن النص ـ في الحين ذاته ـ يستهدف لفت النظر إلى جملة من ظواهر الإبداع الكوني الذي حدثنا عنه في مقطع سابق، لذلك قطع النص سلسلة حديثه عن هؤلاء الناس الذين يمكرون في آيات الله تعالى، واتجه إلى عرض الظاهرة الإبداعية للبر والبحر، ثم عاد إلى الحديث عن سلوك هؤلاء الناس ـ وهم ينعمون بمعطيات الرحلة في البحر ـ، وبهذا التقطيع لسلسلة الموضوعات ووصلها من جديد: نتلمّس مدى إحكام العمارة الفنية للنص من حيث تلاحم موضوعاتها بعضاً مع الآخر.

قال تعالى (هو الذي يسيركم في البرّ والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه

 

______________________________________________________

الصفحة 228

 

لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فَنُنبّئُكُمْ بما كنتم تعملون).

في هذا المقطع القرآني الكريم نص (حكائي) ـ أي: حكاية وحادثة وموقفاً ـ مصوغ بلغة قصصية (سرد، حوار، موقف، بيئة، تعليق)، الحادثة هي: مجيء ريح عاصفة، يضطرب موج البحر من خلالها ويتوقع ركاب السفينة: أن يغرقوا في البحر. وأما الموقف فهو: إن ركاب السفينة بدأوا يدعون الله مخلصين له الدين: بالنجاة من الغرق. وأما (البيئة) فهي بيئة البحر وقد غمرتها ريح طيبة نعُم بها ركاب السفينة: قبل حادثة الريح العاصفة.

وأما (الحوار) فهو هتاف الركاب عبر توجههم إلى الله تعالى: (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين). وأما (السرد) فهو (وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا انهم أحيط بهم)... وأما التعليق فهو (فلما أنجاهم إذا هُمْ يبغون في الأرض بغير الحق) ثم مخاطبة هؤلاء (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثمّ إلينا مرجعكم).

والآن، بمقدور القارئ والسامع أن يستخلص الدلالة الفكرية التي يستهدفها النص من خلال تقديمه لهذه الحكاية القصصية الخاطفة، المليئة بعناصر الفن والفكر... طبيعياً، إن الإمتاع الفني في هذه الحكاية أمر يتحسسه المتلقي بوضوح من خلال ما تضمنه من سرد، وحوار، ومخاطبة، ووصف لبيئة السفينة والبحر، ورصد لردود الفعل التي تصدر عنها الركاب، وتعليق على ذلك. والأهم من ذلك كله، إن هذه الحكاية صيغت من أجل توظيف فنيّ هو: أن المنحرفين ـ كفاراً أو فساقاً ـ تطبعهم سمات منكرة هي: أنهم في حالة استمتاعهم بالحياة يمارسون البغي بغير حق، في حين أنهم ـ في

 

______________________________________________________

الصفحة 229

 

حالة الشدة ـ يدعون الله مخلصين له الدين بأن ينجيهم منها، ويعاهدونه بأنهم إذا نجوا من الشدة فسوف يكونون من الشاكرين لله تعالى. لكن، ما إن ينجيهم الله فعلاً حتى نجدهم يبغون في الأرض فساداً. ترى، ماذا يعني هذا؟. إن هذا يعني: إن المنحرفين لا يُعنَون إلاّ بإشباع حاجاتهم. إنهم مقرّون بفاعلية الله تعالى (من حيث وحدانيته وهيمنته الكونية). إنهم يتجهون إلى الله تعالى لإنقاذهم: لكن في صعيد هذا المقطع المرتبط بنجاتهم من الشدة الوقتية فحسب، بدليل أنهم لا يلتزمون بمبادئ الله عند ما لا تواجههم شدائد الحياة... وحيال مثل هذا الموقف، نجد أن النص القرآني الكريم: يتكفل برد حاسم هو: أنَّ الباغي إنما يبغي على نفسه، وإن هذه الحياة الدنيا متاع عابر سرعان ما يفضي إلى مصير حاسم، مصير إلى الله تعالى في اليوم الآخر. وحينئذٍ يحسم الموقف لغير صالحهم دون أدنى شك.

هذا هو ملخص (الحكاية) ودلالتها الفكرية. لكن ما يعنينا منها هو موقفها من عمارة السورة الكريمة (ما دمنا أساساً نعنى بإبراز البناء الهندسي للنصّ) وهو أمر يتحدّد بوضوح لدى القارئ والمستمع: حينما يجد أنّ الحكاية القصصية المشار إليها جاءت في سياق الحديث عن سلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام وموقفهم السلبي منها: إيثاراً لمتاع الحياة الدنيا (مع إنهم ـ في قرارة أنفسهم ـ مستيقنون بأحقية الرسالة إلا أنهم يجحدونها إيثاراً للمتاع الدنيوي المشار إليه). والمهم، أن الاقصوصة المذكورة وظفت لإنارة هذا الجانب، مما يفصح ذلك عن الإحكام الفني لعمارة السورة الكريمة من حيث ارتباط موضوعاتها بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى (إنما مثل الحياة الدُّنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ممَّا يأكل الناس والأنعام حتى أخذت الأرض زخرفها وازّينت

 

______________________________________________________

الصفحة 230

 

وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).

هذه الآية من سورة يونس تشكل مقطعاً جديداً من السورة حيث جاءت في سياق الحديث عمن يعرض عن الله تعالى في حالات الرخاء ويتجه إلى الله تعالى في حالة الشدائد، وحيث تصب بعد ذلك في الموضوع الرئيس للسورة الكريمة، ألا وهو: الحديث عن اليوم الآخر.

لقد تضمنت هذه الآية: عنصراً صورياً يتوزع بين التشبيه والتمثيل والرمز والاستعارة، بحيث تمازجت هذه الصور الفنية وكوّنت صورة موحدة ذات جمال وطرافة وإثارة بالغة الأهمية. إنها قد استهلّت أولاً بالتشبيه القائل: (إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء). وكلنا يعرف بأن (التشبيه) الفني تتم صياغته وفق مستويات متنوعة، منها (التشبيه بالمثل) أي: التشبيه الذي تتصدره عبارة (مثل)، كما إننا نعرف بأن أدوات التشبيه متنوعة أيضاً، ومنها (الكاف) التي استخدمت في هذا التشبيه (كماءٍ أنزلناه)، كذلك نعرف جميعاً بأن التشبيه قد يكون مفرداً بسيطاً مجملاً، وقد يكون مركباً ومفصلاً... والتشبيه الذي نواجهه من هذه الآية الكريمة هو من النوع المركب المفصل، مما يعني أن النص القرآني في صدد العرض لموضوع ذي دلالات متشعبة ذات خطوط فكرية مفصلة. وفعلاً نجد أن النص في صدد التعريف بالحياة الدنيا وما تكتنفها من مظاهر ترتبط برغبات الإنسان التي لا حدّ لإشباعها، ثم صلة ذلك بالعمل العبادي وانعكاساته على اليوم الآخر.

المهم أن الجزء الأول من هذه الصورة الفنية الموحدة تتضمّن تشبيه الحياة الدنيا بالمطر (كماء أنزلناه من السماء)... وجاء الجزء الآخر من التشبيه موضحاً بأن هذا الماء قد اختلط به نبات الأرض، ثم جاء القسم الثالث من التشبيه موضحاً بأن هذا النبات هو مما يأكل منه الناس والأنعام. والسؤال هو:

 

______________________________________________________

الصفحة 231

 

ما هي الأسرار الفنية الكامنة وراء تشبيه الحياة بالماء المنزّل من السماء، وبكونه قد اختلط به نبات الأرض، وبكون هذا النبات مما يأكله الناس والأنعام؟.

طبيعياً، إن كل قارئ أو مستمع: يستخلص من هذا التشبيه دلالات تتفق مع طبيعة تجاربه العقلية، وهو أمر يجعل للتشبيه قيمته الفنية ما دام التشبيه منطوياً على إيحاءات متنوعة وليست محدودة، فمثلاً يمكننا أن نستخلص من هذا التشبيه، بأن الماء المنزّل من السماء (وهو المطر) يجسد أحد معطيات الله تعالى، بدليل أنه قد إرتبط بنبات الأرض، كما أنه إرتبط بنبات يفيد منه الناس كما تفيد منه الأنعام. ومجرد كون التشبيه قد جاء في سياق المعطيات أو النعم وليس في سياقٍ آخر إنما يكشف عن مغزى فني له أهميته، فقد كان من الممكن ان يشبّه النص الحياة بالماء وليس بالمطر حيث أن المطر غير الماء النابع مثلاً، بصفة أن الماء من الممكن ألا يفيد منه النبات بل تنسحب فائدته على مجالات أخرى، وهذا بعكس المطر الذي يرتبط بنبات الأرض، لذلك عندما يجيء التشبيه بالمطر: حينئذٍ يتداعى الذهن سريعاً إلى فائدته المباشرة للإنسان، بخاصة أن التشبيه قد قرن نبات الأرض بما يأكله الناس والأنعام، حيث أن بعض النبات من الممكن ألا يفيد منه الناس مباشرة، بعكس النبات الذي يؤكل من قبل الإنسان، وكذلك من قبل الحيوان.

إذن: عندما ينتخب التشبيه: المطر، دون سواه من أنواع المياه، فلأن ذلك ـ كما نحتمل فنياً ـ يرتبط بالمعطيات أو النعم التي يستهدف النص لفت الإنتباه عليها بصورة غير مباشرة، ولأنها ترتبط بأشد الحاجات البشرية إلحاحاً ألا وهو الطعام الذي لا مناص من تناوله، وهذا يعني أن مفردات هذا التشبيه جاءت مترابطة فيما بينها مما يكشف عن إحكام النص من حيث إرتباط اجزائه

 

______________________________________________________

الصفحة 232

 

بعضاً مع الآخر، على نحو ما تقدّم الحديث عنه، وعلى نحو ما نفصل ذلك لاحقاً إن شاء الله.

 

* * *

 

التشبيه المتقدم يتضمن (إنما مثل الحياة الدنيا...) ثلاث صور هي: تشبيه الحياة الدنيا بالمطر، وإختلاطه بنبات الأرض، وإنه نبات يأكله الناس والأنعام. وقد أوضحنا الأسرار الفنية الكامنة وراء تشبيه الدنيا بمطر يختلط بنبات الأرض. أما الآن فنتحدث عن الأسرار الفنية المرتبطة بكون هذا النبات الذي اختلط به المطر، إنما هو: نبات الناس والأنعام. لذلك نتساءل: لماذا تمّت صياغة هذه الصورة الفنية (أي: نبات الأرض الذي يأكله الناس والأنعام)؟. لقد كان من الممكن أن يكتفي النص بتشبيه الحياة الدنيا بالنبات الذي تنتهي دورة نمائه فييبس ويتلاشى، حينئذٍ يكون تشبيه الحياة بالنبات: أمراً يتناسب مع طبيعة الحياة أو العمر الذي يتلاشى. فلماذا ربط النص بين النبات وبين أكله من قبل الناس والأنعام؟ وما هي صلة الأكل بذلك؟ ولماذا جمع بين الناس والأنعام؟.

إن هذه التساؤلات تظلّ مصحوبة بأهمية كبيرة ما دمنا نعرف تماماً أن النص القرآني الكريم يعنى بالإقتصاد اللغوي، ولا يذكر عبارة إلا ولها دلالتها الفنية.

في تصورنا، أن السورة الكريمة سبق أن تحدثت عن ظواهر الإبداع الكوني: من سماء وأرض وشمس وقمر وليل ونهار، وبر وبحر الخ، حينئذٍ عندما تقدم لنا صورة تشبيهية أو سواها، يكون هذا التقديم مصحوباً بظاهرة إبداعية أيضاً ذات معطيات ملحوظة، ولذلك جاء تقديم النبات وكونه مما يأكله الناس والأنعام متناسباً مع المعطيات الكونية التي سخّرها الله تعالى للإنسان. ولكي تأخذ الصورة التشبيهية اكثف دلالاتها، نجد أنها لم تكتف

 

______________________________________________________

الصفحة 233

 

بتذكير نعم الله تعالى على الإنسان وحده بل حتى على الحيوان الذي يستخدمه البشر لإشباع حاجاته، وهذا ما يفسر لنا السر الفني الكامن وراء تشبيه الحياة الدنيا بالنبات الذي يأكله الناس والأنعام، بصفة أن الأنعام يستخدمها البشر في إشباع أشد حاجاته الحيوية (الحاجة إلى الطعام)، كما يستخدمها في الركوب، ويستخدم جلودها وأشعارها في اللبس وفي سائر أدواته المنزلية...الخ. والمهم أن النص القرآني الكريم وظّف هذا التشبيه (تشبيه الحياة بالنبات الذي تأكله الناس والأنعام) وظّفه في مهمة فنية مزدوجة، حيث استهدف ـ من جانب ـ التذكير بمعطيات الله تعالى، ثم استهدف ـ من جانب آخر ـ التذكير بأن هذا النبات من الممكن أن تلحقه آفة زراعية مثلاً ويتلاشى.

وهذا يعني أن النبات (بالرغم من كونه نعمة من الله تعالى) إلاّ إنه تلاشى (من خلال الآفات الزراعية وغيرها)... كذلك: الحياة الدنيا، فهي معطى من الله تعالى، بيد انها تتلاشى أيضاً، فيما ينبغي استثمار هذا المعطى في ممارسة المهمة العبادية التي خلق الإنسان من أجلها وليس في تحقيق الإشباع المجرد.

إذن: أمكننا إدراك السر الفني الكامن وراء انتخاب النبات الذي يأكله الناس والأنعام: طرفاً لتشبيه الحياة الدنيا به، كما أمكننا ـ في الآن ذاته ـ أن ندرك السر الفني وراء انتخاب المطر ـ دون سواه ـ في هذا التشبيه، حيث قال تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرض...) حيث أن المطر هو معطى كبير كما هو واضح، وهذا المعطى يتجانس مع معطى النبات أيضاً، وهما جميعاً يتجانسان مع سائر المعطيات التي ذكرها النص في هذه السورة الكريمة، لكن (إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظنّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً) أي: أتاها أمر الله (فجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) أي: إذا ازدهرت الأرض بالنبات وظن الناس أنهم قادرون على الإفادة منها، إذا بالآفة السماوية تجتاح الأرض

 

______________________________________________________

الصفحة 234

 

ونباتها فيتلاشى كل شيء.

إذن، للمرة الجديدة، أمكننا ملاحظة هذا التشبيه الفني للحياة بالنبات الذي يفيد الإنسان منه وتلاشيه فجأة: أمكننا ملاحظة دلالاته الذي نفيد منها جانب، وتجانس أطرافه (من المطر، ونبات، وأكل) من جانب آخر، فيما يفصح هذا التجانس عن إحكام النص من حيث علاقة أجزائه بعضاً مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

لقد أوضحنا الأسرار الفنية في هذه الآية الكريمة من حيث إنطواؤها على تشبيه الحياة الدنيا بالمطر المختلط بنبات الأرض. أما الآن فنتحدث عن القسم الآخر من الآية الكريمة وهو (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظنّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس)... إن القسم ينطوي على مجموعة من الصور الفنية من نحو: الاستعارة والتمثيل والتشبيه، وكل واحدة من هذه الصور تتآزر مع مثيلاتها في إبراز الدلالة التي يستهدفها القرآن الكريم في تشبيهه الحياة الدنيا بالمطر المختلط بالنبات، ثم إصابة هذا النبات بآفة سماوية بحيث يترتب عليها تلاشي هذا النبات وكأنه لم يكن شيئاً مذكوراً.

والمهم هو أن نقف عند الأسرار الفنية لصورة النبات الذي تصيبه آفة من السماء، فيتلاشى. إن القسم الأول من هذه الصور هو قوله تعالى: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت)... إن الزخرف يعني: الحُسن في أرفع وأكمل المستويات، والزينة تعني: ارتداء أجمل الملبوسات، وحين يخلع النص هاتين السمتين على نبات الأرض إنما يستهدف ـ من خلال الاستعارة ـ توضيح أن الأرض: عندما يستكمل نمو النبات فيها ويثمر، أو: عندما يكسوها النبات ويحوّلها إلى مشاهد جميلة في غاية الجمال بحيث تتزين بهذه المرائي

 

______________________________________________________

الصفحة 235

 

أو المشاهد، ثم ـ في غمرة تصور الإنسان بأنه قادر على الانتفاع من هذه الأرض ـ إذا بالآفة السماوية تنهي كل شيء. ومع إدراكنا الوظيفة الفنية للاستعارتين (الزخرف والزينة)، حينئذٍ ينبغي أن نتبين الصور الفنية التي استخدمها النص بالنسبة لتوضيح الآفة السماوية التي تصيب الأرض ونباتها.

لقد استخدم النص القرآني الكريم صورتين فنيتين في رسم الآفة التي تصيب الأرض. هما (الرمز) و(التمثيل)، أمّا (الرمز) فهو قوله تعالى: (أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً)، وأما (التمثيل) فهو قوله تعالى (فجعلناها حصيداً). لقد كان من الممكن ـ ما دام النص يتحدث عن الحياة الدنيا وكونها متاعاً عابراً ـ أن يقرر النص بأن نبات الأرض الذي اختلط بماء المطر: سوف يتعرض لليبس والتلف بعد أن يقطع مراحل النمو (تشبيهاً بالحياة الدنيا) ولكنه ـ أي النص القرآني الكريم ـ لم يستهدف في هذا الموضع مجرد تشبيه المتاع العابر بنبات ينمو ويموت بل يستهدف لفت النظر إلى أن تحقيق الإشباع الدنيوي إنما بأمر من الله تعالى بحيث يكون بمقدوره تعالى أن يحجز الناس من الاستمتاع بهذا النبات الذي يأكله الناس والأنعام (في حالة عدم القيام بوظيفتهم العبادية)، لذلك نجده قد اتجه إلى الصورة الفنية (الرمز) وهي قوله تعالى (أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً) أي: بينا خيّل للناس بأنهم قادرون على الانتفاع بنبات الأرض التي أخذت زخرفها وازّينت: إذا بأوامرنا تصدر من السماء بأن تهلك هذا النبات من خلال حدوث آفة زراعية وغيرها، وحينئذٍ تصبح الأرض ونباتها (حصيداً: كأن لم تغن بالأمس).

وهذه الصورة (التمثيلية) أي: جعل الأرض حصيداً، تنطوي على سر فني هو: أن (الحصيد) الذي يعني (القطع) يرتبط في الذهن بكونه ذا علاقة بالمحصول الزراعي، أي ما حُصِد من الزرع، ولكن النص حوّله من معناه القاموسي (وهو حصد الزرع) إلى دلالة مضادة هي (إتلاف الزرع)، بمعنى أن

 

______________________________________________________

الصفحة 236

 

الله تعالى يجعل هذه الأرض التي أخذت زخرفها وازّينت وظنّ الناس أنهم قادرون على الانتفاع بها، يجعلها ـ في لحظة ـ حصيداً، أي: أرضاً يابسة لا زرع فيها.

طبيعياً، ينبغي ألا نغفل عن أنّ النص القرآني الكريم قد رسم هذه الصورة الفنية في سياق حديثه عن أولئك الأشخاص الذين يتجهون إلى الله تعالى في حالة الشدائد، ولكنهم حينما يفرِّج عنهم: يبغون في الأرض فساداً، وحينئذٍ هدّدهم الله تعالى بقوله: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم)، وفي غمرة هذا التهديد تقدم النص برسم الصور الفنية المرتبطة بمتاع الحياة الدنيا (وهي الأرض ونباتها)، محققاً بهذا الرسم: إحكام النص من حيث علاقة أجزائه بعضاً مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قترٌ ولا ذلّة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلّة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

هذا المقطع من سورة يونس امتداد لمقاطع تحوم فكرتها على اليوم الآخر، حيث يقارن هذا المقطع بين مصائر المؤمنين ومصائر المنحرفين التي ينتهون إليها في اليوم الآخر، وقد ركن النص إلى عنصر (الصورة الفنية) في رسمه للمصائر المشار إليها، فبدأ بالحديث عن المؤمنين: (للذين أحسنوا: الحسنى وزيادة) (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة). إن صورة (لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) تنتسب إلى الصورة (الرمزية) أو (الاستعارية) حيث

 

______________________________________________________

الصفحة 237

 

يرمز (القتر) ـ وهو الغبار أو السواد ـ إلى الكآبة التي تصيب المنحرف، منعكسة على المظهر الخارجي للوجه. وأهمية هذه الصورة (فنياً) إنها قد انتخبت عيّنة حسية هي الغبار والدخان بصفة أنهما (من حيث اللون) غير محدّدين، وليس فيهما أي ملمح من الجلاء والإشراق الذي يميز سائر الألوان، إن لون الدخان والغبار يميل إلى القتامة والضبابية والدكنة، ولا شيء أدل على إبراز أثر الكآبة على الوجه من اللون الداكن، لأنه لون غائم يتناسب مع الكآبة التي لا تتحدد أيضاً في انعكاساتها على الوجه... طبيعياً أن اللون الأسود (كما سنرى عند حديثنا عن الصورة التي رسمها النص للمنحرفين) يفصح عن الانعكاسات النفسية الأخرى على الوجه، إلا أن الكآبة أو القلق مثلاً (بصفتها تعبيراً عن الصراع أو التمزق) يختلفان عن (اليأس) الذي يتناسب مع لون محدد هو السواد، لأن اليأس عملية نفسية لا أثر للصراع فيها ما دام الأمل لا وجود له في أعماق المنحرف، بعكس الكآبة أو القلق اللذين يكشفان عن صراع وتجاذب نفسي بين الأمل واليأس.

المهم، إن الصورة التي رسمها النص بالنسبة للمؤمنين وهي: إن وجوههم سوف لن يلحقها قتر، تظل إفصاحاً عن اليقين أو الاطمئنان الذي يتحسسه المؤمن وهو يواجه اليوم الآخر. وهذا على العكس من المنحرف الذي رسمه النص وفق الصورة الآتية: (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً)... إن هذه الصورة ـ كما ألمحنا قبل قليل ـ لم تتجه إلى خلع سمة الغبار أو الدخان على وجه المنحرف، بل خلعت سمة الليل المظلم، أي اللون الأسود وليس اللون القاتم مثلاً. والسر في ذلك ـ كما نحتمل ذلك من خلال التذوق الفني الصرف ـ إن النص يستهدف لفت النظر إلى أنّ المنحرف يصدر عن استجابة يائسة في اليوم الآخر، غير محفوفة بأي أملٍ من الخلاص، لذلك ينعكس هذا اليأس على وجهه بنحو يتحول فيه الوجه إلى لون يماثل الليل المظلم. علماً بأن اللون الأسود هو أشد الألوان غيمومة، كذلك فإن اليأس هو

 

______________________________________________________

الصفحة 238

 

أشد الاستجابات أو ردود الفعل غيمومة، وذلك لعدم اقترانه بأمل الخلاص.

ويلاحظ أن النص شبّه وجه المنحرف بقطع من الليل، وكان من الممكن أن يشبهه بالظلام مطلقاً، إلا أنه اتجه إلى التشبيه بـ(القطع) أي بالأجزاء من الليل، نظراً ـ كما نحتمل ذلك فنياً ـ إلى ان الأجزاء من الظلام ترمز إلى أجزاء من اليأس أو الانسحاق، أي أن المنحرف يواجه مستويات متنوعة من اليأس، فهو أنّى يتجه: يرتطم بشدة نفسية بحيث تتوالى الشدائد عليه منعكسة في قطع على وجهه، كل قطعة: تفصح عن شدة، وهكذا. إذن، أمكننا ملاحظة هاتين الصورتين: الصورة التي تنفي عن المؤمن إلحاق أي قتر في وجهه، والصورة التي تؤكد بأن المنحرف يتحول وجهه إلى مظهر يماثل قطعاً من الليل مظلماً، حيث جاءت كل صورة متواسقة مع طبيعة الموقف، وهو أمر يفصح عن جمالية الرسم: من حيث (الإحكام) الذي يطبع النص القرآني الكريم: في علاقة جزئياته: بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين).

هذا المقطع من السورة الكريمة يتناول جانباً من مواقف اليوم الآخر (وهو العصب الفكري للسورة)، حيث يعرض ـ وفق منحىً فني ـ موقف المشركين وشركائهم من خلال المحاورة بين الطرفين: المشركين ومن أشركوهم في العبادة: من أوثان أو جن أو ملائكة... وقد اعتمد المقطع: أدوات العرض القصصي في رسمه لهذا الموقف، حيث سرد أولاً مقدمات العرض وهو (ويوم نحشرهم) ثم بدأت المحاورة من قبل الله تعالى: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم) هذه المخاطبة تحمل بعداً فنياً هو: رسمها

 

______________________________________________________

الصفحة 239

 

لقاعة المحاكمة، حيث طالبت بأن يجتمع المشركون وشركاؤهم في مكان معين. ثم أوضح النص بأنه يتم التفريق بين الطرفين في البدء (فزيَّلنا بينهم) أي: فرَّقنا بين المشركين وشركائهم بعد ان طولبوا بالحضور في مكان محدد، ثم يبدأ الحوار بين المشركين وشركائهم، ولكن النص لا يعرض من هذا الحوار إلا طرفاً واحداً هو: حوار الشركاء وليس حوار المشركين، تاركاً للقارئ بأن يستخلص بنفسه ـ وهذه هي سمة الفن المدهش ـ أن المشركين إما إنهم لم يتقدموا بأي سؤال لشركائهم: حيث لا ضرورة للسؤال عن قوى هم قد أشركوها مثل (الأصنام أو الجن أو الملائكة) دون أن تطلب هذه القوى مشاركتهم، بل إن عدم رؤيتهم للشريك (كما لو كان من الجن أو الملائكة) أو عدم إمكان محادثتهم مع الشريك (كما لو كان وثناً) لا يسمح لهم ـ في قاعة المحكمة ـ بأن يوجّهوا إليها سؤالاً عن موافقتهم لاتخاذهم شركاء.

لذلك (من الزاوية الفنية) لم يذكر النص سوى حوار الشركاء الذين قالوا: (ما كنتم إيانا تعبدون) أي: يقول الشركاء (لم نشعر بانكم كنتم قد اشكرتمونا في عبادة الله تعالى). وهذا الجواب ينطوي على قيمة فنية كبيرة، حيث ان الشركاء (إذا كانوا أوثاناً) حينئذ فإنهم لم يشعروا حقاً بعبادة الناس لأنها مجرد أحجار، فقولهم في اليوم الآخر (ما كنتم إيانا تعبدون) يعني إن نفي العلم بالعبادة ناشئ من كون الحجارة لا تحس بالقرارات التي يتخذها المشركون. كذلك (مع افتراض أن الشركاء هم من قوى الجن أو الملائكة) لا علم لهم بهذه المشاركة أو بالأحرى لم يدخلوا طرفاً في القضية، حيث لم يتم اتفاق على مثل هذه العبادة المشركة، ولذلك فإن قولهم (ما كنتم إيانا تعبدون) يظل جواباً فنياً للتدخل على انهم لا دخل لهم في صنع القرارات المشركة.

ليس هذا فحسب، بل إن شركاءهم يواصلون التعليق على مواقف المشركين، ويقولون لهم (فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتهم

 

______________________________________________________

الصفحة 240

 

لغافلين). هذا التعليق يلقي إنارة فنية على الموقف، فهو أولاً يوضّح بأن الله تعالى هو الذي يتكفل بحسم الموقف فيما بيننا وبينكم (بين الشركاء والمشركين)، ويوضح ثانياً ـ وهذا الملفت للنظر فنياً ـ إن الشركاء غافلون عن قرارات المشركين (كنا عن عبادتهم لغافلين). والأهمية الفنية لهذا التعليق هي: إن القارئ لم يكن يدرك معنى قولهم أولاً (ما كنتم إيانا تعبدون) لأن المشركين قد عبدوا هذه الأوثان أو القوى غير المرئية، وحينئذٍ لا بدّ أن يكون المقصود من قولهم (ما كنتم إيانا تعبدون) ليس هو عدم العبادة بل عدم اطلاع هذه القوى أو الأحجار على عبادتهم. وهذا الاستخلاص لا يمكن ان يصدر عنه القارئ إلاّ من خلال التعليق الأخير القائل (إن كنا عن عبادتكم لغافلين)، إذن: جاء هذا التعليق بمثابة توظيف فني يستهدف توضيح المقصود من كلامهم (ما كنتم إيانا تعبدون)... وهذا أمر له أهميته الفنية الكبيرة ـ ما دمنا أساساً نعني في دراساتنا ـ بالبناء العماري لنصوص القرآن الكريم، حيث تلتحم أجزاء النص فيما بينها من خلال التنامي العضوي بين الأجزاء من جانب، وبينها وبين الفكرة أو الموضوع العام للسورة بأكملها من جانب آخر، علماً أن السورة الكريمة تحوم على موضوع اليوم الآخر فيما يكشف مثل هذا التلاحم عن إحكام العمارة الفنية للسورة الكريمة بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

قال تعالى (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحيّ ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنّى تصرفون).

يتحدث هذا المقطع عن سلوك المشركين الذين لا يؤمنون باليوم الآخر. الجديد في المقطع هو: تذكيرهم بالحقائق الحسية التي يخبرها المشركون،

 

______________________________________________________

الصفحة 241

 

ومنها: قضية الرزق أو قضية المطر الذي ينزله الله تعالى من السماء فيختلط بنبات الأرض، حيث سبق للنص القرآني الكريم أن قدم تشبيهاً للحياة الدنيا بأنها مثل ماء أنزل من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام.

وها هو النص يذكر المشركين بقضية الرزق (قل من يرزقكم من السماء والأرض) حيث أن المطر من السماء والنبات من الأرض، إنه يذكرهم بهذه الظاهرة التي يقرّون بها: ليربط بين أجزاء السورة بعضها مع الآخر، وليواصل طرح الموضوعات الجديدة من نحو تذكيرهم بأن الله تعالى يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت وبالعكس، ويدبر الأمر. وهي ظواهر يقرّ بها المشركون بدليل أنهم عندما يسألون عمن يرزقهما... الخ. (فسيقولون: الله). لذلك يعقب المقطع على هذا الإقرار بقوله تعالى (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال). إن هذه الفكرة (فماذا بعد الحق إلا الضلال) تجسد صورة نطلق عليها مصطلح (الصورة الاستدلالية) حيث تستهدف هذه الصورة لفت النظر إلى أن المشركين ضالّون في ذهابهم إلى أن الأصنام أو القوى الأخرى تملك فاعلية الرزق وغيره، ولكنه بدلا من أن يتحدث مباشرة عن هذه الحقيقة: اتجه إلى صياغتها من خلال (الصورة الاستدلالية) التي تقول: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) حيث يستوحي القارئ منها بأنه كل ما يصدر عنه المشركون من سلوك إنما هو ضلال: بعد ان أقرّوا بأن الله تعالى يملك فاعلية الرزق وسواه.

وهنا يعود النص ليطرح من جديد تساؤلاً آخر هو: (قل هل من شركائكم من يَبْدؤا الخلق ثم يعيده) (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق)... وأهمية مثل هذا التساؤل هي: إن النص القرآني الكريم (ما دام

 

______________________________________________________

الصفحة 242

 

الموضوع الرئيس فيه هو: فكرة اليوم الآخر) حينئذٍ يكون طرح هذا السؤال عن بدء الخلق وإعادته: مستدعياً لاستحضار فكرة اليوم الآخر، كما أن طرحه للسؤال عمن يهدي إلى الحق: إنما هو عملية ربط بين الصورة الاستدلالية السابقة (فماذا بعد الحق إلاّ الضلال) وبين صورة استدلالية جديدة هو قوله تعالى (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون * وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنّاً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً). هذه الصورة الاستدلالية، تنطوي على جملة من الأسرار الفنية، منها ما يتصل بالشركاء، حيث قارن بين الله تعالى (وهو يهدي الحق) وبيَّنها حينما قال (أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يُهدى). هنا قد يتساءل القارئ: ما المقصود من هذه الصورة الاستدلالية التي تقول بأن الشركاء لا تهدي إلى الحق إلاّ أن تُهدى إلى الحق؟ علماً بأن الأصنام مثلاً لا تملك وعياً حتى تهدي إلى الحق ... ونُجيب أن مهمة الصورة الفنية هي أنها تتعامل على نحو (المجاز) مع الظواهر، وليس على نحو الحقيقة، وهذا ما يفرق بينها وبين الكلام التقريري، لذلك عندما يخلع النص القرآني الكريم سمة (الوعي) على الشركاء: إنما يخلع ذلك (مجازاً) وليس حقيقة، أي أنه مجرد افتراض: لتبيين الحقيقة الذاهبة إلى أن الأصنام لا تملك فاعلية الإهداء إلى الحق حتى في حالة افتراضنا تملكها للوعي.

خلال ذلك، يطرح المقطع إحدى حقائق السلوك العقلي وهي (إن الظن لا يُغني من الحق شيئاً)، بمعنى أنَّ المشركين يتبعون الظن ـ وليس الحقيقة ـ في موقفهم المذكور: مع أن الظن لا يُغني من الحق شيئاً، حيث تتضمن هذه العبارة عنصراً استدلالياً من جانب (وهو عدم إغناء الظن من الحق شيئاً)، وتتضمن من جانب ثانٍ: تقريراً لإحدى حقائق السلوك الذهني عند البشر. فضلاً عن إنها ـ من جانب ثالث ـ تقوم بعملية ربط فني بين موضوعات السورة الكريمة التي تحوم على فكرة اليوم الآخر وموقف المشركين من ذلك ومن

 

______________________________________________________

الصفحة 243

 

سائر أنماط سلوكهم، حيث يتضح مثل هذا الربط عن الأحكام الهندسي للنص، بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

قال تعالى (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العُمىَ ولو كانوا لا يبصرون).

نواجه في هذا المقطع من سورة يونس: رسماً جديداً لسلوك المنحرفين عن رسالة الإسلام. لقد رسمهم النص القرآني الكريم صماً وعمياً، لا يعقلون ولا يبصرون. لكن ما يعنينا من هذا الرسم هو: المنحى الفني الذي سلكه النص في صياغة الموضوع. لقد استخدم النص أدوات (لفظية وصورية) بالغة الإثارة في صياغة هذا الموضوع، حيث اعتمد (من حيث الصورة) عنصر (الرمز) أولاً... ومن المعلوم أن (الرمز) هو أشد الصور قابلية على الإيحاء وتكثيف الدلالات بالقياس إلى الصور الأخرى: من تشبيه واستعارة وتمثيل ونحوها. لقد (رمز) للكافر بأنه (أصم)، والأصم من فقد جهاز السمع، و(رمز) له بأنه (أعمى)، والأعمى هو من فقد جهاز النظر. وأهمية هذين الرمزين تتمثل في كون (السمع) و(البصر) هما: أدق الأجهزة قابلية في تلقي الأشياء وإدراكها، بالقياس إلى أجهزة الذوق والشم واللمس. لذلك، عندما ينتخب النص اشد الحواس قابلية في إدراك الشيء، حينئذٍ يكون بهذا الانتقاء قد أجهز على الكافر وسيلة مقومات الإدراك. وألغاه من الحساب تماماً.

وهذا ما يتصل بعنصر (الصورة)...

بيد أن ما يضخم من عنصر الإثارة الفنية هو: صياغة هذه الصور من خلال (الأدوات اللفظية) من (تقابلٍ) و(تساؤل) و(افتراضات) ونحوها.

لقد وصفهم النص بأنهم يطلبون الاستماع إلى كلام محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فقال (ومنهم من يستمعون إليك) ثم تساءل قائلاً (أفأنت تسمع الصّمّ) ثم

 

______________________________________________________

الصفحة 244

 

أضاف أيضاً (ولو كانوا لا يعقلون). طبيعياً قد يتساءل القارئ عن السر الفني وراء صياغة هذه الحقيقة على نحو الاستفهام والمخاطبة (أفأنت تسمع الصم)، وقد يتساءل أيضاً عن السر الفني وراء عبارة (ولو كانوا لا يعقلون) بصفة أن الأصم لا يسمع أساساً، وتبعاً لذلك لا يتعقل الكلام، فلماذا ـ إذن ـ أتى بهذه العبارة التي تبدو وكأنها يمكن أن يستغنى عنها؟.

والسر الفني في هذا، أن النص حينما رسم الكافر بأنه (أصم) إنما رسمه بذلك على نحو (الرمز) وليس (الحقيقة)، لأن الكافر يمتلك جهاز السمع، ولكنه لا يمتلك قابلية التعقل للكلام، ولذلك تساءل (ولو كانوا لا يعقلون).

كذلك، نجد أن النص سلك نفس المنحى في (الرمز) الآخر المتصل بجهاز البصر، حيث قال أولاً (ومنهم من ينظر إليك) ثم تساءل (أفأنت تهدي العمي) ثم أضاف (ولو كانوا لا يبصرون)، حيث جاءت عبارة (ولو كانوا لا يبصرون) محكومة بنفس الحقيقة التي ذكرها، وهي إن صفة (العمى) بالنسبة للكافر جاءت على نحو (الرمز) وليس (الحقيقة)، لأن الكافر يتملك جهاز البصر، ولكنه يفتقد القابلية على ممارسة النظر. ويثار سؤال آخر: إن الكافر يستمع إلى محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ و(ينظر) إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا كان (الاستماع) يعني: الاستماع إلى أقواله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ورفضها من قبل الكافر، حينئذٍ فما هو معنى النظر إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ أي لماذا قال النص: إن الكافرين ينظروك إلى محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولكنهم لا يبصرون، مع أن النظر إلى شخصية محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لا علاقة له بالرسالة بخلاف الاستماع إلى أقواله: لأنها ذات صلة بالرسالة كما هو واضح؟.

في تصورنا أن النظر إلى محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إنما هو (تجوّز) وليس (حقيقة)، أي إن النظر هنا هو (رمز) إلى شيء آخر هو (الآيات الكونية) التي تستدعي ممارسة النظر، أو الأدلة التجريبية أو حتى الأدلة العقلية التي تستدعي (النظر) فيها، فيكون (النظر) هنا رمزاً للتأمل الفكري. والمهم ـ بعد ذلك كله ـ أن نشير

 

______________________________________________________

الصفحة 245

 

إلى أن هذين الرمزين وطريقة صياغتهما قد خضع رسمهما إلى بناء فني ممتع ومحكم، بحيث (تتقابل) العبارات والموضوعات فيما بينها على نحو متوازٍ هندسياً، حيث تقابل عبارة (ومنهم من يستمعون إليك) عبارة (ومنهم من ينظر إليك)، وتقابل عبارة (أفأنت تسمع الصم) عبارة (أفأنت تهدي العمي) وتقابل عبارة (ولو كانوا يعقلون) عبارة (ولو كانوا لا يبصرون). إن هذا التقابل بين العبارات (من حيث صياغتها)، ثم تقابل موضوعاتها: يحقق قمة الإثارة والدهشة والإمتاع الفني حيث يتلمس القارئ أو المستمع مدى (إحكام) النص من حيث تلاحم وتواشج وتجانس موضوعاته: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين).

تتحدث هذه الآية الكريمة عن أحد مواقف اليوم الآخر، عندما يحشر الناس في عرصات يوم القيامة... حيث تعرض الآية واحداًَ من أشكال ردود الفعل التي يصدر الناس عنها في لحظة مواجهتهم لهذا اليوم، وهو: الإحساس بالزمن، حيث تقول الآية بأن إحساسهم بالزمن يقوم على هذا النحو (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار).

إن الإحساس بالزمن يشكّل واحداً من عناصر العمل الفني الذي تعنى به تجربة الأدب البشري، وحينما ننقل هذا الإحساس إلى الفن التشريعي (وهو: القرآن الكريم) نجد أن صياغة هذا الإحساس بالزمن تأخذ بعداً فنياً له إثارته وطرافته الفكرية والجمالية، بخاصة إذا تمّت صياغته بهذا النحو الذي عرضته الآية الكريمة، حينما لفّعته بشيء من الغموض الفني. إن النصوص المفسرة تتراوح في تفسير المقصود من عبارة (ساعة من النهار)، كما أن القارئ نفسه

 

______________________________________________________

الصفحة 246

 

يظلّ مستخلصاً أكثر من دلالة دون أن يستطيع ان يرسو على يقين محدد، حيث يتردد بين الذهاب إلى أن المقصود من ذلك هو إحساس البشر بأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة، أو إحساسهم بأنهم لم يلبثوا في القبور إلا ساعة، بالقياس إلى الزمن الذي يواجهونه في تلكم اللحظة.

طبيعياً، أن النص القرآني الكريم قدّم (صورة تشبيهية) تعتمد الأداة (كأن) لبلورة هذا الإحساس بالزمن، لأن هذه الأداة بالقياس إلى أدوات التشبيه الأخرى تظل ملتقطة لأوجه الشبه بين الشيئين بنحو يقل عن الأدوات الأخرى، مما يعني إن الإحساس بالزمن (وكأن الدنيا أو القبر هو ساعة من النهار) هو إحساس لا حقيقة واقعية له من حيث القياس الطبيعي بقدر ما يفرضه أهوال يوم القيامة حيث أن طول النهار الذي يستغرقه يوم الحشر: يجعلهم يتحسّسون بأن الدنيا وكأنها ساعة من هذا اليوم... طبيعياً، أن نهار القيامة (وفقاً لنصوص قرآنية أخرى تشير إلى اليوم الآخر بأنه خمسون ألف سنة) يجعل الإحساس بزمن الدنيا: ساعة من نهار الآخرة... لكن هل يستخلص القارئ بأن المقصود هو مقايسة نهار الآخرة بزمن الدنيا، أم يمكنه أن يستخلص شيئاً آخر هو: إن نهار الدنيا أو نعيمها يبدو الآن وكأنه ساعة من النهار: ليس بالقياس إلى نهار الآخرة بل بالقياس إلى نهار الدنيا نفسها، لأن الإمتاع الذي كانوا يتحسسونه في الدنيا قد تصرّم ولا أثر له الآن مما يجعل الإحساس به وكأنه ساعة أو لحظة تصرّمت؟

إن كلاً من الاحتمالين وارد دون أدنى شك، فالاحتمال الأول تفرضه قرائن أخرى تشير إلى طول يوم القيامة وإستغراقه خمسين ألف سنة، والاحتمال الآخر تفرضه قرائن فنية هي أداة التشبيه (كأن)، ولعل هذا الاحتمال هو الأصح، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ان استخدام التشبيه يسوّغ لنا هذا الاحتمال، لأن الذهاب إلى أن نهار الدنيا كأنه ساعة من الآخرة لا يحتاج إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 247

 

(التشبيه) ما دامت الآخرة تخضع لمقاييس زمنية أخرى، وهذا على العكس من إحساس الإنسان بماضيه الذي يبدو الآن وكأنه لحظة تصرّمت، أي أن الإنسان حتى في تجربته الدنيوية كأن يستعرض لذائذ الماضي حتى يتحسسها قصيرة (في لحظته الحاضرة) مع ان الماضي يمتد سنوات طوالاً. وأياً كان الأمر، فإن خضوع هذه الصورة الفنية لأكثر من احتمال فني: يهبها قيمة جمالية ضخمة دون أدنى شك، فضلاً عما تنطوي عليه من دلالات متنوعة تصبّ جميعاً في هدف واحد هو: إن الحياة الدنيا تبدو وكأنها ساعة، حيث ينبغي للشخصية أن تعتبر بهذه الحقيقة وأن تعدّل سلوكها وتوظفه من أجل العمل بمبادئ الله تعالى.

أخيراً يجب ألا نغفل عن أن سورة يونس تحوم على فكرة اليوم الآخر، وأنّ هذه الآية الكريمة جاءت في سياق الفكرة المشار إليها، مما يكشف ذلك عن الإحكام الهندسي للسورة من حيث علاقة أجزائها بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون).

هذا المقطع من سورة يونس إمتدادٌ لمقاطع سابقة تتحدث عن قضايا اليوم الآخر وموقف المشركين منه. إلا أن السورة الكريمة لا تحصر الموضوع في فئة من المشركين بل تطرح هذه القضايا ليفيد منها الناس جميعاً، كما إنها تتجاوز قضايا اليوم الآخر لتطرح من خلال حديثها عن هذا اليوم: مفهومات أخرى تستهدف توصيلها إلينا. من ذلك مثلاً: هذا المفهوم (قل لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله) فهذا الموضوع يرتبط بحقيقة عبادية هي:

 

______________________________________________________

الصفحة 248

 

إن الإنسان مطلقاً لا فاعلية لديه وإن الله هو الذي يهب الإنسان فاعلية التحرك من هذا الميدان أو ذلك... فهذا الموضوع بالرغم من أنه جاء في سياق الحديث عن سؤال المشركين عن ميعاد اليوم الآخر (ويقولون متى هذا الوعد) إلا أنه جاء جواباً عاماً يتصل بمطلق سلوك الإنسان كما قلنا.

وهكذا بالنسبة لطرح الموضوع الآخر وهو قوله تعالى: (لكلّ أمة أجل)، فهذا الكلام بالرغم من أنه جاء في سياق الإجابة عن سؤال المشركين حول ميعاد اليوم الآخر أو حول ميعاد نزول العذاب عليهم دنيوياً، إلا أن النص قدّم إجابة عامة تتصل بأحد المبادئ الاجتماعية أو القوانين الاجتماعية التي تحكم المجتمعات، وهو القانون القائل بأنه (لكلّ أمة أجل) وهو أمر يمكن ملاحظته بالنسبة للمجتمعات البشرية جميعاً: قديمها وحديثها حيث نجد قيام المجتمعات وزوالها ـ في مختلف العصور ـ أمراً لا ترديد فيه بحيث يشكّل قانوناً عاماً كما هو ملاحظ.

إذن، عندما يطرح النص قضية خاصة مثل اليوم الآخر، يطرح في الآن نفسه قضايا عامة من نحو المبدأ النفسي القائل بأن الإنسان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، والمبدأ الاجتماعي القائل بأن لكلّ أمة أجلها... وهذا النوع من الصياغة الفنية: له أهميته الكبيرة من حيث عمارة السورة القرآنية الكريمة حيث يتم الربط بين موضوع رئيس تحوم عليه السورة وبين موضوعات ثانوية تتخلل ذلك.

ولعل أوضح مستويات البناء الفني، يتمثل في هذه الإجابة التي يقدمها النص بالنسبة لأولئك المشركين الذين يتساءلون عن ميعاد اليوم الآخر أو ميعاد نزول العذاب عليهم، حيث يخاطبهم (أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً) أي: ماذا يستعجلون من العذاب الذي يأتيكم فجأة ليلاً أو نهاراً؟ هنا ينبغي أن نتذكر بأن النص ـ في مقطع أسبق ـ قدم لنا تشبيهاً عن الحياة الدنيا بأنها تشبه

 

______________________________________________________

الصفحة 249

 

النبات الذي يأكله الناس والأنعام (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظنّ أهلها إنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً)... هنا أيضاً يقول النص (أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً) أي: جانس النص بين الزرع الذي يظن الناس انهم يسيطرون عليه: ثم تأتي آفة سماوية تقضي عليه ليلاً أو نهاراً، وبين العذاب الذي يظن المشركون بأنهم بمنأى منه، حيث يمكن أن يأتيهم ليلاً أو نهاراً أيضاً. إذن، كم نجد هنا (من حيث عمارة السورة) جمالية ملحوظة بين موضوعاتها المتلاحمة، حيث توازن بين نقاط متباعدة في النص وتخضعها لخيط فكري يربط بينها: بين آفة سماوية تقتلع الزرع الذي يأكله الناس والأنعام ليلاً أو نهاراً، وبين عذاب يقتلع المشركين ليلاً أو نهاراً، حيث يفصح مثل هذا التوازن ـ كما قلنا ـ عن إحكام السورة الكريمة من حيث صلة موضوعاتها.

 

* * *

 

قال تعالى: (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لَحقٌ وما أنتم بمعجزين * ولو أنَّ لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسرّوا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون).

هذا المقطع يتحدث عن جانبٍ جديد من سلوك المنحرفين وردود فعلهم في اليوم الآخر. وقد ربط النص بين سلوكهم دنيوياً وأخروياً، أي: انعكاسات سلوكهم في الدنيا على ردود فعلهم في اليوم الآخر، فأوضح بأن المنحرفين يوجّهون، سؤالهم إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بهذا النحو: (ويستنبئونك أحق) أي: يسألونك يا محمّد: أحق أن العذاب الواقع دنيوياً؟ أو أحق أنه الواقع أخروياً؟ أو: أحق هذه الشريعة التي جئت بها؟ أو أحق ما تلوّح به من حقائق اليوم الآخر. كل هذه التساؤلات من الممكن ان يستخلصها القارئ من عبارة (ويستنبئونك أحق) حيث إن سمة الفن العظيم: أن يرشح بجملة من الدلالات التي تختزنها العبارة. والمهم ـ فنياً ـ أنّ الأجزاء اللاحقة من المقطع القرآني

 

______________________________________________________

الصفحة 250

 

الكريم: تسمح للقارئ بأن يرجح التفسير القائل بأن سؤالكم يدور حول اليوم الآخر أو حول العذاب الذي لوّح به النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من انه واقع بهم، يدلنا على ذلك قوله تعالى (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب). هذا الكلام ـ فضلاً عن كونه ينطوي على وظيفة فنية هي: إلقاء الضوء على محتوى السؤال الذي تقدم به المنحرفون نجده منطوياً أيضاً على حقائق جديدة عن اليوم الآخر من حيث ردود الفعل التي تصدر عن المنحرفين. فأولاً يوضح النص بأن المنحرف يتمنى بأنه لو افتدى بكل ما في الأرض لإنقاذ نفسه من العذاب، ويوضح ثانياً بأن المنحرف يخفي ندمه حينئذٍ. هذه الحقيقة الأخيرة تتطلب شيئاً من التوضيح: نظراً لدلالاتها النفسية التي تكشف عن تركيبة الشخص المنحرف ـ كافراً كان أم فاسقاً ـ يتمنى لو يفتدي بكل ما في الأرض من إنقاذ نفسه: نظراً لهول الموقف والمصير إلا أنه: يسرّ الندامة ولا يعلنها. ترى ما هو السر في ذلك؟

النص القرآني الكريم ساكت عن تبيين السر... لكن بمقدور القارئ أن يستخلص بأن سبب ذلك هو: أنّ إسراره أو إعلانه للندم لا ينقذه من العذاب بدليل انه لو يفتدي بكل ما في الأرض لم ينفعه ذلك... لكن: لماذا يخفي ندمه علماً بأن النصوص القرآنية ـ في مواقع أخرى ـ تذكر كيف أنَّ المنحرفين يعضّون أناملهم حسرة على ما فاتهم من العمل العبادي أو تذكر تلكم النصوص: بأن رؤساء الضلال يتبادلون مع أتباعهم: اللوم حيث يلقي كل طرف مسؤولية إنحرافه على الآخر، أو أنّ المنحرفين يتوسلون بإرجاعهم إلى الحياة ليعملوا صالحاً... الخ. كل هذه المواقف تكشف عن أنّ المنحرف (يعلن) ندمه ولا يخفيه عن الآخرين. فلماذا ـ إذن ـ نجد المنحرفين ـ في هذا المقطع الذي تتحدث عنهم السورة الكريمة ـ قد (أسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب).

 

______________________________________________________

الصفحة 251

 

في تصورنا، أنّ بعض الحالات تفرض على المنحرف ـ وهو يواجه أشخاصاً كانوا يتحدونه بنزول العذاب أو كان يتعجل نزول العذاب كما هو مفادُ مقطع سابق يقول (وقد كنتم به ـ أي العذاب ـ تستعجلون)، حينئذٍ عند مواجهته لعذاب كان يتعجله سخرية، لابدّ أن يتظاهر بعدم الندم: صوناً لماء الوجه كما هو واضح، والمهم أنّ رجوعنا إلى الآيات السابقة أو اللاحقة لهذا المقطع الذي نتحدث عنه، يقتادنا لكشف أمثلة هذه الحقائق فيما يفصح ذلك عن إحكام النص القرآني الكريم من حيث علاقة أجزائه بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون).

هذا المقطع من السورة الكريمة يتضمن عنصراً صورياً هو (التمثيل) أو (الرمز) بالنسبة إلى القرآن الكريم ومبادئه. فقد (مثّلَ) للقرآن الكريم بصورة (الشفاء لما في الصدور) أي: اكتسب القرآن الكريم طابع (الدواء) بالنسبة للنفس، طبيعياً كان من الممكن أن (يشبّه) القرآن الكريم (بالدواء) الذي يشفي ما في الصدر، أي كان من الممكن أن نواجه صورة (التشبيه) بدلاً من (التمثيل) فيقال مثلاً إنَّ القرآن بمنزلة الدواء: لكن بما أن الفارق بين (التشبيه) و(التمثيل) أنَّ التشبيه يتناول العلاقة بين شيئين: بخلاف (التمثيل) الذي يتناول العلاقة بين شيئين: يكون أحدهما تجسيماً وتجسيداً للآخر، أي أنَّ كل طرف من الطرفين هو عين الآخر وليس شبيهه، من هنا عندما قال النص الكريم بأن القرآن هو (شفاء) إنما جعله شفاءً حقيقياً لمرض النفس مقابل الأدوية الكيميائية التي هي شفاء لمرض الجسم، وهذا بخلاف ما لو قال مثلاً بأن القرآن هو بمثابة أو بمنزلة الشفاء ـ لأننا بمثل هذا التعبير الأخير نكون أمام (تشبيه) وليس أمام

 

______________________________________________________

الصفحة 252

 

حقيقة. والمهم بعد ذلك أن نقف عند هذه الصورة التمثيلية لملاحظة دلالاتها فنياً وفكرياً.

إنَّ صياغة مبادئ القرآن (شفاء) لما في الصدور، يعني بوضوح: أن (النفس) حينما تحيا بمنأى عن الله تعالى لابدّ أن تصاب بالأمراض الروحية بما يواكب هذه الأمراض من صراعات وتوترات وانشطارات نفسية لا تعرف إلى التوازن والاستقرار سبيلاً. وهذا يعني أن المعطى القرآني لا ينحصر في تحقيق الإشباع الأخروي ـ أي الإثابة ـ في اليوم الآخر فحسب، بل يتجاوزه إلى الإشباع الدنيوي أيضاً حيث تتحسس الشخصية التي تعمل بمبادئ القرآن أنها متوازنة مطمئنة، لا تحيا أي قلق أو تمزّق في الحياة الدنيا، كما أنها ـ في الحياة الأخرى ـ تحيا مطمئنة بالضرورة: نظراً لعدم وجود عنصر التجاذب بين قوى الخير والشر فيها.

إذن، أمكننا ملاحظة السر الفني وراء صياغة الصورة (التمثيلية) (شفاء لما في الصدور) من حيث معطياتها الدنيوية والأخروية...

لكن ينبغي أن نتابع ملحقات هذه الصورة التمثيلية. لقد أردف النص القرآني الكريم: هذه الصورة بقوله (قُل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون). إنَّ (الجمع) هنا يشير إلى المتاع الدنيوي من مال ونحوه، حيث طالب النص: الشخصية بأن تفرح بفضل الله وبرحمته لا أن تفرح بجمع المال. إنّ المال يحقق إشباعاً دنيوياً دون أدنى شك... لكن: لا يواكب ذلك إشباع أخروي أيضاً؟ ثم: هل يواكب ذلك شفاء لأمراض النفس؟. هذا ما تستهدف الصورة الفنية: توصيله إلى القارئ، حيث تجعله مستوحياً من ذلك: إنَّ المهم هو معطيات الله تعالى (الفضل والرحمة) نظراً لكونها تحقق (في المجال الدنيوي) توازن النفس (شفاء لما في الصدور)، وتحقق (أخروياً) أعلى درجات الإشباع، بينما لا يحقق جمع المال إلا إشباعاً

 

______________________________________________________

الصفحة 253

 

أحادي الجانب (الدنيا فحسب)، وحتى في هذا المجال فإنَّ الإشباع أو الراحة يظل أحادياً أيضاً لأنه لا يقترن بشفاء الأمراض النفسية، طالما نعرف بأن جمع المال محفوف بالقلق والحرص ونحوها فضلا عن ان خلو النفس من (اليقين) لا يحقق لها أي توازن مهما كان المتاع المادي ضخماً.

أخيراً ينبغي ألا نغفل عن أنَّ السورة الكريمة تحوم فكرتها على اليوم الآخر وقضاياه. وأن هذا المقطع الذي تحدثنا عنه يصب في الموضوع ذاته.

 

* * *

 

قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل ءالله أذِن لكم أم على الله تفترون * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون * وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربكم من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين).

يتناول هذا المقطع من سورة يونس جملة من الموضوعات المتصلة بسلوك المشركين وموقفهم من اليوم الآخر: حيث تصبّ السورة في هذا الموضوع وتطرح خلاله مفهومات فرعية منها: الحقيقة الذاهبة إلى ان الله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة من عمل الإنسان أو حركة الكون ولا أصغر من ذلك ولا أكبر وانّ ذلك جميعاً محفوظ في كتاب مبين (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). ما يعنينا من هذه الحقيقة الأخيرة هو: المنحى الفني الذي سلكه النص في صياغة الموضوع حيث اعتمد عنصر (الصورة الفنية) في بلورة الحقيقة المشار إليها. والآن، لننظر إلى الصورة الفنية. لقد وظّفت هذه الصورة لبيان ان الله تعالى لا يغيب عنه أدنى سلوك يصدر عن الإنسان وانَّ هذا السلوك ترتب

 

______________________________________________________

الصفحة 254

 

عليه مسؤولية أخروية من حيث الثواب والعقاب. لذلك، ارتكن النص إلى عنصر (الاستعارة) لتوضيح وتعميق هذه الحقيقة، مبيّناً أن أصغر أو أبسط سلوك (كما لو كان بقدر ذرة) لا يخفى على الله تعالى، حيث إنه تعالى استعار للسلوك وحدة عيارية هي (مثقال ذرة)، والمثقال هو: المقدار أو الميزان الذي يوزن الشيء، وقد يطلق على وحدة عيارية تساوي خمسة غرامات: لكن بقرينة (الذرة) نستنتج بأن المقصود منه هو (المقدار) وليس المعيار، وأما (الذرة) فقد يقصد منها صغار النمل، أو أصغر جزء من الأجسام أو مصطلحها الحديث... وفي الحالات جميعاً أي سواء أكان المقصود منها صغار النمل أو الأجزاء المتناهية من الأجسام، فإن صياغتها (استعارة) للعمل من حيث أبسط مستوياته، يظل أمراً له أهمية فنية كما هو واضح... حيث أن أصغر وحدة مادية (وهي الذرة) قد أعارها النص (أصغر وحدة سلوكية) ـ كما لو نوى الإنسان مثلاً خاطرة خير أو شر لم يتجاوز ثواني معدودة ـ حينئذٍ فإن هذه الخاطرة الخاطفة لا تعزب عن الله تعالى كما لا يفوت تسجيلها: ثواباً أو عقاباً.

ويلاحظ أن النص لم يكتف بإعادة الذرة للسلوك، من حيث الموازنة بينهما بل أضاف إلى ذلك قائلاً: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر)... أي أنه قدم ما يطلق عليه مصطلح (التشبيه المتفاوت) ـ وهو التشبيه الذي يرصد العلاقة بين شيئين من حيث كون أحدهما (أعلى) أو (أدنى) من الطرف الآخر ـ حيث أن قوله تعالى (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) ـ أي ولا أصغر من مثقال ذرة ولا أكبر منها ـ وهذا السر هو: أن سلوك الإنسان أو مطلق تحركات الكون لا يمكن مقايسته بوحدة مادية يتساوى فيها الطرفان، بل يتخذ الوزن (وهو مثقال ذرة) معياراً تقريبياً للموازنة، ولكي تصبح الموازنة بين الشيئين في أدق مستوياتها حينئذٍ فإن هذا التشبيه (وهو: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) يجسد هذه الدقة في الموازنة. أن النص يستهدف الإشارة إلى سلوك الإنسان سواء

 

______________________________________________________

الصفحة 255

 

أكان بقدر الذرة أو أصغر منها أو اكبر منها: لا يعزب ذلك عن علم الله تعالى ولا يفلت من ترتب المسؤولية عليه، وحينئذٍ يكون هذا التشبيه (ولا أصغر ولا أكبر) دقيقاً كل الدقة، لأنه ـ ببساطة ـ يسمح للقارئ بأن يقدر بنفسه حجم العمل مهما صغر في تصوره. تقديراً بالغ الدقة، وهذا ما تكفلت به الصورة المدهشة التي اعتمدت الاستعارة والتشبيه المتفاوت: كما لحظناه.

أخيراً ينبغي ألا نغفل عن أن هذه الصورة تصب في الفكرة الرئيسة التي تحوم عليها سورة يونس، وهي: فكرة اليوم الآخر حيث تفصح هذه الصياغة عن إحكام النص من حيث تجانس عناصره.

 

* * *

 

قال تعالى: (الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم).

هذا المقطع من سورة يونس يتناول مصائر المؤمنين مقابل المصائر التي رسمها للكافرين... ويلاحظ أن المقطع القرآني الكريم يركز على طابع نفسي هو (التوازن) الذي يحياه المؤمن في دنياه فضلاً عن آخرته، حيث سبق أن لحظناه ـ في مقطع سابق، كيف أنّ القرآن الكريم قد جعله الله تعالى (شفاء لما في الصدور) أي: علاجاً للأمراض الروحية، وها هو الآن يقدم لنا نموذجاً من المحركات أو المنبهات التي تحقق للمؤمن توازنه دنيوياً وأخروياً حيث يقول عن المؤمنين (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة). إنّ (البشرى) هي تجسيد لقمة التوازن الذي يحلم به الفرد، حيث يبشر المؤمن ـ وفقاً للنص التفسيري الوارد عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ ـ من خلال (الرؤيا) التي يراها أو يراها الآخرون بالنسبة له، يبشر بها بمصيره الذي يؤول إليه، وهو مصير سبق

 

______________________________________________________

الصفحة 256

 

لمقدمة السورة الكريمة أن لوحت به حينما قالت (وبشِّر الذين آمنوا أنَّ لهم قدم صِدقٍ عند ربهم).

طبيعياً، ينبغي ألا ننسى بأن قضايا (اليوم الآخر) هي التي شكلت (موضوعاً) تحوم عليه سورة يونس، وان مصائر المؤمنين جاءت في سياق الحديث عن مصائر الكافرين الذين لا يزال النص يتابع رسم سلوكهم من خلال تذكيرهم بمعطيات الله تعالى وبإبداعه للظواهر الكونية المختلفة. يقول النص: (ألا إنَّ لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون * هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إنَّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون * قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون).

إن ترابط وتلاحم هذه الموضوعات بعضها مع الآخر أمر لا يحتاج إلى التوضيح: ما دامت عمارة السورة الكريمة تقوم أساساً على قضايا (اليوم الآخر) وموقف المشككين به. بيد أن ما نعتزم توضيحه هو: السمات الفنية التي توكأ عليها النص القرآني الكريم في صياغة الحقائق المشار إليها. وأول ما يلفت نظرنا هو: إن النص كرر حديثه عن خلق السماوات والأرض، فقال أولاً: إن لله (مَن) في السماوات و(مَن) في الأرض، ثم قال تعالى: له (ما) في السماوات و(ما) في الأرض، أي: استخدم في الآية الأولى أداة (من) وهي للعاقل، واستخدم في الآية الثانية أداة (ما) وهي لغير العاقل. ما هو السر الفني في ذلك؟ ويلاحظ أيضاً إنه تعالى عند حديثه عن الإبداع الكوني لظاهرة (الليل والنهار) ـ وهما غير عاقلين ـ قد خلع عليهما سمات عقلانية (جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مُبْصِراً) حيث جعل للنهار سمة (الإبصار) مع أن الذي (يبصر) هو الإنسان (وليس النهار)، فما هو السر الفني وراء ذلك أيضاً؟

 

______________________________________________________

الصفحة 257

 

بالنسبة للسؤال الأول نحتمل ـ فنياً بأن هدف النص هو في (الشريك) عنه، فأشار إلى أن (من) في السماوات والأرض هو (تابع) الله تعالى فلا يشاركه أي (كائن عاقل) في ذلك، أما في الآية الأخيرة، فإن هدف النص هو نفي (الولد) عنه، حيث اقتضى ذلك إلى أن يشير إلى أنه تعالى (غني) عن أن يتخذ له ولداً وله كل ما في السماوات والأرض، أي: في الحالة الأولى جعل المشركون لله تعالى شريكاً، وفي الحالة الثانية زعموا بأنه هو تعالى قد اتخذ ولداً، وحينئذٍ: اقتضى في الحالة الأولى أن ينفي أي شريك له فاعلية العاقل، وأن ينفي في الحالة الثانية اتخاذ الولد، مشيراً إلى أنه غني عن ذلك ما دامت السماوات والأرض ملكاً له تعالى.

وأما خلع السمة العقلانية على النهار وجعله (مبصراً)،، ففي تصورنا أن هذه (الاستعارة) تستهدف دمج التجربة البشرية بالتجربة الكونية مثل قوله تعالى: (فهو في عيشة راضية) حيث جعل العيشة راضية وكأنها عنصر بشري راضٍ، كذلك فإن جعل النهار مبصرا يعني جعله وكأنه عنصر بشري مبصر، فيتم التبادل بين عناصر الوجود: تأكيداً لوحدة التجربة الكونية. والمهم ـ بعد ذلك ـ ان هذه الصورة جاءت في سياق الفكرة العامة للسورة التي تحوم على قضايا (اليوم الآخر) حيث يجيء التذكير بمعطيات الله تعالى ضمن هذا الموضوع، مفصحاً بذلك عن تلاحم أجزاء النص بعضها مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبرُ عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجرٍ إن أجري إلاّ على الله وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن

 

______________________________________________________

الصفحة 258

 

معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين).

نواجه في هذا المقطع عنصراً قصصياً هو: قصة نوح ـ عليه السلام ـ مع قومه... وقبل أن نتحدث عن البعد الفني لهذه الأقصوصة، ينبغي ان نشير إلى أن الأقصوصة جاءت توظيفاً فنياً للأفكار المطروحة في السورة، وهو: (قضايا اليوم الآخر) وموقف المكذبين من ذلك، حيث كانت المقاطع السابقة تشير إلى معطيات الله تعالى دنيوياً وأخروياً، مثلما كانت ملوحة بالجزاءات الدنيوية والآخروية أيضاً قبالة من يتنكر لرسالة السماء ومعطياتها. وها هي الأقصوصة التي صيغت في هذا السياق، تتقدم لتعرض لنا مواقف وأحداثاً تحوم على الموضوعات المشار إليها. لقد عرضت القصة أول حدثٍ اجتماعي ترتب عليه زوال مجتمع عالمي وقيام المجتمع الجديد (وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذَّبوا) أي: زوال المجتمع المنحرف، ونشوء المجتمع السوي... طبيعياً، إن المجتمع الجديد نفسه يبدأ بعض أفراده بالانحراف فيما بعد، كما أن شرائحه الاجتماعية تبدأ بالانحراف تدريجياً، مما ستترتب عليه نتائج مشابهة للمجتمع السابق، إلا أن المهم هو: رسم الجزاء الدنيوي الذي يترتب على ممارسة الانحراف (فضلاً عن الجزاء الأخروي الذي يأخذ موقعه فيما بعد).

إن الأقصوصة تعرض لنا مجتمع نوح وانقراضه، ثم نشوء مجتمع ما بعد نوح (ممن أنقذوا من الطوفان). أما مجتمع نوح ـ عليه السلام ـ فقد أبرز النص القصصي موقف نوح منه حيث توكأ هذا الموقف على لغة تجمع بين الله تعالى وبين السخرية من المنحرفين، حيث خاطبهم نوح بأنه: إن كان عظم عليكم مقامي بينكم وتذكيري بآيات الله، فنفذوا ما عزمتم من قتلي ولا تغتموا من ذلك، فإنني مصمم على تنفيذ أوامر الله تعالى لا أبتغي بذلك أجراً منكم بل أنا مأمور بأن أستسلم لأوامر الله تعالى. هذا الكلام لم تصغه القصة بنحو تقريري بل

 

______________________________________________________

الصفحة 259

 

بنحو نتلمس من خلاله انتقاء مواقف معينة واختزال مواقف أخرى يترك القارئ بأن يستخلص منها دلالاتها المتنوعة، لقد خاطبهم مثلا بقوله (فاجمعوا أمركم وشركاءكم) حيث جعل هذه العبارة مشحونة بإيحاءات متنوعة منها: إن جمع الأمر قد يقصد منه: العزم على قتله ـ عليه السلام ـ أو إبعاده أو إلحاق الأذى له...الخ. كما أن جمع الشركاء قد يقصد منه: الأوثان أو الشركاء في الانحراف، وحينئذٍ يكون المقصود من ذلك بأن يعملوا ما يشاؤون: هم ومن يشاركهم في الرأي، أو بأن يعملوا مع أوثانهم التي لا فاعلية لها... ففي الحالين ثمة تهديد وسخرية من القوم واستهانة بقراراتهم عديمة الفاعلية، سواء أكانت قدرات بشرية أو وساوس وأوهاماً نسجوها حيال أصنامهم.

والأهم بعد ذلك، إن خاتمة القصة (فكذبوه فنجيناه) جاءت ـ من الزاوية العمارية ـ إنماءً عضوياً لوسطها الذي سخر من القوم، حيث ان القارئ وهو يلحظ أن لغة نوح ـ عليه السلام ـ قد اتسمت من جانب بالسخرية منهم، وبتهديدهم من جانب ثانٍ، وباعتداده بالله تعالى من جانب ثالث، أقول: عندما يلحظ القارئ أمثلة هذه اللغة التي تجمع بين التهديد والسخرية والاعتداد: حينئذٍ يتوقع ان تكون نهاية هؤلاء القوم: نهاية كسيحة ما دام هناك أكثر من موقفٍ يرهص بمثل هذه النهاية... وفعلاً، جاءت الخاتمة التي تقول (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا...): جاءت هذه الخاتمة منسجمة مع طبيعة اللغة التي هدد نوح ـ عليه السلام ـ من خلالها هؤلاء القوم، وهو أمر يفصح عن جمالية القصة من حيث إحكام عمارتها وتلاحم أجزائها: بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملإه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين * فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا

 

______________________________________________________

الصفحة 260

 

لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتِلفتنا عمَّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكِبْرياءُ في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين).

نواجه في هذا المقطع من سورة يونس قصة جديدة هي: قصة موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ مع فرعون ومجتمعه. وقد سبق أن لحظنا قصة نوح ـ عليه السلام ـ مع مجتمعه والمصير الذي انتهى المنحرفون إليه في حادثة الطوفان وصلة ذلك بفكرة السورة الكريمة التي تحوم على قضايا اليوم الآخر، أما الآن فنواجه قصة جديدة توظف ـ فنياً ـ لبلورة الفكرة المشار إليها: حيث يجيء الجزاء الدنيوي والأخروي واحداً من الأفكار التي تستهدف القصة الكريمة توصيلها إلى القارئ بالنسبة للمجتمعات المنحرفة المكذِّبة لرسالات السماء ولليوم الآخر. لقد بدأت القصة بمحاورة بين موسى وهارون وبين مجتمع فرعون على هذا النحو: قال فرعون وجماعته: (إنَّ هذا لسحرٌ مبين) أجابهم موسى ـ عليه السلام ـ (أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا) قال فرعون وجماعته من جديد: (أجئتنا لتلفتنا عمَّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض).

هنا ينبغي أن نلاحظ أن الحوار المتقدم قد أفرز جملة من الأفكار تماثل الأفكار التي تصدر من الجاهليين وموقفهم من رسالة الإسلام، حيث يكشف مثل هذا التماثل بين الأفكار عن الهدف الفني الذي انطوت عليه القصة: من حيث توظيفها لإنارة الأفكار المطروحة في السورة الكريمة... لقد أجاب المنحرفون: بأن المبادئ التي جاء بها موسى وهارون، هي: (سحر)، وإنما جاءت لتصرفهم عن دين آبائهم وإن موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض.

هذه الإجابات تكشف عن التخلف العقلي والنفسي والاجتماعي الذي يصدر عنه القوم، ومماثلته ـ بطبيعة الحال ـ للتخلف الذي يطبع مجتمع

 

______________________________________________________

الصفحة 261

 

الجاهلية... وأول طابع لهذا التخلف هو: إتهامهم الحق بأنه (سحر) حيث يعجز المتخلفون عن تقديم الرد العقلاني، وحينئذٍ يضطرّون إلى الصدور عن فكر عابث لا مسؤول. وأما الطابع الآخر للتخلف فيتمثل في ردّهم القائل بأن موسى وهارون يستهدفان صرف المنحرفين عن تقليد آبائهم، وهو رد يجسد قمة التخلف كما هو واضح، حيث لا يمكن ان نتصور تخلفاً عقلياً أشد من جمود الإنسان على أفكار سالفة لا يبدي أي استعداد لمناقشتها بل يتقبلها كالطفل تماماً فيما لا يملك قابلية على محاكمة الأفكار. وأما السمة الثالثة للتخلف الذي طبع مجتمع فرعون فهي: تخيلهم بأن موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض، أي يستهدفان الظفر بموقع اجتماعي هو: أن يحكما ويسيطرا ويتأمّرا عليهم... وهذه السمة هي عملية (إسقاط)، أي أن المتخلفين: نظراً لكون مجتمعاتهم لا تخبر إلا مفهومات السيطرة والتحكم (وفرعون نموذج واضح لهذا التحكم كما سنرى ذلك في الأقسام اللاحقة من القصة) حينئذٍ يخيل إليهم ان موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ يستهدفان أيضاً: التحكم والسيطرة، من خلال الإتيان بمبادئ تخالف دين أسلافهم المتخلفين، وإنهما يتوسّلان بالسحر للوصول إلى أهدافهما.

هذا التصور أو التخلف العقلي والنفسي والاجتماعي يظل دلالات نجد انعكاساتها على الأجزاء اللاحقة من القصة كما قلنا، فضلاً عن إنه صدى لدلالات تستهدف السورة الكريمة إبرازها في غمرة رسمها لسلوك الجاهليين وموقفهم من رسالة الإسلام وهو أمر يكشف ـ دون أدنى شك ـ عن إحكام السورة الكريمة من حيث علاقة أجزائها: بعضها مع الآخر، بالنحو الذي سنلحظه لاحقاً.

 

* * *

 

قال تعالى: (وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة

 

______________________________________________________

الصفحة 262

 

قال لهم موسى القوا ما أنتم ملقون * فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إنَّ الله سيبطله إنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين).

هذا هو القسم الثاني من قصة موسى وفرعون. وكان القسم الأول من القصة يتحدث عن مجتمع فرعون واتهامه موسى بالسحر، وها هو القسم الثاني من القصة يتحدث عن ممارسة قوم موسى للسحر، أي إن التهمة التي وجهها القوم لموسى عليه السلام، تأخذ ـ في هذا القسم من القصة ـ موقفاً معاكساً حيث تنقلب التهمة وتوجه من قبل موسى إلى قوم فرعون بعد أن كان القوم يتهمون موسى بالسحر فعلياً... وهذا الانقلاب في الموقف له قيمته الفنية (من حيث عمارة السورة الكريمة) حيث يكشف عن تقابل هندسي جميل بين الموقفين... لقد بدأ هذا القسم من القصة بمطالبة فرعون بأن يأتوه بكل ساحر عليهم (وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم)... لقد اختزلت القصة جملة من الأحداث والمواقف، تاركة للقارئ بأن يستخلص بنفسه تفصيلات الموقف، حيث اكتفت بالقول بأن فرعون طلب إتيانه بالسحرة، وهذا يعني ان هناك محاورات قد تمت بين موسى وبين فرعون بحيث أفضت إلى أن يطلب فرعون السحرة. و(فلما جاء السحرة قال لهم موسى القوا ما أنتم ملقون). هنا حذف النص أيضاً تفصيلات الحدث بحيث يستخلص القارئ بأن السحرة قد ألقوا عصيّهم وان عملهم قد باء بالفشل، وان عصاه أبطلت السحر. هذه التفصيلات لا وجود لها في القصة وذلك بقدر ما يستهدف النص إبطال التهمة التي وجهت إلى موسى بأنه ساحر، لذلك لم تسرد في القصة إلا ما يلقي الضوء على هذا الجانب. يدلنا على ذلك أنَّ موسى ـ عليه السلام ـ عقّب على حادثة السحرة بقوله (ما جئتم به السحر إنَّ الله سيبطله إنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين). القارئ ـ بطبيعة الحال ـ سوف يدرك سريعاً بأن موسى عندما قال لهم (إنَّ الله سيبطله: أي السحر) يدرك سريعاً بأن موسى ـ عليه السلام ـ قد ألقى عصاه، وان انقلابها ثعباناً يلقف ما عملوه، إنما هو تجسيد لقوله (إن الله سيبطله). كل هذه الأحداث والمواقف قد

 

______________________________________________________

الصفحة 263

 

اختزلها النص ليركز على إبطال التهمة من جانب، وإلقاء الحجة عليهم من جانب آخر.

بعد ذلك، يواجهنا القسم الثالث من القصة بهذا النحو: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإهم أن يفتنهم وإن فرعون لعالٍ في الأرض وإنه لمن المسرفين * وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين).

هذا القسم من القصة يحفل بسمات فنية متنوعة لابدّ من الوقوف عندها تفصيلاً. لكن قبل ذلك ينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى المبنى الهندسي للنص: من حيث علاقة هذه التفصيلات بالأقسام السابقة واللاحقة من القصة، وذلك: نظراً لكون هذا القسم من القصة يتضمن أهم المواقف ألا وهو: أن طائفة من مجتمع فرعون قد استجابت لرسالة موسى، على خوف من فرعون والطبقة العليا من مجتمعه المنحرف، ولا شك ان مثل هذا الموقف يجسد من حيث عمارة القصة: إنماءً عضوياً أو صدى لكلام موسى ـ عليه السلام ـ: في القسم السابق من القصة وهو قوله: (ويحقّ الله الحق ولو كره المجرمون) وفعلاً: يبدأ البعض بالإنسلاخ عن فرعون ومجتمعه، ينتصر موسى في النهاية كما سنرى، مما يفصح مثل هذا النمو العضوي للأحداث والمواقف عن إحكام المبنى الفني للنص من حيث علاقة أجزائه بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإهم ان يفتنهم وإنَّ فرعون لعالٍ في الأرض وإنه لمن المسرفين * وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله

 

______________________________________________________

الصفحة 264

 

توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين).

هذا هو القسم الثالث من قصة موسى عليه السلام... حيث يتناول هذا القسم سلوك الطائفة التي آمنت برسالة موسى عصرئذٍ، لقد وسمَ النص هذه الطائفة بكونهم (ذرية) من قومه، ووسمهم بالخوف من فرعون ومشايعيه (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون). لا شك إن لهذه السمات أو السمتين دلالتها الاجتماعية والفنية... فالاسوياء أو الأذكياء أو الطيبون يجسدون القلة دائماً على العكس من الغالبية التي يغلّفها الجهل والمرض ونزعات الشر. وقد أكدت قصة سابقة ـ وهي قصة نوح ـ عليه السلام ـ فيما أعقبتها قصة موسى ـ عليه السلام ـ ـ أكدت هذا الجانب حينما أفرزت قلة من الناس وحملتهم في السفينة وأغرقت الباقين، وهذا ما يدلنا على التجانس الفني بين القصتين من حيث انصبابهما في دلالة أو مبدأ اجتماعي متماثل هو: مبدأ الأقلية المؤمنة والاكثرية المنحرفة. أما السمة الأخرى ونعني بها سمة (الخوف) الذي واكب الطائفة المؤمنة، فتشير إلى مبدأ اجتماعي آخر هو: اقتران الحياة بالشدائد، وإن المؤمن بخاصة يظل عرضة لجملة من الشدائد، منها، الشدة التي يكابدها المؤمنون من قبل سلاطين الدنيا ومطلق المنحرفين.

وقد تكفلت القصة ببيان هذا المبدأ حينما عقّبت على ذلك بقولها (وإن فرعون لعالٍ في الأرض) حيث تضمنت هذه العبارة تقرير حقيقتين أولهما: التعريف بهذه الشخصية المفسدة (فرعون) ـ من حيث كونها أحد شخوص القصة التي تترك تأثيرها في سلسلة الحوادث والمواقف في القصة ـ وأخراهما: بيان الوظيفة العبادية التي ينبغي ان تمارسها الطائفة المؤمنة حيال الشدائد التي تواجهها من قبل الطغاة... وهذا ما أوضحته القصة الكريمة، حينما (قال موسى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين)... وجاء

 

______________________________________________________

الصفحة 265

 

الجواب: (على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين).

هذا الحوار بين موسى ـ عليه السلام ـ وبين جماعته، يكشف عن جملة من الحقائق الفنية والفكرية... أما (فكرياً)، فإن الحوار تضمن تقرير الحقيقة العبادية الذاهبة إلى أن (التوكل) على الله تعالى هو الوظيفة التي ينبغي أن يصدر المؤمن عنها حيال الشدائد التي يواجهها من قبل الطغاة، وأن يواصل جهاده دون خوف من ذلك، وأما (فنياً) فيلاحظ أن القصة سبق أن أشارت إلى أنه (ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإهم أن يفتنهم) أي أن الطائفة المؤمنة (خافت) من الوقوع في (الفتنة) من قِبل فرعون وبطانته. وها هو (الحوار) أو الجواب الذي تقدمه الطائفة المؤمنة يتضمن الإشارة إلى (الفتنة) حيث قالت في دعائها (ربنا لا تجعلنا (فتنة) للقوم الظالمين) إذن، ينبغي أن ننتبه على هذه السمة الفنية (حيث نعنى في هذه الدراسات بعمارة السورة القرآنية الكريمة)، ونعني بها سمة (التلاحم العضوي) بين (الفتنة) التي خاف القوم الوقوع فيها، وبين (الفتنة) التي طالبوا ـ من خلال الدعاء ـ بأن يقيهم الله تعالى منها، حيث شكّل هذا الدعاء (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) إنماءً عضوياً لمفهوم (الفتنة) التي يخافها المؤمن متمثلاً في (الخوف من الفتنة) ثم (المطالبة بإزاحتها)، وهو أمر يكشف ـ كما قلنا ـ عن أن القصة الكريمة مطبوعة بإحكام فني من حيث علاقة أجزائها: بعضها مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشّر المؤمنين * وقال موسى ربنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس

 

______________________________________________________

الصفحة 266

 

 

على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أُجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون).

هذا هو القسم الرابع من قصة موسى وفرعون. وقد كان القسم السابق من القصة يتناول مطالبة موسى قومه بأن يتوكلوا على الله، وقد كانوا قلّة آمنت بموسى على خوف من فرعون، وها هو القسم الجديد من القصة ينمّي عضوياً قضية التوكل على الله تعالى وإزاحة الخوف وإجابة الدعاء الذي توجه به القوم إلى الله تعالى بأن ينجيهم من فرعون وبطانته.

لقد أمر الله تعالى موسى وأخاه هارون بأن تبنى لهم البيوت وأن يصلّوا فيها (واجعلوا بيوتكم قبلة). ترى، لماذا أمرهما الله تعالى ببناء البيوت وجعلها قبلة؟ ثم: ما هو السر الفني وراء صياغة الصورة (التمثيلية) وهي: جعل البيوت قبلة. أما بناء البيوت والصلاة فيها فأمرٌ يرتبط بظاهرة (الخوف) الذي أشار إليه القسم السابق من القصة أي قوله (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون...)، وهذا يعني ان القصة (من حيث البناء الفني) أنمت قضية الخوف ورتبت عليه أثراً هو: أن يمارس هؤلاء المؤمنون الصلاة في بيوتهم ما دام الخوف يحتجزهم من أداء الصلاة بمرأى من فرعون وأعوانه. مع ملاحظة إن المطالبة ببناء البيوت والصلاة فيها، تنطوي على سر فني هو إبراز أهمية الصلاة وكونها أهم معلم لسمات الشخصية العبادية، وهو أمر يكشف عن أهميتها من خلال المطالبة حتى في الرسالات السابقة على الإسلام.

وأما من حيث صياغة الصورة (التمثيلية) أو (الرمزية) التي تقول (واجعلوا بيوتكم قبلة) فإن النصوص المفسرة تتفاوت في تفسير المقصود من هذه العبارة، إلا أننا نرجّح ـ لأسباب فنية ـ أن يكون المقصود من العبارة المذكورة (واجعلوا بيوتكم قبلة) هو: (اجعلوا صلاتكم في بيوتكم) فتكون

 

______________________________________________________

الصفحة 267

 

العبارة (رمزاً)، أي: بما أن الصلاة لابدّ أن تتم من خلال التوجه بها إلى جهة خاصة (وهي القبلة) ـ بغض النظر عن تحديدها عصرئذٍ، حينئذٍ جاءت الصورة (واجعلوا بيوتكم قبلة) لتشكّل (رمزاً) لتلكم الجهة التي لا بدّ من التوجه إليها، وإلاّ كان بمقدور النص أن يقول مثلاً: (وأقيموا الصلاة في بيوتكم)، لكن ـ وهذا مجرد احتمال فني ـ بما أن الصلاة تقترن بالقبلة حينئذٍ جاءت الصياغة المشار إليها (رمزاً) يشير إلى هذا الجانب. ومما يعزّز هذا الاحتمال الفني إن القصة القرآنية الكريمة أعقبت الصورة المتقدمة (واجعلوا بيوتكم قبلة) أعقبها بالقول (وأقيموا الصلاة)، فالمطالبة بإقامة الصلاة قد تبدو في الظاهر مخالفة للتفسير الذي احتملناه باعتبار أن قوله تعالى: (اجعلوا من بيوتكم قبلة) إذا كان (رمزاً) للصلاة، فما معنى ان يعقّب النص بعد ذلك بإقامة الصلاة. لكن إذا دققنا النظر ملياً، وجدنا العبارة الأولى كانت في مقام تأكيد المكان والجهة التي يصلّى إليها، وإن العبارة الثانية جاءت في تأكيد ممارسة الصلاة ذاتها.

وأياً كان الأمر، يعنينا أن نشير إلى عمارة القصة الكريمة مكرراً (ما دمنا نعنى فنياً بهذا الجانب في السورة القرآنية) حيث لحظنا كيف ان المطالبة ببناء البيوت والصلاة فيها، جاءت إنماءً عضوياً للقصة، حيث أُمِروا بأدائها في بيوتهم. وهذا الأمر يكشف بوضوح عن إحكام النص من حيث تلاحم وتنامي أجزائه بعضها مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أُجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون).

 

______________________________________________________

الصفحة 268

 

هذا هو القسم الخامس من قصة موسى ـ عليه السلام ـ مع فرعون.

في هذا القسم من القصة، نواجه محاورة بين الله تعالى وبين موسى، يتجّه موسى إلى الله تعالى قائلاً (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا). ويقول أيضاً (ليضلوا عن سبيلك) ويقول أيضاً (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم).

لقد طالب موسى ـ عليه السلام ـ أو لنقل: اتجه بدعائه إلى ثلاث قضايا هي: أن فرعون قد أوتي زينة وأموالاً، وإنه استثمرها في إضلال الناس، ثم دعا موسى بأن يطمس الله على أموال فرعون وجماعته وأن يشدد على قلوبهم.

حيال هذا الدعاء جاءت الإجابة من الله تعالى بالنسبة لموسى وأخيه هارون ـ عليهما السلام ـ على هذا النحو: (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما...).

ما يعنينا من هذه المحاورة ملاحظة صياغتها فنياً، ثم ما تنطوي عليه من دلالات فكرية.

وأول ما ينبغي تسجيله هنا هو أن الدعاء يقترن بالإجابة بخاصة إذا كان صادراً من الشخصيات المصطفاة، أو مطلق الشخوص الذين يعملون من أجل الله ونشر مبادئه... إن (الحوار) نفسه يكشف (من الزاوية الفنية) عن هذه الحقيقة حيث جاءت وظيفته الفنية لتكشف عملياً عن أن الدعاء يقترن بالإجابة... ليس هذا فحسب، بل أن الرد من قبل الله تعالى على طلب موسى (قد استجيبت دعوتكما) فقوله تعالى (قد أجيبت دعوتكما) هو تأكيد قولي على إجابة دعائهما، علماً بأن هذا التوكيد سوف يسحب آثاره على القسم الآخر من القصة عندما يغرق فرعون وقومه كما سنرى.

الحقيقة الفنية الأخرى التي نستخلصها من هذا الحوار هي: أن الزينة

 

______________________________________________________

الصفحة 269

 

والأموال قد استثمرهما المفسدون في الأرض ليضلوا عن سبيل الله تعالى... والفارق بين الزينة وبين الأموال، ان الزينة تتصل بالمظهر الخارجي للشخص مثل الملابس أو جمال الهيئة أو الصحة أو هي جميعاً مما تشبع الحاجات المشروعة وغير المشروعة لكل ما يتصل بالتقدير الاجتماعي والذاتي للشخص... أما الأموال فهي تحقق مطلق الحاجات بما فيها: الرغبة في التملك حتى لو لم تكن حاجة إلى ذلك. والمهم أن القارئ يستخلص من هذا كله إن الزينة والأموال لا تكاد تنفك عن المفسدين في الأرض، وإنها تستثمر لإضلال الناس، ومن ثم فإن عاقبة أمرها هو الفقدان. ولذلك طالب موسى بأن يطمس الله تعالى على هذه الأموال وطالب أيضاً بأن يشدّد الله على قلوبهم (وأشدُد على قلوبهم).

هنا قد يتساءل القارئ أو (السامع) عن السر الفني وراء هذه العبارة التي تقول (واشدد على قلوبهم). فالشدّ على القلب يعني تقوية القلب. فما هي دلالة ذلك؟ إن أدنى تأمل لهذه العبارة يكشف لنا بأن المطالبة بشد القلب تنطوي على دلالة نفسية هي: إن الدنيويين ـ وهم يعنون بالزينة وبالأموال ـ لا يملكون سواها، ومن ثم فإن آمالهم وتطلعاتهم مشدودة إلى ذلك، أي أن قلوبهم منشدّة إلى الزينة والمال، وحينما يفقد الشخص ما ينشدّ قلبه إليه تكون مصيبته ضخمة تتناسب مع حجم انشداده إلى الشيء المفقود، وهذا يعني أن موسى ـ عليه السلام ـ طالب بأن يضخّم انشداد القلوب ـ لدى هؤلاء المنحرفين ـ بالنسبة إلى الزينة والأموال، حتى يتضاعف إحساسهم بالألم عند فقدانها.

والمهم أن الله تعالى أجاب دعاء موسى وهارون كما قلنا، وهو أمر نلحظه بوضوح في القسم الأخير من القصة حينما نقرأ فيها: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق...الخ). حيث تشكل هذه العبارة إنماءً عضوياً لقضية الدعاء بحيث ينعكس أثره

 

______________________________________________________

الصفحة 270

 

على المصائر التي تلحق فرعون وقومه، وهو أمر يكشف عن إحكام النص القرآني الكريم: من حيث صلة أجزائه بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون * ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).

هذا هو القسم السادس والأخير من قصة موسى عليه السلام... حيث يتضمن نهاية فرعون وقومه على النحو الآتي من العرض: موسى وجماعته يعبرون البحر، فرعون وجماعته يتبعونهم لكي يلحقوا الأذى. ويدرك الغرق فرعون فيضطر إلى التسليم بالحقيقة التي كان يجحدها أي الإيمان بالله تعالى، فيقال له: لا ينفعك مثل هذا التسليم في حالة الغرق... وتعرض جثته أمام الأعين ليكون عبرة للآخرين.

هذا هو ملخص العرض القصصي لنهاية فرعون وقومه. لكن ما يعنينا منه هو: المنحى الفني الذي سلكه النص في صياغة هذه الأحداث والمواقف.

 

* * *

 

لقد طلب موسى وهارون أن ينتقم الله تعالى من فرعون وقومه وجاء الجواب بأنه (قد أجيبت دعوتكما). وها هي القصة تعرض قضية عبور موسى وقومه للبحر لتكشف لنا بنحو فني غير مباشر: إن الانتقام من فرعون وقومه قد تحقق. إلا أن النص لم يتعرض لتفصيلات الحادثة بل اكتفى بعبارة تتصل بفرعون وحده وهي عبارة (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت)... طبيعياً، أن

 

______________________________________________________

الصفحة 271

 

القارئ سوف يستخلص بأن القوم قد غرقوا وأن فرعون عندما أدركه الغرق قال: آمنت... هذه التفصيلات ـ كما قلنا ـ لا وجود لها في القصة، وذلك لسبب فني هو: إن النص يستهدف إبراز حقيقة تتصل بفرعون دون قومه باعتباره رأس الفساد... أما الانتقام بعامة فقد أحيط القارئ به علماً دون أن تكون هناك ضرورة فنية لذكره ما دام القارئ يستطيع أن يستنتج ذلك. وهذه هي مهمة الفن الذي يعتمد الإقتصاد اللغوي والإيحاء الفني. أما الحقائق التي يستهدف النص إبرازها وتأكيدها والتركيز عليها فيفصل الحديث فيها وهو ما نلحظه في العرض القصصي المرتبط بفرعون في حالة غرقه وقوله (آمن) بالله تعالى، ثم التعقيب على قوله من قبل النص القرآني لهذا الكلام (ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون).

إذن، الفكرة أو القضية التي يستهدفها النص القصصي هي: أن فرعون عندما يئس من الحياة. أعلن إيمانه بالله تعالى، وأن جثته عُرضت على الناس ليكون آية للآخرين. وهذان الموضوعان أو الهدفان لهما أهميتهما الكبيرة في ميدان العمل العبادي حيث أبرزهما النص بهذا النحو: تحسيساً بأهميتهما المشار إليها... أهمية الموضوع الأول هي: ان التوبة ينبغي أن تتم في حالة الاختيار من جانب وفي فسحة من العمر من جانب آخر. والسر الفني في ذلك أن التوبة ـ في حقيقتها ـ ندم على ممارسة الذنب وعزم على الإقلاع منه، وهذا لا يحقق فاعليته إلا في حالة الفسحة من العمر بحيث يؤجل شهواته ويمارس الطاعة، أما في حالة الإشراف على الموت فلا فاعلية لممارسة التوبة، نظراً لعدم وجود الحياة التي يؤجل شهواته فيها. وحينئذٍ لا فائدة من هذه التوبة التي يضطر إليه الشخص دون أن يختارها بملء رغبته.

أما أهمية عرض جثة فرعون أمام الملإ فتتمثل في كون ذلك منبهاً أو

 

______________________________________________________

الصفحة 272

 

محركاً يحمل الآخرين على التفكير بمصير المفسدين الذين يخيل إليهم بأن سيطرتهم الدنيوية تنقذهم من المصير البائس الذي ينتهون إليه... والمهم ـ بعد ذلك ـ أن فرعون عندما أعلن عن إيمانه حينما رأى الموت إنما جاءت صياغة هذه الحقيقة المتصلة به: إنماءً عضوياً لدعاء موسى ـ عليه السلام ـ عندما توجه إلى الله تعالى قائلاً (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)، وها هي انعكاسات كلام موسى ـ عليه السلام ـ تتنامى ـ في أحد مصاديقها ـ على موقف فرعون مما يفصح مثل هذا التنامي عن إحكام العمارة الفنية للنص من حيث تلاحم أجزائه بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين * إنَّ الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم * فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين).

في هذا المقطع عنصر قصصي يربط بين أجزاء السورة الكريمة، حيث لحظنا أن قصة موسى مع فرعون قد ختمت بالإشارة إلى أن الإسرائيليين قد ورثوا الفراعنة، بعد أن دعا موسى ـ عليه السلام ـ بأن يهلك الله تعالى فرعون وقومه، وكان من جملة دعائه (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) تحتل موقعاً فنياً من القصة حيث انتقل النص من الحديث عن الإسرائيليين إلى الحديث عن الجاهليين الذين عاصروا رسالة

 

______________________________________________________

الصفحة 273

 

الإسلام وناهضوها فعقَّب سبحانه وتعالى على موقف هؤلاء بنفس الفقرة السابقة (ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) فالملاحظ فنياً هنا أن النص سرد لنا قصة موسى ـ عليه السلام ـ ليربط بين الفراعنة الذين لم يؤمنوا وبين الجاهليين الذين لم يؤمنوا أيضاً.

وها هو النص يسرد لنا قصة جديدة هي قصة قوم يونس ـ عليه السلام ـ ليربط بينها وبين الأقوام الذين آمنوا، أي على العكس من الأقوام السابقين الذين تمت الإشارة إليهم. يقول النص: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي). إن هذه الأقصوصة أو الحكاية تنطوي على دلالات فنية متنوعة. فالملاحظ ان غالبية المجتمعات التي عرض لها القرآن الكريم مثل مجتمعات نوع وهود وصالح ولوط وإبراهيم وموسى... الخ قد أنهاها إلى مصائر كسيحة هي نزول العذاب عليهم دنيوياً، خلافاً لمجتمع يونس حيث أنهاه إلى مصير إيجابي هو: رفع العذاب عن المجتمع المذكور. والأهمية الفنية لعرض مثل هذه الأقصوصة هي أنها جاءت ـ كما نحتمل ـ لتقرير حقيقة تتصل بمجتمع محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حيث أن الله تعالى خصّ هذا المجتمع ـ كرامة لمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ـ بمصائر تختلف عن مصائر السابقين، منها: رفع العذاب الجماعي وحصره في الهزائم العسكرية مثل معركة بدر مثلاً... وبما أن مجتمع محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ـ من جانب آخر ـ قد آمن برسالة الإسلام فيما بعد بخاصة (في مرحلة المدينة) ثم توّج ذلك بدخول الناس في دين الله أفواجاً (في مرحلة فتح مكة): حينئذٍ فإن إنشطار هذا المجتمع إلى طوائف مؤمنة وأخرى غير مؤمنة (مثل كبراء قريش وقبائل وأمصار أخرى) بخاصة في مرحلة مكة التي ندر فيها المؤمنون وكثر فيها المنحرفون.

أقول: إن مثل هذا الانشطار يستدعي فنياً تقديم قصة تعرض المصائر الإيجابية لمن آمن من الأقوام السابقين حتى يتسق هذا المصير مع مجتمع

 

______________________________________________________

الصفحة 274

 

محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما آمن برسالة الإسلام فيما بعد... مضافاً إلى ذلك، فإن هدف أية قصة يعرضها القرآن الكريم إنما يتمثل في استخلاص العظة منها من جانب، وجعلها بمثابة ضوء ينير الموقف من جانب آخر. فالنص القرآني الكريم يستهدف لفت النظر إلى المجتمع الذي لا يصدِّق برسالة السماء فإن مصيره ـ دنيوياً ـ هو نزول العذاب عليه (وقد جاءت قصة موسى مع فرعون: تجسد هذا المفهوم)، أما المجتمع الذي يصدق برسالة السماء: فإن مصيره هو: رفع العذاب عنه (وقد جاءت قصة يونس: تجسد هذا المفهوم)، وبما أن المخاطب هو مجتمع محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وان الهدف من مخاطبته هو: حمله على تعديل سلوكه، حينئذٍ جاءت هاتان القصتان بمثابة نذير وبشير لهذا المجتمع... نذير: يلوّح بالعذاب دنيوياً (في حالة عدم الإيمان)... بشير: يلوّح برفع العذاب (في حالة الإيمان)... وحينئذٍ يكون النص بهذا النمط من الصياغة القصصية قد ربط بين أجزاء النص: بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

قال تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون..).

بهذا المقطع وما بعده تختم سورة يونس التي كانت فكرتها تحوم على قضايا اليوم الآخر وموقف المشركين من ذلك. لكن: خلال هذه الفكرة، طرح النص مجموعة من الموضوعات المرتبطة بها، وفي مقدمتها: كيفية التعامل مع هؤلاء المنحرفين. لقد طرح النص في ختام السورة خلاصة الموضوعات التي فصّل الحديث عنها في حينه، وكان الموضوع الذي أبرزه بخاصة في ختام السورة هو: قضية الإيمان بالله تعالى ومنعكساته... فهو بعد ان قدّم لهم سلسلة من الآيات والبراهين مثل: إبداع الله تعالى للظواهر الكونية... ثم بعد

 

______________________________________________________

الصفحة 275

 

ان سرد لهم قصص الأمم والمصائر التي انتهوا إليها، عاد فأوضح قضية الإيمان بالله تعالى وما يترتب على ذلك من النتائج، مبيناً جملة من القوانين الاجتماعية، ومنها هذا المبدأ: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) ثم هذا المبدأ (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ثم هذا المبدأ (وما كان لنفسٍ أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون).

هذه المبادئ أو القوانين الثلاثة: تشكل من جانب: التعامل الدنيوي. فالناس أحرار في اتخاذ الموقف الفلسفي من الكون والحياة، والمسؤولون: لا يلزمهم إكراه الناس على الإيمان... وهذا هو التعامل الدنيوي. أما عبادياً فهناك المبدأ الذي يقول: إن الإيمان قضية ترتبط بالله تعالى، فإذا أُذن لشخص بأن يؤمن: كان له ذلك، وإلا فإن الله تعالى (يجعل الرجس على الذين لا يعقلون). هذا يعني ان الإيمان معطى ضخم يهبه الله تعالى لمن يملك استعداداً لأن يؤجّل شهواته ويتعقل مبادئ الخير، وأما عدا ذلك فإن الناس (رجس) (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)... فالملاحظ هنا، ان النص القرآني الكريم: استخدم عنصر الصورة الفنية لبلورة هذه الحقيقة، وهو (الرمز) ونعني به عبارة (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) فالرجس هنا (رمز) فني يشير إلى القذارة والوساخة ونحوها من السمات المادية التي خلقها النص على البشر غير المؤمن، فأكسبه سمة نفسية هي وساخة أو قذارة القلب أو النفس حيث لا سمة أشد إيلاماً على الشخص أو أشد إهانة له من قذارة نفسه.

بعد ذلك: ربط النص بين موضوعات كان قد ربطها سابقاً مثل: إبداع الله تعالى للسماء والأرض ومثل سرده لقصص الماضين، ربط بينها وبين هؤلاء الذين خلع عليهم سمة الوساخة أو القذارة: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنُّذر عن قوم لا يؤمنون * فهل ينتظرون إلاّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا...). لقد ذكرهم النص بإبداع الله

 

______________________________________________________

الصفحة 276

 

تعالى، لكن: لا يغني ذلك عن قوم لا يتعقّلون. ثم، ذكّرهم بقصص الماضين، وهدّدهم بالمصير المماثل لمصائر أولئك البائدين... ويلاحظ أن النص: قد اعتمد صورة فنية جديدة في هذا التذكير وهي (الصورة التشبيهية) (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم)... إن أداة التشبيه (مثل) تتميز عن غيرها من أدوات التشبيه (من نحو: الكاف، كأن) بكونها ترصد أوجه الشبه بين الشيئين على نحو التطابق بينهما، أما (الكاف) و(كأن) فإنهما يتناولان نسبة محددة من أوجه الشبه، لذلك: عندما يستخدم النص الأداة (مثل) في هذا الموقع فهذا يعني (من الزاوية الفنية) ان العذاب المُلَمَّح به سوف يلحقهم بنحو (مماثل) للعذاب الذي لحق البائدين، سواء أكان هذا العذاب دنيوياً (مثل هلاك بعض المشركين في معركة بدر) أو أخروياً.

وهذا ما يرتبط بالمنحرفين.

أما ما يرتبط بالمسؤولين، ممن أذن لهم الله تعالى أن يؤمنوا وأن يبلِّغوا رسالة الإسلام فقد طالبهم النص في ختام السورة الكريمة بأن يصبروا (حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين).

وبهذا الختام يكون النص قد حدّد وظائف الطائفة المؤمنة المبلغة برسالة السماء، وطريقة تعاملها مع المنحرفين الذين رسم النص سلوكهم في تضاعيف السورة الكريمة مفصحاً بهذا عن إحكام العمارة الفنية للنص: من حيث علاقة موضوعاته: بعضها مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

 

______________________________________________________

الصفحة 277




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21333487

  • التاريخ : 28/03/2024 - 11:33

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net