00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 184 ـ 271 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بحث علمي في فصول ثلاثة)

 1 - العقائد في اكل اللحم: لا ريب أن الانسان كسائر الحيوان والنبات مجهز بجهاز التغذى يجذب به إلى نفسه من الاجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد والبلع إلا ان يمتنع منه لتضرر أو تنفر. أما التضرر فهو كأن يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية ونحوها فيمتنع عندئذ عن الاكل، أو يجد الاكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التى في الاديان والشرائع المختلفة، وهذا القسم امتناع عن الاكل فكرى. واما التنفر فهو الاستقذار الذى يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الانسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، وقد شوهد ذلك في بعض الاطفال والمجانين، ويلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، والنصارى يستطيبونه، ويتغذى الغربيون من انواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان والضفدع والفأر وغيرها، وهذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني والقريحة المكتسبة. فتبين أن الانسان في التغذى باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، وأن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه إنما هو عن فكر أو طبع ثانوى. وقد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، وهذاتفريط يقابله في جانب الافراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من افريقية وغيرها أنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الانسان. وقد كانت العرب تأكل لحوم الانعام وغيرها من الحيوان حتى أمثال القأر والوزغ، وتأكل من الانعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة

[ 184 ]

والموقوذة والمتردية والنطحية وما اكل السبع، وكان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون مما قتلتموه ولا تأكلون مما قتله الله ؟ ! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون ؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللحم واللحم إذا لم يتضرر به بدن الانسان ولو بعلاج طبى فنى فجهاز التغذى لا يفرق بين هذا وذاك ؟. وكانت العرب ايضا تأكل الدم، كانوا يملؤون المعى من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا اجدبوا جرحوا ابلهم بالنصال وشربوا ما ينزل من الدم، واكل الدم رائج اليوم بين كثير من الامم غير المسلمة. وأهل الصين من الوثنية اوسع منهم سنة، فهم - على ما ينقل - يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب والهر، وحتى الديدان والاصداف وسائر الحشرات. وقد اخذ الاسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من الانسان، ثم فسره في ذوات الاربع بالبهائم كالضأن والمعز والبقر والابل على كراهية في بعضها كالفرس والحمار، وفى الطير - بغير الجوارح - مما له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، وفى حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه. ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذك بالاهلال به لله عز اسمه، والغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة، وهى اقبال الانسان على أصل أكل اللحم، ويحترم الفكر الصحيح والطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، وتجويز ما يستقذر ويتنفر منه. 2 - كيف أمر بقتل الحيوان والرحمة تاباه ؟ ربما يسأل السائل فيقول: ان الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الانسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب الذات التى تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه والفرار من ألم العذاب والموت تستدعى الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لانه يؤلمهم ما يؤلمنا، ويشق عليهم ما يشق علينا، والنفوس سواء. وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، ونحرمهم نعمة البقاء التى هي أشرف نعمة ؟ والله سبحانه أرحم الراحمين، فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان وهما جميعا في أنهما خلقه سواء ؟.

[ 185 ]

والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية. توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التى تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شئ إلا وفى إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الاخر إليه بغير واسطة أو بواسطة لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفنى ذاك، فعالم المادة عالم التبديل، والتبدل، وإن شئت فقل: عالم الاكل والمأكول. فالمركبات الارضية تأكل الارض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الارض تأكلها وتفنيها. ثم النبات يتغذى بالارض ويستنشق الهواء ثم الارض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الاصلية وعناصره الاولية، ولا يزال أحدهما يراجع الاخر. ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذى الذى يخصها إلا ذلك، وهى تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهى تتغذى بدم الانسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم الارض تأكل الجميع. فنظام التكوين وناموس الخلقة الذى له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذى وضع حكم التغذى باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذى سوى الانسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا. وفى مقدم جهازه الغذائى أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن، فلا هو مثل الغنم والبقر من الانعام لا تستطيع قطعا ونهشا، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحنا ومضغا. ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التى تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمر الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، وإباحة العمل المهدى إليه بتسليم أحدهما وإنكار الاخر ؟.

[ 186 ]

والاسلام دين فطرى لا هم له إلا احياء آثار الفطرة التى أعفتها الجهالة الانسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدى إليه الخلقة وتقضى به الفطرة. وهو كما يحيى بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيى أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذى أعنى حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوى من اللحوم، وحكم الاحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة، وهذان الحكمان أيضا ينتهى أصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الاسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الانساني، مثل ما أهل به لغير الله، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالازلام ونحو ذلك، وحرم الخبائث التى تستقذرها الطباع. وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الانسان وكثير مما إعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الامور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الالام والاسقام والمصائب وأنواع العذاب. ثم الرحمة الانسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الاطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازى مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان، وفيه هلاك الارض ومن عليها. ومع ذلك لم يهمل الاسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، ونهى عن زجر الحيوان في القتل، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه قبل زهاق روحه - ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة - ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه ووضع للتذكية أرفق الاحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه، ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه. ومع ذلك كله الاسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الاحكام المصلحة لنظام المجتمع الانساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، ومرجع ذلك

[ 187 ]

إلى اتباع حكم العقل. وأما حديث الرحمة الالهية وأنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعورى الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى وبالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التى فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات. فتبين من جميع ما مر أن الاسلام يحاكى في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التى قيد بها الاباحة والشرائط التى اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم !. 3 - لما ذا بنى الاسلام على التذكية ؟ وهذا سؤال آخر يتفرع على السؤال المتقدم، وهو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة ونحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيؤه الموت العارض حتف الانف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، وحكم الرحمة بالامساك عن تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح ؟. وقد تبين الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتباع بل اتباعه يفضى إلى إبطال أحكام الحقائق. وقد عرفت أن الاسلام مع ذلك لم يأل جهدا في الامر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة بين النوع. على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذى به إلا فساد المزاج ومضار الابدان هو بنفسه خلاف الرحمه، وبعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه.

[ 188 ]

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت آية " يا أيها الذين آمنوا " إلا وعلى شريفها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان وما ذكر عليا إلا بخير. أقول: وروى في تفسير البرهان عن موفق بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله إلى قوله: وأميرها. ورواه أيضا العياشي عن عكرم،. وقد نقلنا الحديث سابقا عن الدر المنثور. وفى بعض الروايات عن الرضا عليه السلام قال: ليس في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " إلا في حقنا. وهو من الجرى أو من باطن التنزيل. وفيه: عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " قال العهود. اقول: ورواه القمى أيضا في تفسيره عنه. وفي التهذيب مسندا عن محمد بن مسلم قال: سألت أحدهما عليهما السلام عن قول الله عز وجل: " أحلت لكم بهيمة الانعام " فقال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه الذى عنى الله تعالى. اقول: والحديث مروى في الكافي والفقيه عنه عن أحدهما، وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أحدهما، وعن زرارة عن الصادق عليه السلام، ورواه القمى في تفسيره، ورواه في المجمع عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. وفي تفسير القمى: في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " (الاية) الشعائر: الاحرام والطواف والصلاة في مقام إبراهيم والسعى بين الصفا والمروة، والمناسك كلها من شعائر الله، ومن الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حج ثم أشعرها أي قطع سنامها أو جلدها أو قلدها ليعلم الناس أنها هدى فلا يتعرض لها أحد. وإنما سميت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، وقوله: " ولا الشهر الحرام " وهو ذو الحجة وهو من الاشهر الحرم، وقوله: " ولا الهدى " وهو الذى يسوقه إذا أحرم المحرم، وقوله: " ولا القلائد " قال:

[ 189 ]

يقلدها النعل التى قد صلى فيها. قوله: " ولا آمين البيت الحرام " قال: الذين يحجون البيت وفي المجمع قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: نزلت هذه الاية في رجل من بنى ربيعة يقال له: الحطم. قال: وقال السدى: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده وخلف خيله المدينة فقال: إلى ما تدعو - ؟ وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لاصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من بنى ربيع، يتكلم بلسان شيطان - فلما أجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنظرني لعلى أسلم ولى من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:

قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعى إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم * باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم * خدلج الساقين ممسوح القدم

ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه فنزلت هذه الاية: ولا آمين البيت الحرام ". قال: وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم فأنزل الله تعالى الاية. اقول: روى الطبري القصة عن السدى وعكرمة والقصة الثانية عن ابن زيد وروى في الدر المنثور القصة الثانية عن ابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم وفيه: أنه كان يوم الحديبية. والقصتان جميعا لا توافقان ما هو كالمتسلم عليه عند المفسرين وأهل النقل أن سورة المائدة نزلت في حجة الوداع، إذ لو كان كذلك كان قوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (البراءة: 28)، وقوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (البراءة: 5) الايتان جميعا نازلتين قبل قوله: " ولا آمين البيت الحرام " ولا محل حينئذ للنهى عن التعرض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام. ولعل شيئا من هاتين القصتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عباس ومجاهد

[ 190 ]

وقتادة والضحاك: ان قوله: " ولا آمين البيت الحرام " منسوب بقوله: " واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (الاية)، وقوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام " (الاية) وقد وقع حديث النسخ في تفسير القمى، وظاهره انه رواية. ومع ذلك كله تأخر سورة المائدة نزولا يدفع ذلك كله، وقد ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهما السلام: أنها ناسخة غير منسوخة على أن قوله تعالى فيها: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) يأبى أن يطرء على بعض آيها نسخ وعلى هذا يكون مفاد قوله: " ولا آمين البيت الحرام " كالمفسر بقوله بعد: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرض لقاصديه لتعرض منهم لكم قبل هذا، ولا غير هؤلاء ممن صدوكم قبلا عن المسجد الحرام ان تعتدوا عليهم بإثم كالقتل، أو عدوان كالذى دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البر والتقوى. وفي الدر المنثور: اخرج احمد وعبد بن حميد في هذه الاية يعنى قوله: " وتعاونوا على البر " (الاية) والبخاري في تاريخه عن وابصة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا لا اريد أن ادع شيئا من البر والاثم إلا سألته عنه فقال لى: يا وابصة اخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأ ؟ قلت يا رسول الله اخبرني قال: جئت لتسأل عن البر والاثم، ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قبلك استفت نفسك البرما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والاثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبى أمامة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه. قال: فما الايمان ؟ قال: من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن. وفيه: أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاري في الادب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والاثم فقال: البر حسن الخلق والاثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس. اقول: الروايات - كما ترى - تبتنى على قوله تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " (الشمس: 8) وتؤيد ما تقدم من معنى الاثم.

[ 191 ]

وفى المجمع: واختلف في هذا (يعنى قوله: " ولا آمين البيت الحرام) فقيل: منسوخ بقوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " عن أكثر المفسرين، وقيل ما نسخ من هذه السورة شئ، ولا من هذه الاية، لانه لا يجوز أن يبتدء المشركون في الاشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا. ثم قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام. وفي الفقيه: بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبى جعفر محمد بن على الباقر صلوات الله عليهما أنه قال: الميتة والدم ولحم الخنزير معروف، وما أهل لغير الله به يعنى ما ذبح على الاصنام، وأما المنخنقة فإن المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة، وكانوا يخنقون البقر والغنم فإذا خنقت وماتت أكلوها، والموقوذة كانوا يشدون أرجلها ويضربونها حتى تموت فإذا ماتت أكلوها والمتردية كانوا يشدون عينها ويلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها، والنطيحة كانوا يتناطحون بالكباش - فإذا مات أحدهما أكلوه، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب والاسد والدب فحرم الله عز وجل ذلك، وما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، وقريش كانوا يعبدون الشجر والصخر فيذبحون لهما، وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق قال: كانوا يعمدون إلى جزور فيجتزون عشرة أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل والسهام عشرة، وهى: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها. فالتى لها أنصباء الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلى، فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم. والتى لا أنصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد، وثمن الجزور على من لم يخرج له من الانصباء شئ وهو القمار فحرمه الله. اقول: وما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة والموقوذة والمتردية من قبيل البيان بالمثال كما يظهر من الرواية التالية وكذا ذكر قوله: " إلا ما ذكيتم " مع قوله: " وما أكل السبع " وقوله: " ذالكم فسق " مع قوله: " وأن تستقسموا بالازلام " لا دلالة فيه على التقييد. وفي تفسير العياشي: عن عيوق بن قسوط عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله:

[ 192 ]

" المنخنقة " قال: التى تنخنق في رباطها " والموقوذة " المريضة التى لا تجد ألم الذبح ولا تضطرب ولا تخرج لها دم " والمتردية " التى تردى من فوق بيت أو نحوه " والنطيحة " التى تنطح صاحبها. وفيه عن الحسن بن على الوشاء عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: المتردية والنطيحة وما أكل السبع إن أدركت ذكاته فكله. وفيه: عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال: قلت لابي عبد الله عليه السلاام: جعلت فداك لم حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير ؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه - تبارك وتعالى - فيما حرم عليهم، ولا زهد فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق، وعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله وأباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فناههم عنه وحرمه عليهم ثم أباحه للمضطر وأحله لهم في الوقت الذى لا يقوم بدنه إلا به فأمره ان ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك. ثم قال: أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد ولا يأكلها إلا ضعف بدنه، ونحل جسمه، ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة. وأما الدم فإنه يورث الكلب، وقسوة القلب، وقلة الرأفة والرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من صحبه. وأما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوما في صورة شتى شبه الخنزير والقرد والدب وما كان من الامساخ ثم نهى عن أكل مثله لكى لا ينقع بها ولا يستخف بعقوبته. وأما الخمر فإنه حرمها لفعلها وفسادها، وقال: إن مدمن الخمر كعابد وثن ويورثه ارتعاشا ويذهب بنوره، ونهدم مروته، ويحمله على أن يكسب على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمه وهو لا يعقل ذلك، والخمر لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر.

(بحث روائي آخر)

 في غاية المرام: عن أبى المؤيد موفق بن احمد في كتاب فضائل على، قال: أخبرني

[ 193 ]

سيد الحفاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمى فيما كتب إلى من همدان، أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا الحسين بن عليل الغنوى، حدثنا محمد بن عبد الرحمان الزراع، حدثنا قيس بن حفص، حدثنا على بن الحسين، حدثنا أبو هريرة عن ابى سعيد الخدرى: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم، وذلك يوم الخميس يوم دعا الناس إلى على وأخذ بضبعه ثم رفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الاية: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتى والولاية لعلى، ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. وقال حسان بن ثابت: أتأذن لى يا رسول الله أن أقول أبياتا ؟ قال: قل ينزله الله تعالى، فقال حسان بن ثابت:

يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالنبي مناديا

بأنى مولاكم نعم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا * ولا تجدن في الخلق للامر عاصيا

فقال له قم يا على فإننى * رضيتك من بعدى إماما وهاديا

وعن كتاب نزول القرآن في أمير المؤمنين على بن أبيطالب للحافظ أبى نعيم رفعه إلى قيس بن الربيع، عن أبى هارون العبدى، عن أبى سعيد الخدرى مثله، وقال في آخر الابيات:

فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذى عادى عليا معاديا

وعن نزول القرآن أيضا يرفعه إلى على بن عامر عن أبى الحجاف عن الاعمش عن عضة قال: نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في على بن ابى طالب: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " وقد قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم

[ 194 ]

نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ". وعن إبراهيم بن محمد الحموينى قال: أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب على بن الحسين بن عثمان بن عبد الله الخازن، قال: أنبأنا الامام برهان الدين ناصر بن ابى المكارم المطرزى إجازة، قال: أنبأنا الامام اخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن احمد المكى الخوارزمي، قال: أنبأني سيد الحفاظ في ما كتب إلى من همدان، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، نبأنا الحسن بن عقيل الغنوى، نبأنا محمد بن عبد الله الزراع، نبأنا قيس بن حفص قال: حدثنى على بن الحسين العبدى عن ابى هارون العبدى عن ابى سعيد الخدرى، وذكر مثل الحديث الاول. وعن الحموينى أيضا عن سيد الحفاظ وأبو منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمى، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ الحافظ عن أحمد بن عبد الله بن احمد، قال: نبأنا محمد بن احمد بن على، قال: نبأنا محمد بن عثمان بن أبى شيبة، قال: نبأنا يحيى الحمانى، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبى هارون العبدى عن أبى سعيد الخدرى، وذكر مثل الحديث الاول. قال: قال الحموينى عقيب هذا الحديث: هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبى سعيد سعد بن مالك الخدرى الانصاري. وعن المناقب الفاخرة للسيد الرضى - رحمه الله - عن محمد بن إسحاق، عن أبى جعفر، عن أبيه عن جده قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع نزل أرضا يقال له: ضوجان، فنزلت هذه الاية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " فلما نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، وقال: من أولى منكم بأنفسكم: فضجوا بأجمعهم فقالوا: الله ورسوله فأخذ بيد على بن أبى طالب، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره واخذل من خذله لانه منى وأنا منه، وهو منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى. وكانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على أمة محمد ثم أنزل الله تعالى على نبيه: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".

[ 195 ]

قال أبو جعفر: فقبلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ما امرهم الله من الفرائض في الصلاة والصوم والزكاة والحج، وصدقوه على ذلك. قال ابن إسحاق: قلت لابي جعفر: ما كان ذلك ؟ قال: لتسع (1) عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة عشرة عند منصرفه من حجة الوداع، وكان بين ذلك وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة يوم وكان سمع (2) رسول الله بغدير خم اثنا عشر. وعن المناقب لابن المغازلى يرفعه إلى ابى هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذى الحجة كتب الله له صيامه ستين شهرا، وهو يوم غدير خم، بها اخذ النبي بيعة على ابن ابى طالب، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن ابى طالب اصبحت مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فأنزل الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت ". وعن المناقب لابن مردويه وكتاب سرقات الشعر للمرزباني عن ابى سعيد الخدرى مثل ما تقدم عن الخطيب. اقول: وروى الحديثين في الدر المنثور عن أبى سعيد وابى هريرة ووصف سنديهما بالضعف. وقد روى بطرق كثيرة تنتهى من الصحابة (لو دقق فيها) إلى عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب ومعاوية وسمرة: ان الاية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع وكان يوم الجمعة، والمعتمد منها ما روى عن عمر فقد رواه عن الحميدى وعبد بن حميد واحمد البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في سننه عن طارق بن شهاب عن عمر، وعن ابن راهويه في مسنده وعبد بن حميد عن ابى العالية عن عمر، وعن ابن جرير عن قبيصة بن ابى ذؤيب عن عمر، وعن البزاز عن ابن عباس، والظاهر أنه يروى عن عمر. ثم اقول: أما ما ذكره من ضعف سندى الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئا فقد أوضحنا في البيان المتقدم أن مفاد الاية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات

______________________________

(1) سبع في نسخة البرهان. (2) سمى رسول الله بغدير خم اثنا عشر رجلا. نسخة البرهان. (*)

[ 196 ]

والمعاني المذكورة فيها، فهاتان الروايتان وما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع الروايات فهى المتعينة للاخذ. على أن هذه الاحاديث الدالة على نزول الاية في مسألة الولاية وهى تزيد على عشرين حديثا من طرق أهل السنة والشيعة - مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك " الاية (المائدة: 67) وهى تربو على خمسة عشر حديثا رواها الفريقان، والجميع مرتبط بحديث الغدير: " من كنت مولاه فعلى مولاه " وهو حديث متواتر مروى عن جم غفير من الصحابة، اعترف بتواتره جمع كثير من علماء الفريقين. ومن المتفق عليه أن ذلك كان في منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة. وهذه الولاية (لو لم تحمل على الهزل والتهكم) فريضة من الفرائض كالتولي والتبرى اللذين نص عليهما القرآن في آيات كثيرة، وإذا كان كذلك لم يجز أن يتأخر جعلها نزول الاية أعنى قوله: " اليوم أكملت " فالاية إنما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه، ولا اعتماد على ما ينافى ذلك من الروايات لو كانت منافية. وأما ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغى أن يقال فيها غير أن ههنا أمرا يجب التنبه له، و هو أن التدبر في الايتين الكريمتين: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " (الاية) على ما سيجئ من بيان معناه، وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) والاحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما وروايات الغدير المتواترة، وكذا دراسة أوضاع المجتمع الاسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتقى الناس في إظهاره ويخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يسيؤوا القصد إليه فيختل أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله: " يا أيها الرسول بلغ " (الاية) فلم يمهل في ذلك. وعلى هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة وفيه قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) وينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة فأخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان الولاية إلى غدير خم، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة، وأما اشتمال بعض الروايات على

[ 197 ]

نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم الاية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في شأنها. وعلى هذا فلا تنافى بين الروايات أعنى ما دل على نزول الاية في امر الولاية، وما دل على نزولها يوم عرفة كما روى عن عمر وعلى ومعاوية وسمرة، فإن التنافى إنما كان يتحقق لو دل أحد القبيلين على النزول يوم غدير خم، والاخر على النزول على يوم عرفة. واما ما في القبيل الثاني من الروايات أن الاية تدل على كمال الدين بالحج وما أشبهه فهو من فهم الراوى لا ينطبق به الكتاب ولا بيان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد عليه. وربما استفيد هذا الذى ذكرناه مما رواه العياشي في تفسيره عن جعفر بن محمد بن محمد الخزاعى عن ابيه قال: سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل فقال له: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: قل لامتك: اليوم أكملت دينكم بولاية على بن ابى طالب واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد انزلت عليكم الصلاة والزكا، والصوم والحج، وهى الخامسة، ولست اقبل عليكم بعد هذه الاربعة إلا بها. على ان فيما نقل عن عمر من نزول الاية يوم عرفة إشكالا آخر، وهو أنها جميعا تذكر ان بعض اهل الكتاب - وفى بعضها انه كعب - قال لعمر: إن في القرآن آية لو نزلت مثلها علينا معشر اليهود لاتخذنا اليوم الذى نزلت فيه عيدا، وهى قوله: " اليوم اكملت لكم دينكم " (الاية) فقال له عمر: والله انى لاعلم اليوم وهو يوم عرفة من حجة الوداع. ولفظ ما رواه ابن راهويه وعبد بن حميد عن أبى العالية هكذا: قال كانوا عند عمر فذكروا هذه الاية، فقال رجل من اهل الكتاب: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الاية لاتخذناه عيدا، فقال عمر الحمد لله الذى جعله لنا عيدا واليوم الثاني، نزلت يوم عرفة و اليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الامر فعلمنا أن الامر بعد ذلك في انتقاص. وما يتضمنه آخر الرواية مروى بشكل آخر ففى الدر المنثور: عن ابن ابى شيبة و ابن جرير عن عنترة قال: لما نزلت " اليوم اكملت لكم دينكم " وذلك يوم الحج الاكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يبكيك ؟ قال: ابكانى أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شئ قط إلا نقص، فقال: صدقت.

[ 198 ]

ونظيره الرواية بوجه رواية أخرى رواها أيضا في الدر المنثور عن أحمد عن علقمة ابن عبد الله المزني قال: حدثنى رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطاب فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الاسلام ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الاسلام بدئ جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا. قال عمر: فما بعد البزول إلا النقصان. فهذه الروايات - كما ترى - تروم بيان أن معنى نزول الاية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين واستقلاله بمكة في الموسم، وتفسير إكمال الدين وإتمام النعمة بصفاء جو مكة ومحوضة الامر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ هناك إلا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم ويتحذروا منهم. وبعبارة أخرى المراد بكمال الدين وتمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن يختلط بهم أعداؤهم أو يكلفوا بالتحذر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عند الله من المعارف والاحكام، وكذا المراد بالاسلام ظاهر الاسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل. وإن شئت فقل: المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، وكذا في الاسلام، فان هذا المعنى هو الذى يقبل الانتقاص بعد الازدياد. وأما كليات المعارف والاحكام المشرعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الازدياد الذى يشير إليه قوله في الرواية: " إنه لم يكمل شئ قط إلا نقص " فإن ذلك سنة كونية تجرى أيضا في التاريخ والاجتماع بتبع الكون، وأما الدين فإنه غير محكوم بأمثال هذه السنن والنواميس إلا عند من قال: إن الدين سنة اجتماعية متطورة متغيرة كسائر السنن الاجتماعية. إذا عرفت ذلك علمت أنه يرد عليه أولا: أن ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق عليه قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " وقد مر بيانه. وثانيا: أنه كيف يمكن ان يعد الله سبحانه الدين بصورته التى كان يترائى عليها كاملا وينسبه إلى نفسه امتنانا بمجرد خلو الارض من ظاهر المشركين، وكون المجتمع على ظاهر الاسلام فارغا من أعدائهم المشركين، وفيهم من هو أشد من المشركين إضرارا وإفسادا، وهم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية والتسرب في داخل المسلمين، وإفساد الحال، وتقليب الامور، والدس في الدين، وإلقاء الشبه، فقد كان لهم نبأ عظيم

[ 199 ]

تعرض لذلك آيات جمة من القرآن كسورة المنافقين وما في سور البقرة والنساء والمائدة والانفال والبراءة والاحزاب وغيرها. فليت شعرى أين صار جمعهم ؟ وكيف خمدت أنفاسهم ؟ وعلى أي طريق بطل كيدهم وزهق باطلهم ؟ وكيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم، وإتمام ظاهر النعمة عليهم، والرضا بظاهر الاسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من المسلمين، والمنافقون أعدى منهم وأعظم خطرا وأمر أثرا ! وتصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيه فيهم: " هم العدو فاحذرهم " (المنافقون: 4). وكيف يمتن الله سبحانه ويصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه، أو يذكر نعمه بالتمام وهى مشوبة بالنقمة، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه ! وقد قال تعالى: " وما كنت متخذ المضلين عضدا " (الكهف: 51). وقال في المنافقين: - ولم يرد إلا دينهم - " فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (البراءة: 96). والاية بعد هذا كله مطلقة لم تقيد شيئا من الاكمال والاتمام والرضا ولا الدين والاسلام والنعمة بجهة دون جهة. فإن قلت: الاية - كما تقدمت الاشارة إليه - إنجاز للوعد الذى يشتمل عليه قوله تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بى شيئا " الاية (النور: 55). فالاية كما ترى - تعدهم بتمكين دينهم المرضى لهم، ويحاذى ذلك من هذه الاية قوله: " أكملت لكم دينكم " وقوله: " ورضيت لكم الاسلام دينا " فالمراد بإكمال دينهم المرضى تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين، وأما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة، وهذا هو المعنى الذى تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة، ويذكر القوم ان المراد به تخليص الاعمال الدينية والعاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين. قلت: كون آية: " اليوم أكملت "، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله: " وعد الله الذين آمنوا " (الاية) وكذا كون قوله في هذه الاية: (أكملت لكم دينكم) محاذيا لقوله: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) في تلك الاية ومفيدا معناه كل ذلك لا ريب فيه. إلا أن آية سورة النور تبدء بقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات)

[ 200 ]

وهم طائفة خاصة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها، وما في مرتبة أعمالهم من الدين يحاذي وينطبق على ما عند الله سبحانه من الدين المشرع، فتمكين دينهم المرضى لله سبحانه لهم إكمال ما في علم الله وإرادته من الدين المرضى بإفراغه في قالب التشريع، و جمع اجزائه عندهم بالانزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الذين كفروا من دينهم. و هذا ما ذكرناه: أن معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرعة بعد نزول الاية لا تخليص أعمالهم وخاصة حجهم من اعمال المشركين وحجهم، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. وبعبارة أخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الازدياد. وفي تفسير القمى قال: حدثنى ابى، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: آخر فريضة أنزلها الولاية ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم أنزل: (اليوم أكملت لكم دينكم) بكراع الغميم، فأقامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجحفة فلم ينزل بعدها فريضة. اقول: وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع عن الامامين: الباقر والصادق عليهما السلام ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن الباقر عليه السلام. وفي أمالى الشيخ بإسناده، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبى عبد الله عليه السلام، عن علي أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: بناء الاسلام على خمس خصال: على الشهادتين، والقرينتين. قيل له: أما الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان ؟ قال: الصلاة والزكاة فإنه لا تقبل إحداهما إلا بالاخرى، والصيام وحج بيت الله من استطاع إليه سبيلا، وختم ذلك بالولاية فأنزل الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا). وفي روضة الواعظين للفتال، ابن الفارسى عن أبى جعفر عليه السلام وذكر قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحج ثم نصبه عليا للولاية عند منصرفه إلى المدينة ونزول الاية، وفيه خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغدير وهى خطبة طويلة جدا. اقول: روى مثله الطبرسي في الاحتجاج بإسناد متصل عن الحضرمي عن أبى جعفر الباقر عليه السلام، وروى نزول الاية في الولاية أيضا الكليني في الكافي والصدوق في العيون

[ 201 ]

جميعا مسندا عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا عليه السلام، وروى نزولها فيها أيضا الشيخ في أماليه بإسناده عن ابن أبى عمير عن المفضل بن عمر عن الصادق عن جده أمير المؤمنين عليه السلام، وروى ذلك أيضا الطبرسي في المجمع بإسناده عن أبى هارون العبدى عن أبى سعيد الخدرى، وروى ذلك الشيخ في أماليه بإسناده عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري عن الصادق عن آبائه عن الحسن بن على عليهم السلام وقد تركنا إيراد الروايات على طولها إيثارا للاختصار فمن أرادها فليراجع محالها والله الهادى. يسئلونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب - 4. أليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين - 5.

(بيان)

قوله تعالى: " يسألونك ماذا أحل لهم أحل لكم الطيبات " سؤال مطلق أوجب عنه بجواب عام مطلق فيه إعطاء الضابط الكلى الذى يميز الحلال من الحرام، وهو أن يكون ما يقصد التصرف فيه بما يعهد في مثله من التصرفات أمرا طيبا، وإطلاق الطيب أيضا من غير تقييده بشئ يوجب أن يكون المعتبر في تشخيص طيبه استطابة الافهام

[ 202 ]

المتعارفة ذلك فما يستطاب عند الافهام العادية فهو طيب، وجميع ما هو طيب حلال. وإنما نزلنا الحلية والطيب على المتعارف المعهود لمكان أن الاطلاق لا يشمل غيره على ما بين في فن الاصول. قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) قيل: إن الكلام معطوف على موضع الطيبات أي وأحل لكم ما علمتم من الجوارح أي صيد ما علمتم من الجوارح، فالكلام بتقدير مضاف محذوف اختصارا لدلالة السياق عليه. والظاهر أن الجملة معطوفة على موضع الجملة الاولى. و " ما " في قوله: " وما علمتم " شرطية وجزاؤها قوله: " فكلوا مما أمسكن عليكم " من غير حاجة إلى تكلف التقدير. والجوارح جمع جارحة وهى التى تكسب الصيد من الطير والسباع كالصقر والبازى والكلاب والفهود، وقوله: " مكلبين " حال، وأصل التكليب تعليم الكلاب وتربيتها للصيد أو اتخاذ كلاب الصيد وإرسالها لذلك، وتقييد الجملة بالتكليب لا يخلو من دلالة على كون الحكم مختصا بكلب الصيد لا يعدوه إلى غيره من الجوارح. وقوله: " مما أمسكن عليكم " التقييد بالظرف للدلالة على أن الحل محدود بصورة صيدها لصاحبها لا لنفسها. وقوله: " واذكروا اسم الله عليه " تتميم لشرائط الحل وأن يكون الصيد مع كونه مصطادا بالجوارح ومن طريق التكليب والامساك على الصائد مذكورا عليه اسم الله تعالى. ومحصل المعنى أن الجوارح المعلمة بالتكليب - أي كلاب الصيد - إذا كانت معلمة واصطادت لكم شيئا من الوحش الذى يحل أكله بالتذكية وقد سميتم عليه فكلوا منه إذا قتلته دون أن تصلوا إليه فذلك تذكية له، وأما دون القتل فالتذكية بالذبح والاهلال به لله يغنى عن هذا الحكم. ثم ذيل الكلام بقوله: " واتقوا الله إن الله سريع الحساب " إشعارا بلزوم اتقاء الله فيه حتى لا يكون الاصطياد إسرافا في القتل، ولا عن تله وتجبر كما في صيد اللهو ونحوه فإن الله سريع الحساب يجازى سيئة الظلم والعدوان في الدنيا قبل الاخرة ولا

[ 203 ]

يسلك أمثال هذه المظالم والعدوانات بالاغتيال والفك بالحيوان العجم إلا إلى عاقبة سوآى على ما شاهدنا كثيرا. قوله تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " إعادة ذكر حل الطيبات مع ذكره في الاية السابقة، وتصديره بقوله: " اليوم " للدلالة على الامتنان منه تعالى على المؤمنين بإحلال طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم للمؤمنين. وكأن ضم قوله: " أحل لكم الطيبات " إلى قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب " (الخ) من قبيل ضم المقطوع به إلى المشكوك فيه لايجاد الطمأنينة في نفس المخاطب وإزالة ما فيه من القلق والاضطراب كقول السيد لخادمه: لك جميع ما ملكتكه وزيادة هي كذا وكذا فإنه إذا ارتاب في تحقق ما يعده سيده من الاعطاء شفع ما يشك فيه بما يقطع به ليزول عن نفسه أذى الريب إلى راحة العلم، ومن هذا الباب بوجه قوله تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " (يونس: 26) وقوله تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " (ق: 35). فكان نفوس المؤمنين لا تسكن عن اضطراب الريب في أمر حل طعام أهل الكتاب لهم بعد ما كانوا يشاهدون التشديد التام في معاشرتهم ومخالطتهم ومساسهم وولايتهم حتى ضم إلى حديث حل طعامهم أمر حل الطيبات بقول مطلق، ففهموا منه أن طعامهم من سنخ سائر الطيبات المحللة فسكن بذلك طيش نفوسهم، واطمأنت قلوبهم وكذلك القول في قوله: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم. وأما قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " فالظاهر أنه كلام واحد ذو مفاد واحد، إذ من المعلوم أن قوله: " وطعامكم حل لهم " ليس في مقام تشريع حكم الحل لاهل الكتاب وتوجيه التكليف إليهم وإن قلنا بكون الكفار مكلفين بالفروع الدينية كالاصول، فإنهم غير مؤمنين بالله ورسوله وبما جاء به رسوله ولا هم يسمعون ولا هم يقبلون، وليس من دأب القرآن أن يوجه خطابا أو يذكر حكما إذا استظهر من المقام أن الخطاب معه يكون لغوا والتكليم معه يذهب سدى. اللهم إلا إذا أصلح ذلك بشئ من فنون التكليم كالالتفات من خطاب الناس إلى خطاب النبي ونحو ذلك

[ 204 ]

كقوله: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " (آل عمران: 64) وقوله: " قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا " (أسرى: 93) إلى غير ذلك من الايات. وبالجملة ليس المراد بقوله: " وطعام الذين "، بيان حل طعام أهل الكتاب للمسلمين حكما مستقلا وحل طعام المسلمين لاهل الكتاب حكما مستقلا آخر، بل بيان حكم واحد وهو ثبوت الحل وارتفاع الحرمة عن الطعام، فلا منع في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين نظير قوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " (الممتحنة: 10) أي لا حل في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين. ثم إن الطعام بحسب أصل اللغة كل ما يقتات به ويطعم لكن قيل: إن المراد به البر وسائر الحبوب ففى لسان العرب: وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة: قال: وقال الخليل: العالي في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة، انتهى. وهو الذى يظهر من كلام ابن الاثير في النهاية ولهذا ورد في أكثر الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أن المراد بالطعام في الاية هو البر وسائر الحبوب إلا ما في بعض الروايات مما يظهر به معنى آخر وسيجئ الكلام فيه في البحث الروائي الاتى. وعلى أي حال لا يشمل هذا الحل ما لا يقبل التذكية من طعامهم كلحم الخنزير، أو يقبلها من ذبائحهم لكنهم لم يذكوها كالذى لم يهل به لله، ولم يذك تذكية إسلامية فإن الله سبحانه عد هذه المحرمات المذكورة في آيات التحريم - وهى الاى الاربع التى في سور البقرة والمائدة والانعام والنحل - رجسا وفسقا وإثما كما بيناه فيما مر، و حاشاه سبحانه أن يحل ما سماه رجسا أو فسقا أو إثما امتنانا بمثل قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات ". على أن هذه المحرمات بعينها واقعة قبيل هذه الاية في نفس السورة وليس لاحد أن يقول في مثل المورد بالنسخ وهو ظاهر، وخاصة في مثل سورة المائدة التى ورد فيها أنها ناسخة غير منسوخة. قوله تعالى: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "، الاتيان في متعلق الحكم بالوصف أعنى ما في قوله: " الذين أوتوا الكتاب " من غير أن يقال: من اليهود والنصارى مثلا أو يقال: من أهل الكتاب، لا يخلو من إشعار بالعلية

[ 205 ]

واللسان لسان الامتنان، والمقام مقام التخفيف والتسهيل، فالمعنى: إنا نمتن عليكم بالتخفيف والتسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم والمحصنات من نساء أهل الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة، وهم أوتوا الكتاب وأذعنوا بالتوحيد والرسالة بخلاف المشركين والوثنيين المنكرين للنبوة، ويشعر بما ذكرنا أيضا تقييد قوله: " أوتوا الكتاب " بقوله: " من قبلكم " فإن فيه إشعارا واضحا بالخطط والمزج والتشريك. وكيف كان لما كانت الاية واقعة موقع الامتنان والتخفيف لم تقبل النسخ بمثل قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (البقرة: 221) وقوله تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " (الممتحنة: 10) وهو ظاهر. على أن الاية الاولى واقعة في سورة البقرة، وهى أول سورة مفصلة نزلت بالمدينة قبل المائدة: وكذا الاية الثانية واقعة في سورة الممتحنة وقد نزلت بالمدينة قبل الفتح، فهى أيضا قبل المائدة نزولا، ولا وجه لنسخ السابق للاحق مضافا إلى ما ورد: أن المائدة آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسخت ما قبلها، ولم ينسخها شئ. على أنك قد عرفت في الكلام على قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " الاية (البقرة: 221) في الجزء الثاني من الكتاب أن الايتين أعنى آية البقرة وآية الممتحنة أجنبيتان من الدلالة على حرمة نكاح الكتابية. ولو قيل بدلالة آية الممتحنة بوجه على التحريم كما يدل على سبق المنع الشرعي ورود آية المائدة في مقام الامتنان والتخفيف - ولا امتنان ولا تخفيف لو لم يسبق منع - كانت آية المائدة هي الناسخة لاية الممتحنة لا بالعكس لان النسخ شأن المتأخر، وسيأتى في البحث الروائي كلام في الاية الثانية. ثم المراد بالمحصنات في الاية: العفائف وهو أحد معاني الاحصان، وذلك أن قوله: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، يدل على أن المراد بالمحصنات غير ذوات الازواج وهو ظاهر، ثم الجمع بين المحصنات من أهل الكتاب والمؤمنات على ما مر من توضيح معناها يقضى بأن المراد بالمحصنات في الموضعين معنى واحد، وليس هو الاحصان بمعنى الاسلام لمكان قوله: والمحصنات من الذين أوتوا

[ 206 ]

الكتاب، وليس المراد بالمحصنات الحرائر فإن الامتنان المفهوم من الاية لا يلائم تخصيص الحل بالحرائر دون الاماء، فلم يبق من معاني الاحصان إلا العفة فتعين أن المراد بالمحصنات العفائف. وبعد ذلك كله إنما تصرح الاية بتشريع حل المحصنات من أهل الكتاب للمؤمنين من غير تقييد بدوام أو انقطاع إلا ما ذكره من اشتراط الاجر وكون التمتع بنحو الاحصان لا بنحو المسافحة واتخاذ الاخدان، فينتج أن الذى أحل للمؤمنين منهن أن يكون على طريق النكاح عن مهر وأجر دون السفاح، من غير شرط آخر من نكاح دوام أو انقطاع وقد تقدم في قوله تعالى: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن " الاية (النساء: 24) في الجزء الرابع من الكتاب أن المتعة نكاح كالنكاح الدائم، وللبحث بقايا تطلب من علم الفقه. قوله تعالى: " إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان " الاية في مساق قوله تعالى في آيات محرمات النكاح: " وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين " (النساء: 24). والجملة قرينة على كون المراد بالاية بيان حلية التزوج بالمحصنات من أهل الكتاب من غير شمول منها لملك اليمين. قوله تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين " الكفر في الاصل هو الستر فتحقق مفهومه يتوقف على أمر ثابت يقع عليه الستر كما أن الحجاب لا يكون حجابا إلا إذا كان هناك محجوب فالكفر يستدعى مكفورا به ثابتا كالكفر بنعمة الله والكفر بآيات الله والكفر بالله ورسوله واليوم الاخر. فالكفر بالايمان يقتضى وجود إيمان ثابت، وليس المراد به المعنى المصدرى من الايمان بل معنى اسم المصدر وهو الاثر الحاصل والصفة الثابتة في قلب المؤمن أعنى الاعتقادات الحقة التى هي منشأ الاعمال الصالحة، فيؤل معنى الكفر بالايمان إلى ترك العمل بما يعلم أنه حق كتولي المشركين، والاختلاط بهم، والشركة في أعمالهم مع العلم بحقية الاسلام، وترك الاركان الدينية من الصلاة والزكاة والصوم والحج مع العلم بثبوتها أركانا للدين. فهذا هو المراد من الكفر بالايمان لكن ههنا نكتة وهى أن الكفر لما كان سترا وستر الامور الثابتة لا يصدق بحسب ما يسبق إلى الذهن إلا مع المداومة والمزاولة فالكفر

[ 207 ]

بالايمان إنما يصدق إذا ترك الانسان العمل بما يقتضيه إيمانه، ويتعلق به علمه، ودام عليه، وأما إذا ستر مرة أو مرتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر وإنما هو فسق أتى به. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " ومن يكفر بالايمان " هو المداومة والاستمرار عليه وإن كان عبر بالفعل دون الوصف. فتارك الاتباع لما حق عنده من الحق، وثبت عنده من أركان الدين كافر بالايمان، حابط العمل كما قال تعالى: " فقد حبط عمله ". فالاية تنطبق على قوله تعالى: " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الاخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " (الاعراف: 147) فوصفهم باتخاذ سبيل الغى وترك سبيل الرشد بعد رؤيتهما وهى العلم بهما ثم بدل ذلك بتوصيفهم بتكذيب الايات، والاية إنما تكون آية بعد العلم بدلالتها، ثم فسره بتكذيب الاخرة لما أن الاخرة لو لم تكذب منع العلم بها عن ترك الحق، ثم أخبر بحبط أعمالهم. ونظير ذلك قوله تعالى: قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " (الكهف: 105) وانطباق الايات على مورد الكفر بالايمان بالمعنى الذى تقدم بيانه ظاهر. وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر وجه اتصال الجملة أعنى قوله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " بما قبله فالجملة متممة للبيان السابق، وهى في مقام التحذير عن الخطر الذى يمكن ان يتوجه إلى المؤمنين بالتساهل في أمر الله، والاسترسال مع الكفار فإن الله سبحانه إنما أحل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم للمؤمنين ليكون ذلك تسهيلا وتخفيفا منه لهم، وذريعة إلى انتشار كلمة التقوى، وسراية الاخلاق الطاهرة الاسلامية من المسلمين المتخلقين بها إلى غير هم، فيكون داعية إلى العلم النافع، وباعثة نحو العمل الصالح. فهذا هو الغرض من التشريع لا لان يتخذ ذلك وسيلة إلى السقوط في مهابط الهوى، والاصعاد في أودية الهوسات، والاسترسال في حبهن والغرام بهن، والتوله في جمالهن، فيكن قدوة تتسلط بذلك أخلاقهن وأخلاق قومهن على األاق المسلمين، ويغلب فسادهن

[ 208 ]

على صلاحهم، ثم يكون البلوى ويرجع المؤمنون إلى أعقابهم القهقرى، ومآل ذلك عود هذه المنة الالهية فتنة ومحنة مهلكة، وصيرورة هذا التخفيف الذى هو نعمة نقمة. فحذر الله المؤمنين بعد بيان حلية طعامهم والمحصنات من نسائهم أن لا يسترسلوا في التنعم بهذه النعمة استرسالا يؤدى إلى الكفر بالايمان، وترك أركان الدين، والاعراض عن الحق فإن ذلك يوجب حبط العمل، وينجر إلى خسران السعي في الاخرة. واعلم أن للمفسرين في هذه الاية أعنى قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات " إلى آخر الاية) خوضا عظيما ردهم إلى تفاسير عجيبة لا يحتملها ظاهر اللفظ، وينافيها سياق الاية كقول بعضهم: إن قوله: " أحل لكم الطيبات " يعنى من الطعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وقول بعضهم: إن قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " أي بمقتضى الاصل الاولى لم يحرمه الله عليكم قط، وإن اللحوم من الحل وإن لم يذكوها إلا بما عندهم من التذكية، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: " وطعام الذين " هو مؤاكلتهم، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " بيان الحلية بحسب الاصل من غير أن يكون محرما قبل ذلك بل قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " (النساء: 24) كاف في إحلالهن، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " التحذير عن رد ما في صدر الاية من قضية حل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم. فهذه وأمثالها معان احتملوها، وهى بين ما لا يخلو من مجازفة وتحكم كتقييد قوله: " اليوم أحل " بما تقدم من غير دليل عليه وبين ما يدفعه ظاهر السياق من التقييد باليوم والامتنان والتخفيف وغير ذلك مما تقدم بيانه والبيان السابق الذى استظهرنا فيه باعتبار ظواهر الايات الكريمة كاف في إبطالها وإبانة وجه الفساد فيها. وأما كون آية: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " دالة على حل نكاح الكتابية فظاهر البطلان لظهور كون الاية في مقام بيان محرمات النساء ومحللاتهن بحسب طبقات النسب والسبب لا بحسب طبقات الاديان والمذاهب.

[ 209 ]

(بحث روائي)

 في الدر المنثور في قوله تعالى: " يسألونك ما ذا أحل لهم " (الاية) أخرج ابن جرير عن عكرمة: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي، فدخل عاصم بن عدى وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا: ما ذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت: " يسألونك ما ذا أحل لهم " (الاية). وفيه: أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظى قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب قالوا: يا رسول الله ما ذا أحل لنا من هذه الامة ؟ فنزلت: " يسألونك ماذا أحل لهم " (الاية). اقول: الروايتان يشرح بعضهما بعضا، فالمراد السؤال عما يحل لهم من الكلاب من حيث اتخاذها واستعمالها في مآرب مختلفة كالصيد ونحوه، وقوله تعالى: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " لا يلائم هذا المعنى لتقيدها وإطلاق الاية. على أن ظاهر الروايتين والرواية الاتية أن قوله: " وما علمتم من الجوارح معطوف على موضع الطيبات، والمعنى: وأحل لكم ما علمتم، ولذلك التزم جمع من المفسرين على تقدير ما فيه كما تقدم، وقد تقدم أن الظاهر كون قوله: " وما علمتم " شرطا جزاؤه قوله: " فكلوا مما أمسكن عليكم ". والمراد بالامة المسؤول عنها في الرواية نوع الكلاب على ما تفسره الرواية الاية. وفيه: أخرج الفاريابى وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني والحاكم - وصححه - والبيهقي في سننه عن أبى رافع قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فاخذ رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك، قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما ذا يحل لنا من هذه الامة التى أمرت بقتلها ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل

[ 210 ]

الله: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه وذكر اسم الله فأمسك عليه فليأكل ما لم يأكل. اقول: ما ذكر في الرواية من كيفية نزول جبرئيل غريب في بابه. على أن الرواية لا تخلو عن اضطراب حيث تدل على إمساك جبرائيل عن الدخول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجود جرو في بعض بيوتهم. على أنها لا تنطبق على ظاهر الاية من إطلاق السؤال والجواب، والعطف الذى في قوله: " وما علمتم من الجوارح " فالرواية أشبه بالموضوعة. وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عامر: إن عدى بن حاتم الطائى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول له حتى أنزل الله عليه هذه الاية في المائدة: " تعلمونهن مما علمكم الله ". اقول: وفي معناه غيره من الاخبار، والاشكال المتقدم آت فيه، والظاهر أن هذه الروايات وما في معناها من تطبيق الحوادث على الاية غير أنه تطبيق غير تام والظاهر أنهم ذكروا له صلى الله عليه وآله وسلم صيد الكلاب ثم سألوه عن ضابط كلى في تمييز الحلال من الحرام فذكر في الاية سؤالهم ثم أجيب بإعطاء الضابط الكلى بقوله: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ثم أجيبوا في خصوص ما تذاكروا فيه. فهذا هو الذى يفيده لحن القول في الاية. وفى الكافي: بإسناده عن حماد عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام: قال: في كتاب على عليه السلام في قوله عزوجل: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " قال: هي الكلاب. اقول: " ورواه العياشي في تفسيره عن سماعة بن مهران عنه عليه السلام. وفيه بإسناده عن ابن مسكان عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كان أبى يفتى وكان يتقى - ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور، فأما الان فإنا لا نخاف ولا يحل صيدها إلا أن تدرك ذكاته، فإنه في كتاب على عليه السلام: إن الله عز وجل قال: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " في الكلاب. وفيه: بإسناده عن أبى بكر الحضرمي عن أبى عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن

[ 211 ]

صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب قال لا تأكلوا إلا ما ذكيتم إلا الكلاب، قلت: فإن قتله ؟ قال: كل فإن الله يقول: " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم، ثم قال: كل شئ من السباع يمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب معلمة ؟ فإنها تمسك على صاحبها قال: وإذا أرسلت الكلب فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته. وفي تفسير العياشي عن أبى عبيدة عن أبى عبد الله عليه السلام عن الرجل سرح الكلب المعلم، ويسمى إذا سرحه، قال: يأكل مما أمسكن عليه وإن أدركه وقتله. وإن وجد معه كلب غير معلم فلا تأكل منه. قلت: فالصقور والعقاب والبازى ؟ قال: إن أدركت ذكاته فكل منه، وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل منه. قلت: فالفهد ليس بمنزلة الكلب ؟ قال: فقال: لا، ليس شئ مكلب إلا الكلب. وفيه: عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: " ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه " قال: لا بأس بأكل ما أمسك الكلب مما لم يأكل الكلب منه فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكله. اقول: والخصوصيات المأخوذة في الروايات كاختصاص الحل عند القتل بصيد الكلب لقوله تعالى: " مكلبين " وقوله: " مما أمسكن ليكم " واشتراط أن لا يشاركه كلب غير معلم كل ذلك مستفاد من الاية. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك. وفيه: عن حريز عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سئل عن كلب المجوس يكلبه المسلم ويسمى ويرسله قال: نعم إنه مكلب إذا ذكر اسم الله عليه فلا بأس. اقول: وفيه الاخذ باطلاق قوله " مكلبين ". وقد روى في الدر المنثور عن ابن أبى حاتم عن ابن عباس في المسلم يأخذ كلب المجوسى المعلم أو بازه أو صقره مما علمه المجوسى فيرسله فيأخذه قال: لا تأكله وإن سميت لانه من تعليم المجوسى وإنما قال: " تعلمونهن مما علمكم الله " وضعفه ظاهر، فإن الخطاب في قوله: " مما علمكم الله " وإن كان متوجها إلى المؤمنين ظاهرا إلا أن الذى علمهم الله مما يعلمونه الكلاب ليس غير ما علمه الله المجوس وغيرهم. وهذا المعنى يساعد فهم السامع أن يفهم أن لا خصوصية لتعليم المؤمن من حيث

[ 212 ]

إنه تعليم المؤمن، فلا فرق في الكلب المعلم بين أن يكون معلمه مسلما أو غير مسلم كما لا فرق من جهة الملك بين كونه مملوكا لمسلم ومملوكا لغيره. وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: وطعامهم حل لكم " قال: العدس والحبوب وأشباه ذلك يعنى أهل الكتاب. اقول: ورواه في التهذيب عنه، ولفظه: قال: العدس والحمص وغير ذلك. وفي الكافي والتهذيب في روايات عن عمار بن مروان وسماعة عن أبى عبد الله عليه السلام في طعام أهل الكتاب وما يحل منه، قال: الحبوب. وفي الكافي بإسناده عن ابن مسكان، عن قتيبة الاعشى قال: سأل رجل أبا عبد الله وأنا عنده فقال له: الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فتذبح أيؤكل ذبيحته ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا تدخل ثمنها في مالك ولا تأكلها فإنما هي الاسم ولا يؤمن عليها إلا مسلم، فقال له الرجل: قال الله تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان أبى يقول: إنما هي الحبوب وأشباهها. اقول: ورواه الشيخ في التهذيب والعياشي في تفسيره عن قتيبه الاعشى عنه عليه السلام. والاحاديث - كما ترى - تفسر طعام أهل الكتاب المحلل في الاية بالحبوب وأشباهها، وهو الذى يدل عليه لفظ الطعام عند الاطلاق كما هو ظاهر من الروايات والقصص المنقولة عن الصدر الاول، ولذلك ذهب المعظم من علمائنا إلى حصر الحل في الحبوبات وأشباهها وما يتخذ منها مما يتغذى به. وقد شدد النكير عليهم بعضهم (1) بأن ذلك مما يخالف عرف القرآن في استعمال الطعام. قال، ليس هذا هو الغالب في لغة القرآن، فقد قال الله تعالى في هذه السورة - أي المائدة - " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ولا يقول أحد: إن االطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب. وقال: " كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " ولم يقل أحد: إن الطعام هنا البر أو الحب مطلقا،

[ 213 ]

إذ لم يحرم شئ منه على بنى إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها، فالطعام في الاصل كل ما يطعم أي يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت: فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى " وقال: " فإذا طعمتم فانتشروا " أي أكلتم. وليت شعرى ما ذا فهم من قولهم: " الطعام إذا أطلق كان المراد به الحبوب وأشباهها " فلم يلبث حتى أورد عليهم بمثل قوله: " يطعمه " وقوله: " طعمتم " من مشتقات الفعل ؟ وإنما قالوا ما قالوا في لفظ الطعام، لا في الافعال المصوغة منه. وأورد بمثل: " وطعام البحر " والاضافة أجلى قرينة، فليس ينبت في البحر بر ولا شعير. وأورد بمثل: " كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل " ثم ذكر هو نفسه أن من المعلوم من دينهم أنهم لم يحرم عليهم البر أو الحب. وكان ينبغى عليه أن يراجع من القرآن موارد أطلق اللفظ فيها إطلاقا ثم يقول ما هو قائله كقوله: " فديه طعام مسكين " (البقرة: 184) وقوله: " أو كفارة طعام مساكين " (المائدة: 95) وقوله: " ويطعمون الطعام " (الانسان: 8) وقوله " فلينظر الانسان إلى طعامه " (عبس: 24) ونحو ذلك. ثم قال: وليس الحب مظنة للتحليل والتحريم، وإنما اللحم هو الذى يعرض له ذلك لوصف حسى كموت الحيوان حتف أنفه، أو معنوى كالتقرب به إلى غير الله ولذلك قال تعالى: قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " الاية (الانعام: 145) وكله يتعلق بالحيوان وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص. وكلامه هذا أعجب من سابقة: أما قوله: ليس الحب مظنة للتحليل والتحريم وإنما اللحم هو الذى يعرض له ذلك، فيقال له: في أي زمان يعنى ذلك ؟ أفى مثل هذه الازمنة وقد استأنس الاذهان بالاسلام وعامة أحكامه منذ عدة قرون، أم في زمان النزول ولم يمض من عمر الدين إلا عدة سنين ؟ وقد سألوا النبي صلى الله وآله وسلم عن أشياء هي أوضح من حكم الحبوب وأشباهها وأجلى، وقد حكى الله تعالى بعض ذلك كما في قوله: " يسألونك ما ذا ينفقون " (البقرة: 215) وقد روى عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجالا قالوا: كيف نتزوج نساءهم وهم على دين ونحن على دين فأنزل الله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " الحديث. وقد مر وسيجئ لهذا القول نظائر في تضاعيف الروايات كما نقلناه في حج التمتع وغير ذلك.

[ 214 ]

وإذا كانوا يقولون مثل هذا القول بعد نزول الاية بحلية المحصنات من نساء أهل الكتاب فما الذى يمنعهم أن يسألوا قبل نزول الاية عن مؤاكلة أهل الكتاب، والاكل مما يؤخذ منهم من الحبوب، والاغذية المتخذة من ذلك كالخبز والهريسة وسائر الاغذية التى تتخذ من الحبوب وأمثالها إذا عملها أهل الكتاب، وهم على دين ونحن على دين، وقد حذر الله المؤمنين عن موادتهم وموالاتهم والاقتراب منهم، والركون إليهم في آيات كثيرة ؟. بل هذا الكلام مقلوب عليه في قوله: إن اللحم هو المظنة للتحريم والتحليل فكيف يسعهم أن يسألوا عنه وقد بين الله عامة محرمات اللحوم في آية الانعام: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه " (الانعام: 145) ثم في آية النحل وهما مكيتان، ثم في آية البقرة وهى قبل المائدة نزولا، ثم في قوله: " حرمت عليكم الميتة " وهى قبل هذه الاية ؟. والاية على قول هذا القائل نص أو كالنص في عدم تحريم ذبائحهم، فكيف صح لهؤلاء أن يسألوا عن حلية ذبائح أهل الكتاب وقد نزلت الايات مكيتها ومدنيتها مرة بعد اخرى في أمرها ودلت على حليتها، واستقر العمل على حفظها وتلاوتها وتعلمها والعمل بها ؟. وأما قوله: إن آية الانعام نص في حصر المحرمات فيما ذكر فيها فحرمة غيرها كذبيحة أهل الكتاب يحتاج إلى دليل، فلا شك في احتياج كل حكم إلى دليل يقوم عليه، وهذا الكلام صريح منه في أن هذا الحصر إنما ينفع إذا لم يكن هناك دليل يقوم على تحريم أمر آخر وراء ما ذكر في الاية. وعلى هذا فإن كان مراده بالدليل ما يشمل السنة فالقائل بتحريم ذبائح أهل الكتاب يستند في ذلك إلى ما ورد من الروايات في الاية وقد نقلنا بعضا منها فيما تقدم. وإن أراد الدليل من الكتاب فمع أنه تحكم لا دليل عليه إذ السنة قرينة الكتاب لا يفترقان في الحجية يسأل عنه ما ذا يقول في ذبيحة الكفار غير أهل الكتاب كالوثنيين والماديين ؟ أفيحرمها لكونها ميتة فاقدة للتذكية الشرعية ؟ فما الفرق بين عدم التذكية بعدم الاستقبال وعدم ذكر الله عليه أصلا وبين التذكية التى هي غير التذكية الاسلامية وليس يرتضيها الله سبحانه وقد نسخها ؟ فالجميع خبائث في نظر الدين، وقد حرم الله الخبائث، قال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (الاعراف: 157) وقد

[ 215 ]

قال تعالى في الاية السابقة على هذه الاية: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ولحن السؤال والجواب فيها أوضح دليل على حصر الحل في الطيبات، وكذا ما في أول هذه الاية من قوله: " اليوم احل لكم الطيبات " والمقام مقام الامتنان يدل على الحصر المذكور. وإن كان تحريم ذبائح الكفار لكونها بالاهلال به لغير الله كالذبح باسم الاوثان عاد الكلام بعدم الفرق بين الاهلال به لغير الله، والاهلال به لله على طريقة منسوخة لا يرتضيها الله سبحانه. ثم قال: وقد شدد الله فيما كان عليه مشركوا العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة والذبح للاصنام لئلا يتساهل به المسلمون الاولون تبعا للعادة، وكان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة والذبح للاصنام. وقد نسى أن النصارى من أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير، وقد ذكره الله تعالى وشدد عليه، وأنهم يأكلون جميع ما تستبيحه المشركون لارتفاع التحريم عنهم بالتفدية. على أن هذا استحسان سخيف لا يجدى نفعا ولا يعول على مثله في تفسير كلام الله وفهم معاني آياته، ولا في فقه أحكام دينه. ثم قال: ولانه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة أحد إلا ويدخل في الاسلام وخفف في معاملة أهل الكتاب، ثم ذكر موارد من فتيا بعض الصحابة بحلية ما ذبحوه للكنائس وغير ذلك. وهذا الكلام منه مبنى على ما يظهر من بعض الروايات أن الله اختار العرب على غيرهم من الامم، وأن لهم كرامة على غيرهم. ولذلك كانوا يسمون غيرهم بالموالى، ولا يلائمه ظاهر الايات القرآنية، وقد قال الله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13) ومن طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أحاديث كثيرة في هذا المعنى. ولم يجعل الاسلام في دعوته العرب في جانب وغيرهم في جانب، بل إنما جعل غير أهل الكتاب من المشركين سواء كانوا عربا أو غيرهم في جانب، فلم يقبل منهم إلا أن يسلموا ويؤمنوا، وأهل الكتاب سواء كانوا عربا أو غيرهم في جانب، فقبل منهم الدخول في الذمة وإعطاء الجزية إلا أن يسلموا.

[ 216 ]

وهذا الوجه بعد تمامه لا يدل على أزيد من التساهل في حقهم في الجملة لابهامه، وأما أنه يجب أن يكون بإباحه ذبائحهم إذا ذبحوها على طريقتهم وسنتهم فمن أين له الدلالة على ذلك ؟ وهو ظاهر. وأما ما ذكره من عمل بعض الصحابة وقولهم إلى غير ذلك فلا حجية فيه. فقد تبين من جميع ما تقدم عدم دلالة الاية ولا أي دليل آخر على حلية ذبائح أهل الكتاب إذا ذبحت بغير التذكية الاسلامية فإن قلنا بحلية ذبائحهم للاية كما نقل عن بعض أصحابنا فلنقيدها بما إذا علم وقوع الذبح عن تذكية شرعية كما يظهر من قول الصادق عليه السلام في خبر الكافي والتهذيب المتقدم: " فإنما هي الاسم ولا يؤمن عليها إلا مسلم " الحديث. وللكلام تتمة تطلب من الفقه. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " (الاية) قال: هن العفائف. وفيه: عنه عليه السلام في قوله: " والمحصنات من المؤمنات " (الاية) قال: هن المسلمات وفي تفسير القمى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وإنما يحل نكاح أهل الكتاب الذين يؤدون الجزية، وغيرهم لم تحل مناكحتهم. اقول: وذلك لكونهم محاربين حينئذ. وفي الكافي والتهذيب عن الباقر عليه السلام: إنما يحل منهن نكاح البله. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام في الرجل المؤمن يتزوج النصرانية واليهودية قال: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية ؟ فقيل: يكون له فيها الهوى فقال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، واعلم أن عليه في دينه غضاضة. وفى التهذيب عن الصادق عليه السلام قال: لا بأس أن يتمتع الرجل باليهودية و النصرانية وعنده حرة. وفي الفقيه عن الباقر عليه السلام: أنه سئل عن الرجل المسلم أيتزوج المجوسية ؟ قال: لا، ولكن إن كانت له أمة مجوسية فلا بأس أن يطأها، ويعزل عنها، ولا يطلب ولدها. وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام في حديث: قال:

[ 217 ]

وما أحب للرجل المسلم أن يتزوج اليهودية والنصرانية مخافة أن يتهود ولده أو يتنصر. وفي الكافي بإسناده عن زرارة، وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " فقال: منسوخة بقوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر. أقول: ويشكل بتقدم قوله: " ولا تمسكوا " الاية على قوله: " والمحصنات " (الاية) نزولا ولا يجوز تقدم الناسخ على المنسوخ. مضافا إلى ما ورد أن سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، وقد تقدم الكلام فيه. ومن الدليل على أن الاية غير منسوخة ما تقدم من الرواية الدالة على جواز التمتع بالكتابية وقد عمل بها الاصحاب وقد تقدم في آية المتعة أن التمتع نكاح وتزويج. نعم لو قيل بكون قوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " (الاية) مخصصا متقدما خرج به النكاح الدائم من إطلاق قوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " لدلالته على النهى عن الامساك بالعصمة، وهو ينطبق على النكاح الدائم كما ينطبق على إبقاء عصمة الزوجية بعد إسلام الزوج وهو مورد نزول الاية. ولا يصغى إلى قول من يعترض عليه بكون الاية نازلة في إسلام الزوج مع بقاء الزوجة على الكفر، فإن سبب النزول لا يقيد اللفظ في ظهوره، وقد تقدم في تفسير آية النسخ من سورة البقرة في الجزء الاول من الكتاب أن النسخ في عرف القرآن وبحسب الاصل يعم غير النسخ المصطلح كالتخصيص. وفي بعض الروايات أيضا أن الاية منسوخة بقوله: " ولا تنكحوا المشركات " (الاية) وقد تقدم الاشكال فيه، وللكلام تتمة تطلب من الفقه. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " (الاية) عن أبان بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أدنى ما يخرج به الرجل من الاسلام أن يرى الرأى بخلاف الحق فيقيم عليه قال: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله "، وقال عليه السلام: الذى يكفر بالايمان الذى لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به. وفيه: عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: هو ترك العمل حتى يدعه أجمع.

[ 218 ]

اقول: وقد تقدم ما يتضح به ما في هذه الاخبار من خصوصيات التفسير. وفيه عن عبيد بن زرارة قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " قال: ترك العمل الذى أقربه، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل. اقول: وقد سمى الله تعالى الصلاة إيمانا في قوله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " (البقرة: 143) ولعله عليه السلام خصها بالذكر لذلك. وفي تفسير القمى: قال عليه السلام: من آمن ثم أطاع أهل الشرك. وفى البصائر عن أبى حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين قال: تفسيرها في بطن القرآن: ومن يكفر بولاية على. وعلى هو الايمان. اقول: هو من البطن المقابل للظهر بالمعنى الذى بيناه في الكلام على المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب ويمكن أن يكون من الجرى والتطبيق على المصداق، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام إيمانا حينما برز إلى عمرو بن عبدود يوم الخندق حيث قال: صلى الله عليه وآله وسلم: " برز الايمان كله إلى الكفر كله. وفى هذا المعنى بعض روايات أخر يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم

[ 219 ]

وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون - 6. واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور - 7.

(بيان)

 تتضمن الاية الاولى حكم الطهارات الثلاث: الوضوء وغسل الجنابة والتيمم والاية التالية كالمتممة أو المؤكدة لحكم الاية الاولى، وفي بيان حكم الطهارات الثلاث آية أخرى تقدمت في سورة النساء، وهى قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا " (النساء: 43). وهذه الاية أعنى آية المائدة أوضح وأبين من آية النساء، وأشمل لجهات الحكم ولذلك أخرنا بيان آية النساء إلى ههنا لسهولة التفهم عند المقايسة. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة القيام إذا عدى بإلى ربما كنى به عن إرادة الشئ المذكور للملازمة والقران بينهما فإن إرادة الشئ لا تنفك عن الحركة إليه، وإذا فرض الانسان مثلا قاعدا لانه حال سكونه ولازم سباته عادة، وفرض الشئ المراد فعلا متعارفا يتحرك إليه عادة كان مما يحتاج في اتيانه إلى القيام غالبا، فأخذ الانسان في ترك السكون والانتصاب لادراك العمل هو القيام إلى الفعل، وهو يلازم الارادة. ونظيره قوله تعالى: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " (النساء: 102) أي أردت أن تقيم لهم الصلاة. وعكسه من وجه قوله تعالى: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " (النساء: 20) أي إذا طلقتم زوجا وتزوجتم باخرى، فوضعت إرادة الفعل وطلبه مقام القيام به. وبالجملة الاية تدل على اشتراط الصلاة بما تذكره من الغسل والمسح أعنى الوضوء

[ 220 ]

ولو تم لها إطلاق لدل على اشتراط كل صلاة بوضوء مع الغض عن قوله: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " لكن الايات المشرعة قلما يتم لها الاطلاق من جميع الجهات. على أنه يمكن أن يكون قوله الاتى: " ولكن يريد ليطهركم " مفسرا لهذا الاشتراط على ما سيجئ من الكلام. هذا هو المقدار الذى يمكن أن يبحث عنه في تفسير الاية، والزائد عليه مما أطنب فيه المفسرون بحث فقهى خارج عن صناعة التفسير. قوله تعالى: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " الغسل بفتح الغين إمرار الماء على الشئ، ويكون غالبا لغرض التنظيف وإزالة الوسخ والدرن والوجه ما يستقبلك من الشئ، وغلب في الجانب المقبل من رأس الانسان مثلا، وهو الجانب الذى فيه العين والانف والفم، ويعين بالظهور عند المشافهة، وقد فسر في الروايات المنقولة عن أئمة أهل البيت صلى الله عليه وآله وسلم بما بين قصاص الشعر من الناصية وآخر الذقن طولا، وما دارت عليه الابهام والوسطى والسبابة وهناك تحديدات أخر ذكرها المفسرون والفقهاء. والايدى جمع يد وهى العضو الخاص الذى به القبض والبسط والبطش وغير ذلك، وهو ما بين المنكب وأطراف الاصابع، وإذ كانت العناية في الاعضاء بالمقاصد التى يقصدها الانسان منها كالقبض والبسط في اليد مثلا، وكان المعظم من مقاصد اليد تحصل بما دون المرفق إلى أطراف الاصابع سمى أيضا باليد، ولذلك بعينه ما سمى ما دون الزند إلى أطراف الاصابع فصار اللفظ بذلك مشتركا أو كالمشترك بين الكل والابعاض. وهذا الاشتراك هو الموجب لذكر القرينة المعينة إذا أريد به أحد المعاني، ولذلك قيد تعالى قوله: " وأيديكم " بقوله: " إلى المرافق " ليتعين أن المراد غسل اليد التى تنتهى إلى المرافق، ثم القرينة أفادت أن المراد به القطعة من العضو التى فيها الكف، وكذا فسرتها السنة. والذى يفيده الاستعمال في لفظة " إلى " أنها لانتهاء الفعل الذى لا يخلو من امتداد الحركة، وأما دخول مدخول " إلى " في حكم ما قبله أو عدم دخوله فأمر خارج عن معنى الحرف، فشمول حكم الغسل للمرافق لا يستند إلى لفظه " إلى " بل إلى ما بينه السنة من الحكم. وربما ذكر بعضهم أن " إلى " في الاية بمعنى مع كقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " (النساء: 2) وقد استند في ذلك إلى ما ورد في الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

[ 221 ]

كان يغسلهما إذا توضأ، وهو من عجيب الجرأة في تفسير كلام الله، فإن ما ورد من السنة في ذلك إما فعل والفعل مبهم ذو وجوه فكيف يسوغ أن يحصل بها معنى لفظ من الالفاظ حتى يعد ذلك أحد معاني اللفظ ؟ وإما قول وارد في بيان الحكم دون تفسير الاية، ومن الممكن أن يكون وجوب الغسل للمقدمة العلمية أو مما زاده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان له ذلك كما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات الخمس على ما وردت به الروايات الصحيحة. وأما قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " فهو من قبيل تضمين الاكل معنى الضم ونحوه مما يتعدى بإلى لا أن لفظة (إلى) هنالك بمعنى مع. وقد تبين بما مر أن قوله " إلى المرافق " قيد لقوله " أيديكم " فيكون الغسل المتعلق بها مطلقا غير مقيد بالغاية يمكن أن يبدء فيه من المرفق إلى أطراف الاصابع وهو الذى يأتي به الانسان طبعا إذا غسل يده في غير حال الوضوء من سائر الاحوال أو يبدء من أطراف الاصابع ويختم بالمرفق، لكن الاخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام تفتى بالنحو الاول دون الثاني. وبذلك يندفع ما ربما يقال: إن تقييد الجملة بقوله " إلى المرافق " يدل على وجوب الشروع في الغسل من أطراف الاصابع والانتهاء إلى المرافق. وجه الاندفاع أن الاشكال مبنى كون قوله " إلى المرافق " قيدا لقوله " فاغسلوا " وقد تقدم أنه قيد للايدي، ولا مناص منه لكونه مشتركا محتاجا إلى القرينة المعينة، ولا معنى لكونه قيدا لهما جميعا. على أن الامة أجمعت على صحة وضوء من بدأ في الغسل بالمرافق وانتهى إلى أطراف الاصابع كما في المجمع، وليس إلا لان الاية تحتمله: وليس إلا لان قوله " إلى المرافق " قيد للايدي دون الغسل. قوله تعالى: " وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " المسح: إمرار اليد أو كل عضو لامس على الشئ بالمباشرة، يقال. مسحت الشئ ومسحت بالشئ، فإذا عدى بنفسه أفاد الاستيعاب، وإذا عدى بالباء دل على المسح ببعضه من غير استيعاب وإحاطة. فقوله: " وامسحوا برؤسكم " يدل على مسح بعض الرأس في الجملة، وأما أنه أي بعض من الرأس فمما هو خارج من مدلول الاية والمتكفل لبيانه السنة، وقد صح أنه جانب الناصية من الرأس.

[ 222 ]

وأما قوله: " وأرجلكم فقد قرء بالجر، وهو لا محالة بالعطف على رؤوسكم. وربما قال القائل: إن الجر للاتباع، كقوله: " وجعلنا من الماء كل شئ حى " (الانبياء: 30) وهو خطأ فإن الاتباع على ما ذكروه لغة رديئة لا يحمل عليها كلام الله تعالى. وأما قوله: " كل شئ حى " فإنما الجعل هناك بمعنى الخلق، وليس من الاتباع في شئ. على أن الاتباع - كما قيل - إنما ثبت في صورة اتصال التابع والمتبوع كما قيل في قولهم: جحر ضب خرب، بجر الخرب إتباعا لا في مثل المورد مما يفضل العاطف بين الكلمتين. وقرء: وأرجلكم - بالنصب وأنت إذا تلقيت الكلام مخلى الذهن غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضى أن " أرجلكم " معطوف على موضع " رؤسكم " وهو النصب، وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين، ولم يخطر ببالك أن ترد " أرجلكم " إلى " وجوهكم " في أول الاية مع انقطاع الحكم في قوله: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " بحكم آخر وهو قوله: وامسحوا بوجوهكم " فان الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك، وكيف يرضى طبع متكلم بليغ أن يقول مثلا قبلت وجه زيد ورأسه ومسحت بكتفه ويده بنصب يد عطفا على " وجه زيد " مع انقطاع الكلام الاول، وصلاحية قوله " يده " لان يعطف على محل المجرور المتصل به، وهو أمر جائز دائر كثير الورود في كلامهم. وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وأما الروايات من طرق أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الاية وإنما تحكى عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتوى بعض الصحابة لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين، ومنها ما يوجب غسلهما. وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح، ولا كلام لنا معهم فهذا المقام لانه بحث فقهى راجع إلى علم الفقه. خارج عن صناعة التفسير. لكنهم مع ذلك حاولوا تطبيق الاية على ما ذهبوا إليه من الحكم الفقهى بتوجيهات مختلفة ذكروها في المقام، والاية لا تحتمل شيئا منها إلا مع ردها من أوج بلاغتها إلى مهبط الرداءة.

[ 223 ]

فربما قيل: ان " أرجلكم " عطف على " وجوهكم " كما تقدم هذا على قراءة النصب، وأما على قراءة الجر فتحمل على الاتباع، وقد عرفت أن شيئا منهما لا يحتمله الكلام البليغ الذى يطابق فيه الوضع الطبع. وربما قيل في توجيه قراءة الجر: إنه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى كقوله: علفتها تبنا وماء باردا. وفيه أن مرجعه إلى تقدير فعل يعمل عملا يوافق إعراب حال العطف كما يدل عليه ما استشهد به من الشعر. وهذا المقدر في الاية إما " اغسلوا " وهو يتعدى بنفسه لا بحرف الجر، وإما غيره وهو خلاف ظاهر الكلام لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة وأيضا ما استشهد به من الشعر إما من قبيل المجاز العقلي، وإما بتضمين علفت معنى أعطيت وأشبعت ونحوهما. وأيضا الشعر المستشهد به يفسد معناه لو لم يعالج بتقدير ونحوه، فهناك حاجة إلى العلاج قطعية، وأما الاية فلا حاجة فيها إلى ذلك من جهة اللفظ يقطع بها. وربما قيل في توجيه الجر بناء على وجوب غسل الارجل: إن العطف في محله غير أن المسح خفيف الغسل فهو غسل بوجه فلا مانع من أن يراد بمسح الارجل غسلها، ويقوى ذلك أن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول وهو الوجه، ولم يجئ في الممسوح فلما رفع التحديد في المسح وهو قوله: " وأرجلكم إلى الكعبين " علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد. وهذا من أردء الوجوه، فإن المسح غير الغسل ولا ملازمة بينهما أصلا. على أن حمل مسح الارجل على الغسل دون مسح الرؤوس ترجيح بلا مرجح. وليت شعرى ما ذا يمنعه أن يحمل كل ما ورد فيه المسح مطلقا في كتاب أو سنة على الغسل وبالعكس وما المانع حينئذ أن يحمل روايات الغسل على المسح، وروايات المسح على الغسل فتعود الادلة عن آخرها مجملات لا مبين لها. وأما ما قواه به فهو من تحميل الدلالة على اللفظ بالقياس، وهو من أفسد القياسات. وربما قيل إن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم فإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لان

[ 224 ]

غسلهما إمرار الماء عليهما أو اصابتهما بالماء، ومسحهما امرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، فالنصب في قوله: " أرجلكم بعناية أن الواجب هو غسلهما، والجر بعناية أنه ماسح بالماء غسلا، انتهى ملخصا. وما أدرى كيف يثبت بهذا الوجه أن المراد بمسح الرأس في الاية هو المسح من غير غسل، وبمسح الرجلين هو المسح بالغسل ؟ وهذا الوجه هو الوجه السابق بعينه ويزيد عليه فسادا، ولذلك يرد على هذا ما يرد على ذاك. ويزيد عليه اشكالا أن قوله: إن الله أمر بعموم مسح الرجلين في الوضوء (الخ) الذى قاس فيه الوضوء على التيمم إن أراد به قياس الحكم على الحكم أعنى ما ثبت عنده بالروايات فأى دلالة له على دلالة الاية على ذلك ؟ وليست الروايات - كما عرفت - بصدد تفسير لفظ الكتاب، وإن أراد به قياس قوله: " فامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " في الوضوء على قوله: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " في التيمم فهو ممنوع في المقيس والمقيس عليه جميعا فان الله تعالى عبر في كليهما بالمسح المتعدى بالباء، وقد تقدم أن المسح المتعدى بالباء لا يدل في اللغة على استيعاب المسح الممسوح، وأن الذى يدل على ذلك هو المسح المتعدى بنفسه. وهذه الوجوه وأمثالها مما وجهت بها الاية بحملها على خلاف ظاهرها حفظا للروايات فرارا من لزوم مخالفة الكتاب فيها، ولو جاز لنا تحميل معنى الرواية على الاية بتأويل الاية بحملها على خلاف ظاهرها لم يتحقق لمخالفة الكتاب مصداق. فالاحرى للقائل بوجوب غسل الرجلين في الوضوء أن يقول كما قال بعض السلف كأنس والشعبى وغيرهما على ما نقل عنهم: أنه نزل جبرئيل بالمسح والسنة الغسل، ومعناه نسخ الكتاب بالسنة. وينتقل البحث بذلك عن المسألة التفسيرية إلى المسألة الاصولية: هل يجوز نسخ الكتاب بالسنة أو لا يجوز، والبحث فيه من شأن الاصولي دون المفسر وليس قول المفسر بما هو مفسر: إن الخبر الكذائي مخالف للكتاب إلا للدلالة على أنه غير ما يدل عليه ظاهر الكتاب دلالة معولا عليها في الكشف عن المراد دون الفتيا بالحكم الشرعي الذى هو شأن الفقيه. وأما قوله تعالى: " إلى الكعبين " فالكعب هو العظم الناتئ في ظهر القدم. وربما

[ 225 ]

قيل: إن الكعب هو العظم الناتئ في مفصل الساق والقدم، وهما كعبان في كل قدم في المفصل. قوله تعالى: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " الجنب في الاصل مصدر غلب عليه الاستعمال بمعنى اسم الفاعل، ولذلك يستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره، يقال: رجل جنب وامرأة جنب ورجلان أو امرأتان جنب، ورجال أو نساء جنب، واختص الاستعمال بمعنى المصدر للجنابة. والجملة أعنى قوله: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " معطوفة على قوله: " فاغسلوا وجوهكم " لان الاية مسوقة لبيان اشتراط الصلاة بالطهارة فالتقدير: وتطهروا إن كنتم جنبا، فيؤول إلى تقدير شرط الخلاف في جانب الوضوء وتقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إن لم تكونوا جنبا وإن كنتم جنبا فاطهروا ويستفاد من ذلك أن تشريع الوضوء إنما هو في حال عدم الجنابة، وأما عند الجنابة فالغسل فحسب كما دلت عليه الاخبار. وقد بين الحكم بعينه في آية النساء بقوله: " ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا " فهذه الاية تزيد على تلك الاية بيانا بتسمية الاغتسال تطهرا، وهذا غير الطهارة الحاصلة بالغسل، فانها أثر مترتب، وهذا نفس الفعل الذى هو الاغتسال وقد سمى تطهرا كما يسمى غسل أوساخ البدن بالماء تنظفا. ويستفاد من ذلك ما ورد في بعض الاخبار من قوله عليه السلام: " ما جرى عليه الماء فقد طهر ". قوله تعالى: " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا " شروع في بيان حكم من لا يقدر على الماء حتى يغسل أو يغتسل. والذى ذكر من الموارد وعد بالترديد ليس بعضها يقابل بعضا مقابلة حقيقية، فإن المرض والسفر ليسا بنفسهما يوجبان حدثا مستدعيا للطهارة بالوضوء أو الغسل بل إنما يوجبانه إذا أحدث المكلف معهما حدثا صغيرا أو كبيرا، فالشقان الاخيران لا يقابلان

[ 226 ]

الاولين بل كل من الاولين كالمنقسم إلى الاخيرين، ولذلك احتمل بعضهم أن يكون " أو " في قوله: " أو جاء أحد منكم "، بمعنى الواو كما سيجئ، على أن العذر لا ينحصر في المرض والسفر بل له مصاديق أخر. لكن الله سبحانه ذكر المرض والسفر وهما مظنة عدم التمكن من الماء غالبا، وذكر المجئ من الغائط وملامسة النساء وفقدان الماء معهما اتفاقى، ومن جهة أخرى - وهى عكس الجهة الاولى - عروض المرض والسفر للانسان بالنظر إلى بنيته الطبيعية أمر اتفاقى بخلاف التردد إلى الغائط وملامسة النساء فإنهما من حاجة الطبيعة: أحدهما يوجب الحدث الاصغر الذى يرتفع بالوضوء، والاخر الحدث الاكبر الذى يرتفع بالغسل. فهذه الموارد الاربع موارد يبتلى الانسان ببعضها اتفاقا وببعضها طبعا. وهى تصاحب فقدان الماء غالبا كالمرض والسفر أو اتفاقا كالتخلي والمباشرة إذا انضم إليها عدم وجدان الماء فالحكم هو التيمم. وعلى هذا يكون عدم وجدان الماء كناية عن عدم القدرة على الاستعمال. كنى به عنه لان الغالب هو استناد عدم القدرة إلى عدم الوجدان، ولازم ذلك أن يكون عدم الوجدان قيدا لجميع الامور الاربعة المذكورة حتى المرض. وقد تبين بما قدمناه اولا: أن المراد بالمرض في قوله: " كنتم مرضى " هو المرض الذى يتحرج معه الانسان من استعمال الماء ويتضرر به على ما يعطيه التقييد بقوله: " فلم تجدوا ماء " ويفيده أيضا سياق الكلام في الاية. وثانيا: أن قوله: " أو على سفر " شق برأسه يبتلى به الانسان اتفاقا، ويغلب عليه فيه فقدان الماء، فليس بمقيد بقوله: " أو جاء أحد منكم " (الخ) بل هو معطوف على قوله: " فاغسلوا " والتقدير: إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا، فحال هذا الفرض في إطلاقه وعدم تقيده بوقوع أحد الحدثين حال المعطوف عليه أعنى قوله: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " (الخ) فكما لم يحتج إلى التقييد ابتداء لم يحتج إليه ثانيا عند العطف. وثالثا: أن قوله: " أو جاء أحد منكم من الغائط " شق آخر مستقلا وليس كما قيل: إن " أو " فيه بمعنى الواو كقوله تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون "

[ 227 ]

الصافات: 147) لما عرفت من عدم الحاجة إلى ذلك. على أن " أو " في الاية المستشهد بها ليس إلا بمعناها الحقيقي، وإنما الترديد راجع إلى كون المقام مقاما يتردد فيه بالطبع لا لجهل في المتكلم كما يقال بمثله في الترجي والتمنى الواقعين في القرآن كقوله: " لعلكم تتقون " (البقرة: 21)، وقوله: " لو كانوا يعلمون " (البقرة: 102). وحكم هذه الجملة في العطف حكم سابقتها، والتقدير: إذا قمتم إلى الصلاة وكان جاء أحد منكم من الغائط ولم تجدوا ماء فتيمموا. وليس من البعيد أن يستفاد من ذلك عدم وجوب اعادة التيمم أو الوضوء لمن لم تنتقض طهارته بالحدث الاصغر إن كان على طهارة بناء على مفهوم الشرط فيتأيد به من الروايات ما يدل على عدم وجوب التطهر لمن كان على طهارة. وفي قوله تعالى: " أو جاء أحد منكم من الغائط " من الادب البارع ما لا يخفى للمتدبر حيث كنى عن المراد بالمجئ من الغائط، والغائط هو المكان المنخفض من الارض وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ليتستروا به من الناس تأدبا، واستعمال الغائط في معناه المعروف اليوم استعمال مستحدث من قبيل الكنايات المبتذلة كما أن لفظ العذرة كذلك، والاصل في معناها عتبة الباب سميت بها لانهم كانوا يخلون ما اجتمع في كنيف البيت فيها على ما ذكره الجوهرى في الصحاح. ولم يقل: أو جئتم من الغائط لما فيه من تعيين المنسوب إليه، وكذا لم يقل: أو جاء أحدكم من الغائط لما فيه من الاضافة التى فيها شوب التعيين بل بالغ في الابهام فقال: " أو جاء أحد منكم من الغائط " رعاية لجانب الادب. ورابعا: أن قوله: " أو لامستم النساء " كسابقة شق من الشقوق المفروضة مستقل وحكمه في العطف والمعنى حكم سابقة، وهو كناية عن الجماع أدبا صونا للسان من التصريح بما تأبى الطباع عن التصريح به. فإن قلت: لو كان كذلك كان التعبير بمثل ما عبر به عنه سابقا بقوله: " وإن كنتم جنبا " أولى لكونه أبلغ في رعاية الادب. قلت: نعم لكنه كان يفوت نكته مرعية في الكلام، وهى الدلالة على كون الامر مما يقتضيه الطبيعة كما تقدم بيانه، والتعبير بالجنابة فاقد للاشعار بهذه النكتة.

[ 228 ]

وظهر أيضا فساد ما نسب إلى بعضهم: أن المراد بملامسة النساء هو الملامسة حقيقة بنحو التصريح من غير أن تكون كناية عن الجماع. وجه فساده أن سياق الاية لا يلائمه، وإنما يلائم الكناية فإن الله سبحانه ابتدا في كلامه ببيان حكم الحدث الاصغر بالوضوء و حكم الجنابة بالغسل في الحال العادى، وهو حال وجدان الماء، ثم انتقل الكلام إلى بيان الحكم في الحال غير العادى، وهو حال فقدان الماء فبين فيه حال بدل الوضوء وهو التيمم فكان الاحرى والانسب بالطبع أن يذكر حال بدل الغسل أيضا، وهو قرين الوضوء، وقد ذكر ما يمكن أن ينطبق عليه، وهو قوله: " أو لامستم النساء " على سبيل الكناية، فالمراد به ذلك لا محالة، ولا وجه لتخصيص الكلام ببيان حكم بدل الوضوء وهو أحد القرينين، وإهمال حكم بدل القرين الاخر وهو الغسل رأسا. وخامسا: يظهر بما تقدم فساد ما أورد على الاية من الاشكالات: فمنها أن ذكر المرض والسفر مستدرك، فانهما انما يوجبان التيمم بانضمام احد الشقين الاخيرين وهو الحدث والملامسة، مع انهما يوجبانه ولو لم يكن معهما مرض أو سفر فذكر الاخيرين يغنى عن ذكر الاولين. والجواب أن ذكر الشقين الاخيرين ليس لغرض انضمامهما إلى أحد الاولين بل كل من الاربعة شق مستقل مذكور لغرض خاص به يفوت بحذفه من الكلام على ما تقدم بيانه. ومنها: أن الشق الثاني وهو قوله: " أو على سفر " مستدرك وذلك بمثل ما وجه به الاشكال السابق غير أن المرض لما كان عذره الموجب للانتقال إلى البدل هو عدم التمكن من استعمال الماء الموجود لا عدم وجدان الماء كان من اللازم أن يقدر له ذلك في الكلام، ولا يغنى عن ذكره ذكر الشقين الاخيرين مع عدم وجدان الماء، ونتيجة هذا الوجه كون السفر مستدركا فقط. والجواب أن عدم الوجدان في الاية كناية عن عدم التمكن من استعمال الماء أعم من صورة وجدانه أو فقدانه كما تقدم. ومنها: أن قوله: " فلم تجدوا ماء " يغنى عن ذكر جميع الشقوق، ولو قيل مكان قوله: " وان كنتم مرضى " (الخ): " وان لم تجدوا ماء " لكان أوجز وأبين، والجواب: أن فيه اضاعة لما تقدم من النكات. ومنها: أن لو قيل: وان لم تقدروا على الماء أو ما يفيد معناه كان أولى، لشموله

[ 229 ]

عذر المرض مضافا إلى عذر غيره. والجواب: انه افيد بالكناية، وهى ابلغ. قوله تعالى: " فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه " التيمم هو القصد، والصعيد هو وجه الارض، وتوصيفه بالطيب - والطيب في الشئ كونه على حال يقتضيه طبعه - للاشارة إلى اشتراط كونه على حاله الاصلى كالتراب والاحجار العادية دون ما خرج من الارضية بطبخ أو نضج أو غير ذلك من عوامل التغيير كالجص والنورة والخزف والمواد المعدنية، قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج الا نكدا " (الاعراف: 58) ومن ذلك يستفاد الشروط التى اخذت السنة في الصعيد الذى يتيمم به. وربما يقال: ان المراد بالطيب الطهارة، فيدل على اشتراط الطهارة في الصعيد. وقوله: " فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه " ينطبق ما ذكره في التيمم للمسح على ما ذكره في الوضوء للغسل، فالتيمم في الحقيقة وضوء اسقطت فيه المسحتان: مسح الرأس ومسح الرجلين، وابدلت فيه الغسلتان: غسلة الوجه واليدين إلى المرفقين بالمسحتين، وابدل الماء بالتراب تخفيفا. وهذا يشعر بأن العضوين في التيمم هما العضوان في الوضوء، ولما عبر تعالى بالمسح المتعدى بالباء دل ذلك على أن المعتبر في التيمم هو مسح بعض عضوى الغسل في الوضوء أعنى بعض الوجه، وبعض اليد إلى المرفق، وينطبق على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام من تحديد الممسوح من الوجه بما بين الجبينين والممسوح من اليد بما دون الزند منها. وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم من تحديد اليد بما دون الابطين وما ذكره آخرون أن المعتبر من اليد في التيمم عين ما اعتبر في الوضوء وهو ما دون المرفق، وذلك أنه لا يلائم المسح المتعدى بالباء الدال على مرور الماسح ببعض الممسوح. و " من " في قوله: " منه كأنها ابتدائية والمراد ان يكون المسح بالوجه واليدين مبتدء من الصعيد وقد بينته السنة بأنه بضرب اليدين على الصعيد ومسحهما بالوجه واليدين. ويظهر من بعضهم: أن " من " ههنا تبعيضية فتفيد أن يكون في اليدين بعد الضرب

[ 230 ]

بقية من الصعيد كغبار ونحوه بمسح الوجه واليدين واستنتج منه وجوب كون الصعيد المضروب عليه مشتملا على شئ من الغبار يمسح منه بالوجه واليدين فلا يصح التيمم على حجر املس لم يتعلق به غبار، والظاهر ما قدمناه - والله أعلم - وما استنتجه من الحكم لا يختص بما احتمله. قوله تعالى: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم " دخول " من " على مفعول " ما يريد " لتأكيد النفى، فلا حكم يراد به الحرج بين الاحكام الدينية أصلا، ولذلك علق النفى على إرادة الجعل دون نفس الحرج. والحرج حرجان: حرج يعرض ملاك الحكم ومصلحته المطلوبة، ويصدر الحكم حينئذ حرجيا بذاته لتبعية ملاكه كما لو حرم الالتذاذ من الغذاء لغرض حصول ملكة الزهد، فالحكم حرجى من رأس، وحرج بعرض الحكم من خارج عن أسباب اتفاقية فيكون بعض أفراده حرجيا ويسقط الحكم حينئذ في تلك الافراد الحرجية لا في غيرها مما لا حرج فيه، كمن يتحرج عن القيام في الصلاة لمرض يضره معه ذلك، ويسقط حينئذ وجوب القيام عنه لا عن غيره ممن يستطيعه. وإضرابه تعالى بقوله: " ولكن يريد ليطهركم "، عن قوله: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " يدل على أن المراد بالاية نفى الحرج الذى في الملاك أي إن الاحكام التى يجعلها عليكم ليست بحرجية شرعت لغرض الحرج، وذلك لان معنى الكلام أن مرادنا بهذه الاحكام المجعولة تطهيركم وإتمام النعمة وهو الملاك، لا أن نشق عليكم ونحرجكم، ولذلك لما وجدنا الوضوء والغسل حرجيين عليكم عند فقدان الماء انتقلنا من إيجاب الوضوء والغسل إلى إيجاب التيمم الذى هو في وسعكم، ولم يبطل حكم الطهارة من رأس لارادة تطهيركم وإتمام النعمة عليكم لعلكم تشكرون. قوله تعالى: " ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " لازم ما تقدم من معنى نفى إرادة الحرج أن يكون المراد بقوله: " يريد ليطهركم " أن تشريع الوضوء والغسل والتيمم إنما هو حصول الطهارة فيكم لكونها أسبابا لذلك، وهذه الطهارة أيا ما كانت ليست بطهارة عن الخبث بل هي طهارة معنوية حاصلة بأحد هذه الاعمال الثلاثة، وهى التى تشترط بها الصلاة في الحقيقة.

[ 231 ]

ومن الممكن أن يستفاد من ذلك عدم وجوب الاتيان بعمل الطهارة عند القيام إلى كل صلاة إذا كان المصلى على طهارة غير منقوضة، ولا ينافى ذلك ظهور صدر الاية في الاطلاق لان التشريع أعم مما يكون على سبيل الوجوب. وأما قوله. " وليتم نعمته عليكم " فقد مر معنى النعمة وإتمامها في الكلام على قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " (المائدة: 3) ومعنى الشكر في الكلام على قوله تعالى: " وسيجزى الله الشاكرين " (آل عمران: 144) في الجزء الرابع من الكتاب. فالمراد بالنعمة في الاية هو الدين لا من حيث أجزائه من المعارف والاحكام، بل من حيث كونه إسلام الوجه لله في جميع الشؤون، وهو ولاية الله على العباد بما يحكم فيهم، وإنما يتم ذلك باستيفاء التشريع جميع الاحكام الدينية التى منها حكم الطهارات الثلاث. ومن هنا يظهر أن بين الغايتين أعنى قوله: " ليطهركم " وقوله: " ليتم نعمته " فرقا، وهو أن الطهارة غاية لتشريع الطهارات الثلاث بخلاف إتمام النعمة، فإنه غاية لتشريع جميع الاحكام، وليس للطهارات الثلاث منها إلا سهمها، فالغايتان خاصة وعامة. وعلى هذا فالمعنى: ولكن نريد بجعل الطهارات الثلاث حصول الطهارة بها خاصة لكم، ولانها بعض الدين الذى يتم بتشريع جميعها نعمة الله عليكم لعلكم تشكرون الله على نعمته فيخلصكم لنفسه، فافهم ذلك. قوله تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا، هذا هو الميثاق الذى كان مأخوذا منهم على الاسلام كما تشهد به تذكرته لهم بقوله: " إذ قلتم سمعنا وأطعنا فإنه السمع المطلق، والطاعة المطلقة، وهو الاسلام لله فالمعنى بالنعمة في قوله: " واذكروا نعمة الله عليكم " هو المواهب الجميلة التى وهبهم الله سبحانه إياها في شعاع الاسلام، وهو التفاضل الذى بين حالهم في جاهليتهم وحالهم في إسلامهم من الامن والعافية والثروة وصفاء القلوب وطهارة الاعمال كما قال تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفره من النار فأنقذكم منها " (آل عمران: 103). أو أن الاسلام بحقيقته هو المراد بالنعمة، فإنه أم النعم ترتضع منها كل نعمة كما

[ 232 ]

تقدم بيانه، وغير مخفى عليك ان المراد بكون النعمة هي الاسلام بحقيقته أو الولاية إنما هو تعيين المصداق دون تشخيص مفهوم اللفظ، فإن المفهوم هو الذى يشخصه اللغة، ولا كلام لنا فيه. ثم ذكرهم نفسه وأنه عالم بخفايا زوايا القلوب، فأمرهم بالتقوى بقوله: " واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ".

(بحث روائي)

 في التهذيب مسندا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة " قال: إذا قمتم من النوم. قال الراوى: - وهو ابن بكير - قلت: ينقض النوم الوضوء فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت. اقول: وهذا المعنى مروى في غيره من الروايات، ورواه السيوطي في الدر المنثور عن زيد بن أسلم والنحاس: وهذا لا ينافي ما قدمنا أن المراد بالقيام إلى الصلاة ارادتها، لان ما ذكرناه هو معنى القيام من حيث تعديه بإلى، وما في الرواية معناه من حيث تعديه بمن. وفى الكافي بإسناده عن زرارة قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: من أين علمت وقلت: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك ثم قال: يا زرارة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونزل به الكتاب من الله، لان الله عز وجل يقول: " فاغسلوا وجوهكم " فعرفنا أن الوجه كله ينبغى أن يغسل ثم قال: " وأيديكم إلى المرافق " فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنه ينبغى لهما أن تغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: " وامسحوا برؤسكم " فعرفنا حين قال: " برؤسكم " أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: " وأرجلكم إلى الكعبين " فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما، ثم فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس فضيعوه ثم قال: " فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا وامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " فلما وضع الوضوء إن لم يجدوا ماء أثبت بعض الغسل مسحا لانه قال: " بوجوهكم " ثم وصل بها " وأيديكم " ثم قال: " منه " أي من ذلك التيمم، لانه علم أن ذلك أجمع لم يجر على

[ 233 ]

الوجه لانه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها، ثم قال الله: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " والحرج الضيق. اقول: قوله: " ثم قال: فإن لم تجدوا ماء " نقل الاية بالمعنى. وفيه: بإسناده عن زرارة وبكير أنهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بطست - أو تور - فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على وجهه فغسل بها وجهه، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرافق إلى الكف لا يردها إلى المرافق، ثم غمس كفه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق، وصنع بها ما صنع باليمنى، ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفه لا يحدث لهما ماء جديدا، ثم قال: ولا يدخل أصابعه تحت الشراك. ثم قال: إن الله عز وجل يقول: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم " فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلا غسله، وأمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئا إلا غسله لان الله يقول: " اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق "، ثم قال: " فامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " فإذا مسح بشئ من رأسه أو بشئ من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الاصابع فقد أجزأه. قال: فقلنا: أين الكعبان ؟ قال: هنا يعنى المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو ؟ فقال: هذا من عظم الساق، والكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك الله والغرفة الواحدة تجزى للوجه وغرفة للذراع ؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، واثنتان تأتيان على ذلك كله. اقول: والرواية من المشهورات، ورواها العياشي عن بكير وزرارة عن أبى جعفر عليه السلام، وعن عبد الله بن سليمان عن أبى جعفر عليه السلام مثله، وفي معناها ومعنى الرواية السابقة روايات أخر. في تفسير البرهان العياشي عن زرارة بن أعين، وأبو حنيفة عن أبى بكربن حزم قال: توضأ رجل فمسح على خفيه فدخل المسجد فصلى فجاء على عليه السلام فوطأ على رقبته فقال: ويلك تصلى على غير وضوء ؟ فقال: أمرنى عمر بن الخطاب قال: فأخذ بيده فانتهى به إليه، فقال: انظر ما يروى هذا عليك، ورفع صوته، فقال: نعم أنا أمرته إن رسول الله مسح، قال: قبل المائدة أو بعدها ؟ قال: لا أدرى، قال: فلم تفتى وأنت

[ 234 ]

لا تدرى ؟ سبق الكتاب الخفين. اقول: وقد شاع على عهد عمر الخلاف في المسح على الخفين وقول على عليه السلام بكونه منسوخا بآية المائدة على ما يظهر من الروايات، ولذلك روى عن بعضهم كالبراء وبلال وجرير بن عبد الله أنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسح على الخفين بعد نزول المائدة ولا يخلو من شئ فكأنه ظن أن النسخ إنما ادعى بأمر غير مستند إلى الاية، وليس كذلك فإن الاية انما تثبت المسح على القدمين إلى الكعبين، وليس الخف بقدم البتة، وهذا معنى الرواية التالية. وفى تفسير العياشي: عن محمد بن أحمد الخراساني - رفع الحديث - قال: أتى أمير المؤمنين عليه السلام رجل فسأله عن المسح على الخفين فأطرق في الارض مليا ثم رفع رأسه فقال: ان الله تبارك وتعالى أمر عباده بالطهارة، وقسمها على الجوارح فجعل للوجه منه نصيبا، وجعل للرأس منه نصيبا، وجعل للرجلين منه نصيبا، وجعل لليدين منه نصيبا فإن كانتا خفاك من هذه الاجزاء فامسح عليهما. وفيه أيضا عن الحسن بن زيد عن جعفر بن محمد: إن عليا خالف القوم في المسح على الخفين على عهد عمر بن الخطاب قالوا: رأينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على الخفين قال: فقال على عليه السلام: قبل نزول المائدة أو بعدها ؟ فقالوا: لا ندرى، قال: ولكني أدرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك المسح على الخفين حين نزلت المائدة، ولان أمسح على ظهر حمارأحب إلى من أن أمسح على الخفين، وتلا هذه الاية " يا أيها الذين آمنوا - إلى قوله - المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ". وفى الدر المنثور أخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه عن على أنه كان يتوضأ عند كل صلاة ويقرء: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " (الاية). اقول: وقد تقدم توضيحها. وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: " أو لامستم النساء " قال: هو الجماع ولكن الله ستير يحب الستر فلم يسم كما تسمون. وفي تفسير العياشي عن زرارة قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن التيمم فقال: إن

[ 235 ]

عمار بن ياسر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أجنبت وليس معى ماء، فقال: كيف صنعت يا عمار ؟ قال: نزعت ثيابي ثم تمعكت على الصعيد فقال: هكذا يصنع الحمار إنما قال الله: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " ثم وضع يديه جميعا على الصعيد ثم مسحهما ثم مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه، ثم دلك إحدى يديه بالاخرى على ظهر الكف، بدء باليمين وفيه: عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام قال: فرض الله الغسل على الوجه والذراعين والمسح على الرأس والقدمين فلما جاء حال السفر والمرض والضرورة وضع الله الغسل وأثبت الغسل مسحا فقال: " وإن كنتم مرضى أو على سفرأو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - إلى قوله - وأيديكم منه ". وفيه: عن عبد الاعلى مولى آل سام قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام إنى عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعى مرارة كيف أصنع بالوضوء ؟ قال: فقال عليه السلام: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تبارك وتعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج ". اقول: إشارة إلى آية سورة الحج النافية للحرج، وفي عدوله عن ذيل آية الوضوء إلى ما في آخر سورة الحج دلالة على ما قدمناه من معنى نفى الحرج. وفيما نقلناه من الاخبار نكات جمة تتبين بما قدمناه في بيان الايات فليتلق بمنزلة الشرح للروايات.

* * *

 يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون - 8. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم - 9. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم - 10. يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم من أن يبسطوا إليكم

[ 236 ]

أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون - 11. ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إنى معكم لئن أقمتم الصلوة وآتيتم الزكوة وآمنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجرى من تحتها الانهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل - 12. فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين - 13. ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون - 14.

بيان

 اتصال الايات ظاهر لا غبار عليه، فإنها سلسلة خطابات للمؤمنين فيما يهمهم من كليات امورهم في آخرتهم ودنياهم منفردين ومجتمعين. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " الاية نظيرة الاية التى في سورة النساء " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " (النساء: 135).

[ 237 ]

وإنما الفرق بين الايتين ان آية النساء في مقام النهي عن الانحراف عن العدل في الشهادة لاتباع الهوى بأن يهوى الشاهد المشهود له لقرابة ونحوها، فيشهد له بما ينتفع به على خلاف الحق، وهذه الاية - أعني آية المائدة - في مقام الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة لشنآن وبغض من الشاهد للمشهود عليه، فيقيم الشهادة عليه يريد بها نوع انتقام منه ودحض لحقه. وهذا الاختلاف في غرض البيان هو الذى أوجب اختلاف القيود في الايتين: فقال في آية النساء: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " وفي آية المائدة: " كونوا قوامين لله شهداء بالقسط. وذلك أن الغرض في آية المائدة لما كان هو الردع عن الظلم في الشهادة لسابق عداوة من الشاهد للمشهود عليه قيد الشهادة بالقسط، فأمر بالعدل في الشهادة وأن لا يشتمل على ظلم حتى على العدو بخلاف الشهادة لاحد بغير الحق لسابق حب وهوى، فإنها لا تعد ظلما في الشهادة وانحرافا عن العدل وإن كانت في الحقيقة لا تخلو عن ظلم وحيف، ولذلك أمر في آية المائدة بالشهادة بالقسط، وفرعه على الامر بالقيام لله، وأمر في آية النساء بالشهادة لله أي أن لا يتبع فيها الهوى، وفرعه على الامر بالقيام بالقسط. ولذلك أيضا فرع في آية المائدة على الامر بالشهادة بالقسط قوله: " اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله " فدعا إلى العدل، وعده ذريعة إلى حصول التقوى، وعكس الامر في آية النساء ففرع على الامر بالشهادة لله قوله: " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " فنهى عن اتباع الهوى وترك التقوى، وعده وسيلة سيئة إلى ترك العدل. ثم حذر في الايتين جميعا في ترك التقوى تحذيرا واحدا فقال في آية النساء: " وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " أي إن لم تتقوا، وقال في آية المائدة: " واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " وأما معنى القوامين لله شهداء بالقسط (الخ) فقد ظهر في الكلام على الايات السابقة. قوله تعالى: " اعدلوا هو أقرب للتقوى "، الضمير راجع إلى العدل المدلول عليه بقوله: " اعدلو " ا والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " الجملة الثانية أعنى قوله: " لهم مغفرة، إنشاء للوعد الذى أخبر عنه بقوله: " وعد الله "،

[ 238 ]

وهذا كما قيل: آكد بيانا من قوله: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما " (الفتح: 29) لا لما قيل: إنه لكونه خبرا بعد خبر، فإن ذلك خطأ بل لكونه تصريحا بإنشاء الوعد من غير أن يدل عليه ضمنا، كآية سورة الفتح. قوله تعالى: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " قال الراغب: الجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم، والاية تشتمل على نفس الوعيد، وتقابل قوله تعالى في الاية السابقة: " لهم مغفرة وأجر عظيم ". وتقييد الكفر بتكذيب الايات للاحتراز عن الكفر الذى لا يقارن تكذيب الايات الدالة، ولا ينتهى إلى إنكار الحق مع العلم بكونه حقا كما في صورة الاستضعاف، فإن أمره إلى الله إن يشأ يغفره وإن يشا يعذب عليه فهاتان الايتان وعد جميل للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإيعاد شديد للذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وبين المرحلتين مراحل متوسطة ومنازل متخللة أبهم الله سبحانه أمرها وعقباها. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا " (الخ) هذا المضمون يقبل الانطباق على وقائع متعددة مختلفة وقعت بين الكفار والمسلمين كغزوات بدر وأحد والاحزاب وغير ذلك، فالظاهر أن المراد به مطلق ما هم به المشركون من قتل المؤمنين وإمحاء أثر الاسلام ودين التوحيد. وما ذكره بعض المفسرين أن المراد به ما هم بعض المشركين من قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ما هم به بعض اليهود من الفتك به - وسيجئ قصتهما - فبعيد من ظاهر اللفظ كما لا يخفى. قوله تعالى: " واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " امر بالتقوى والتوكل على الله، والمراد بالحقيقة النهى والتحذير الشديد عن ترك التقوى وترك التوكل على الله سبحانه، والدليل على ذلك ما سرده تعالى من قصة اخذ الميثاق من بنى اسرائيل ومن الذين قالوا انا نصارى، ثم نقض الطائفتين الميثاق الالهى وابتلاء الله اياهم باللعن وتقسية القلوب، ونسيان حظ من دينهم، واغراء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة. ولم يذكر القصة إلا ليستشهد بها على المؤمنين، ويجعلها نصب أعينهم ليعتبروا بها وينتبهوا بأن اليهود والنصارى إنما ابتلوا بما ابتلوا به لنسيانهم ميثاق الله سبحانه ولم يكن إلا ميثاقا بالاسلام لله، واثقوه بالسمع والطاعة، وكان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم

[ 239 ]

وأن يتوكلوا عليه في أمور دينهم أي يتخذوه وكيلا فيها يختارون ما يختاره لهم، ويتركون ما يكرهه لهم، وطريقه طاعة رسلهم بالايمان بهم، وترك متابعة غير الله ورسله، ممن يدعو إلى نفسه والخضوع لامره من الجبابرة والطغاة وغيرهم حتى الاحبار والرهبان فلا طاعة إلا لله أو من امر بطاعته. لكنهم نبذوه وراءهم ظهريا فابعدوا من رحمة الله وحرفوا الكلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين ولم يكن إلا حظا وسهما يرتحل بارتحاله عنهم كل خير وسعادة وأفسد ذلك ما بقى بأيديهم من الدين، فإن الدين مجموع من معارف وأحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر سيما الاركان والاصول، وذلك كمن يصلى لكن لا لوجه الله، أو ينفق لا لمرضاة الله، أو يقاتل لا لاعلاء كلمة الحق. فلا ما بقى في أيديهم نفعهم، إذ كان محرفا فاسدا، ولا ما نسوه من الدين أمكنهم أن يستغنوا عنه، ولا غنى عن الدين ولا سيما اصوله وأركانه. فمن هنا يعلم ان المقام يقتضى أن يحذر المؤمنون عن مخالفة التقوى وترك التوكل على الله بذكر هذه القصة ودعوتهم إلى الاعتبار بها. ومن هنا يظهر أيضا: أن المراد بالتوكل ما يشمل الامور التشريعية والتكوينية جميعا أو ما يختص بالتشريعيات بمعنى أن الله سبحانه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا الله ورسوله في أحكامه الدينية وما أتاهم به وبينه لهم رسوله ويكلوا أمر الدين والقوانين الالهية إلى ربهم، ويكفوا عن الاستقلال بأنفسهم، والتصرف فيما أودعه عندهم من شرائعه كما يأمرهم أن يطيعوه فيما سن لهم من سنة الاسباب والمسببات فيجروا على هذه السنة من غير اعتماد بها وإعطاء استقلال وربوبية لها، وينتظروا ما يريده الله ويختاره لهم من النتائج بتدبيره ومشيئته. قوله تعالى: " ولقد أخذنا الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " (الاية) قال الراغب: النقب في الحائط والجلد كالثقب في الخشب. قال: والنقيب الباحث عن القوم وعن أحوالهم، وجمعه نقباء. والله سبحانه يقص على المؤمنين من هذه الامة ما جرى على بنى إسرائيل من إحكام دينهم وتثبيت أمرهم بأخذ الميثاق، وبعث النقباء، وإبلاغ البيان، وإتمام الحجة ثم ما

[ 240 ]

قابلوه به من نقض الميثاق، وما قابلهم به الله سبحانه من اللعن وتقسية القلوب (الخ). فقال: " ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل " وهو الذى يذكره كثيرا في سورة البقرة وغيرها: " وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " والظاهر أنهم رؤساء الاسباط الاثنى عشر، كانوا كالولاة عليهم يتولون امورهم فنسبتهم إلى أسباطهم بوجه كنسبة أولى الامر إلى الافراد في هذه الامة لهم المرجعية في امور الدين والدنيا غير أنهم لا يتلقون وحيا، ولا يشرعون شريعة، وإنما ذلك إلى الله ورسوله " وقال الله إنى معكم " إيذان بالحفظ والمراقبة فيتفرع عليه أن ينصرهم إن أطاعوه ويخذلهم إن عصوه ولذلك ذكر الامرين جميعا فقال: " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلى وعزرتموهم " والتعزير هو النصرة مع التعظيم، والمراد بالرسل ما سيستقبلهم ببعثته ودعوته كعيسى ومحمد عليهما السلام وسائر من بعثه الله بين موسى ومحمد عليهم السلام " وأقرضتم الله قرضا حسنا " وهو الانفاق المندوب دون الزكاة الواجبة " لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجرى من تحتها الانهار " فهذا ما يرجع إلى جميل الوعد. ثم قال: " فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ". قوله تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية " ذكر تعالى جزاء الكفر بالميثاق المذكور ضلال سواء السبيل، وهو ذكر إجمالي يفصله ما في هذه الاية من أنواع النقم التى نسب الله سبحانه بعضها إلى نفسه كاللعن وتقسية القلوب مما تستقيم فيه النسبة، وبعضها إلى أنفسهم مما وقع باختيارهم كالذى يعنى بقوله: " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " فهذا كله جزاؤهم بما كفروا بآيات الله التى على رأسها الميثاق المأخوذ منهم، أو جزاء كفرهم بالميثاق خاصة فإن سواء السبيل الذى ضلوه هو سبيل السعادة التى بها عمارة دنياهم وأخراهم. فقوله: " فبما نقضهم ميثاقهم " الظاهر أنه هو الكفر الذى توعد الله عليه في الاية السابقة، ولفظة " ما " في قوله: " فبما " للتأكيد، ويفيد الابهام لغرض التعظيم أو التحقير أو غيرهما، والمعنى: فبنقض ما منهم لميثاقهم " لعناهم " واللعن هو الابعاد من الرحمة " وجعلنا قلوبهم قاسية " وقسوة القلب مأخوذ من قسوة الحجارة وهى صلابتها والقسى من القلوب ما يخشع لحق ولا يتأثر برحمة، قال تعالى: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " (الحديد 16).

[ 241 ]

وبالجملة عقبت قسوة قلوبهم أنهم عادوا " يحرفون الكلم عن مواضعه " بتفسيرها بما لا يرضى به الله سبحانه وبإسقاط أو زيادة أو تغيير، فكل ذلك من التحريف، وأفضاهم ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين " ونسوا حظا مما ذكروا به " ولم يكن إلا حظا من الاصول التى تدور على مدارها السعادة، ولا يقوم مقامها إلا ما يسجل عليهم الشقوة اللازمة كقولهم بالتشبيه، وخاتمية نبوة موسى، ودوام شريعة التوراة، وبطلان النسخ والبداء إلى غير ذلك. " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " أي على طائفة خائنة منهم، أو على خيانة منهم " الا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين " وقد تقدم مرارا ان استثناء القليل منهم لا ينافى ثبوت اللعن والعذاب للجماعة التى هي الشعب والامة (1). قوله تعالى: " ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا "، قال الراغب: غرى بكذا أي لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به، وأغريت فلانا بكذا نحو ألهجت به. وقد كان المسيح عيسى بن مريم نبى رحمة يدعو الناس إلى الصلح والسلم، ويندبهم إلى الاشراف على الاخرة، والاعراض عن ملاذ الدنيا وزخارفها، وينهاهم عن التكالب لاجل هذا العرض الادنى (2) فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان السلم والصلح حربا، وبدل المؤاخاة والموادة التى ندبوا إليها معادة ومباغضة كما يقول: " فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ". وهذه العداوة والبغضاء اللتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الامم المسيحية وكالنار الاخرة التى لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.

______________________________

(1) ومن عججيب القول ما في بعض التفاسير أن المراد بالقليل عبد الله بن سلام وأصحابه مع أن عبد الله ابن سلام كان قد أسلم قبل نزول السورة بمدة، ظاهر الاية استثناء بعض اليهود الذين لم يكونوا قد أسلمو إلى حين نزول الاية. (2) راجع في ذلك إلى بيانات المسيح عليه السلام في مختلف مواقفه المنقولة عنه في الاناجيل

[ 242 ]

ولم يزل منذ رفع عيسى بن مريم عليه السلام، واختلف حواريوه والدعاة السائحون من تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم، ولم يزل ينمو ويكثر حتى تبدل إلى الحروب والمقاتلات والغارات وأنواع الشرد والطرد وغير ذلك حتى انتهى إلى حروب عالمية كبرى تهدد الارض بالخراب والانسانية بالفناء والانقراض. كل ذلك من تبدل النعمة نقمة، وإنتاج السعي ضلالا " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون "

* * *

 يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين - 15. يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم - 16. لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمة ومن في الارض جميعا ولله ملك السموات والارض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير - 17. وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والارض وما بينهما وإليه المصير - 18. يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير

[ 243 ]

والله على كل شئ قدير - 19.

(بيان)

 لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله وتعزيرهم وعلى حفظ ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذى واثقهم به دعاهم إلى الايمان برسوله الذى أرسله، وكتابه الذى أنزله، بلسان تعريفهما لهم وإقامة البينة على صدق الرسالة وحقية الكتاب، وإتمام الحجة عليهم في ذلك: أما التعريف فهو الذى يشتمل عليه قوله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا " (الخ)، وقوله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة " (الخ). وأما إقامة البينة فما في قوله: " يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون " (الخ) فان ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للاخصاء من علمائهم، وكذا قوله: " يهدى به الله من اتبع رضوانه " (الخ) فإن المطالب الحقة التى لا غبار على حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة وحقية الكتاب. وأما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله: " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير ". وقد رد الله تعالى عليهم في ضمن الايات قول البعض: " إن الله هو المسيح ابن مريم " وقول اليهود والنصارى. " نحن أبناء الله وأحباؤه ". قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير " أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة وبشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل " الاية (الاعراف: 157: وقوله تعالى: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " الاية (البقرة: 146) وقوله: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى قوله - ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل " الاية

[ 244 ]

(الفتح: 29) وكبيانه صلى الله عليه وآله وسلم حكم الرجل الذى كتموه وكابروا فيه الحق على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي: " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " الايات (المائدة: 41) وهذا الحكم أعنى حكم الرجم موجود الان في الاصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم. وأما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب، ويشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على امور في التوحيد والنبوة لا يصح استنادها إليه تعالى كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك، وما لا يجوز العقل نسبته إلى الانبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات، وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد، وكاشتمال ما عندهم من الاناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد الوثنية. قوله تعالى: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " ظاهر قوله: " قد جاءكم من الله " كون هذا الجائى قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين والمتكلم وهذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن، وعلى هذا فيكون قوله: " وكتاب مبين " معطوفا عليه عطف تفسير، والمراد بالنور والكتاب المبين جميعا القرآن، وقد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى: " واتبعوا النور الذى أنزل معه " (الاعراف: 157) وقوله: " فآمنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا " (التغابن: 8) وقوله: " وأنزلنا اليكم نورا مبينا " (النساء: 174). ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما ربما أفاده صدر الكلام في الاية، وقد عده الله تعالى نورا في قوله: " وسراجا منيرا " (الاحزاب: 46). قوله تعالى: " يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " الباء في قوله: " به " للالة والضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد الاسباب الظاهرية في مرحلة الهداية، وكذا القرآن وحقيقة الهداية قائمة به قال تعالى: " انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " (القصص: 56)، وقال: " وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وانك لتهدى إلى

[ 245 ]

صراط مستقيم صراط الله الذى له ما في السماوات وما في الارض ألا إلى الله تصير الامور " (الشورى: 53) والايات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن وإلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عين أنها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادى حقيقة وغيره سبب ظاهري مسخر لاحياء أمر الهداية. وقد قيد تعالى قوله: " يهدى به الله " بقوله: " من اتبع رضوانه " ويؤول إلى اشتراط فعلية الهداية الالهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الايصال إلى المطلوب، وهو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا بعد آخر. وقد أطلق تعالى السلام فهو السلامة والتخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن الاسلام لله والايمان والتقوى بالفلاح والفوز والامن ونحو ذلك، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى: " اهدنا الصراط المستقيم " (الحمد: 6) في الجزء الاول من الكتاب أن الله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت: 69)، وقال تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (الانعام: 153). فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد في الايصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها ويبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل. فمعنى الاية - والله العالم -: يهدى الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والاخرة، وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة. فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله، وقد قال تعالى: " ولا يرضى لعباده الكفر " (الزمر: 7)، وقال: " فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (التوبة: 96) ويتوقف بالاخرة على اجتناب سبيل الظلم والانخراط في سلك الظالمين، وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته وآيسهم من نيل هذه الكرامة الالهية بقوله: " والله

[ 246 ]

لا يهدى القوم الظالمين " (الجمعة: 5) فالاية أعنى قوله: " يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " تجرى بوجه مجرى قوله: " والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون " (الانعام: 82). قوله تعالى: " ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه " في جمع الظلمات وإفراد النور إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه ولا تفرق وإن تعددت بحسب المقامات والمواقف بخلاف طريق الباطل. والاخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبى أو كتاب فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته ورضاه كما قال تعالى: " كتاب أنزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم " (إبراهيم: 1) فقيد إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو الله سبحانه وقال: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور " (ابراهيم: 5) فلم يقيده بالاذن لاشتمال الامر على معناه. وإذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه وقد جاء الاذن بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، ومن هذا الباب قوله تعالى: " وأذان من الله ورسوله " (التوبة: 3): " فقل آذنتكم على سواء " (الانبياء: 109)، وقوله: " وأذن في الناس بالحج " (الحج: 27) إلى غيرها من الايات. وأما قوله تعالى: " ويهديهم إلى صراط مستقيم " فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله: " ويخرجهم "، بين قوله " يهدى به الله "، وبين هذه الجملة ولان الصراط المستقيم كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التى تتعلق بالسبل الجزئية. ولا ينافى تنكير قوله: " صراط مستقيم " كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الذى نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه - إلا في سورة الفاتحة - لان قرينة المقام تدل على ذلك، وإنما التنكير لتعظيم شأنه وتفخيم أمره. قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة التى تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، وهى القائلة باتحاد الله سبحانه

[ 247 ]

بالمسيح فهو إله وبشر بعينه، ويمكن تطبيق الجملة أعنى قولهم: " إن الله هو المسيح ابن مريم " على القول بالبنوة وعلى القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول العينية بالاتحاد. قوله تعالى: " قل فمن يملك من الله شيئا إن إراد إن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا " (الاية) هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة بعضه بعضا لانهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الارض، وهم جميعا كسائر أجزاء السماوات والارض وما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه وسلطانه، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد، وأن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك أمه ومن في الارض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره، وكيف يجوز الهلاك على الله سبحانه ؟ ! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة. فقوله: " فمن يملك من الله شيئا " كناية عن نفى المانع مطلقا فملك شئ من الله هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه، ولازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشئ، وهو أن يكون سبب من الاسباب يستقل في التأثير في شئ بحيث يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه، ولا ملك إلا لله وحده لا شريك له إلا ما ملك غيره تمليكا لا يبطل ملكه وسلطانه. وقوله: " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا " إنما قيد المسيح بقوله: " ابن مريم " للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبى كسائر البشر، ولذلك بعينه عطف عليه " امه " لكونها مسانخة له من دون ريب، وعطف عليه " من في الارض جميعا " لكون الحكم في الجميع على حد سواء. ومن هنا يظهر أن في هذا التقييد والعطف تلويحا إلى برهان الامكان، ومحصلة أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كامه وسائر من في الارض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، ويجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك ولا مانع هناك يمنع، ولو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك. وقوله: " ولله ملك السماوات والارض وما بينهما " في مقام التعليل للجملة السابقة

[ 248 ]

والتصريح بقوله: " وما بينهما " مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات والارض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح، وأسلم من ورود التوهمات والشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات والارض ولم يذكر ما بينهما، ومورد الكلام مما بينهما. وتقديم الخبر أعنى قوله: " ولله " للدلالة على الحصر، وبذلك يتم البيان، والمعنى: كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح وغيره ووقوع ما أراده من ذلك، والملك والسلطنة المطلقة في السماوات والارض وما بينهما لله تعالى لا ملك لاحد سواه ؟ فلا مانع من نفوذ حكمه ومضى أمره. وقوله: " يخلق ما يشاء وهو على كل شئ قدير " في مقام التعليل للجملة السابقة عليه أعنى قوله: " ولله ملك السماوات والارض وما بينهما " فإن الملك - بضم الميم - وهو نوع سلطنة ومالكية على سلطنة الناس وما يملكونه إنما يتقوم بشمول القدرة ونفوذ المشيئة، ولله سبحانه ذلك في جميع السماوات والارض وما بينهما، فله القدرة على كل شئ وهو يخلق ما يشاء من الاشياء فله الملك المطلق في السماوات والارض وما بينهما فخلقه ما يشاء وقدرته على كل شئ هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك الجميع ثم يمضى إرادته لو أراد، وهو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في ألوهيته. وأما البرهان على نفوذ مشيته وشمول قدرته فهو أنه الله عز اسمه، ولعله لذلك كرر لفظ الجلالة في الاية مرات فقد آل فرض الالوهية في شئ إلى أنه لا شريك له في ألوهيته. قوله تعالى: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " لا ريب أنهم لم يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح عليه السلام فلا اليهود كانت تدعى ذلك حقيقة ولا النصارى، وإنما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من التجوز، وقد ورد في كتبهم المقدسة هذا الاطلاق كثيرا كما في حق آدم (1) ويعقوب (2) وداود (3)

______________________________

(1) آية 38 من الاصحاح الثالث من انجيل لوقا. (2) آية 22 من الاصحاح الرابع من سفر الخروج من التوراة. (3) آية 7 من الزمور 2 من مزامير داود. (*)

[ 249 ]

واقرام (1) وعيسى (2) واطلق (3) أيضا على صلحاء المؤمنين. وكيف كان فإنما اريد بالابناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الابناء من الاب، فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن إجراء القوانين والاحكام المجراة بين الناس لان تعلقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازى به غيرهم ولا إيقافهم موقفا توقف فيه سائر الرعية، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة النسب من علقة الحب والكرامة. فالمراد بهذه النبوة الاختصاص والتقرب، ويكون عطف قوله: " وأحباؤه " على قوله: " أبناء الله " كعطف التفسير وليس به حقيقة، وغرضهم من دعوى هذا الاختصاص والمحبوبية إثبات لازمه وهو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم وعقوبتهم فلن يصيروا إلا إلى النعمة والكرامة لان تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به من المزية، وحباهم به من الكرامة. والدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى: " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، إذ لو لا أنهم كانوا يريدون بقولهم: " نحن أبناء الله وأحباؤه " أنه لا سبيل إلى عذابهم وإن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة: " يغفر "، ردا عليهم ولا لقوله: " بل أنتم بشر ممن خلق " موقع حسن مناسب فمعنى قولهم: " نحن أبناء الله وأحباؤه " أنا خاصة الله ومحبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا وإن فعلنا ما فعلنا، وتركنا ما تركنا لان انتفاء السبيل ووقوع الامن التام من كل مكروه ومحذور هو لازم معنى الاختصاص والحب. قوله تعالى: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " أمر نبيه بالاحتجاج عليهم ورد دعواهم بالحجة، وتلك حجتان: إحداهما: النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم، وثانيتهما: معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم. ومحصل الحجة الاولى التى يشتمل عليها قوله: " فلم يعذبكم بذنوبكم " أنه لو

______________________________

(1) آية 9 من الاصحاح 31 من نبوة أرميا. (2). موارد كثيرة من الاناجيل وملحقتها. (3) آية 9 من الاصحاح 5 إنجيل متى، وفي غيره من الاناجيل. (*)

[ 250 ]

صحت دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه مأمونون من التعذيب الالهى لا سبيل إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب اخروى أو دنيوى فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم ؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم والصالحين من شعبهم وتفجر بنقض المواثيق الالهية المأخوذة منهم، وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان آيات الله والكفر بها وكل طغيان واعتداء، وتذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم وضرب الذلة والمسكنة على آخرين، وتسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم ويهتكون أعراضهم ويخربون بلادهم، وما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذى لا هو حى فيرجى ولا ميت فينسى. وأما النصارى فلا فساد المعاصي والذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود ولا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة وفي زمانها وبعدها حتى اليوم، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، والقرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والاعراف وغيرها. وليس لهؤلاء أن يقولوا: إن هذه المصائب والبلايا والفتن النازلة بنا إنما هي من قبيل " البلاء للولاء " ولا دليل على كونها عن سخط إلهى يسحب نكالا ووبالا، وقد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الانبياء والرسل كابراهيم وإسماعيل ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وغيرهم ونزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة أحد وموته وغيرهما، فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبه إلهية وإذا حلت بكم عادت نعما وكرامات. وذلك أنه لا ريب لاحد أن هذه المكاره الجسمانية والمصائب والبلايا الدنيوية توجد عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين، وتأخذ الصالحين والطالحين معا، سنة الله التى قد خلت في عباده إلا أنها تختلف عنوانا وأثرا باختلاف موقف الانسان من الصلاح والطلاح، مقام العبد من ربه. فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه وتمكنت الفضيلة الانسانية من جوهره كالانبياء الكرام ومن يتلوهم لا تؤثر المصائب والمحن الدنيوية النازلة عليه إلا فعلية الفضائل الكامنة في نفسه مما ينتفع به وبآثاره الحسنة هو وغيره فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلا تربية إلهية وإن شئت فقل: ترفيعا للدرجة.

[ 251 ]

ومن لم يثبت على سعادة أو شقاوة ولم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا نزلت به النوازل ودارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه وتميز موقفه من كفر أو إيمان، وصلاح أو طلاح، ولا ينبغى أن يسمى هذا النوع من البلايا والمحن إلا امتحانات وابتلاءات إلهية تخد للانسان خده إلى الجنة أو إلى النار. ومن لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس ولم يألف إلا الفساد والافساد والانغمار في لجج الشهوة والغضب، ولم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة، والاستعلاء على الله على الخضوع للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الامم الظالمة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وأصحاب مدين وقوم لوط، إثر ما فرطوا في جنب الله. فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية ونكالات ووبالات عليهم لا غير. وقد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل: " وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين " (آل عمران: 141). وتاريخ اليهود من لدن بعثة موسى عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يزيد على ألفى سنة - وكذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الاسلام - فيما يقرب من ستة قرون على ما يقال - مملوء من أنواع الذنوب التى أذنبوها، وجرائم ارتكبوها، ولم يبقوا منها باقية ثم أصروا واستكبروا من غير ندم، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق إلا اسم العذاب والنكال. وأما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الامم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الالهى سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق لم تكن إلا امتحانات إلهية وفيما انحرفوا عنه من قبيل النكال والعذاب، وليس لاحد على الله كرامة ولا لمتحكم عليه حق ولم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة، ولا عدهم أبناء الله وأحباءه، ولا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب. قال تعالى مخاطبا لهم: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين - إلى أن قال - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان

[ 252 ]

مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين " (آل عمران: 144)، وقال تعالى: " ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " (النساء: 123). وفي الاية أعنى قوله: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " وجه آخر وهو أن يكون المراد بالعذاب الاخروي، والمضارع (يعذبكم) بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة: أما اليهود فقد نقل القرآن عنهم قولهم: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " (البقرة: 80) وأما النصارى فإنهم وإن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب والعذاب الذى أصاب المسيح بالصلب والاناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا ونحوه، و الكنيسة كانت تثبته عملا بما كانت تصدره من صكوك المغفرة. هذا. لكن الوجه هو الاول. قوله تعالى: " بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والارض وما بينهما واليه المصير " حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصلها: أن النظر في حقيقتكم يؤدى إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه، فإنكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم، ولا يزيد أحد من الخليقة من السماوات والارض وما بينهما على أنه مخلوق لله الذى هو المليك الحاكم فيه وفي غيره بما شاء وكيفما شاء وسيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه وفى غيره، وإذا كان كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم، ويعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزية أو كرامة أو غير ذلك من ان يريد في شئ ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة ومضى الحكم. فقوله: " بل أنتم بشر ممن خلق " بمنزلة إحدى مقدمات الحجة، وقوله: " ولله ملك السماوات والارض وما بينهما " مقدمة أخرى وقوله: " وإليه المصير " مقدمة ثالثة، وقوله: " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " بمنزلة نتيجة البيان التى تناقض دعواهم: أنه لا سبيل إلى تعذيبهم. قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " قال الراغب: الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة قال تعالى:

[ 253 ]

" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " أي سكون خال عن مجئ رسول الله. والاية خطاب ثان لاهل الكتاب متمم للخطاب السابق فإن الاية الاولى بينت لهم أن الله ارسل إليهم رسولا ايده بكتاب مبين يهدى بإذن الله إلى كل خير وسعادة، وهذه الاية تبين ان ذلك البيان الالهى إنما هو لاتمام الحجة عليهم ان يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير. وبهذا البيان يتأيد ان يكون متعلق الفعل (يبين لكم) في هذه الاية هو الذى في الاية السابقة، والتقدير: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي ان هذا الدين الذى تدعون إليه هو بعينه دينكم الذى كنتم تدينون به مصدقا لما معكم والذى يرى فيه من موارد الاختلاف فإنما هو بيان لما أخفيتموه من معارف الدين التى بينته الكتب الالهية، ولازم هذا الوجه ان يكون قوله: " يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضم بعض الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلق به وهو قوله: " ان تقولوا ما جاءنا " (الخ) إليه وانما جوز ذلك وقوع الفصل الطويل بين المتعلق والمتعلق به وهو شائع في اللسان، قال:

قربا مربط النعامة منى * لقحت حرب وائل عن حيال

قربا مربط النعامة منى * ان بيع الكريم بالشسع غال

 ويمكن ان يكون خطابا مستأنفا والفعل (يبين لكم) انما حذف متعلقه. للدلالة على العموم أي يبين لكم جميع ما يحتاج إلى البيان، أو لتفخيم أمره أي يبين لكم أمرا عظيما تحتاجون إلى بيانه، وقوله: " على فترة من الرسل " لا يخلو عن إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإن المعنى: يبين لكم ما مست حاجتكم إلى بيانه والزمان خال من الرسل حتى يبينوا لكم ذلك. وقوله: " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " متعلق بقوله: " قد جاءكم " بتقدير: حذر أن تقولوا، أو لئلا تقولوا. وقوله: " والله على كل شئ قدير " كأنه لدفع الدخل فإن اليهود كانت لا ترى

[ 254 ]

جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء فرد الله سبحانه مزعمتهم بأنها تنافى عموم القدرة، وقد تقدم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: " ما ننسخ من آية " الاية (البقرة: 106) في الجزء الاول من الكتاب.

(كلام في طريق التفكر الذى يهدى إليه القرآن وهو بحث مختلط)

 مما لا نرتاب فيه أن الحياة الانسانية حياة فكرية لا تتم له إلا بالادراك الذى نسميه فكرا، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أن الفكر كلما كان أصح وأتم كانت الحياة أقوم، فالحياة القيمة - بأية - سنة من السنن أخذ الانسان، وفي أي طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الانسان - ترتبط بالفكر القيم وتبتني عليه، وبقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوعة كقوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " (الانعام: 122)، وقوله: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون " (الزمر: 9)، وقوله: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " (المجادلة: 11)، وقوله: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الالباب " (الزمر: 18) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة التى لا تحتاج إلى الايراد. فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح وترويج طريق العلم مما لا ريب فيه. والقرآن الكريم مع ذلك يذكر أن ما يهدى إليه طريق من الطرق الفكرية، قال تعالى: " إن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم " (أسرى: 9) أي الملة أو السنة أو الطريقة التى هي أقوم، وعلى أي حال هي صراط حيوى كونه أقوم يتوقف على كون طريق الفكر فيه أقوم، وقال تعالى: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " (المائدة: 16) والصراط المستقيم هو الطريق البين الذى لا اختلاف فيه ولا تخلف أي لا يناقض الحق المطلوب، ولا يناقض بعض أجزائه بعضا.

[ 255 ]

ولم يعين في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيم الذى يندب إليه إلا أنه إحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية، وإدراكهم المركوز في نفوسهم، وإنك لو تتبعت الكتاب الالهى ثم تدبرت في آياته وجدت ما لعله يزيد على ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل، أو تلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة لاثبات حق أو لابطال باطل كقوله: " قل فمن يملك من الله شيئا ان أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه " (الاية) أو تحكى الحجة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وابراهيم وموسى وسائر الانبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: " قالت رسلهم افي الله شك فاطر السماوات والارض " (ابراهيم: 10)، وقوله: " واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم " (لقمان: 13)، وقوله: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه اتقتلون رجلا ان يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " الاية (غافر: 28)، وقوله حكاية عن سحرة فرعون: " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما انت قاض انما تقضى هذه الحياة الدنيا " إلى آخر ما احتجوا به (طه: 72). ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة ان يؤمنوا به أو بشئ مما هو من عنده أو يسلكوا سبيلا على العمياء وهم لا يشعرون، حتى انه علل الشرائع والاحكام التى جعلها لهم مما لا سبيل للعقل الا تفاصيل ملاكاته بامور تجرى مجرى الاحتجاجات كقوله " ان الصلاه تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر " (العنكبوت: 45) وقوله: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " (البقرة: 183)، وقوله في آية الوضوء: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " (المائدة: 6) إلى غير ذلك من الايات. وهذا الادراك العقلي اعني طريق الفكر الصحيح الذى يحيل إليه القرآن الكريم ويبنى على تصديقه ما يدعو إليه من حق أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شر أو ضر انما هو الذى نعرفه بالخلقة والفطرة مما يتغير ولا يتبدل ولا يتنازع فيه انسان وانسان، ولا يختلف فيه اثنان، وان فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنما هو من قبيل المشاجرة في البديهيات ينتهى إلى عدم تصور احد المتشاجرين أو كليهما حق المعنى المتشاجر فيه لعدم التفاهم الصحيح

[ 256 ]

وأما ان هذا الطريق الذى نعرفه بحسب فطرتنا الانسانية ما هو ؟ فلئن شككنا في شئ لسنا نشك ان هناك حقائق خارجية واقعية مستقلة منفكة عن اعمالنا كمسائل المبدء والمعاد، ومسائل أخرى رياضية أو طبيعية ونحو ما إذا أردنا أن نحصل عليها حصولا يقينيا استرحنا في ذلك إلى قضايا أولية بديهة غير قابلة للشك، وأخرى تلزمها لزوما كذلك، ونرتبها ترتيبا فكريا خاصا نستنتج منها ما نطلبه كقولنا: ا. ب، وكل ب. ج، ف‍ ا. ج، وكقولنا: لو كان ا. ب، فج. د، ولو كان ج. د، ف‍ ه‍. ز ينتج: لو كان ا ب، ف‍ ه‍. ز وكقولنا: إن كان ا. ب فج. د، ولو كان ج. د، ف‍ ه‍. ز لكن ا. ليس ب، ينتج: ه‍ ليس ز. وهذه الاشكال التى ذكرناها والمواد الاولية التى أشرنا إليها أمور بديهية يمتنع أن يرتاب فيها إنسان ذو فطرة سليمة إلا عن آفة عقلية أو لاختلاط في الفهم مقتض لعدم تعقل هذه الامور الضرورية بأخذ مفهوم تصوري أو تصديقي آخر مكان التصور أو التصديق البديهى، كما هو الغالب فيمن يتشكك في البديهيات. ونحن إذا راجعنا التشكيكات والشبه التى أوردت على هذا الطريق المنطقي المذكور وجدنا أنهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم ومقاصدهم على مثل القوانين المدونة في المنطق الراجعة إلى الهيئة والمادة بحيث لو حللنا كلامهم إلى المقدمات الابتدائية المأخوذة فيه عاد إلى مواد وهيئات منطقية، ولو غيرنا بعض تلك المقدمات أو الهيئات إلى ما يهتف المنطق بعدم انتاجها عاد الكلام غير منتج، ورأيتهم لا يرضون بذلك، وهذا بعينه أوضح شاهد على أن هؤلاء معترفون بحسب فطرتهم الانسانية بصحة هذه الاصول المنطقية مسلمون لها مستعملون اياها، جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم. 1 - كقول بعض المتكلمين: " لو كان المنطق طريقا موصلا لم يقع الاختلاف بين اهل المنطق لكنا نجدهم مختلفين في آرائهم " فقد استعمل القياس الاستثنائى من حيث لا يشعر، وقد غفل هذا القائل عن ان معنى كون المنطق آلة الاعتصام ان استعماله كما هو حقه يعصم الانسان من الخطأ، واما ان كل مستعمل له فإنما يستعمله صحيحا فلا يدعيه احد، وهذا كما ان السيف آلة القطع لكن لا يقطع الا عن استعمال صحيح 2 - وقول بعضهم: " ان هذه القوانين دونت ثم كملت تدريجا فكيف يبتنى عليها ثبوت الحقائق الواقعية ؟ وكيف يمكن إصابة الواقع لمن لم يعرفها أو لم يتسعملها ؟ وهذا

[ 257 ]

كسابقه قياس استثنائي ومن أردء المغالطة. وقد غلط القائل في معنى التدوين، فإن معناه الكشف التفصيلي عن قواعد معلولة للانسان بالفطرة إجمالا لا أن معنى التدوين هو الايجاد. 3 - وقول بعضهم: " إن هذه الاصول إنما روجت بين الناس لسد باب أهل البيت أو لصرف الناس عن اتباع الكتاب والسنة فيجب على المسلمين اجتنابها " وهذا كلام منحل إلى أقيسة اقترانية واستثنائية. ولم يتفطن المستدل به أن تسوية طريق لغرض فاسد أو سلوكه لغاية غير محمودة لا ينافى استقامته في نفسه كالسيف يقتل به المظلوم، وكالدين يستعمل لغير مرضاة الله سبحانه. 4 - وقول بعضهم: إن السلوك العقلي ربما انتهى بسالكه إلى ما يخالف صريح الكتاب والسنة كما نرى من آراء كثير من المتفلسفين " وهذا قياس اقترانى مؤلف غولط فيه من جهة أن هذا المنهى ليس هو شكل القياس ولا مادة بديهية بل مادة فاسدة غريبة داخلت المواد الصحيحة. وقول بعضهم: " المنطق إنما يتكفل تمييز الشكل المنتج من الشكل الفاسد وأما المواد فليس فيها قانون يعصم الانسان من الخطأ فيها ولا يؤمن الوقوع في الخطأ لو راجعنا غير أهل العصمة، فالمتعين هو الرجوع إليهم " وفيه مغالطة من جهة أنه سيق لبيان حجية أخبار الاحاد أو مجموع الاحاد والظواهر الظنية من الكتاب، ومن المعلوم أن الاعتصام بعصمة أهل العصمة عليهما السلام إنما يحصل فيما أيقنا من كلامهم بصدوره والمراد منه معا يقينا صادقا، وأنى يحصل ذلك في أخبار الاحاد التى هي ظنية صدورا ودلالة ؟ وكذا في كل ما دلالته ظنية وإذا كان المناط في الاعتصام هو المادة اليقينية فما الفرق بين المادة اليقينية المأخوذة من كلامهم والمادة اليقينية المأخوذة من المقدمات العقلية ؟ واعتبار الهيئة مع ذلك على حاله. وقولهم: " لا يحصل لنا اليقين بالمواد العقلية بعد هذه الاشتباهات كلها " فيه: أولا أنه مكابرة. وثانيا: أن هذا الكلام بعينه مقدمة عقلية يراد استعمالها يقينية، والكلام مشتمل على الهيئة.

[ 258 ]

6 - وقول بعضهم: " إن جميع ما يحتاج إليه النفوس الانسانية مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمة عليه السلام فما الحاجة إلى أسار الكفار والملاحدة ؟ ". والجواب عنه أن الحاجة إليها عين عن الحاجة التى تشاهد في هذا الكلام بعينه، فقد ألف تأليفا اقترانيا منطقيا، واستعملت فيه المواد اليقينية لكن غولط فيه أولا بأن تلك الاصول المنطقية بعض ما هو مخزون مودع في الكتاب والسنة، ولا طريق إليها إلا البحث المستقل. وثانيا: أن عدم حاجة الكتاب والسنة واستغناء هما عن ضميمة تنضم اليهما غير عدم حاجة المتمسك بهما والمتعاطي لهما، وفيه المغالطة، وما مثل هؤلاء الا كمثل الطبيب الباحث عن بدن الانسان لو ادعى الاستغناء عن تعلم العلوم الطبيعية والاجتماعية والادبية، لان الجميع متعلق بالانسان. أو كمثل الانسان الجاهل إذا استنكف عن تعلم العلوم معتذرا أن جميع العلوم مودعة في الفطرة الانسانية. وثالثا: أن الكتاب والسنة هما الداعيان إلى التوسع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة (وليست الا المقدمات البديهية أو المتكئة على البديهية) قال تعالى: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم أولوا الالباب " (الزمر: 18) إلى غير ذلك من الايات والاخبار الكثيرة، نعم الكتاب والسنة ينهيان عن اتباع ما يخالفهما مخالفة صريحة قطعية لان الكتاب والسنة القطعية من مصاديق ما دل صريح العقل على كونهما من الحق والصدق، ومن المحال أن يبرهن العقل ثانيا على بطلان ما برهن على حقيته أولا، والحاجة إلى تمييز المقدمات العقلية الحقة من الباطلة ثم التعلق بالمقدمات الحقة كالحاجة إلى تمييز الايات والاخبار المحكمة من المتشابهة ثم التعلق بالمحكمة منهما، وكالحاجة إلى تمييز الاخبار الصادرة حقا من الاخبار الموضوعة والمدسوسة وهى أخبار جمة. ورابعا: أن الحق حق أينما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أخذ، ولا يؤثر فيه إيمان حامله وكفره، ولا تقواه وفسقه، والاعراض عن الحق بغضا لحامله ليس إلا تعلقا بعصبية الجاهلية التى ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز وبلسان رسله عليهم السلام.

[ 259 ]

7 - وقول بعضهم: " إن طريق الاحتياط في الدين المندوب إليه في الكتاب والسنة الاقتصار على ظواهر الكتاب والسنة والاجتناب عن تعاطى الاصول المنطقية والعقلية فان فيه التعرض للهلاك الدائم والشقوة التى لا سعادة بعدها أبدا ". وفيه أن هذا البيان بعينه قد تعوطى فيه الاصول المنطقية والعقلية فإنه مشتمل على قياس استثنائي أخذ فيه مقدمات عقلية متبينة عند العقل ولو لم يكن كتاب ولا سنة. على أن البيان إنما يتم فيمن لا يفى استعداده بفهم الامور الدقيقة العقلية وأما المستعد الذى يطيق ذلك فلا دليل من كتاب ولا سنة ولا عقل على حرمانه من نيل حقائق المعارف التى لا كرامة للانسان ولا شرافة إلا بها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والعقل جميعا. 8 - وقول بعضهم - فيما ذكره -: " إن طريق السلف الصالح كان مباينا لطريق الفلسفة والعرفان وكانوا يستغنون بالكتاب والسنة عن استعمال الاصول المنطقية والعقلية كالفلاسفة، وعن استعمال طرق الرياضة كالعرفاء. ثم لما نقلت فلسفة يونان في عصر الخلفاء إلى العربية رام المتكلمون من المسلمين وقد كانوا من تبعة القرآن إلى تطبيق المطالب الفلسفية على المعارف القرآنية فتفرقوا بذلك إلى فرقتي الاشاعرة والمعتزلة، ثم نبغ آخرون في زمان الخلفاء تسموا بالصوفية والعرفاء كانوا يدعون كشف الاسرار والعلم بحقائق القرآن وكانوا يزعمون أنهم في غنى عن الرجوع إلى أهل العصمة والطهارة، وبذلك امتازت الفقهاء والشيعة - وهم المتمسكون بذيلهم عليهم السلام - عنهم، ولم يزل الامر على ذلك إلى ما يقرب من أواسط القرن الثالث عشر من الهجرة (قبل مائة سنة تقريبا) وعند ذلك أخذ هؤلاء (يعنى الفلاسفة والعرفاء) في التدليس والتلبيس وتأويل مقاصد القرآن والحديث إلى ما يوافق المطالب الفلسفية والعرفانية حتى اشتبه الامر على الاكثرين ". واستنتج من ذلك أن هذه الاصول مخالفة للطريقة الحقة التى يهدى إليها الكتاب والسنة. ثم أورد بعض الاشكالات على المنطق - مما أوردناه - كوجود الاختلاف بين المنطقيين أنفسهم، ووقوع الخطأ مع استعماله، وعدم وجود البديهيات واليقينيات بمقدار كاف في المسائل الحقيقية، ثم ذكر مسائل كثيرة من الفلسفة وعدها جميعا مناقضة لصريح ما يستفاد من الكتاب والسنة.

[ 260 ]

هذا محصل كلامه وقد لخصناه تلخيصا. وليت شعرى أي جهة من الجهات الموضوعة في هذا الكلام على كثرتها تقبل الاصلاح والترميم فقد استظهر الداء على الدواء. أما ما ذكره من تاريخ المتكلمين وانحرافهم عن الائمة عليهم السلام وقصدهم إلى تطبيق الفلسفة على القرآن وانقسامهم بذلك إلى فرقتي الاشارة والمعتزلة وظهور الصوفية وزعمهم أنهم ومتبعيهم في غنى عن الكتاب والسنة وبقاء الامر على هذا الحال وظهور الفلسفة العرفانية في القرن الثالث عشر كل ذلك مما يدفعه التاريخ القطعي، وسيجئ إلى إشارة إلى ذلك كله إجمالا. على أن فيه خطأ فاحشا بين الكلام والفلسفة فإن الفلسفة تبحث بحثا حقيقيا ويبرهن على مسائل مسلمة بمقدمات يقينية والكلام يبحث بحثا أعم من الحقيقي والاعتباري، ويستدل على مسائل موضوعة مسلمة بمقدمات هي أعم من اليقينية والمسلمة، فبين الفنين أبعد مما بين السماء والارض، فكيف يتصور أن يروم أهل الكلام في كلامهم تطبيق الفلسفة على القرآن ؟ على أن المتكلمين لم يزالوا منذ أول ناجم نجم منهم إلى يومنا هذا في شقاق مع الفلاسفة والعرفاء، والموجود من كتبهم ورسائلهم والمنقول من المشاجرات الواقعة بينهم أبلغ شاهد يشهد بذلك. ولعل هذا الاسناد مأخوذ من كلام بعض المستشرقين القائل بأن نقل الفلسفة إلى الاسلام هو الذى أوجد علم الكلام بين المسلمين. هذا، وقد جهل هذا القائل معنى الكلام والفلسفة وغرض الفنين والعلل الموجبة لظهور التكلم ورمى من غير مرمى. وأعجب من ذلك كله أنه ذكر بعد ذلك: الفرق بين الكلام والفلسفة بأن البحث الكلامي يروم إثبات مسائل المبدء والمعاد مع مراعاة جانب الدين والبحث الفلسفي يروم ذلك من غير أن يعتنى بأمر الدين ثم جعل ذلك دليلا على كون السلوك من طريق الاصول المنطقية والعقلية سلوكا مباينا لسلوك الدين مناقضا للطريق المشروع فيه هذا. فزاد في الفساد، فكل ذى خبرة يعلم أن كل من ذكر هذا الفرق بين الفنين أراد أن يشير إلى أن القياسات المأخوذة في الابحاث الكلامية جدلية مركبة من مقدمات مسلمة: (المشهورات والمسلمات) لكون الاستدلال بها على مسائل مسلمة، وما أخذ في الابحاث الفلسفية منها

[ 261 ]

قياسات برهانية يراد بها إثبات ما هو الحق لا إثبات ما سلم ثبوتها تسليما، وهذا غير أن يقال إن إحد الطريقين (طريق الكلام) طريق الدين والاخر طريق مباين لطريق الدين لا يعتنى به وإن كان حقا. وأما ما ذكره من الاشكال على المنطق والفلسفة والعرفان فما اعترض به على المنطق قد تقدم الكلام فيه، وأما ما ذكره في موضوع الفلسفة والعرفان فإن كان ما ذكره على ما ذكره وفهم منه ثم ناقض ما هو صريح الدين الحق فلا ريب لمرتاب في أنه باطل ومن هفوات الباحثين في الفلسفة أو السالكين مسلك العرفان وأغلاطهم، لكن الشأن في أن هفوات أهل فن وسقطاتهم وانحرافهم لا تحمل على عاتق الفن، وإنما يحمل على قصور الباحثين في بحثهم. وكان عليه أن يتأمل الاختلافات الناشئة بين المتكلمين: أشعريهم ومعتزليهم وإماميهم فقد اقتسمت هذه الاختلافات الكلمة الواحدة الاسلامية فجعلتها بادء بدء ثلاثا وسبعين فرقة ثم فرقت كل فرقة إلى فرق، ولعل فروع كل أصل لا ينقص عددا من أصولها. فليت شعرى هل أوجد الاختلافات شئ غير سلوك طريق الدين ؟ وهل يسع لباحث أن يستدل بذلك على بطلان الدين وفساد طريقة ؟ أو يأتي ههنا بعذر لا يجرى هناك إو يرمى أولئك برذيلة معنوية لا توجد عينها أو مثلها في هؤلاء ؟ ! ونظير فن الكلام في ذلك الفقه الاسلامي وانشعاب الشعب والطوائف فيه ثم الاختلافات الناشئة بين كل طائفة أنفسهم، وكذلك سائر العلوم والصناعات على كثرتها واختلافها. وأما ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة وتعين طريق الكتاب والسنة وهو مسلك الدين فلا يسعه إلا أن يرى طريق التذكر وهو الذى نسب إلى أفلاطون اليونانى وهو أن الانسان لو تجرد عن الهوسات النفسانية وتحلى بحلية التقوى والفضائل الروحية ثم رجع إلى نفسه في أمر بان له الحق فيه. هذا هو الذى ذكروه، وقد اختاره بعض القدماء من يونان وغيرهم وجمع من المسلمين وطائفة من فلاسفة الغرب، غير أن كلا من القائلين به قرره بوجه آخر: فمنهم من قرره على أن العلوم الانسانية فطرية بمعنى أنها حاصلة له، موجودة معه بالفعل في أول وجوده، فلا جرم يرجع معنى حدوث كل علم له جديد إلى حصول التذكر.

[ 262 ]

ومنهم من قرره على أن الرجوع إلى النفس بالانصراف عن الشواغل المادية يوجب انكشاف الحقائق لا بمعنى كون العلوم عند الانسان بالفعل بل هي له بالقوة وإنما الفعلية في باطن النفس الانسانية المفصولة عن الانسان عند الغفلة الموصولة به عند التذكر، وهذا ما يقول به العرفاء وأهل الاشراق وأترابهم من سائر الملل والنحل. ومنهم من قرره على نحو ما قرره العرفاء غير أنه اشتراط في ذلك التقوى واتباع الشرع علما وعملا كعدة من المسلمين ممن عاصرناهم وغيرهم زعما منهم أن اشتراط اتباع الشرع يفرق ما بينهم وبين العرفاء والمتصوفة، وقد خفى عليهم أن العرفاء سبقوهم في هذا الاشتراط كما يشهد به كتبهم المعتبرة الموجودة، فالقول عين ما قال به المتصوفة، وإنما الفرق بين الفريقين في كيفية الاتباع وتشخيص معنى التبعية، وهؤلاء يعتبرون في التبعية مرحلة الجمود على الظواهر محضا، فطريقهم طريق مولد من تناكح طريقي المتصوفة والاخبارية إلى غير ذلك من التقريرات. والقول بالتذكر إن لم يرد به إبطال الرجوع إلى الاصول المنطقية والعقلية لا يخلو من وجه صحة في الجملة فإن الانسان حينما يوجد بهويته يوجد شاعرا بذاته وقوى ذاته وبعلله، عالما بها علما حضوريا، ومعه من القوى ما يبدل علمه الحضوري إلى علم حصولي. ولا توجد قوة هي مبدء الفعل إلا وهى تفعل فعلها فللانسان في أول وجوده شئ من العلوم وإن كانت متأخرة عنه بحسب الطبع لكنه معه بالزمان. هذا، وأيضا حصول بعض العلوم للانسان إذا انصرف عن التعلقات المادية بعض الانصراف لا يسع لاحد إنكاره. وإن أريد بالقول بالتذكر إبطال أثر الرجوع إلى الاصول المنطقية والعقلية بمعنى أن ترتيب المقدمات البديهية المتناسبة يوجب خروج الانسان من القوة إلى الفعل بالنسبة إلى العلم بما يعد نتيجة لها، أو بمعنى أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس بالتخلية يغنى الانسان عن ترتيب المقدمات العلمية لتحصيل النتائج فهو من أسخف القول الذى لا يرجع إلى محصل. أما القول بالتذكر بمعنى إبطاله الرجوع إلى الاصول المنطقية والعقلية فيبطله أولا: أن البحث العميق في العلوم والمعارف الانسانية يعطى أن علومه التصديقية تتوقف على علومه التصورية، والعلوم التصورية تنحصر في العلوم الحسية أو المنتزع منها بنحو من الانحاء (1) وقد دل القياس والتجربة على أن فاقد حس من الحواس فاقد لجميع العلوم المنتهية

______________________________

(1) راجع أصول الفلسفة: المقالة الخامسة. (*)

[ 263 ]

إلى ذلك الحس، تصورية كانت أو تصديقية، نظرية كانت أو بديهية، ولو كانت العلوم موجودة للهوية الانسانية بالفعل لم يؤثر الفقد المفروض في ذلك، والقول بأن العمى والصمم ونحوهما مانعه عن التذكر رجوع عن أصل القول وهو أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس بالانصراف عن التعلقات المادية مفيد لذكر المطلوب بارتفاع الغفلة. وثانيا: أن التذكر إنما يوفق له بعض أفراد هذا النوع، وعامة الافراد يستعملون في مقاصدهم الحيوية سنة التأليف والاستنتاج ويستنتجون من ذلك الالوف بعد الالوف من النتائج المستقيمة، وعلى ذلك يجرى الحال في جميع العلوم والصناعات، وإنكار شئ من ذلك مكابرة، وحمل ذلك على الاتفاق مجازفة فالاخذ بهذه السنة أمر فطرى للانسان لا محيد عنه، ومن المحال أن يجهز نوع من الانواع بجهاز فطرى تكويني ثم يخبط في عمله ولا ينجح في مسعاه. وثالثا: أن جميع ما ينال هؤلاء بما يسمونه تذكرا يعود بالتحليل إلى مقدمات مترتبة ترتيبا منطقيا بحيث يختل أمر النتيجة فيها باختلال شئ من الاصول المقررة في هيئتها ومادتها، فهم يستعملون الاصول المنطقية من حيث لا يحسون به، والاتفاق والصحابة الدائمان لا محصل لهما، وعليهم أن يأتوا بصورة علمية تذكرية صحيحة لا تجرى فيها اصول المنطق. وأما القول بالتذكر بمعنى إغنائه عن الرجوع إلى الاصول المنطقية - ويرجع محصله إلى إن هناك طريقين: طريق المنطق وطريق التذكر باتباع الشرع مثلا، والطريقان سواء في الاصابة أو أن طريق التذكر أفضل وأولى لاصابته دائما لموافقته قول المعصوم بخلاف طريق المنطق والعقل - ففيه خطر الوقوع في الغلط دائما أو غالبا. وكيف كان يرد عليه الاشكال الثاني الوارد على ما تقدمه فان الاحاطة بجميع مقاصد الكتاب والسنة ورموزها وأسرارها على سعة نطاقها العجيبة غير متأت إلا للاحاد من الناس المتوغلين في التدبر في المعارف الدينية على ما فيها من الارتباط العجيب، والتداخل البالغ بين أصولها وفروعها وما يتعلق منها بالاعتقاد وما يتعلق منها بالاعمال الفردية والاجتماعية، ومن المحال أن يكلف الانسان تكوينا بالتجهيز التكويني بما وراء طاقته واستطاعته أو يكلف بذلك تشريعا فليس على الناس إلا أن يعقلوا مقاصد الدين بما هو الطريق المألوف عندهم في شؤن حياتهم الفردية والاجتماعية، وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج

[ 264 ]

المجهولات، والمعلوم من الشرع بعض أفراد المعلومات لقيام البرهان على صدقه. ومن العجيب أن بعض القائلين بالتذكر جعل هذا بعينه وجها للتذكر على المنطق فذكر أن العلم بالحقائق الواقعية إن صح حصوله باستعمال المنطق والفلسفة - ولن يصح - فإنما يتاتى ذلك لمثل أرسطو وابن سينا من أوحديى الفلسفة، وليس يتأتى لعامة الناس فكيف يمكن أن يأمر الشارع باستعمال المنطق والاصول الفلسفية طريقا إلى نيل الواقعيات ؟ ولم يتفطن أن الاشكال بعينه مقلوب عليه فإن أجاب بأن استعمال التذكر ميسور لكل أحد على حسب اتباعه أجيب بأن استعمال المنطق قليلا أو كثيرا ميسور لكل أحد على حسب استعداده لنيل الحقائق ولا يجب لكل أحد أن ينال الغاية، ويركب ما فوق الطاقة. ويرد عليه ثانيا: الاشكال الثالث السابق فإن هؤلاء يستعملون طريق المنطق في جميع المقاصد التى يبدونها باسم التذكر كما تقدم حتى في البيان الذى أوردوه لابطال طريق المنطق وتحقيق طريق التذكر، وكفى به فسادا. ويرد عليه ثالثا: أن الوقوع في الخطأ واقع بل غالب في طريق التذكر الذى ذكروه فإن التذكر كما زعموه هو الطريق الذى كان يسلكه السلف الصالح دون طريق المنطق، وقد نقل الاختلاف والخطأ فيما بينهم بما ليس باليسير كعدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن اتفق المسلمون على علمه واتباعه الكتاب والسنة، أو اتفق الجمهور على فقهه وعدالته، وكعدة من أصحاب الائمة على هذه النعوت كأبى حمزة وزرارة وأبان وأبى خالد الهشامين ومؤمن الطاق والصفوانين وغيرهم، فالاختلافات الاساسية بينهم مشهورة معروفة ومن البين أن المختلفين لا ينال الحق إلا أحدهما وكذلك الفقهاء والمحدثون من القدماء كالكليني والصدوق وشيخ الطائفة والمفيد والمرتضى وغيرهم رضوان الله عليهم، فما هو مزية التذكر على التفكر المنطقي ؟ فكان من الواجب حينئذ التماس مميز آخر غير التذكر يميز بين الحق والباطل، وليس إلا التفكر المنطقي فهو المرجع والموئل. ويرد عليه رابعا: أن محصل الاستدلال أن الانسان إذا تمسك بذيل أهل العصمة والطهارة لم يقع في خطأ، ولازمه ما تقدم أن الرأى المأخوذ من المعصوم فيما سمعه منه سمعا يقينيا وعلم بمراده علما يقينيا لا يقع فيه خطأ، وهذا مما لا كلام فيه لاحد. وفى الحقيقة المسموع من المعصوم أو المأخوذ منه مادة ليس هو عين التذكر ولا الفكر

[ 265 ]

المنطقي ثم يعقبه هو أن: هذا ما يراه المعصوم، وكل ما يراه حق، فهذا حق وهذا برهان قطعي النتيجة، وأما غير هذه الصورة من مؤديات أخبار الاحاد أو ما يماثلها مما لا يفيد إلا الظن فإن ذلك لا يفيد شيئا ولا يوجد دليل على حجية الاحاد في غير الاحكام إلا مع موافقة الكتاب ولا الظن يحصل على شئ مع فرض العلم على خلافه من دليل علمي. 9 - وقول بعضهم: " إن الله سبحانه خاطبنا في كلامه بما نألفه من الكلام الدائر بيننا، والنظم والتأليف الذى يعرفه أهل اللسان، وظاهر البيانات المشتملة على الامر والنهى والوعد والوعيد والقصص والحكمة والموعظة والجدال بالتى هي أحسن، وهذه أمور لا حاجة في فهمها وتعقلها إلى تعلم المنطق والفلسفة وسائر ما هو تراث الكفار والمشركين وسبيل الظالمين، وقد نهانا عن ولايتهم والركون إليهم واتخاذ دؤوبهم واتباع سبلهم، فليس على من يؤمن بالله ورسوله إلا أن يأخذ بظواهر البيانات الدينية، ويقف على ما يتلقاه الفهم العادى من تلك الظواهر من غير أن يؤولها أو يتعداها إلى غيرها " وهذا ما يراه الحشوية والمشبهة وعدة من أصحاب الحديث. وهو فاسد أما من حيث الهيئة فقد استعمل فيه الاصول المنطقية وقد أريد بذلك المنع عن استعمالها بعينها، ولم يقل القائل بأن القرآن يهدى إلى استعمال أصول المنطق: إنه يجب على كل مسلم أن يتعلم المنطق، لكن نفس الاستعمال مما لا محيص عنه، فما مثل هؤلاء في قولهم هذا إلا مثل من يقول: إن القرآن إنما يريد أن يهدينا إلى مقاصد الدين فلا حاجة لنا إلى تعلم اللسان الذى هو تراث أهل الجاهلية، فكما أنه لا وقع لهذا الكلام بعد كون اللسان طريقا يحتاج إليه الانسان في مرحلة التخاطب بحسب الطبع وقد استعمله الله سبحانه في كتابه والنبى صلى الله عليه وآله وسلم في سنته كذلك لا معنى لما اعترض به على المنطق بعد كونه طريقا معنويا يحتاج إليه الانسان في مرحلة التعقل بحسب الطبع وقد استعمله الله سبحانه في كتابه والنبى صلى الله عليه وآله وسلم في سنته. وأما بحسب المادة فقد أخذت فيه مواد عقلية، غير أنه غولط فيه من حيث التسوية بين المعنى الظاهر من الكلام والمصاديق التى تنطبق عليها المعاني والمفاهيم، فالذي على المسلم المؤمن بكتاب الله أن يفهمه من مثل العلم والقدرة والحياة والسمع و البصر والكلام والمشيئة والارادة مثلا أن يفهم معاني تقابل الجهل والعجز والممات والصمم والعمى ونحوها، وأما أن يثبت لله سبحانه علما كعلمنا وقدرة كقدرتنا و حياة كحياتنا وسمعا وبصرا وكلاما

[ 266 ]

ومشيئة وإرادة كذلك فليس له ذلك لا كتابا ولا سنة ولا عقلا، وقد تقدم شطر من الكلام المتعلق بهذا الباب في بحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب. 10 - وقول بعضهم: " إن الدليل على حجية المقدمات التى قامت عليها الحجج العقلية ليس إلا المقدمة العقلية القائلة بوجوب اتباع الحكم العقلي، وبعبارة أخرى لا حجة على حكم العقل إلا نفس العقل وهذا دور مصرح فلا محيص في المسائل الخلافية عن الرجوع إلى قول المعصوم من نبى أو إمام من غير تقليد ". هذا، وهو أسخف تشكيك أورد في هذا الباب وإنما أريد به تشييد بنيان فأنتج هدمه، فإن القائل أبطل به حكم العقل بالدور المصرح على زعمه ثم لما عاد إلى حكم الشرع لزمه إما أن يستدل عليه بحكم العقل وهو الدور، أو بحكم الشرع وهو الدور فلم يزل حائرا يدور بين دورين. إلا أن يرجع إلى التقليد وهو حيرة ثانية. وقد اشتبه عليه الامر في تحصيل معنى " وجوب متابعة حكم العقل " فإن أريد بوجوب متابعة حكم العقل ما يقابل الحظر والاباحة ويستتبع مخالفته ذما أو عقابا نظير وجوب متابعة الناصح المشفق، ووجوب العدل في الحكم ونحو ذلك فهو حكم العقل العملي ولا كلام لنا فيه، وإن أريد بوجوب المتابعة أن الانسان مضطر على تصديق النتيجة إذا استدل عليه بمقدمات علمية وشكل صحيح علمي مع التصور التام لاطراف القضايا فهذا أمر يشاهده الانسان بالوجدان، ولا معنى عندئذ لان يسأل العقل عن الحجة، لحجية حجته لبداهة حجيته. وهذا نظير سائر البديهيات، فإن الحجة على كل بديهى انما هي نفسه، ومعناه أنه مستغن عن الحجة. 11 - وقول بعضهم: " ان غاية ما يرومه المنطق هو الحصول على الماهيات الثابتة للاشياء، والحصول على النتائج بالمقدمات الكلية الدائمة الثابتة، وقد ثبت بالابحاث العلمية اليوم أن لا كلى ولا دائم ولا ثابت في خارج ولا ذهن وإنما هي الاشياء تجرى تحت قانون التحول العام من غير أن يثبت شئ بعينه على حال ثابتة أو دائمة أو كلية. وهذا فاسد من جهة أنه استعمل فيه الاصول المنطقية هيئة ومادة كما هو ظاهر لمن تأمل فيه. على أن المتعرض يريد بهذا الاعتراض بعينه أن يستنتج أن المنطق القديم غير صحيح البتة، وهى نتيجة كلية دائمة ثابتة مشتملة على مفاهيم ثابتة، وإلا لم يفده شيئا

[ 267 ]

فالاعتراض يبطل نفسه. ولعلنا خرجنا عما هو شريطة هذا الكتاب من إيثار الاختصار مهما أمكن فلنرجع إلى ما كنا فيه أولا: القرآن الكريم يهدى العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله وسلوك ما تألفه وتعرفه بحسب طبعها وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، والذى فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية وهو البرهان، وأن تستعمل فيما له تعلق بالعمل من سعادة وشقاوة وخير وشر ونفع وضرر وما ينبغى أن يختار ويؤثر وما لا ينبغى، وهى الامور الاعتبارية، المقدمات المشهورة أو المسلمة، وهو الجدل، وأن تستعمل في موارد الخير والشر المظنونين مقدمات ظنية لانتاج الارشاد والهداية إلى خير مظنون، أو الردع عن شر مظنون، وهى العظة قال تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي أحسن " (النحل: 125) والظاهر أن المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته الموعظة الحسنة والجدال. فان قلت: طريق التفكر المنطقي مما يقوى عليه الكافر والمؤمن، ويتأتى من الفاسق والمتقي، فما معنى نفيه تعالى العلم المرضى والتذكر الصحيح عن غير أهل التقوى والاتباع كما في قوله تعالى: " وما يتذكر الا من ينيب " (غافر: 13)، وقوله: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " (الطلاق: 2)، وقوله: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى " (النجم: 30) والروايات الناطقة بأن العلم النافع لا ينال الا بالعمل الصالح كثيرة مستفيضة. قلت: اعتبار الكتاب والسنة التقوى في جانب العلم مما لا ريب فيه، غير أن ذلك ليس لجعل التقوى أو التقوى الذى معه التذكر طريقا مستقلا لنيل الحقائق وراء الطريق الفكري الفطري الذى يتعاطاه الانسان تعاطيا لا مخلص له منه، إذ لو كان الامر على ذلك لغت جميع الاحتجاجات الواردة في الكتاب على الكفار والمشركين وأهل الفسق والفجور ممن لا يتبع الحق، ولا يدرى ما هو التقوى والتذكر فإنهم لا سبيل لهم على هذا الفرض إلى

[ 268 ]

ادراك المطلوب وحالهم هذا الحال، ومع فرض تبدل الحال يلغو الاحتجاج معهم، ونظيرها ما ورد في السنة من الاحتجاج مع شتى الفرق والطوائف الضالة. بل اعتبار التقوى لرد النفس الانسانية المدركة إلى استقامتها الفطرية، توضيح ذلك: أن الانسان بحسب جسميته مؤلف من قوى متضادة بهيمية وسبعية محتدها البدن العنصري، وكل واحدة منها تعمل عملها الشعورى الخاص بها من غير أن ترتبط بغيرها من القوى ارتباطا تراعى به حالها في عملها إلا بنحو الممانعة والمضادة فشهوة الغذاء تبعث الانسان إلى الاكل والشرب من غير أن يحد بحد أو يقدر بقدر من ناحية هذه القوة إلا ان يمتنع منهما المعدة مثلا لانها لا تسع الا مقدارا محدودا، أو يمتنع الفك مثلا لتعب وكلال يصيب عضلته من المضغ إذا أكثر من الاكل وأمثال ذلك، فهذه امور نشاهدها من أنفسنا دائما. وإذا كان كذلك كان تمايل الانسان إلى قوة من القوى، واسترساله في طاعة أو امرها، والانبعاث إلى ما تبعث إليه يوجب طغيان القوة المطاعة، واضطهاد القوة المضادة لها اضطهادا ربما بلغ بها إلى حد البطلان أو كاد يبلغ، فالاسترسال في شهوة الطعام أو شهوة النكاح يصرف الانسان عن جميع مهمات الحياة من كسب وعشرة وتنظيم أمر منزل وتربية اولاد وسائر الواجبات الفردية والاجتماعية التى يجب القيام بها، ونظيره الاسترسال في طاعة سائر القوى الشهوية والقوى، الغضبية، وهذا ايضا مما لا نزال نشاهدها من انفسنا ومن غيرنا خلال ايام الحياة. وفي هذا الافراط والتفريط هلاك الانسانية فإن الانسان هو النفس المسخرة لهذه القوى المختلفة، ولا شأن له إلا سوق المجموع من القوى بأعمالها في طريق سعادته في الحياة الدنيا والاخرة، وليست إلا حياة علمية كمالية، فلا محيص له عن أن يعطى كلا من القوى من حظها ما لا تزاحم به القوى الاخرى ولا تبطل من رأس. فالانسان لا يتم له معنى الانسانية الا إذا عدل قواه المختلفه تعديلا يورد كلا منها وسط الطريق المشروع لها، وملكة الاعتدال في كل واحدة من القوى هي التى نسميها بخلقها الفاضل كالحكمة والشجاعة والعفة وغيرها ويجمع الجميع العدالة. ولا ريب ان الانسان إنما يحصل على هذه الافكار الموجودة عنده ويتوسع في معارفه وعلومه الانسانية باقتراح هذه القوى الشعورية اعمالها ومقتضياتها، بمعنى ان الانسان في

[ 269 ]

اول كينونته صفر الكف من هذه العلوم والمعارف الوسيعة حتى تشعر قواه الداخلة بحوائجها، وتقترح عليه ما تشتهيها وتطلبها، وهذه الشورات الابتدائية هي مبادئ علوم الانسان ثم لا يزال الانسان يعمم ويخصص ويركب ويفصل حتى يتم له امر الافكار الانسانية. ومن هنا يحدس اللبيب ان توغل الانسان في طاعة قوة من قواه المتضادة وإسرافه في إجابة ما تقترح عليه يوجب انحرافه في افكاره ومعارفه بتحكيم جميع ما تصدقه هذه القوة على ما يعطيه غيرها من التصديقات والافكار وغفلته عما يقتضيه غيرها. والتجربة تصدق ذلك فإن هذا الانحراف هو الذى نشاهده في الافراد المسرفين المترفين من حلفاء الشهوة، وفى البغاة الطغاة الظلمة المفسدين امر الحياة في المجتمع الانساني فإن هؤلاء الخائضين في لجج الشهوات، العاكفين على لذائذ الشرب والسماع والوصال لا يكادون يستطيعون التفكر في واجبات الانسانية، ومهام الامور التى يتنافس فيها أبطال الرجال وقد تسربت روح الشهوة في قعودهم وقيامهم واجتماعهم وافتراقهم وغير ذلك، وكذلك الطغاة المستكبرون أقسياء القلوب لا يتأتى لهم ان يتصوروا رأفة وشفقة ورحمة وخضوعا وتذللا حتى فيما يجب فيه ذلك، وحياتهم تمثل حالهم الخبيث الذى هم عليه في جميع مظاهرها من تكلم وسكوت ونظر وغض وإقبال وإدبار، فهؤلاء جميعا سالكوا طريق الخطأ في علومهم، كل طائفة منهم مكبة على ما تناله من العلوم والافكار المحرفة المنحرفة المتعلقة بما عنده، غافلون عما وراءه، وفيما وراءه العلوم النافعة والمعارف الحقة الانسانية فالمعارف الحقة والعلوم النافعة لا تتم للانسان إلا إذا صلحت اخلاقة وتمت له الفضائل الانسانية القيمة، وهو التقوى. فقد تحصل ان الاعمال الصالحة هي التى تحفظ الاخلاق الحسنة، والاخلاق الحسنة هي التى تحفظ المعارف الحقة والعلوم النافعة والافكار الصحيحة، ولا خير في علم لا عمل معه. وهذا البحث وإن سقناه سوقا علميا اخلاقيا لمسيس الحاجة إلى التوضيح إلا أنه هو الذى جمعه الله تعالى في كلمة حيث قال: " واقصد في مشيك " (لقمان: 19) فإنه كناية عن أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، وقال: " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " (الانفال: 29) وقال: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا اولى الالباب " (البقرة: 197)، أي لانكم أولوا الالباب تحتاجون في عمل لبكم إلى التقوى والله أعلم، وقال تعالى: " ونفس

[ 270 ]

وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس: 10) وقال: " واتقوا الله لعلكم تفلحون (آل عمران: 130). ومن طريق آخر: قال تعالى: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا " (مريم: 60) فذكر ان اتباع الشهوات يسوق إلى الغى، وقال تعالى: " سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون في الارض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " (الاعراف: 146: فذكر أن أسراء القوى الغضبية ممنوعون من اتباع الحق مسوقون إلى سبيل الغى، ثم ذكران ذلك بسبب غفلتهم عن الحق، وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل اولئك هم الغافلون " (الاعراف: 179: فذكر ان هؤلاء الغافلين إنما هم غافلون عن حقائق المعارف التى للانسان، فقلوبهم وأعينهم وآذانهم بمعزل عن نيل ما يناله الانسان السعيد في إنسانيتة، وإنما ينالون بها ما تناله الانعام أو ما هو أضل من الانعام وهى الافكار التى إنما تصوبها وتميل إليها وتألف بها البهائم السائمة والسباع الضارية. فظهر من جميع ما تقدم أن القرآن الكريم إنما اشترط التقوى في التفكر والتذكر والتعقل، وقارن العلم بالعمل للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم وخلوصه من شوائب الاوهام الحيوانية والالقاءات الشيطانية. نعم هاهنا حقيقة قرآنية لا مجال لانكارها وهو أن دخول الانسان في حظيرة الولاية الالهية، وتقربه إلى ساحة القدس والكبرياء يفتح له بابا الى ملكوت السماوات والارض يشاهد منه ما خفى على غيره من آيات الله الكبرى، وأنوار جبروته التى لا تطفأ، قال الصادق عليه السلام: لو لا ان الشياطين يحومون حول قلوب بنى آدم لرأوا ملكوت السماوات والارض، وفيما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو لا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع، وقد قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت: 69) ويدل على ذلك ظاهر قوله تعالى: " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " (الحجر: 99) حيث فرع اليقين على العبادة، وقال تعالى: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " (الانعام: 75) فربط

[ 271 ]

وصف الايقان بمشاهدة، الملكوت، وقال تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين " (التكاثر: 7) وقال تعالى: " إن كتاب الابرار لفى عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون " (المطففين: 21) وليطلب البحث المستوفى في هذا المعنى مما سيجئ من الكلام في قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " الاية (المائدة: 55: وفي قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " الاية (المائدة: 105). ولا ينافى ثبوت هذه الحقيقة ما قدمناه ان القرآن الكريم يؤيد طريق التفكر الفطري الذى فطر عليه الانسان وبنى عليه بنية الحياة الانسانية، فإن هذا طريق غير فكرى، وموهبة إلهية يختص بها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21400454

  • التاريخ : 18/04/2024 - 22:50

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net