00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 98 ـ 183 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

[ 98 ]

(بيان)

 الكلام معطوف إلى ما في أول السورة من الايات النازلة في أمر النساء من آيات الازدواج والتحريم والارث وغير ذلك، الذى يفيده السياق أن هذه الايات إنما نزلت بعد تلك الايات، وان الناس كلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر النساء حيثما نزلت آيات أول السورة فأحيت ما أماته الناس من حقوق النساء في الاموال والمعاشرات وغير ذلك. فأمره الله سبحانه أن يجيبهم ان الذى قرره لهن على الرجال من الاحكام إنما هو فتيا إلهية ليس له في ذلك من الامر شئ، ولا ذاك وحده بل ما يتلى عليهم في الكتاب في يتامى النساء ايضا حكم إلهى ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه شئ من الامر، ولا ذاك وحده بل الله يأمرهم أن يقوموا في اليتامى بالقسط. ثم ذكر شيئا من أحكام الاختلاف بين المرأة وبعلها يعم به البلوى. قوله تعالى. " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " قال الراغب: الفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام، ويقال: استفتيته فأفتانى بكذا (انتهى). والمحصل من موارد استعماله أنه جواب الانسان عن الامور المشكلة بما يراه باجتهاد من نظره أو هو نفس ما يراه فيما يشكل بحسب النظر البدائي الساذج كما يفيده نسبة الفتوى إليه تعالى. والاية وان احتملت معاني شتى مختلفة بالنظر الى ما ذكروه من مختلف الوجوه في تركيب ما يتلوها من قوله " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ) الا أن ضم الاية إلى الايات الناظرة في أمر النساء في أول السورة يشهد بأن هذه الاية انما نزلت بعد تلك. ولازم ذلك أن يكون استفتاؤهم في النساء في عامة ما أحدثه الاسلام وأبدعه من أحكامهن مما لم يكن معهودا معروفا عندهم في الجاهلية، وليس الا ما يتعلق بحقوق النساء في الارث والازدواج دون أحكام يتاماهن وغير ذلك مما يختص بطائفة منهن دون جميعهن فان هذا المعنى انما يتكفله قوله " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ) فالاستفتاء إنما كان في ما يعم النساء بما هن نساء من أحكام الارث. وعلى هذا فالمراد بما أفتاه الله فيهن في قوله " قل الله يفتيكم فيهن " ما بينه تعالى

[ 99 ]

في آيات أول السورة، ويفيد الكلام حينئذ ارجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه وصرفه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: يسألونك ان تفتيهم في امرهن قل: الفتوى إلى الله وقد أفتاكم فيهن بما افتى فيما انزل من آيات اول السورة. قوله تعالى: " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء - إلى قوله - والمستضعفين من الولدان " تقدم أن ظاهر السياق أن حكم يتامى النساء والمستضعفين من الولدان إنما تعرض له لاتصاله بحكم النساء كما وقع في آيات صدر السورة لا لكونه داخلا فيما استفتوا عنه، وأنهم إنما استفتوا في النساء فحسب. ولازمه أن يكون قوله " وما يتلى عليكم " معطوفا على الضمير المجرور في قوله " فيهن " على ما جوزه الفراء وإن منع عنه جمهور النحاة وعلى هذا يكون المراد من قوله " ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ) الاحكام والمعاني التى تتضمنها الايات النازلة في يتامى النساء والولدان، المودعة في أول السورة. والتلاوة كما يطلق على اللفظ يطلق على المعنى إذا كان تحت اللفظ، والمعنى: قل الله يفتيكم في الاحكام التى تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء. وربما يظهر من بعضهم أنه يعطف قوله " وما يتلى عليكم " على موضع قوله " فيهن " بعناية أن المراد بالافتاء هو التبيين، والمعنى: قل الله يبين لكم ما يتلى عليكم في الكتاب. وربما ذكروا للكلام تراكيب اخر لا تخلو عن تعسف لا يرتكب في كلامه تعالى مثله كقول بعضهم: إن قوله " وما يتلى عليكم " معطوف على موضع اسم الجلالة في قوله " قل الله " أو على ضمير المستكن في قوله " يفتيكم "، وقول بعضهم: انه معطوف على " النساء " في قوله " في النساء " وقول بعضهم: إن الواو في قوله " وما يتلى عليكم في الكتاب " للاستيناف، والجملة مستأنفة، " وما يتلى عليكم " مبتدء خبره قوله " في الكتاب " والكلام مسوق للتعظيم، وقول بعضهم إن الواو في قوله " وما يتلى عليكم " للقسم، ويكون قوله " في يتامى النساء " بدلا من قوله " فيهن " والمعنى: قل الله يفتيكم - أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب - في يتامى النساء (الخ) ولا يخفى ما في جميع هذه الوجوه من التعسف الظاهر. وأما قوله " اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " فوصف ليتامى

[ 100 ]

النساء وفيه إشارة إلى نوع حرمانهن، الذى هو السبب لتشريع ما شرع الله تعالى لهن من الاحكام فألغى السنة الجائرة الجارية عليهن، ورفع الحرج بذلك عنهن، وذلك انهم كانوا يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فإن كانت ذات جمال وحسن تزوجوا بها فاستمتعوا من جمالها ومالها، وإن كانت شوهاء دميمة لم يتزوجوا بها وعضلوها عن التزوج بالغير طعما في مالها. ومن هنا يظهر (أولا). أن المراد بقوله " ما كتب لهن " هو الكتابة التكوينية وهو التقدير الالهى فإن الصنع والايجاد هو الذى يخد للانسان سبيل الحياة فيعين له أن يتزوج إذا بلغ مبلغه، وأن يتصرف حرا في ماله من المال والقنية، فمنعه من الازدواج والتصرف في مال نفسه منع له مما كتب الله له في خلقه هذه الخلقة. و (ثانيا): أن الجار المحذوف في قوله " أن تنكحوهن " هو لفظه " عن " والمراد الرغبة عن نكاحهن، والاعراض عنهن لا الرغبة في نكاحهن فإن التعرض لذكر الرغبة عنهن هو الانسب للاشارة إلى حرمانهن على ما يدل عليه قوله قبله " لا تؤتونهن ما كتب لهن " وقوله بعده " والمستضعفين من الولدان " فمعطوف على قوله " يتامى النساء " وقد كانوا يستضعفون الولدان من اليتامى، ويحرمونهم من الارث معتذرين بأنهم لا يركبون الخيل، ولا يدفعون عن الحريم. قوله تعالى: " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " معطوف على محل قوله " فيهن " والمعنى: قل الله يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، وهذا بمنزلة الاضراب عن الحكم الخاص إلى ما هو أعم منه أعنى الانتقال من حكم بعض يتامى النساء والولدان إلى حكم مطلق اليتيم في ماله وغير ماله. قوله تعالى: " وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما " تذكرة لهم بأن ما عزم الله عليهم في النساء وفي اليتامى من الاحكام فيه خيرهم، وأن الله عليم به لتكون ترغيبا لهم في العمل به لان خيرهم فيه، وتحذيرا عن مخالفته لان الله عليم بما يعملون. قوله تعالى: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا "، حكم خارج عما استفتوا فيه لكنه متصل به بالمناسبة نظير الحكم المذكور في الاية التالية " ولن تستطيعوا

[ 101 ]

أن تعدلوا ". وإنما اعتبر خوف النشوز والاعراض دون نفس تحققهما لان الصلح يتحقق موضوعه من حين تحقق العلائم والاثار المعقبة للخوف، والسياق يدل على أن المراد بالصلح هو الصلح بغض المرأة عن بعض حقوقها في الزوجية أو جميعها لجلب الانس والالفة والموافقة، والتحفظ عن وقوع المفارقة، والصلح خير. وقوله " وأحضرت الانفس الشح " الشح هو البخل، معناه: أن الشح من الغرائز النفسانية التى جبلها الله عليها لتحفظ به منافعها، وتصونها عن الضيعة فما لكل نفس من الشح هو حاضر عندها، فالمرأة تبخل بمالها من الحقوق في الزوجية كالكسوة والنفقة والفراش والوقاع، والرجل يبخل بالموافقة والميل إذا احب المفارقة، وكره المعاشرة، ولا جناح عليهما حينئذ ان يصلحا ما بينهما باغماض احدهما أو كليهما عن بعض حقوقه. ثم قال تعالى: " وان تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " وهو موعظة للرجال ان لا يتعدوا طريق الاحسان والتقوى وليتذكروا ان الله خبير بما يعملونه، ولا يحيفوا في المعاشرة، ولا يكرهوهن على الغاء حقوقهن الحقة وان كان لهن ذلك. قوله تعالى: " ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " بيان الحكم العدل بين النساء الذى شرع لهن على الرجال في قوله تعالى في اول السورة " وان خفتم ان لا تعدلوا فواحدة " (النساء - 3) وكذا يومى إليه قوله في الاية السابقة " وان تحسنوا وتتقوا " (الخ) فإنه لا يخلو من شوب تهديد، وهو يوجب الحيرة في تشخيص حقيقة العدل بينهن، والعدل هو الوسط بين الافراط والتفريط، ومن الصعب المستصعب تشخيصه، وخاصة من حيث تعلق القلوب تعلق الحب بهن فإن الحب القلبى مما لا يتطرق إليه الاختيار دائما. فبين تعالى أن العدل بين النساء بحقيقة معناه، وهو اتخاذ حاق الوسط حقيقة مما لا يستطاع للانسان ولو حرص عليه، وانما الذى يجب على الرجل ان لا يميل كل الميل إلى احد الطرفين وخاصة طرف التفريط فيذر المرأة كالمعلقة لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها، ولا هي أرملة فتتزوج أو تذهب لشأنها. فالواجب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوى بينهن عملا بإيتائهن حقوقهن

[ 102 ]

من غير تطرف، والمندوب عليه أن يحسن إليهن ولا يظهر الكراهة لمعاشرتهن ولا يسئ إليهن خلقا، وكذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذاالذيل أعنى قوله " فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " هو الدليل على ان ليس المراد بقوله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " نفى مطلق العدل حتى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى " وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " (الاية) إلغاء تعدد الازواج في الاسلام كما قيل. وذلك أن الذيل يدل على أن المنفى هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرف أصلا بلزوم حاق الوسط حقيقة، وأن المشرع هو العدل التقريبي عملا من غير تحرج. على أن السنة النبوية ورواج الامر بمرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسيرة المتصلة بين المسلمين يدفع هذا التوهم. على أن صرف قوله تعالى في أول آية تعدد الازواج " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " (النساء - 3) إلى مجرد الفرض العقلي الخالى عن المصداق ليس إلا تعمية يجل عنها كلامه سبحانه. ثم قوله " وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله غفور رحيم " تأكيد وترغيب للرجال في الاصلاح عند بروز امارات الكراهة والخلاف ببيان أنه من التقوى، والتقوى يستتبع المغفرة والرحمة، وهذا بعد قوله " والصلح خير " وقوله " وإن تحسنوا وتتقوا "، تأكيد على تأكيد. قوله تعالى: " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " أي وإن تفرق الرجل والمرأة بطلاق يغن الله كلا منهما بسعته، والاغناء بقرينة المقام إغناء في جميع ما يتعلق بالازدواج من الايتلاف والاستيناس والمس وكسوة الزوجة ونفقتها فإن الله لم يخلق أحد هذين الزوجين للاخر حتى لو تفرقا لم يوجد للواحد منهما زوج مدى حياته بل هذه السنة سنة فطرية فاشية بين أفراد هذا النوع يميل إليها كل فرد بحسب فطرته. وقوله " وكان الله واسعا حكيما ولله ما في السماوات وما في الارض " تعليل للحكم المذكور في قوله " يغن الله كلا من سعته "

[ 103 ]

قوله تعالى: " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله "، تأكيد في دعوتهم إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجية، وفي كل حال، وأن في تركه كفرا بنعمة الله بناء على أن التقوى الذى يحصل بطاعة الله ليس إلا شكرا لانعمه، أو أن ترك تقوى الله تعالى لا منشأ له إلا الكفر إما كفر ظاهر كما في الكفار والمشركين، أو كفر مستكن مستبطن كما في الفساق من المؤمنين. وبهذا الذى بيناه يظهر معنى قوله " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الارض " أي إن لم تحفظوا ما وصينا به إياكم والذين من قبلكم وأضعتم هذه الوصية ولم تتقوا وهو كفر بالله، أو عن كفر بالله فإن ذلك لا يضر الله سبحانه إذ لا حاجة له إليكم وإلى تقواكم، وله ما في السماوات والارض، وكان الله غنيا حميدا. فإن قلت: ما وجه تكرار قوله " لله ما في السماوات وما في الارض " ؟ فقد أورد ثلاث مرات. قلت: أما الاول فإنه تعليل لقوله " وكان الله واسعا حكيما "، وأما الثاني فإنه واقع موقع جواب الشرط في قوله " فإن تكفروا " والتقدير: وإن تكفروا فإنه غنى عنكم، وتعليل للجواب وقد ظهر في قوله " وكان الله غنيا حميدا ". وأما الثالث فإنه استيناف وتعليل بوجه لقوله " إن يشأ ". قوله تعالى ": ولله ما في السماوات وما في الارض وكفى بالله وكيلا " قد مر بيان معنى ملكه تعالى مكررا، وهو تعالى وكيل يقوم بامور عباده وشؤونهم وكفى به وكيلا لا يحتاج فيه إلى اعتضاد واسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم وأسخطه جريان الامر بأيديهم أمكنه أن يذهب بهم ويأتى بآخرين، أو يؤخرهم ويقدم آخرين، وبهذا المعنى الذى يؤيده بل يدل عليه السياق يرتبط بما في هذه الاية قوله في الاية التالية " ان يشأ يذهبكم أيها الناس ". قوله تعالى: " ان يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين "، السياق وهو الدعوة إلى ملازمة التقوى الذى أوصى الله به هذه الامة ومن قبلهم من أهل الكتاب يدل على أن اظهار الاستغناء وعدم الحاجة المدلول عليه بقوله " إن يشأ "، إنما هو في أمر التقوى. والمعنى أن الله وصاكم جميعا بملازمة التقوى فاتقوه، وان كفرتم فإنه غنى عنكم،

[ 104 ]

وهو المالك لكل شئ المتصرف فيه كيفما شاء ولما شاء ان يشأ أن يعبد ويتقى ولم تقوموا بذلك حق القيام فهو قادر أن يؤخركم ويقدم آخرين يقومون لما يحبه ويرتضيه، وكان الله على ذلك قديرا. وعلى هذا فالاية ناظرة إلى تبديل الناس ان كانوا غير متقين بآخرين من الناس يتقون الله، وقد روى (1) أن الاية لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على ظهر سلمان وقال: انهم قوم هذا. وهو يؤيد هذا المعنى، وعليك بالتدبر فيه. وأما ما احتمله بعض المفسرين. ان المعنى: إن يشأ يفنكم ويوجد قوما آخرين مكانكم أو خلقا آخرين مكان الانس، فمعنى بعيد عن السياق. نعم، لا بأس به في مثل قوله تعالى: " ألم تر ان الله خلق السماوات والارض بالحق ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " (ابراهيم - 20). قوله تعالى: " من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا " بيان آخر يوضح خطأ من يترك تقوى الله ويضيع وصيته بأنه ان فعل ذلك ابتغاء ثواب الدنيا ومغنمها فقد اشتبه عليه الامر فإن ثواب الدنيا والاخرة معا عند الله وبيده، فما له يقصر نظره باخس الامرين ولا يطلب اشرفهما أو اياهما جميعا ؟ كذا قيل. والاظهر أن يكون المراد - والله أعلم - أن ثواب الدنيا ولاخرة وسعادتهما معا إنما هو عند الله سبحانه فليتقرب إليه حتى من أراد ثواب الدنيا وسعادتها فإن السعادة لا توجد للانسان في غير تقوى الله الحاصل بدينه الذى شرعه له فليس الدين إلا طريق السعادة الحقيقية، فكيف ينال نائل ثوابا من غير إيتائه تعالى وإفاضته من عنده وكان الله سميعا بصيرا.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذى قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه، لا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما

[ 105 ]

نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذى لا يقوم في المال، والمرأة التى هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل ؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا: لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب - في أول السورة - في يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " (الحديث). وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن إبراهيم في الاية قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثوها فأنزل الله هذا. اقول: وهذه المعاني مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة، وقد مر بعضها في أوائل السورة. وفي المجمع في قوله تعالى " لا تؤتونهن ماكتب لهن " (الاية): ما كتب لهن من الميراث، قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام. وفي تفسير القمى في قوله تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا " (الاية): نزلت في بنت محمد بن مسلمة كانت امرأة رافع بن خديج، وكانت امرأة قد دخلت في السن، وتزوج عليها امرأة شابة وكانت أعجب إليه من بنت محمد بن مسلمة فقالت له بنت محمد بن مسلمة: ألا أراك معرضا عنى مؤثرا على ؟ فقال رافع: هي امرأة شابة، وهى أعجب إلى فأن شئت أقررت على أن لها يومين أو ثلاثا منى ولك يوم واحد فأبت بنت محمد بن مسلمة أن ترضى فطلقها تطليقة ثم طلقها اخرى فقالت: لا والله لا أرضى أو تسوى بينى وبينها يقول الله: " وأحضرت الانفس الشح " وابنة محمد لم تطلب نفسها بنصيبها، وشحت عليه، فأعرض عليها رافع إما أن ترضى، واما أن يطلقها الثالثة فشحت على زوجها ورضيت فصالحته على ما ذكرت فقال الله: " ولا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " فلما رضيت واستقرت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت. " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " أن يأتي واحدة، وينذر الاخرى لا أيم ولا ذات بعل وهذه السنة فيما كان كذلك إذا

[ 106 ]

أقرت المرأة ورضيت على ما صالحها عليه زوجها، فلا جناح على الزوج ولا على المرأة، وان أبت هي طلقها أو تساوى بينهما لا يسعه الا ذلك. اقول: ورواها في الدر المنثور عن مالك وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم - وصححه - باختصار. وفى الدر المنثور: أخرج الطيالسي وابن ابى شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن على بن أبى طالب انه سئل عن هذه الاية فقال: هو الرجل عنده امرأتان فتكون احداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها فتصالحه على ان يكون عندها ليلة وعند الاخرى ليالى ولا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به فإن رجعت سوى بينهما. وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال. سألته عن قول الله عز وجل " وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا " فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: انى اريد ان اطلقك. فتقول له: لا تفعل انى اكره ان تشمت بى ولكن انظر في ليلتى فاصنع بها ما شئت، وما كان سوى ذلك من شئ فهو لك، ودعني على حالتى فهو قوله تبارك وتعالى " فلا جناح عليهما ان يصلحا بينهما صلحا " وهذا هو الصلح. أقول: " وفى هذا المعنى روايات أخر رواها في الكافي وتفسير العياشي. وفي تفسير القمى في قوله تعالى " وأحضرت الانفس الشح " قال: قال: أحضرت الشح فمنها ما اختارته، ومنها ما لم تختره. وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " قال: في المودة. وفي الكافي بإسناده عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال: سأل ابن أبى العوجاء هشام بن الحكم، قال له. أليس الله حكيما ؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قوله " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " أليس هذا فرض ؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " أي حكيم يتكلم

[ 107 ]

بهذا ؟ فلم يكن عنده جواب. فرحل إلى المدينة إلى أبى عبد الله عليه السلام، فقال: في غير وقت حج ولا عمرة قال: نعم جعلت فداك لامر أهمنى إن ابن أبى العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شئ، قال وما هي ؟ قال: فأخبره بالقصة. فقال له أبو عبد الله عليه السلام أما قوله عزوجل " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " يعنى في النفقة، وأما قوله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " يعنى في المودة. قال. فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره قال: والله ما هذا من عندك. اقول: وروى أيضا نظير الحديث عن القمى أنه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الاحول عن المسألة بعينها فسافر إلى المدينة فسأل أبا عبد الله عليه السلام عنها، فأجابه بمثل الجواب فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال: هذا حملته من الحجاز. وفي المجمع في قوله تعالى " فتذروها كالمعلقة " أي تذرون التى لا تميلون إليها كالتى هي لا ذات زوج ولا أيم. قال: وهو المروى عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. وفيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقسم بين نسائه ويقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. اقول: ورواه الجمهور بعدة طرق والمراد بقوله " ما تملك ولا أملك " المحبة القلبية لكن الرواية لا تخلو عن شئ فإن الله أجل من أن يلوم أحدا في ما لا يملكه أصلا وقد قال تعالى. " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " (الطلاق - 7). والنبى صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بمقام ربه من أن يسأله أن يوجد ما هو موجود. وفي الكافي مسندا عن ابن أبى ليلى قال: حدثنى عاصم بن حميد قال: كنت عند أبى عبد الله عليه السلام فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال: فاشتدت به الحاجة فأتى أبا عبد الله عليه السلام فسأله عن حاله فقال: اشتدت بى الحاجة قال: فارق. ففارق قال: ثم أتاه فسأله عن حاله فقال: اثريت وحسن حالى فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنى أمرتك بأمرين أمر الله بهما قال الله عز وجل: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين

[ 108 ]

من عبادكم وإمائكم - إلى قوله - والله واسع عليم " وقال: " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ". يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا - 135.

(بيان)

 قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " القسط هو العدل، والقيام بالقسط العمل به والتحفظ له، فالمراد بالقوامين بالقسط القائمون به أتم قيام وأكمله من غير انعطاف وعدول عنه إلى خلافه لعامل من هوى وعاطفة أو خوف أو طمع أو غير ذلك. وهذه الصفة اقرب العوامل وأتم الاسباب لاتباع الحق وحفظه عن الضيعة، ومن فروعها ملازمة الصدق في أداء الشهادة والقيام بها. ومن هنا يظهر ان الابتداء بهذه الصفة في هذه الاية المسوقة لبيان حكم الشهادة ثم ذكر صفة الشهادة من قبيل التدرج من الوصف العام إلى بعض ما هو متفرع عليه كأنه قيل. كونوا شهداء لله، ولا يتيسر لكم ذلك إلا بعد أن تكونوا قوامين بالقسط فكونوا قوامين بالقسط حتى تكونوا شهداء لله. وقوله " شهداء لله " اللام فيه للغاية أي كونوا شهداء تكون شهادتكم لله كما قال تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق - 2) ومعنى كون الشهادة لله كونها اتباعا للحق ولاجل إظهاره وإحيائه كما يوضحه قوله فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ". قوله تعالى. " ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين " أي ولو كانت على خلاف نفع

[ 109 ]

أنفسكم أو والديكم أو أقربائكم فلا يحملنكم حب منافع أنفسكم أو حب الوالدين والاقربين أن تحرفوها أو تتركوها، فالمراد بكون الشهادة على النفس أو على الوالدين والاقربين أن يكون ما تحمله من الشهادة لو أدى مضرا بحاله أو بحال والديه وأقربيه سواء كان المتضرر هو المشهود عليه بلا واسطه كما إذا تخاصم أبوه وإنسان آخر فشهد له على أبيه أو يكون التضرر مع الواسطة كما إذا تخاصم اثنان وكان الشاهد متحملا لاحدهما ما لو أداه لتضرر به نفس الشاهد أيضا - كالمتخاصم الاخر -. قوله تعالى: " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " إرجاع ضمير التثنية إلى الغنى والفقير مع وجود " أو " الترديدية لكون المراد بالغنى والفقير هو المفروض المجهول الذى يتكرر بحسب وقوع الوقائع وتكررها فيكون غنيا في واقعة، وفقيرا في اخرى، فالترديد بحسب فرض البيان وما في الخارج تعدد، كذا ذكره بعضهم، فالمعنى أن الله أولى بالغنى في غناه، وبالفقير في فقره: والمراد - والله أعلم -: لا يحملنكم غنى الغنى أن تميلوا عن الحق إليه، ولا فقر الفقير أن تراعوا حاله بالعدول عن الحق بل أقيموا الشهادة لله سبحانه ثم خلوا بينه وبين الغنى والفقير فهو أولى بهما وأرحم بحالهما، ومن رحمته أن جعل الحق هو المتبع واجب الاتباع، والقسط هو المندوب إلى إقامته، وفي قيام القسط وظهور الحق سعادة النوع التى يقوم بها صلب الغنى، ويصلح بها حال الفقير. والواحد منهما وإن انتفع بشهادة محرفة أو متروكة في شخص واقعة أو وقائع لكن ذلك لا يلبث دون أن يضعف الحق ويميت العدل، وفي ذلك قوة الباطل وحياة الجور والظلم، وفي ذلك الداء العضال وهلاك الانسانية. قوله تعالى: " ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "، أي مخافة أن تعدلوا عن الحق والقسط باتباع الهوى وترك الشهادة لله فقوله " أن تعدلوا " مفعول لاجله ويمكن أن يكون مجرورا بتقدير اللام متعلقا بالاتباع أي لان تعدلوا. قوله تعالى: " وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " اللى بالشهادة كناية عن تحريفها من لى اللسان. والاعراض ترك الشهادة من رأس. وقرئ " وإن تلوا " بضم اللام وإسكان الواو من ولى يلى ولاية، والمعنى: وأن وليتم أمر الشهادة وأتيتم بها أو أعرضتم فإن الله خبير بأعمالكم يجازيكم بها.

[ 110 ]

(بحث روائي)

 في تفسير القمى قال أبو عبد الله عليه السلام: ان للمؤمن على المؤمن سبع حقوق، فأوجبها ان يقول الرجل حقا ولو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحق، ثم قال: " فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا " يعنى عن الحق. أقول: وفيه تعميم معنى الشهادة لقول الحق مطلقا بمعرفة عموم قوله " كونوا قوامين بالقسط " وفي المجمع قيل: معناه ان تلووا أي تبدلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها. قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام. يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا - 136. إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا - 137. بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما - 138. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا - 139. وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا - 140. الذين يتربصون بكم

[ 111 ]

فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالو ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيمة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا - 141. إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلوة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا - 142. مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا - 143. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا - 144. إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا 145. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فاولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما - 146. ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما - 147.

(بيان)

 قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله "، أمر المؤمنين بالايمان ثانيا بقرينة التفصيل في متعلق الايمان الثاني اعني قوله " بالله ورسوله والكتاب " (الخ) وايضا بقرينة الايعاد والتهديد على ترك الايمان بكل واحد من هذا التفاصيل إنما هو امر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنها معارف

[ 112 ]

مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها لبعض، فالله سبحانه لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى والصفات العليا، وهى الموجبة لان يخلق خلقا ويهديهم إلى ما يرشدهم ويسعدهم ثم يبعثهم ليوم الجزاء، ولا يتم ذلك الا بإرسال رسل مبشرين ومنذرين، وإنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وتبين لهم معارف المبدء والمعاد، واصول الشرائع والاحكام. فالايمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتم الا مع الايمان بجميعها من غير استثناء، والرد لبعضها مع الاخذ ببعض آخر كفر لو اظهر، ونفاق لو كتم واخفى، ومن النفاق ان يتخذ المؤمن مسيرا ينتهى به إلى رد بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين ويتقرب إلى مجتمع الكفار ويواليهم، ويصدقهم في بعض ما يرمون به الايمان وأهله، أو يعترضوا أو يستهزؤن به الحق وخاصته، ولذلك عقب تعالى هذه الاية بالتعرض لحال المنافقين ووعيدهم بالعذاب الاليم. وما ذكرناه من المعنى هو الذى يقضى به ظاهر الاية وهو أوجه مما ذكره بعض المفسرين ان المراد بقوله " يا ايها الذين آمنوا آمنوا "، يا ايها الذين آمنوا في الظاهر بالاقرار بالله ورسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم. وكذا ما ذكره بعضهم ان معنى " آمنوا " اثبتوا على إيمانكم، وكذا ما ذكره آخرون ان الخطاب لمؤمنى اهل الكتاب أي يا ايها الذين آمنوا من اهل الكتاب آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله وهو القرآن. وهذه المعاني وان كانت في نفسها صحيحة لكن القرائن الكلامية ناهضة على خلافها، وأردء الوجوه آخرها. قوله تعالى: " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا " لما كان الشطر الاول من الاية اعني قوله " يا ايها الذين آمنوا آمنوا - إلى قوله - من قبل " دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى ان اجزاء هذا المجموع مرتبطة غير مفارق بعضها بعضا كان هذا التفصيل ثانيا في معنى الترديد والمعنى: ومن يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الاخر أي من يكفر بشئ من اجزاء الايمان فقد ضل ضلالا بعيدا. وليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتم الجميع موضوعا واحدا له حكم

[ 113 ]

واحد بمعنى ان الكفر بالمجموع من حيث انه مجموع ضلال بعيد دون الكفر بالبعض دون البعض. على ان الايات القرآنية ناطقة بكفر من كفر بكل واحد مما ذكر في الاية على وجه التفصيل. قوله تعالى: " ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنو اثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " الاية لو اخذت وحدها منقطعة عما قبلها وما بعدها كانت دالة على ما يجازى به الله تعالى اهل الردة إذا تكررت منهم الردة بأن آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا فالله سبحانه يوعدهم - وحالهم هذا الحال - بأنه لا يغفر لهم ولا يهديهم سبيلا، وليس من المرجو منه المتوقع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على ايمان، وجعلهم امر الله ملعبة يلعبون بها، ومن كان هذا حاله لم يثبت بالطبع على ايمان جدى يقبل منه، وان كانوا لو آمنوا ايمانا جديا شملتهم المغفرة والهداية فإن التوبة بالايمان بالله حقيقة مما لا يرده الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، وقد تقدم الكلام فيه في قوله تعالى " انما التوبة على الله الاية (النساء - 17) في الجزء الرابع من هذا الكتاب. فالاية تحكم بحرمانهم على ما يجرى عليه الطبع والعادة، ولا تأبى الاستثناء لو اتفق إيمان واستقامة عليه من هذه الطائفة نادرا كما يستفاد من نظير الاية، قال تعالى: " كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين - إلى أن قال إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " (آل عمران - 90). والايات - كما ترى - تستثنى ممن كفر بعد ايمانه، وقوبل بنفى المغفرة والهداية وهى مع ذلك تنفى قبول توبة من ازداد كفرا بعد الايمان، صدر الايات فيمن كفر بعد الايمان والشهادة بحقية الرسول وظهور الايات البينات، فهو ردة عنادا ولجاجا، والازدياد فيه لا يكون إلا مع استقرار العناد والعتو في قلوبهم، وتمكن الطغيان والاستكبار في نفوسهم، ولا يتحقق الرجوع والتوبة ممن هذا حاله عادة.

[ 114 ]

هذا ما يقتضيه سياق الاية لو أخذت وحدها كما تقدم، لكن الايات جميعا لا تخلو عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متصلا بعضها ببعض، وعلى هذا التقدير يكون قوله " إن الذين آمنوا ثم كفروا " في مقام التعليل لقوله " ومن يكفر بالله - إلى قوله - فقد ضل ضلالا بعيدا " ويكون الايتان ذواتي مصداق واحد أي إن من يكفر بالله وملائكته وكتبه رسله واليوم الاخر هو الذى آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفرا، ويكون أيضا هو من المنافقين الذين تعرض تعالى لهم في قوله بعد " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " إلى آخر الايات. وعلى هذا يختلف المعنى المراد بقوله " إن الذين آمنوا ثم كفروا " (إلى آخر الايات) بحسب ما فسر به قوله " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " على ما تقدم من تفاسيره المختلفة: فإن فسر بأن آمنوا بالله ورسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى الايمان ثم الكفر ثم الايمان ثم الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائما إذا لقوا المؤمنين وإذا لقوا الكفار. وان فسر بأن اثبتوا على الايمان الذى تلبستم به كان المراد من الايمان ثم الكفر وهكذا هو الردة بعد الردة المعروفة. وان فسر بأن المراد دعوة أهل الكتاب إلى الايمان بالله ورسوله كان المراد بالايمان ثم الكفر وهكذا الايمان بموسى ثم الكفر به بعبادة العجل ثم الايمان بعزير أو بعيسى ثم الكفر به ثم الازدياد فيه بالكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند ربه، كما قيل. وان فسر بأن ابسطوا اجمال ايمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله " ان الذين آمنوا ثم كفروا "، تعليلا منطبقا على حال المنافقين المذكورين فيما بعد، المفسرين بقوله " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " فإن من اتصل بالكفار منفصلا عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم والاستيناس بهم، والشركة في محاوراتهم، والتصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذى لا يرتضيه الله سبحانه، وينسبونه إلى الدين وأوليائه من المطاعن والمساوي ويستهزؤون ويسخرون به. فهو كلما لقى المؤمنين واشترك معهم في شئ من شعائر الدين آمن به، وكلما لقى

[ 115 ]

الكفار وأمضى بعض ما يتقولونه كفر، فلا يزال يؤمن زمانا ويكفر زمانا حتى إذا استحكم فيه هذه السجية كان ذلك منه ازديادا في الكفر، والله أعلم. واذ كان مبتلى باختلاف الحال وعدم استقراره فلا توبة له لانه غير ثابت على حال الندامة لو ندم على ما فعله، الا ان يتوب ويستقر على توبته استقرارا لا يزلزله اختلاف الاحوال، ولا تحركه عواصف الاهواء، ولذا قيد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل هذا المنافق بقيود لا تبقى مجالا للتغير والتحول فقال في الاستثناء الاتى: " الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله " (الاية). قوله تعالى: " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون " (الخ) تهديد للمنافقين، وقد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، وهذا وصف اعم مصداقا من المنافقين الذين لم يؤمن قلوبهم، وانما يتظاهرون بالايمان فإن طائفة من المؤمنين لا يزالون مبتلين بموالاة الكفار، والانقطاع عن جماعة المؤمنين، والاتصال بهم باطنا واتخاذ الوليجة منهم حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يؤيد بعض التأييد ان يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين يتخذون الكافرين اولياء من دون المؤمنين، ويؤيده ظاهر قوله في الاية اللاحقة " وقد نزل عليكم في الكتاب ان إذا سمعتم إلى قوله - انكم إذا مثلهم " فإن ذلك تقرير لتهديد المنافقين، والخطاب فيه للمؤمنين، ويؤيده ايضا ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله " ولا يذكرون الله الا قليلا " فأثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى، وهو بعيد الانطباق على المنافقين الذين لم يؤمنوا بقلوبهم قط. قوله تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " استفهام انكاري ثم جواب بما يقرر الانكار فإن العزة من فروع الملك، والملك لله وحده، قال تعالى: " قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء " (آل عمران - 26). قوله تعالى: " وقد نزل عليكم في الكتاب ان إذا سمعتم - إلى قوله - مثلهم " يريد ما نزله في سورة الانعام: وإذا رايت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين "

[ 116 ]

(الانعام - 68) فإن سورة الانعام مكية، وسورة النساء مدنية. ويستفاد من اشارة الاية إلى آية الانعام ان بعض الخطابات القرآنية وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، والمراد بها ما يعم الامة. وقوله " انكم إذا مثلهم " تعليل للنهى أي بما نهيناكم لانكم إذا قعدتم معهم - والحال هذه - تكونون مثلهم، وقوله " ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم ". قوله تعالى: " الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله "، التربص: الانتظار. والاستحواذ: الغلبة والتسلط، وهذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنهم انما حفظوا رابطة الاتصال بالفريقين جميعا: المؤمنين والكافرين، يستدرون الطائفتين ويستفيدون ممن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: انا كنا معكم فليكن لنا سهم مما أوتيتموه من غنيمة ونحوها، وان كان للكافرين نصيب قالوا: الم نغلبكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ أي من الايمان بما آمنوا به والاتصال بهم فلنا سهم مما أوتيتموه من النصيب أو منه عليكم حيث جررنا إليكم النصيب. قيل: عبر عما للمؤمنين بالفتح لانه هو الموعود لهم، وللكافرين بالنصيب تحقيرا له فإنه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أن لهم الفتح وأن الله وليهم، ولعله لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب. قوله تعالى: " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " الخطاب للمؤمنين وإن كان ساريا إلى المنافقين والكافرين جميعا، وأما قوله " و لن يجعل الله " فمعناه أن الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، ولن ينعكس الامر أبدا، وفيه إياس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالاخرة. ويمكن أن يكون نفى السبيل أعم من النشأتين: الدنيا والاخرة فأن المؤمنين غالبون بإذن الله دائما ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران - 139). قوله تعالى: " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " المخادعة هي الاكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.

[ 117 ]

وقوله " وهو خادعهم " في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم ويؤول المعنى إلى أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الايمان، والاقتراب من المؤمنين، والحضور في محاضرهم ومشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فيستدروا منهم بظاهر ايمانهم وأعمالهم من غير حقيقة ولا يدرون أن هذا الذى خلى بينهم وبين هذه الاعمال ولم يمنعهم منها هو الله سبحانه، وهو خدعة منه لهم ومجازاة لهم بسوء نياتهم وخباثة أعمالهم، فخدعتهم له بعينها خدعته لهم. قوله تعالى: " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " هذا وصف آخر من أوصافهم وهو القيام إلى الصلاة إذا قاموا إليها - كسالى يراؤون الناس، والصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، ولو كانت قلوبهم متعلقة بربهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل والتوانى في التوجه إليه وذكره، ولم يعملوا عملهم لمراءاة الناس، ولذكروا الله تعالى كثيرا على ما هو شأن تعلق القلب واشتغال البال. قوله تعالى: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " قال في المجمع: يقال: ذبذبته فذبذب أي حركته فتحرك فهر كتحريك شئ معلق (انتهى). فكون الشئ مذبذبا ان يتردد بين جانبين من غير تعلق بشئ منهما، وهذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك - أي الذى ذكر من الايمان والكفر - لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، ولا إلى الكفار فقط كالكافرين محضا. وقوله " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب ترددهم بين الجانبين من غير تعلق بأحدهما ان الله اضلهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه. ولهذه العلة بعينها قيل: " مذبذبين بين ذلك " ولم يقل: متذبذبين أي القهر الالهى هو الذى يجر لهم هذا النوع من التحريك الذى لا ينتهى إلى غاية ثابتة مطمئنة. قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين اولياء " (إلى آخر الايتين) السلطان هو الحجة. والدرك بفتحتين - وقد يسكن الراء - قال الراغب: الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سميت هاوية (انتهى).

[ 118 ]

والاية - كما ترى - تنهى المؤمنين عن الاتصال بولاية الكفار وترك ولاية المؤمنين، ثم الاية الثانية تعلل ذلك بالوعيد الشديد المتوجه إلى المنافقين، وليس الا ان الله سبحانه يعد هذا الصنيع نفاقا يحذر المؤمنين من الوقوع فيه. والسياق يدل على ان قوله " يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا " كالنتيجة المستنتجة مما تقدم أو الفرع المتفرع عليه، وهذا كالصريح في ان الايات السابقة انما تتعرض لحال مرضى القلوب وضعفاء الايمان من المؤمنين ويسميهم المنافقين، ولا أقل من شمولها لهم، ثم يعظ المؤمنين ان لا يقربوا هذا الحمى ولا يتعرضوا لسخط الله، ولا يجعلوا الله تعالى على انفسهم حجة واضحة فيضلهم ويخدعهم ويذبذبهم في الحياة الدنيا، ثم يجمع بينهم وبين الكافرين في جهنم، جميعا ثم يسكنهم في اسفل درك من النار، ويقطع بينهم وبين كل نصير ينصرهم، وشفيع يشفع لهم. ويظهر من الايتين اولا: ان الاضلال والخدعة وكل سخط الهى من هذا القبيل إنما عن حجة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهى إخزاء على طريق المقابلة والمجازاة، وحاشا الجناب الالهى أن يبدءهم بالشر والشقوة من غير تقدم ما يوجب ذلك من قبلهم، فقوله " أتريدون ان تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " ؟ يجرى مجرى قوله " وما يضل به إلا الفاسقين " (البقرة - 26). وثانيا: أن في النار لاهلها مراتب تختلف في السفالة، ولا محالة يشتد بحسبها عذابهم يسميها الله تعالى بالدركات. قوله تعالى: " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله " استثناء من الوعيد الذى ذكر في المنافقين بقوله: " إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار " (الاية) ولازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، ولحوقهم بصف المؤمنين، ولذلك ذيل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، وذكر ثواب المؤمنين جميعا فقال تعالى: " فاولئك مع المؤمنين وسوف يؤتى الله المؤمنين أجرا عظيما. وقد وصف الله هؤلاء الذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، وليست تنبت اصول النفاق وأعراقه إلا بها فذكر التوبة وهى الرجوع إلى الله تعالى، ولا ينفع الرجوع والتوب وحده حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس وعمل، ولا ينفع الاصلاح

[ 119 ]

إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا سبيل إلى الله إلا ما عينه وما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان. ولا ينفع الاعتصام المذكور إلا إذا أخلصوا دينهم - وهو الذى فيه الاعتصام - لله فإن الشرك ظلم لا يعفى عنه ولا يغفر فإذا تابوا إلى الله وأصلحوا كل فاسد منهم واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فأمنوا النفاق واهتدوا قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون " (الانعام - 82). ويظهر من سياق الاية أن المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضا المخلصون للايمان، وقد عرفهم الله تعالى بأنهم الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، وهذه الصفات تتضمن تفاصيل جميع ما عده الله تعالى في كتابه من صفاتهم ونعوتهم كقوله تعالى " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون " (إلى آخر الايات) (المؤمنون - 3)، وقوله تعالى " وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " (الايات) (الفرقان: 64)، وقوله " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء - 65). فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقا من غير قرينة تدل على خلافه. وقد قال تعالى: " فاولئك مع المؤمنين " ولم يقل: فاولئك من المؤمنين لانهم بتحقق هذه الاوصاف فيهم أول تحققها يلحقون بهم، ولن يكونوا منهم حتى تستمر فيهم الاوصاف على استقرارها، فافهم ذلك. قوله تعالى: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " ظاهره أنه خطاب للمؤمنين، لان الكلام جار على خطابهم وإنما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغض عن إيمانهم وفرضهم كالعارى عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب. وهو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم وأنهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم الشكر والايمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لانه لا ينتفع بعذابهم حتى يؤثره، ولا يستضر بوجودهم حتى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم

[ 120 ]

نعمة الله بأداء واجب حقه وآمنتم به وكان الله شاكرا لمن شكره وآمن به، عليما لا يجهل مورده. وفي الاية دلالة على أن العذاب الشامل لاهله إنما هو من قبلهم لا من قبله، وكذا كل ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، ولو كان شئ من ذلك من قبله تعالى لكان العذاب الذى يستتبعه أيضا من قبله لان المسبب يستند إلى من استند إليه السبب.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهم السلام في قول الله " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " قال: نزلت في عبد الله بن أبى سرح الذى بعثه عثمان ألى مصر ثم ازداد كفرا حين لم يبق فيه من الايمان شئ. وفيه عن أبى بصير قال: سمعته يقول: " إن الذين آمنوا ثم كفروا " (الاية) من زعم أن الخمر حرام ثم شربها، ومن زعم أن الزنا حرام ثم زنا، ومن زعم أن الزكاة حق ولم يؤدها. اقول: فيه تعميم للاية على الكفر بجميع مراتبه، ومن مراتبه ترك الواجبات وفعل المحرمات، وتأييد لما تقدم في البيان. وفيه عن محمد بن الفضيل عن أبى الحسن الرضا عليه السلام في قول الله " - وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله - إلى قوله - إنكم إذا مثلهم " قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده. اقول: وفى هذا المعنى روايات أخر. وفي العيون بإسناده عن أبى الصلت الهروي عن الرضا عليه السلام في قول الله جل جلاله " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " قال: فإنه يقول: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة، ولقد أخبر الله تعالى عن كفار قتلوا نبيهم بغير الحق ومع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا.

[ 121 ]

وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن على " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " قال: في الاخرة. اقول: وقد تقدم أن ظاهر السياق هو الاخرة ولو عمم لغيرها بأخذ الجملة وحدها شملت الحجة في الدنيا. وفي العيون بإسناده عن الحسن بن فضال قال: سألت على بن موسى الرضا عليهما السلام عن قوله " يخادعون الله وهو خادعهم " فقال الله تبارك وتعالى: لا يخادع، ولكنه يجازيهم جزاء الخديعة وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل: فيما النجاة غدا ؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه، ويخلع منه الايمان ونفسه يخدع لو يشعر. فقيل: فكيف يخادع الله ؟ قال: يعمل بما أمر الله ثم يريد به غيره فاتقوا الرئاء فإنه شرك بالله، إن المرائى يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له. وفي الكافي بإسناده عن أبى المعزا الخصاف رفعه قال: قال امير المؤمنين عليه السلام: من ذكر الله عز وجل في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون علانية، ولا يذكرونه في السر فقال الله عز وجل، " يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " اقول: وهذا معنى آخر لقلة الذكر لطيف. وفى الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن على قال: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل. ؟ اقول: وهذا أيضا معنى لطيف، ومرجعه بالحقيقة إلى ما مر في الخبر السابق. وفيه: أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في سننه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا.

[ 122 ]

اقول: وهذا معنى آخر لقلة الذكر فإن لمثل هذا المصلي من الذكر مجرد التوجه إلى الله بقيامه إلى الصلاة، وكان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور والطمأنينة في صلاته. والمراد بكون الشمس بين قرنى الشيطان دنوها من أفق الغروب كأنه يجعل النهار والليل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم. وفيه: أخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه ومسلم وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدرى أيهما تتبع. وفيه: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة. وفيه: وأخرج ابن أبى شيبة والمروزي في زوائد الزهد وأبو الشيخ بن حبان عن مكحول قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أخلص عبد الله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قبله على لسانه. أقول: والرواية من المشهورات، وقد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق اخرى. وفيه: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: يا رسول الله وما إخلاصها ؟ قال: أن تحجزه عن المحارم. اقول: والرواية مستفيضة معنى وقد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنة والشيعة عن النبي وأئمة أهل البيت صلى الله عليهم وسلم، وسنورد عمدة ألفاظها المنقولة في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى. وفي ذيل هذه الايات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتتة، تركنا إيرادها لظهورها في الجرى وتطبيق المصداق. والله أعلم.

[ 123 ]

لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما - 148. إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا - 149.

(بيان)

 قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " قال الراغب في مادة " جهر " يقال لظهور الشئ بإفراط لحاسر البصر أو حاسة السمع، أما البصر فنحو رأيته جهارا، قال الله تعالى: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " " أرنا الله جهرة إلى أن قال - وأما السمع فمنه قوله تعالى: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ". والسوء من القول كل كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، وشتمه بما فيه من المساوئ والعيوب وبما ليس فيه، فكل ذلك لا يحب الله الجهر به وإظهاره، ومن المعلوم أنه تعالى منزه من الحب والبغض على حد ما يوجد فينا معشر الانسان وما يجانسنا من الحيوان إلا أنه لما كان الامر والنهى عندنا بحسب الطبع صادرين عن حب وبغض كنى بهما عن الارادة والكراهة وعن الامر والنهى. فقوله " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " كناية عن الكراهة التشريعية أعم من التحريم والاعانة. وقوله " إلا من ظلم " استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، وهذه هي القرينة على أنه إنما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبين فيه ما ظلمه، ويظهر مساوئه التي فيه مما ظلمه به، وأما التعدي إلى غيره مما ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الاية. و المفسرون وإن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل أنه الدعاء عليه، ومن قائل أنه ذكر ظلمه وما تعدى به عليه وغير ذلك إلا أن الجميع مشمول لاطلاق الاية،

[ 124 ]

فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها. وقوله " وكان الله سميعا عليما " في مقام التأكيد للنهى المستفاد من قوله " لا يحب الله الجهر " أي لا ينبغى الجهر بالسوء من القول من غير المظلوم فإن الله سميع يسمع القول عليم يعلم به. قوله تعالى: " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " (الاية) لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تشمل إظهار الخير من القول شكرا لنعمة أنعمها منعم على الانسان، وتشمل العفو عن السوء والظلم فلا يجهر على الظالم بالسوء من القول. فإبداء الخير إظهاره سواء كان فعلا كإظهار الانفاق على مستحقه وكذا كل معروف لما فيه من إعلاء كلمة الدين وتشويق الناس إلى المعروف، أو كان قولا كإظهار الشكر على المنعم وذكره بجميل القول لما فيه من حسن التقدير وتشويق أهل النعمة. وإخفاء الخير منصرفه إخفاء فعل المعروف ليكون أبعد من الرئاء وأقرب إلى الخلوص كما قال: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم " (البقرة - 271). والعفو عن السوء هو الستر عليه قولا بأن لا يذكر ظالمه بظلمه، ولا يذهب بماء وجهه عند الناس، ولا يجهر عليه بالسوء من القول، وفعلا بأن لا يواجهه بما يقابل ما أساء به، ولا ينتقم عنه فيما يجوز له ذلك كما قال تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله " (البقرة - 194). وقوله " فإن الله كان عفوا قديرا " سبب أقيم مقام المسبب والتقدير: إن تعفوا عن سوء فقد اتصفتم بصفة من صفات الله الكمالية - وهو العفو على قدرة - فإن الله ذو عفو على قدرته، فالجزاء جزاء بالنسبة إلى بعض الشروط، وأما إبداء الخير وإخفاؤه أي إيتاؤه على أي حال فهو أيضا من صفاته تعالى بما أنه الله تعالى، ويمكن أن يلوح إليه الكلام.

(بحث روائي)

 في المجمع قال: لا يجب الله الشتم في الانتصار إلا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلم مما يجوز الانتصار في الدين. قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام.

[ 125 ]

وفي تفسير العياشي عن أبى الجارود عن أبى عبد الله عليه السلام قال: الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه. وفى تفسير القمى: وفي حديث آخر في تفسير هذا قال: إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذبه فقد ظلمك. وفي تفسير العياشي بإسناده عن الفضل بن أبى قرة عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " قال: من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه. اقول: ورواه في المجمع عنه عليه السلام مرسلا، وروي من طرق أهل السنة عن مجاهد. والروايات على أي حال دالة على التعميم كما استفدناه من الاية إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا - 150. أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا - 151. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما - 152.

(بيان)

 انعطاف إلى حال أهل الكتاب، وبيان لحقيقة كفرهم، وشرح لعدة من مظالمهم ومعاصيهم ومفاسد أقوالهم. قوله تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسوله " هؤلاء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فاليهود تؤمن بموسى وتكفر بعيسى ومحمد، والنصارى تؤمن بموسى وعيسى

[ 126 ]

وتكفر بمحمد صلى الله عليهم اجمعين، وهؤلاء على زعمهم لا يكفرون بالله وببعض رسله، وإنما يكفرون ببعض الرسل، وقد أطلق الله عليهم أنهم كافرون بالله ورسله جميعا، ولذلك احتيج إلى بيان المراد من إطلاق قوله " إن الذين يكفرون بالله ورسله ". ولذلك عطف على قوله " إن الذين يكفرون "، قوله و " يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " بعطف التفسير ونفس المعطوف أيضا بعضه يفسر بعضه، فهم كافرون بالله ورسله لانهم بقولهم: " نؤمن ببعض ونكفر ببعض " يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله فيؤمنون بالله وبعض رسله، ويكفروا ببعض رسله مع كونه رسولا من الله، والرد عليه رد على الله تعالى. ثم بين ذلك ببيان آخر بالعطف عليه عطف التفسير فقال: " ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " أي سبيلا متوسطا بين الايمان بالله ورسله جميعا والكفر بالله ورسله جميعا، وهو الايمان ببعض والكفر ببعض، ولا سبيل إلى الله إلا الايمان به وبرسله جميعا فإن الرسول بما أنه رسول ليس له من نفسه شئ ولا له من الامر شئ، فالايمان به إيمان بالله والكفر به كفر بالله محضا. فالكفر بالبعض والايمان بالبعض وبالله ليس إلا تفرقة بين الله وبين رسله، وإعطاء الاستقلال للرسول فيكون الايمان به غير مرتبط بالايمان بالله، والكفر به غير مرتبط بالكفر به فيكون طرفا لا وسطا، وكيف يصح فرض الرسالة ممن لا يرتبط الايمان به والكفر به بالايمان بالله والكفر به ؟. فمن البين الذى لا مرية فيه أن الايمان بمن هذا شأنه والخضوع له شرك بالله العظيم، ولذلك ترى أنه تعالى بعد وصفهم بأنهم يريدون بالايمان ببعض الرسل والكفر بالبعض أن يفرقوا بين الله ورسله ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ذكر أنهم كافرون بذلك حقا فقال: " أولئك هم الكافرون حقا " ثم أوعدهم فقال: " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ". قوله تعالى: " والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم " لما كفر أولئك المفرقين بين الله ورسله، وذكر أنهم كافرون بالله ورسله ذكر من يقابلهم بالايمان بالله ورسله على سبيل عدم التفرقة تتميما للاقسام. وفي الايات التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله " وأعتدنا للكافرين عذابا

[ 127 ]

مهينا " ثم إلى الخطاب في قوله " أولئك سوف يؤتيهم أجورهم " ولعل الوجه فيه أن إسناد الجزاء إلى المتكلم أقرب من الوقوع بحسب لحن الكلام من إسناده إلى الغائب. ويفيد هذه الفائدة أيضا الالتفات الواقع في الاية الثانية فإن توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الوعد الجميل وهو يعلم بإنجازه تعالى يفيد القرب من الوقوع. يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا - 153. ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا - 154. فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا - 155. وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما - 156. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - 157. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما - 158. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا - 159. فبظلم من الذين هادوا

[ 128 ]

حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا - 160. وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما - 161. لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون بالله واليوم الاخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما - 162. إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا - 163. ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما - 164. رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما - 165. لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملئكة يشهدون وكفى بالله شهيدا - 166. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا - 167. إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا - 168. إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا - 169.

[ 129 ]

(بيان)

 الايات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحى الروح الامين نجوما، ونجيب عن مسألتهم. قوله تعالى: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " أهل الكتاب هم اليهود والنصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد، وعليه فالسائل هو الطائفتان جمعيا دون اليهود فحسب. ولا ينافيه كون المظالم والجرائم المعدودة في ضمن الايات مختصة باليهود كسؤال الرؤية، واتخاذ العجل، ونقض الميثاق عند رفع الطور والامر بالسجدة والنهى عن العدو في السبت وغير ذلك. فإن الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد وهو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى وعيسى عليهما السلام وإن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بنى إسرائيل كالروم والعرب والحبشة ومصر وغيرهم، وما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى عليه السلام. ولعد الطائفتين جميعا ذا أصل واحد يخص اليهود بالذكر فيما يخصهم من الجزاء حيث قال: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " ولذلك أيضا عد عيسى بين الرسل المذكورين بعد كما عد موسى عليه السلام بينهم ولو كان وجه الكلام إلى اليهود فقط لم يصح ذلك، ولذلك أيضا قيل بعد هذه الايات: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا ألحق إنما المسيح " (الخ). وبالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعا ووجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القومية وهو التحكم والقول بغير الحق والمجازفة وعدم التقيد بالعهود والمواثيق، والكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختص منهم طائفة بشئ خص الكلام به. والذى سألوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أن ينزل عليهم كتابا من السماء، ولم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن وتلاوته عليهم كيف والقصة إنما وقعت في المدينة وقد بلغهم من القرآن ما نزل بمكة وشطر مما نزل بالمدينة ؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلا للنبوة،

[ 130 ]

ولا يعدونه كتابا سماويا مع أن القرآن نزل فيما نزل مشفعا بالتحدى ودعوى الاعجاز كما في سور: أسرى، ويونس، وهود، والبقرة النازلة جميعا قبل سورة النساء. فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة وإنما يلغو ويهذو بما قدمته له أيدى الاهواء من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكم به قريش مع نزول القرآن، وظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم: " لولا أنزل عليه آية من ربه " (يونس: 20) " أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " (اسرى: 93). ولهذا الذى ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم (أولا) بأنهم قوم متمادون في الجهالة والضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت، والكفر والجحود وإن جاءت البينة، وعن نقض المواثيق وإن غلظت وغير ذلك من الكذب والبهتان وأى ظلم، ومن هذا شأنه لا يصلح لاجابة ما سأله والاقبال على ما اقترحه. و (ثانيا) أن الكتاب الذى أنزله الله وهو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه وملائكته وهو الذى يفصح عن التحدي بعد التحدي بآياته الكريمة. فقال تعالى في جوابهم أولا: " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " أي مما سألوك من تنزيل كتاب من السماء إليهم " فقالوا أرنا الله جهرة " أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا، وهذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة والهذر والطغيان " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " والقصة مذكورة في سورة البقرة (آية 55 - 56) وسورة الاعراف (آية 155). ثم قال تعالى: " ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات " وهذه عبادة الصنم بعد ظهور بطلانه أو بيان أن الله سبحانه منزه عن شائبة الجسمية والحدوث، وهو من أفظع الجهالات البشرية " فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا " وقد أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم ولما يتم التقتيل ولما يقتل الجميع، وهو المراد بالعفو، وآتى موسى عليه السلام سلطانا مبينا حيث سلطه عليهم وعلى السامري وعجله، والقصة مذكورة في سورة البقرة (آية 54). ثم قال تعالى: " ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم " وهو الميثاق الذى أخذه الله منهم

[ 131 ]

ثم رفع فوقهم الطور، والقصة مذكورة مرتين في سورة البقرة (آية 63، 93). ثم قال تعالى: " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " والقصتان مذكورتان في سورة البقرة (آية: 58 - 65) وسورة الاعراف (161 - 163) وليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعا إلى القصتين وإلى غيرهما فإن القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكررا كقوله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاق بنى اسرائيل لا تعبدون إلا الله " الاية البقره: 83، وقوله تعالى " وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون " (البقرة: 84). قوله تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم "، الفاء للتفريع والمجرور متعلق بما سيأتي بعد عدة آيات - يذكر فيها جرائمهم - من قوله " حرمنا عليهم " والايات مسوقة لبيان ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي والاخروي، وفيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيئة اولا. وقوله " فبما نقضهم ميثاقهم " تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق ولما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم. وقوله " وكفرهم بآيات الله " تلخص لانواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى عليه السلام وبعده قص القرآن كثيرا منها، ومن جملتها الموردان المذكوران في صدر الايات أعنى قوله " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " وقوله " ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات " وإنما قدما في الصدر، واخرا فيهذه الاية لان المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإن صدر الايات متعرض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء، وذكر سؤالهم أكبر من ذلك وعبادتهم العجل أنسب به وألصق، وهذه الاية وما بعدها متعرضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحق وذكر أسباب ذلك، والابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام وأقرب. وقوله " وقتلهم الانبياء بغير حق " يعنى بهم زكريا ويحيى وغيرهما ممن ذكر القرآن قتلهم إجمالا من غير تمسية. وقوله " وقولهم قلوبنا غلف " جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبوية، وقبول الحق لو دعيت إليه، وهذه كلمة ذكروها يريدون بها رد الدعوة، وإسناد

[ 132 ]

عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم وصنعهم. ولذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله " بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم وجحودهم للحق، وكان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم. وقد تقدم الكلام في هذا الاستثناء، وأن هذه النقمة الالهية إنما نزلت بهم بقوميتهم ومجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، ومطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، ولا ينافى ذلك إيمان البعض القليل منهم. قوله تعالى: " بكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وهو قذفها عليها السلام في ولادة عيسى بالزنا، وهو كفر وبهتان معا وقد كلمهم عيسى في أول ولادته وقال: " إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " (مريم - 30). قوله تعالى: " وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " قد تقدم في قصص عيسى عليه السلام في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلبا وغير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل والصلب معا في مقام الرد والنفى لبيان النفى التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما، ولا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، وقد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفى القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا، ولا ينافى ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله " وما قتلوه " قوله " وما صلبوه " ليؤدي الكلام حقه من الصراحة وينص على أنه عليه السلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح عليه السلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه وليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية والهجمة والغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره وقد قتله الجنديون من الروميين، وليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، ومع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه.

[ 133 ]

وربما ذكر بعض محققى التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه عليه السلام والحوادث المربوطة بدعوته وقصص معاصريه من الحكام والدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسميين بالمسيح - وبينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدم منهما محق غير مقتول، والمتأخر منهما مبطل مصلوب، (1) وعلى هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب. والله أعلم. وقوله " وإن الذين اختلفوا فيه " أي اختلفوا في عيسى أو في قتله " لفى شك منه " أي في جهل بالنسبة إلى أمره " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " وهو التخمين أو رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض. وقوله " وما قتلوه يقينا " أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين، وربما قيل: إن الضمير في قوله " وما قتلوه " راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقينا. وقتل العلم لغة تمحيضه وتخليصه من الشك والريب، وربما قيل: إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محضوا ظنهم وما تثبتوا فيه، وهذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن. قوله تعالى: " بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما " وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران فقال: إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى " (آل عمران: 55) فذكر التوفى ثم الرفع. وهذه الاية بحسب السياق تنفى وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه فقد سلم من قتلهم وصلبهم، وظاهر الاية أيضا ان الذى ادعى إصابة القتل والصلب إياه، وهو عيسى عليه السلام بشخصه البدني هو الذى رفعه الله إليه، وحفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه وروحه لا انه توفى ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الاية بمقتضى السياق فان الاضراب الواقع في وله " بل رفعه الله إليه " لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذى يصح أن يجامع القتل والموت حتف الانف. فهذاالرفع نوع التخليص الذى خلصه الله به وأنجاه من أيديهم سواء كان توفى عند ذلك بالموت حتف الانف أو لم يتوف حتف الانف ولا قتلا وصلبا بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.

______________________________

(1) وعند هذا المحقق يكون التاريخ المشتهر فعلا بالميلادى مشكوكا في صحته.

[ 134 ]

وليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح ويرفعه إليه ويحفظه، أو يحفظ لله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته وحياته بين قومه، وما يحكيه من معجزات إبراهيم وموسى وصالح وغيرهم، فكل ذلك يجرى مجرى واحدا يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم خرق العادة وتعطل قانون العلية العام، وقد مر في الجزء الاول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الاعجاز وخرق العادة. وبعد ذلك كله فالاية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته عليه السلام وعدم توفيه بعد. قوله تعالى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ". " ان " نافية والمبتدء محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفى، والتقدير: وإن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن، والضمير في قوله " به " وقوله " يكون " راجع إلى عيسى، وأما الضمير في قوله " قبل موته " ففيه خلاف. فقد قال بعضهم: إن الضمير راجع إلى المقدر من المبتدء وهو أحد، والمعنى: وكل واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن عيسى، كان رسول الله وعبده حقا وإن كان هذا الايمان منه إيمانا لا ينتفع به، ويكون عيسى شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة سواء آمنوا به إيمانا ينتفع به أو إيمانا لا ينتفع به كمن آمن به عند موته. ويؤيده أن إرجاع ضمير " قبل موته " إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الاخبار أن عيسى حى لم يمت، وأنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذا يوجب تخصيص عموم قوله " وإن من أهل الكتاب " من غير مخصص، فإن مقتضى الاية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممن وقع بين رفع عيسى ونزوله فمات ولم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الاية من غير مخصص ظاهر. وقد قال آخرون: إن الضمير راجع إلى عيسى عليه السلام والمراد به إيمانهم به عند

[ 135 ]

نزوله في آخر الزمان من السماء، استنادا إلى الرواية كما سمعت. هذا ما ذكروه، والذى ينبغى التدبر والامعان فيه هو أن وقوع قوله " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " في سياق قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " ظاهر في أن عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت، وقد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاص، فقال عنه: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد " (المائدة: 117). فقصر عليه السلام شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفيه، وهذه الاية أعنى قوله: وإن من أهل الكتاب " (الخ) تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفى إلا بعد الجميع، وهذا ينتج المعنى الثاني، وهو كونه عليه السلام حيا بعد، ويعود إليهم ثانيا حتى يؤمنوا به. نهاية الامر أن يقال: إن من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانيا يؤمن به عند موته، ومن أدرك ذلك آمن به إيمانا اضطرار أو اختيارا. على أن الانسب بوقوع هذه الاية: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به " فيما وقع فيه من السياق أعنى بعد قوله تعالى " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم - إلى أن قال - بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما " أن تكون الاية في مقام بيان أنه لم يمت وأنه حى بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري وشهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر. فهذا الذى ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعا به قبل موته عليه السلام. لكن هاهنا آيات أخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى: " إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " (آل عمران: 55) حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، وكقوله تعالى: " وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن

[ 136 ]

مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة. بل ظاهر ذيل قوله " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفى عيسى عليه السلام. لكن الانصاف أن الايات لا تنافى ما مر فإن قوله " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل الكتاب. وكذا قوله تعالى: " بل طبع الله عليها بكفرهم " (الاية) إنما يدل على أن الايمان لا يستوعبهم جميعا، ولو آمنوا في حين من الاحيان شمل الايمان منهم قليلا من كثير. على أن قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " لو دل على إيمانهم به قبل موته فإنما يدل على أصل الايمان، وأما كونه إيمانا مقبولا غير اضطرارى فلا دلالة له على ذلك. وكذا قوله " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " (الاية) مرجع الضمير فيه إنما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله " (الاية) (المائدة: 116) ويدل على ذلك أيضا أنه عليه السلام من أولى العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافة، وشهادته على أعمالهم تعم بنى إسرائيل والمؤمنين به وغيرهم. وبالجملة، الذى يفيده التدبر في سياق الايات وما ينضم إليها من الايات المربوطة بها هو أن عيسى عليه السلام لم يتوف بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الانف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدمت الاشارة إليه - وقد تكلمنا بما تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى " يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى " (آل عمران: 55) في الجزء الثالث من هذا الكتاب. ومن غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشاف: أنه يجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله، وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، وهذا، قول بالرجعة. وفي معنى الاية بعض وجوه رديئة أخرى: منها: ما يظهر من الزجاج أن ضمير قوله " قبل موته " يرجع إلى الكتابى وأن معنى قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " أن جميعهم يقولون: إن عيسى

[ 137 ]

الذى يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به. وهذا معنى سخيف فإن الايات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى عليه السلام وصلبه والرد عليهم دون كفرهم به ولا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيى أمر شعب إسرائيل حتى يذيل به الكلام. على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله: " قبل موته " لارتفاع الحاجة بدونه، وكذا قوله " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " لانه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه. ومنها: ما ذكره بعضهم أن المراد بالاية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد قبل موت ذلك الكتابى. وهذا في السخافة كسابقه فإنه لم يجر لمحمد صلى الله عليه ووآله وسلم ذكر في سابق الكلام حتى يعود إليه الضمير. ولا أن المقام يدل على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم ورد هذا المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالى لكن ذلك من باب الجرى كما سنشير إليه وهذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبع فيها. قوله تعالى: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " الفاء للتفريع، وقد نكر لفظ الظلم وكأنه للدلالة على تفخيم أمره أو للابهام، إذ لا يتعلق على تشخيصه غرض مهم وهو بدل مما تقدم ذكره من فجائعهم غير أنه ليس بدل الكل من الكل كما ربما قيل، بل بدل البعض من الكل، فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سببا لتحريم الطيبات عليهم، ولم تحرم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، وبها تختتم شريعة موسى، وقد ذكر فيما ذكر من فجائعهم ومظالمهم أمور جرت ووقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم وغير ذلك. فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرم عليهم من الطيبات بعد إحلالها. ثم ضم إلى ذلك قوله " وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " وهو إعراضهم المتكرر عن سبيل الله " وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ". قوله تعالى: " وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " معطوف على قوله " حرمنا

[ 138 ]

عليهم طيبات " فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيوى عام وهو تحريم الطيبات، وجزاء أخروى خاص بالكافرين منهم وهو العذاب الاليم. قوله تعالى: " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " استثناء واستدراك من أهل الكتاب، " والراسخون " وما عطف عليه مبتدء و " يؤمنون " خبره، وقوله " منهم متعلق بالراسخون و " من " فيه تبعيضية. والظاهر أن " المؤمنون " يشارك " الراسخون في تعلق قوله " منهم " به معنى والمعنى: لكن الراسخون في العلم والمؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك وبما أنزل من قبلك، ويؤيده التعليل الاتي في قوله " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " (الخ)، فإن ظاهر الاية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك لما وجدوا أن نبوتك والوحى الذى أكرمناك به يماثل الوحى الذى جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح والنبيون من بعده: والانبياء من آل إبراهيم، وآل يعقوب، وآخرون ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق. وهذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله " لتنذر قوما ما أنذر آبائهم فهم غافلون " (يس: 6). وقوله " والمقيمين الصلاة " معطوف على " الراسخون " ومنصوب على المدح، ومثله في العطف قوله " والمؤتون الزكاة " وقوله " والمؤمنون بالله واليوم الاخر " مبتدء خبره قوله " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما " ولو كان قوله " والمقيمين الصلاة " مرفوعا كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو وما عطف عليه مبتدء خبره قوله " اولئك. قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه والبصريون إلى أنه نصب على المدح على تقدير أعنى المقيمين الصلاة، قالوا إذا قلت: مررت بزيد الكريم وأنت تريد أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر، وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت وقلت: مررت بزيد الكريم كأنك قلت: أذكر الكريم، وإن شئت رفعت فقلت: الكريم لى تقدير هو الكريم. وقال الكسائي، موضع المقيمين جر، وهو معطوف على " ما " من قوله بما أنزل

[ 139 ]

إليك " أي وبالمقيمين الصلاة. وقيل: إنه معطوف على الكاف في " إليك " أو الكاف في قبلك. وهذه الاقوال الاخيرة لا تجوز عند البصريين لانه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. قال: وأما ما روى عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله " والمقيمين الصلاة " وعن قوله " والصابئين " وعن قوله " إن هذان " فقالت: يا ابن اختى هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، وما روى عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: وفي مصحف ابن مسعود: " والمقيمون الصلاة " فمما لا يلتفت إليه لانه لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط وهم القدوة والذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (انتهى). وبالجملة قوله " لكن الراسخون في العلم " استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفى ما جاءهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم من الكتاب والحكمة المصدقين لما أنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه ورسله، في دعوتهم إلى الحق وإثباته مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتهم إلا مثل ما أتاهم به من قبله من الانبياء، ولم يعش فيهم ولم يعاشرهم إلا بما عاشوا به وعاشروا به كما قال تعالى " قل ما كنت بدعا من الرسل " (الاحقاف: 9) وقال تعالى: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين - إلى أن قال - لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " (الانبياء: 10). فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إن هؤلاء السائلين وهم أهل الكتاب ليست عندهم سجية اتباع الحق ولا ثبات ولا عزم ولا رأى، وكم من آية بينة ظلموها، ودعوة حق صدوا عنها، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على علمهم وما وضح من الحق لديهم، وكذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية اتباع الحق يؤمنون بما

[ 140 ]

أنزل إليك وما أنزل من قبلك لما وجدوا أن الذى نزل إليك من الوحي يماثل ما نزل من قبلك على سائر النبيين: نوح ومن بعده. ومن هنا يظهر (اولا) وجه توصيف من اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم والمؤمنين، فإن الايات السابقة تقص عنهم أنهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرين على شئ من الحق وإن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، وأنهم غير مؤمنين بآيات الله صادون عنها وإن جاءتهم البينات، فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة. و (ثانيا) وجه ذكر ما انزل قبلا مع القرآن في قوله " يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك " لان المقام مقام نفى الفرق بين القبيلين. و (ثالثا) ان قوله في الاية التالية: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا " (الخ) في مقام التعليل لايمان هؤلاء المستثنين. قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " في مقام التعليل لقوله " يؤمنون بما أنزل إليك " كما عرفت آنفا. ومحصل المعنى - والله أعلم - أنهم آمنوا بما أنزل إليك لانا لم نؤتك أمرا مبتدعا يختص من الدعاوى والجهات بما لا يوجد عند غيرك من الانبياء السابقين، بل الامر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، ونوح أول نبى جاء بكتاب وشريعة، وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده من آله، وهم يعرفونهم ويعرفون كيفية بعثتهم ودعوتهم، فمنهم من أوتى بكتاب كداود أوتى زبورا وهو وحى نبوى، وموسى اوتى التكليم وهو وحى نبوى، وغيرهما كإسماعيل وإسحاق ويعقوب أرسلوا بغير كتاب، وذلك أيضا عن وحى نبوى. ويجمع الجميع أنهم رسل مبشرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لاتمام الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم وما يضرهم في أخراهم ودنياهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. قوله تعالى: " والاسباط " تقدم في قوله تعالى: " ويعقوب والاسباط " (آل عمران: 84) أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بنى إسرائيل

[ 141 ]

بيان قوله تعالى: " وآتينا داود زبورا " قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور. قوله تعالى: " رسلا مبشرين ومنذرين " أحوال ثلاثة أو الاول حال والاخيران وصفان له. وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل وتمام الحجة من الله على الناس، وأن العقل لا يغنى وحده عن بعثة الانبياء بالشرائع الالهية في الكلام على قوله تعالى: " كان الناس امة واحدة " (سورة البقرة: 213) في الجزء الثاني من هذا الكتاب. قوله تعالى: " وكان الله عزيزا حكيما " وإذا كانت له العزة المطلقة والحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة، قال تعالى: " قل فلله الحجة البالغة " (الانعام: 149). قوله تعالى: " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون "، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإن الذى ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " (إلى آخر الايات) لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم، لان ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوحى من ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحى، فمن ادعى أنه مؤمن بما جاؤا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق. ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا. ومتن شهادته قوله " أنزله بعلمه " فإن مجرد النزول لا يكفى في المدعى، لان من أقسام النزول النزول بوحى من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الالهية فيضع سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحى الالهى الحق فيختلط الامر، كما يشير إلى نفيه بقوله: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا " (الجن: 28) وقال تعالى: " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " (الانعام: 121). وبالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الانزال لا يخرج الدعوى عن حال الابهام،

[ 142 ]

لكن تقييده بقوله " بعلمه " يوضح المراد كل الوضوح، ويفيد أن الله سبحانه أنزله إلى رسوله وهو يعلم ما ذا ينزل، ويحيط به ويحفظه من كيد الشياطين. وإذا كانت الشهادة على الانزال والانزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " (البقرة: 97) وقال تعالى في وصف هذا الملك المكرم: " إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين " (التكوير: 21) فدل على أن تحت أمره ملائكة اخرى وهم الذين ذكرهم إذ قال: " كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة " (عبس: 16). وبالجملة لكون الملائكة وسائط في الانزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد وكفى بالله شهيدا. والدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (أسرى: 88) وقوله " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " (النساء: 82) وقوله " فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله " (يونس: 38). قوله تعالى: " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا " لما ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه ونزول كتابه من عند الله، وأنه من سنخ الوحى الذى اوحى إلى النبيين من قبله وأنه مقرون بشهادته وشهادة ملائكته وكفى به شهيدا حقق ضلال من كفر به وأعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب. وفي الاية تبديل الكتاب الذى كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث قال: " وصدوا عن سبيل الله " وفيه إيجاز لطيف كأنه قيل: إن الذين كفروا وصدوا عن هذا الكتاب والوحى الذي يتضمنه فقد كفروا وصدوا عن سبيل الله، والذين كفروا وصدوا عن سبيل الله (الخ). قوله تعالى: " إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم " (الخ) تحقيق وتثبيت آخر مقامة التأكيد من الاية السابقة، وعلى هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن

[ 143 ]

سبيل الله كما هو ظاهر. ويمكن أن يكون الاية في مقام التعليل بالنسبة إلى الاية السابقة، يبين فيها وجه ضلالهم البعيد، والمعنى ظاهر. (بحث روائي) وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه السلام في حديث قال: ألم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنها حملت بصبى من رجل نجار اسمه يوسف ؟. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " (الاية) قال: حدثنى أبي، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقرى، عن أبى حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتنى فقلت: أيها الامير أية آية هي ؟ فقال: قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " والله إنى لامر باليهودى والنصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعينى فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد، فقلت: أصلح الله الامير ليس على ما اولت قال: كيف هو: قلت: ان عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى اهل ملة يهودى ولا غيره الا آمن به قبل موته، ويصلى خلف المهدى قال: ويحك انى لك هذا ؟ ومن اين جئت به ؟ فقلت: حدثنى به محمد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: والله جئت بها من عين صافية. وفي الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها الا اعترض في نفسي منها شزء قال الله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " وإنى اوتى بالاسارى فأضرب أعناقهم ولا معهم يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذى زعمت انه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، وإن اليهودي إذ اخرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذى زعمت أنك قتلته، عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الايمان، فإذا كان عند نزول عيسى

[ 144 ]

آمنت به أحياؤهم كما آمنت به مو تاهم: فقال: من أين أخذتها ؟ فقلت: من محمد بن على قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: وأيم الله ما حدثنيه إلا أم سلمة، ولكني أحببت أن اغيظه. اقول: ورواه أيضا ملخصا عن عبد بن حميد وابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن على بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية، والظاهر أنه روى عن محمد بن على، ثم اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفية أو الباقر عليه السلام، والرواية - كما ترى - تؤيد ما قدمناه في بيان معنى الاية. وفيه: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والبيهقي في الاسماء والصفات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم ؟ وفيه: أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويقبض المال، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين، واقرؤا إن شئتم: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " موت عيسى بن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات. اقول: والروايات في نزول عيسى عليه السلام عند ظهور المهدى عليه السلام مستفيضة من طرق أهل السنة، وكذا من طرق الشيعة عن النبي والائمة من أهل بيته عليهم الصلاة والسلام. وفي تفسير العياشي عن الحارث بن مغيرة عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اقول: ظاهره وإن كان مخالفا لظاهر سياق الايات المتعرضة لامر عيسى عليه السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جرى القرآن، بمعنى أنه بعد ما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء بكتاب وشريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كل كتابي أن يؤمن به ويؤمن بعيسى ومن قبله في ضمن الايمان به، فلو انكشف لكتابي عند الاحتضار مثلا حقية رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنما ينكشف في ضمن انكشاف حقية رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإيمان كل كتابي لعيسى عليه السلام إنما يعد إيمانا إذا آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة وبعيسى عليه السلام

[ 145 ]

تبعا، فالذي يؤمن به كل كتابي حقيقة ويكون عليهم يوم القيامة شهيدا هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد بعثته، وإن كان عيسى عليه السلام كذلك أيضا فلا منافاة، والخبر التالى لا يخلو من ظهور ما في هذا المعنى. وفيه: عن ابن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله في عيسى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " فقال: إيمان أهل الكتاب إنما هو لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه: عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال: ليس من أحد من جميع الاديان يموت إلا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام حقا من الاولين والاخرين. أقول: وكون الرواية من الجرى أظهر. على أن الرواية غير صريحة في كون ما ذكره عليه السلام ناظرا إلى تفسير الاية وتطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاما اورد في ذيل الكلام على الاية، ولذلك نظائر في الروايات. وفيه: عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " فقال: هذه نزلت فينا خاصة، إنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتى يقر للامام وبإمامته، كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: " تالله لقد آثرك الله علينا ". اقول: الرواية من الاحاد: وهى مرسلة وفي معناها روايات مروية في ذيل قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن الله ذلك هو الفضل الكبير " (فاطر: 32) سنستوفى الكلام فيها إن شاء الله تعالى. وفيه: في قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما إوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " (الاية) عن زرارة وحمران عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام قال: إنى أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح والنبيين من بعده، فجمع له كل وحى. اقول: الظاهر أن المراد أنه لم يشذ عنه صلى الله عليه وآله وسلم من سنخ الوحى ما يوجب تفرق

[ 146 ]

السبيل وتفاوت الدعوة، لا أن كل ما اوحى به إلى نبى على خصوصياته فقد اوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا مما لا معنى له، ولا أن ما أوحى إليك جامع لجميع الشرائع السابقة فإن الكلام في الاية غير موضوع لافادة هذا المعنى، ويؤيد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالى. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبى جعفر عليه السلام: قال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " وأمر كل نبى بالسبيل والسنة. وفي تفسير العياشي عن الثمالى عن أبى جعفر عليه السلام قال: وكان بين آدم وبين نوح من الانبياء مستخفين ومستعلنين، ولذلك خفى ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمى من استعلن من الانبياء، وهو قول الله عز وجل: " ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما " يعنى لم اسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الانبياء. اقول: ورواه في الكافي عن على بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبى حمزة عنه عليه السلام وفيه: من الانبياء مستخفين، ولذلك خفى ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمى من استعلن من الانبياء وهو قول الله عز وجل: " رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " يعنى لم اسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الانبياء (الحديث). والمراد بالرواية على أي حال أن الله تعالى لم يذكر قصة المستخفين أصلا ولا سماهم، كما قص بعض قصص المستعلنين وسمى من سمى منهم. ومن الجائز ان يكون قوله: " يعنى لم أسم " (الخ) من كلام الراوى. وفي تفسير العياشي عن أبى حمزة الثمالى قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لكن الله يشهد بما أنزل اليك في على أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا. اقول: وروى هذا المعنى القمى في تفسيره مسندا عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام وهو من قبيل الجرى والتطبيق فإن من القرآن ما نزل في ولايته عليه السلام وليس المراد به تحريف الكتاب ولا هو قراءة منه عليه السلام. ونظيره ما رواه في الكافي وتفسير العياشي عن أبى جعفر عليه السلام، والقمى في تفسيره عن أبى عبد الله عليه السلام: ان الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم (الاية) وما رواه في المجمع عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله " قد جاءكم الرسول

[ 147 ]

بالحق " أي بولاية من أمر الله بولايته. يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والارض وكان الله عليما حكيما - 170. يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا - 171. لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملئكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا - 172. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا - 173. يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا - 174. فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما - 175.

[ 148 ]

(بيان)

 بعد ما أجاب عما اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب من السماء ببيان ان رسوله إنما جاء بالحق من عند ربه، وأن الكتاب الذى جاء به من عند ربه حجة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحة دعوة الناس كافة إلى نبيه وكتابه. وقد كان بين فيما بين أن جميع رسله وأنبيائه - وقد ذكر فيهم عيسى - على سنة واحدة متشابهة الاجزاء والاطراف، وهى سنة الوحى من الله فاستنتج منه صحة دعوة النصارى وهم أهل كتاب ووحى إلى أن لا يغلوا في دينهم، وأن يلحقوا بسائر الموحدين من المؤمنين، ويقروا في عيسى بما أقروا به هم وغيرهم في سائر الانبياء أنهم عباد الله ورسله إلى خلقه. فأخذ تعالى يدعو الناس كافة إلى الايمان برسوله صلى الله عليه وآله وسلم لان المبين أولا هو صدق نبوته في قوله " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " (الايات). ثم دعا إلى عدم الغلو في حق عيسى عليه السلام لانه المتبين ثانيا في ضمن الايات المذكورة. ثم دعا إلى اتباع كتابه وهو القرآن الكريم لانه المبين أخيرا في قوله تعالى: " لكن الله يشهد بما أنزل إنك أنزله بعلمه " (الاية). قوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم " خطاب عام لاهل الكتاب وغيرهم من الناس كافة، متفرع على ما مر من البيان لاهل الكتاب، وإنما عمم الخطاب لصلاحية المدعو إليه وهو الايمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة. وقوله " خيرا لكم " حال من الايمان وهى حال لازمة أي حال كون الايمان من صفته اللازمة أنه خير لكم. وقوله " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والارض "، أي إن تكفروا لم يزد كفر كم عليكم شيئا، ولا ينقص من الله سبحانه شيئا، فإن كل شئ مما في السماوات والارض لله فمن المحال ان يسلب منه تعالى شئ من ملكه فإن في طباع كل شئ مما في السماوات والارض أنه لله لا شريك له فكونه موجودا وكونه مملوكا شئ واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شئ وهو شئ ؟.

[ 149 ]

والاية من الكلمات الجامعة التى كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في معنا ها، وسعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكة تعالى على الاشياء وآثارها تعطى في الكفر والايمان والطاعة والمعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبر فيها. قوله تعالى: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق " ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح عليه السلام أنه خطاب للنصارى، وانما خوطبوا بأهل الكتاب - وهو وصف مشترك - اشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضى أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه، ومما بينه أن لا يقولوا عليه الا الحق. وربما أمكن أن يكون خطابا لليهود والنصارى جميعا، فإن اليهود أيضا كالنصارى في غلوهم في الدين، وقولهم على الله غير الحق، كما قال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله " (التوبه: 30) وقال تعالى: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " (التوبة: 31)، وقال تعالى: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم - إلى أن قال - ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " (آل عمران: 64). وعلى هذا فقوله: " انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله " (الخ) تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم. هذا، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله: انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله "، تعليلا لقوله: " لا تغلوا في دينكم "، ولازمه اختصاص الخطاب بالنصارى وقوله " انما المسيح " أي المبارك " عيسى بن مريم " تصريح بالاسم واسم الام ليكون أبعد من التفسير والتأويل بأى معنى مغاير، وليكون دليلا على كونه انسانا مخلوقا كأى انسان ذى ام. " وكلمته ألقاها إلى مريم " تفسير لمعنى الكلمة فإنه كلمة " كن " التى ألقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكونه الاسباب العادية كالنكاح والاب، قال تعالى: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " (آل عمران: 47) فكل شئ كلمة له تعالى غير أن سائر الاشياء مختلطة بالاسباب العادية، والذى اختص لاجله عيسى عليه السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الاسباب العادية في تولده " وروح منه " والروح من الامر، قال تعالى: " قل الروح من أمر ربى " (أسرى: 85) ولما كان عيسى عليه السلام كلمة " كن " التكوينية وهى أمر فهو روح.

[ 150 ]

وقد تقدم البحث عن الاية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب. قوله تعالى: " فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم انما الله إله واحد " تفريع على صدر الكلام بما أنه معلل بقوله: " انما المسيح " (الخ) أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الايمان على هذا النحو، وهو أن يكون إيمانا بالله بالربوبية ولرسله - ومنهم عيسى - بالرسالة، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الايمان بالله ورسله ونفى الثلاثة خيرا لكم. والثلاثة هم الاقانيم الثلاثة: الاب والابن وروح القدس، وقد تقدم البحث عن ذلك في الايات النازلة في أمر المسيح عليه السلام من سورة آل عمران. قوله تعالى: " سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الارض " السبحان مفعول مطلق مقدر الفعل، يتعلق به قوله " أن يكون " وهو منصوب بنزع الخافض، والتقدير: اسبحه تسبيحا وانزهه تنزيها من أن يكون له ولد، والجملة اعتراض مأتى به للتعظيم. وقوله " له ما في السماوات وما في الارض " حال أو جملة استيناف، وهو على أي حال احتجاج على نفى الولد عنه سبحانه، فإن الولد كيفما فرض هو الذى يماثل المولد في سنخ ذاته متكونا منه، وإذا كان كل ما في السماوات والارض مملوكا في أصل ذاته وآثاره لله تعالى وهو القيوم لكل شئ وحده فلا يماثله شئ من هذه الاشياء فلا ولد له. والمقام مقام التعميم لكل ما في الوجود غير الله عزاسمه ولازم هذا أن يكون قوله " ما في السماوات وما في الارض " تعبيرا كنائيا عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات والارض مشمولة لهذه الحجة، وليست مما في السموات والارض بل هي نفسها. ثم لما كان ما في الاية من امر ونهى هداية عامة لهم إلى ما هو خير لهم في دنياهم واخراهم ذيل الكلام بقوله " وكفى بالله وكيلا " أي وليا لشؤونكم، مدبرا لاموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم ويدعوكم إلى صراط مستقيم. قوله تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " احتجاج آخر على نفى الوهية المسيح عليه السلام مطلقا سواء فرض كونه ولدا أو أنه ثالث

[ 151 ]

ثلاثة، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته، وهذا مما لا ينكره النصارى، والاناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى، ولا معنى لعبادة الولد الذى هو سنخ إله ولا لعبادة الشئ لنفسه ولا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الذى ينطبق وجوده على كل منها، وقد تقدم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيح عليه السلام. وقوله " ولا الملائكة المقربون " تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة بعينها فيهم، وقد قال جماعة من المشركين كمشركي العرب - بكونهم بنات الله، فالجملة استطرادية. والتعبير في الاية أعنى قوله " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " عن عيسى عليه السلام بالمسيح، وكذا توصيف الملائكة بالمقربين مشعر بالعلية لما فيهما من معنى الوصف، أي إن عيسى لن يستنكف عن عبادته وكيف يستنكف وهو مسيح مبارك ؟ ولا الملائكة وهم مقربون ؟ ولو رجى فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا ولا قرب هؤلاء، وقد وصف الله المسيح أيضا بأنه مقرب في قوله: " وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين " (آل عمران: 45). قوله تعالى: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " حال. من المسيح والملائكة وهو في موضع التعليل أي وكيف يستنكف المسيح والملائكة المقربون عن عبادته الحال أن الذين يستنكفون عن عبادته ويستكبرون من عباده من الانس والجن والملائكة يحشرون إليه جميعا، فيجزون حسب أعمالهم، والمسيح والملائكة يعلمون ذلك ويؤمنون به ويتقونه. ومن الدليل على أن قوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر " (الخ) في معنى أن المسيح والملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله " ويستكبر " إنما قيد به قوله " ومن يستنكف " لان مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الالهى إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين، وأما المسيح والملائكة فإن استنكافهم لا يكون إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم، ولذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر "، أنهم عالمون بأن من يستنكف عن عبادته (الخ). وقوله " جميعا " أي صالحا وطالحا وهذا هو المصحح للتفضيل الذى يتلوه من قوله:

[ 152 ]

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (الخ). قوله تعالى: " ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " التعرض لنفى الولى والنصير مقابلة لما قيل به من الوهية المسيح والملائكة. قوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا " قال الراغب: البرهان بيان للحجة، وهو فعلان مثل الرجحان والثنيان وقال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض. انتهى، فهو على أي حال مصدر. وربما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا اطلق على نفس الدليل والحجة. والمراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله " وأنزلنا إليكم " ويمكن أن يراد بالبرهان أيضا ذلك، والجملتان إذا تؤكد إحداهما الاخرى. ويمكن أن يراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤيده وقوع الاية في ذيل الايات المبينة لصدق النبي في رسالته، ونزول القرآن من عند الله تعالى، وكون الاية تفريعا لذلك ويؤيده أيضا قوله تعالى في الاية التالية. " واعتصموا به " لما تقدم في الكلام على قوله " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم " (آل عمران: 101) أن المراد بالاعتصام الاخذ بكتاب الله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به "، بيان لثواب من اتبع برهان ربه والنور النازل من عنده. والاية كأنها منتزعة من الاية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أعنى قوله " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله "، ولعله لذلك لم يذكر ههنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان والنور، لانه بعينه ما ذكر في الاية السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد الاشعار بأن جزاء المتبعين ههنا جزاء المتبعين هنالك، وليس هناك إلا فريقان: المتبعون والمتخلفون. وعلى هذا فقوله في هذه الاية: " فسيدخلهم في رحمة منه " يحاذي قوله في تلك الاية: " فيوفيهم اجورهم " وهو الجنة وأيضا قوله في هذه الاية: " وفضل " يحاذي قوله في تلك الاية: " ويزيدهم من فضله " وأما قوله " ويهديهم إليه صراطا مستقيما " فهو

[ 153 ]

من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله: " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم (آل عمران 101). يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم - 176.

(بيان)

 آية تبين فرائض الكلالة من جهة الابوين أو الاب على ما يفسرها به السنة، كما أن ما ذكر من سهام الكلالة في أول السورة سهام كلالة الام بحسب البيان النبوى، ومن الدليل على ذلك أن الفرائض المذكورة ههنا أكثر مما ذكر هناك، ومن المستفاد من الايات أن سهام الذكور أكثر من سهام الاناث. قوله تعالى: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة أن امرء هلك ليس له ولد " قد تقدم الكلام في معنى الاستفتاء والافتاء ومعنى الكلالة في الايات السابقة من السورة. وقوله " ليس له ولد " ظاهره الاعم من الذكر والانثى على ما يفيده إطلاق الولد وحده. وقال في المجمع: فمعناه: ليس له ولد ولا والد، وإنما أضمرنا فيه الوالد للاجماع انتهى. ولو كان لاحد الابوين وجود لم تخل الاية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما. وقوله " وله اخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد " سهم الاخت من خأيها، والاخ من اخته، ومنه يظهر سهم الاخت من اختها والاخ من أخيه، ولو كان للفرضين الاخيرين فريضة اخرى لذكرت.

[ 154 ]

على أن قوله " وهو يرثها " في معنى قولنا: لو انعكس الامر - أي كان الاخ مكان الاخت - لذهب بالجميع، وعلى أن قوله " فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين " وهو سهم الاختين، وسهم الاخوه لم يقيد فيهما الميت بكونه رجلا أو امرأة فلا دخل لذكور الميت وانوثته في السهام. والذى صرحت به الاية من السهام سهم الاخت الواحدة والاخ الواحد، والاختين، و الاخوة المختلطة من الرجال والنساء، ومن ذلك يعلم سهام باقى الفروض: منها: الاخوان، يذهبان بجميع المال ويقتسمان بالسوية يعلم ذلك من ذهاب الاخ الواحد بالجميع، ومنها الاخ الواحد مع اخت واحدة، ويصدق عليهما الاخوة كما تقدم في أول السورة فيشمله " وإن كانوا إخوة " على أن السنة مبينة لجميع ذلك. والسهام المذكورة تختص بما إذا كان هناك كلالة الاب وحده، أو كلالة الابوين وحده، وأما إذا اجتمعا كالاخت لابوين مع الاخت لاب لم ترث الاخت لاب. وقد تقدم ذكره في الكلام على آيات أول السورة. قوله تعالى: " يبين الله لكم أن تضلوا " أي حذر أن تضلوا أو لئلا تضلوا، وهو شائع في الكلام، قال عمرو بن كلثوم: " فعجلنا القرى أن تشتمونا "

(بحث روائي)

 في المجمع عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: اشتكيت وعندي تسعة أخوات لى - أو سبع - فدخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنفخ في وجهى فأفقت، فقلت: يا رسول الله ألا اوصى لاخواتي بالثلثين ؟ قال: أحسن، قلت: الشطر ؟ قال أحسن، ثم خرج وتركني ورجع إلى فقال: يا جابر انى لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل في الذى لاخواتك فجعل لهن الثلثين. قالوا: وكانوا جابر يقول: أنزلت هذه الاية في. اقول: وروى ما يقرب عنه في الدر المنثور.

[ 155 ]

وفي الدر المنثور: اخرج ابن ابى شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ضريس وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة: براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. أقول: وروى فيه عدة روايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة كانوا يسمون الاية بآية الصيف، قال في المجمع: وذلك أن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، وهى التى في أول هذه السورة، واخرى في الصيف، وهى هذه الاية. وفيه: أخرج أبو الشيخ في الفرائض عن البراء قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة فقال: ما خلا الولد والوالد. وفي تفسير القمى قال: حدثنى أبى، عن ابن ابى عمير، عن ابن اذينة، عن بكير، عن أبى جعفر عليه السلام قال: إذا مات الرجل وله اخت لها نصف ما ترك من الميراث بالاية كما تأخذ البنت لو كانت، والنصف الباقي يرد عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاخت أخ اخذ الميراث كله لقول الله " وهو يرثها ان لم يكن لها ولد " فإن كانتا اختين أخذتا الثلثين بالاية، والثلث الباقي بالرحم، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين، وذلك كله إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة. اقول: وروى العياشي في تفسيره ذيل الرواية في عدة أخبار عن أبى جعفر وإبى عبد الله عليهما السلام. وفي تفسير العياشي عن بكير قال: دخل رجل على أبى جعفر عليه السلاام فسأله عن امرأة تركت زوجها وإخوتها لامها واختا لاب، قال: للزوج النصف: ثلاثة أسهم، وللاخوة من الام الثلث: سهمان، وللاخت للاب سهم. فقال الرجل: فإن فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامة والقضاة على غير ذا، يا أبا جعفر ! يقولون: للاخت للاب والام ثلاثة أسهم نصيب من ستة يقول: إلى ثمانية. فقال أبو جعفر: ولم قالوا ذلك ؟ قال: لان الله قال: " وله اخت فلها نصف ما ترك " فقال أبو جعفر عليه السلام: فما لكم نقصتم الاخ إن كنتم تحتجون بأمر الله ؟ فإن الله سمى لها النصف، وإن الله سمى للاخ الكل فالكل أكثر من النصف فإنه تعالى قال: " فلها النصف " وقال للاخ: " وهو يرثها " يعنى جميع المال " إن لم يكن لها ولد " فلا تعطون

[ 156 ]

الذى جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم شيئا وتعطون الذى جعل الله له النصف تاما ؟ وفي الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: إنه سئل عن رجل توفى وترك ابنته واخته لابيه وامه فقال: للبنت النصف وليس للاخت شئ، وما بقى فلعصبته فقيل: إن عمر جعل للاخت النصف فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله ؟ قال الله: " إن امرء هلك ليس له ولد وله اخت فلها نصف ما ترك " فقلتم انتم: لها النصف وإن كان له ولد. اقول: وفي المعاني السابقة روايات اخر. "

سورة المائدة مدنية وهى مائة وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد - 1. يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب - 2. حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين

[ 157 ]

كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم - 3.

بيان

 الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها ومختتمها، وعامة الايات الواقعة فيها، والاحكام والمواعظ والقصص التى تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها، وأن عادته تعالى جرت بالرحمة والتسهيل والتخفيف على من اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن، والتشديد على من بغى واعتدى وطغا بالخروج عن ربقه العهد بالطاعة، وتعدى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين. ولذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود والقصاص، وعلى مثل قصة المائدة، وسؤال المسيح، وقصة ابني آدم، وعلى الاشارة إلى كثير من مظالم بنى إسرائيل ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم، وعلى كثير من الايات التى يمتن الله تعالى فيها على الناس بامور كإكمال الدين، وإتمام النعمة، واحلال الطيبات، وتشريع ما يطهر الناس من غير أن يريد بهم الحرج والعسر. وهذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر أيام حياته وقد ورد في روايات الفريقين: أنها ناسخة غير منسوخة، والمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده وللتثبت فيها. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " العقود جمع عقد وهو شد أحد شيئين بالاخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الاخر، كعقد الحبل والخيط بآخر من مثله، ولازمه التزام أحدهما الاخر، وعدم انفكاكه عنه، وقد كان معتبرا عندهم في

[ 158 ]

الامور المحسوسة أولا ثم استعير فعمم للامور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، وكجميع العهود والمواثيق فاطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذى عرفت أنه اللزوم والالتزام فيها. ولما كان العقد - وهو العهد - يقع على جميع المواثيق الدينية التى أخذها الله من عباده من أركان وأجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الاصلية والاعمال العبادية والاحكام المشروعة تأسيسا أو امضاء، و منها عقود المعاملات وغير ذلك، وكان لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الاوجه حمل العقود في الاية على ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد. وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التى يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع والنكاح والعهد، أو يعقدها الانسان على نفسه كعقد اليمين. وكذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التى كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والمؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغى عليهم، وهذا هو الحلف الدائر بينهم. وكذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والانجيل. فهذه وجوه لا دليل على شئ منها من جهة اللفظ. على أن ظاهر الجمع المحلى باللام وإطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد وحكم لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الاوجه.

(كلام في معنى العقد)

 يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: " أوفوا بالعقود " على الامر بالوفاء بالعقود، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء. والعقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوى، وهو نوع ربط شئ بشئ آخر بحيث يلزمه ولا ينفك عنه كعقد البيع الذى هو ربط المبيع بالمشترى ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرف، وكعقد النكاح الذى يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، وكالعهد

[ 159 ]

الذى يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده وليس له أن ينقضه. وقد أكد القرآن في الوفاء بالعقد والعهد بجميع معانيه وفي جميع معانيه وفي جميع مصاديقه وشدد فيه كل التشديد، وذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا، وأوعدهم إيعادا عنيفا ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها. وقد أرسلت الايات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية وهو كذلك. وليس ذلك إلا لان العهد والوفاء به مما لا غنى للانسان في حياته عنه أبدا، والفرد والمجتمع في ذلك سيان، وإنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التى للانسان وجدنا جميع المزايا التى نستفيد منها وجميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التى نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام والعقود والعهود الفرعية التى تترتب عليه، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا ولا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي وإن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان، ولو صح للانسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، وهو الركن الذى يلوذ به ويأوى إليه الانسان من اسارة الاستخدام والاستثمار. ولذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد والوفاء به قال تعالى: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا " (اسرى: 34) والاية تشمل العهد الفردى الذى يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الايات المادحة للوفاء بالعهد والذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم وقوم وأمة وأمة، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردى لان العدل عنده أتم والبلية في نقضه أعم. ولذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان قال تعالى: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم

[ 160 ]

عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد " (براءة: 5) والايات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة وقد أذل الله رقاب المشركين، وأفنى قوتهم وأذهب شوكتهم، وهى تعزم على المسلمين أن يطهروا الارض التى ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك، وتهدر دماء المشركين من دون أي قيد وشرط إلا أن يؤمنوا، ومع ذلك تستثنى قوما من المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرض، ولا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا واستذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع، كل ذلك احتراما للعهد و مراعاة لجانب التقوى. نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذى نقضه ويتلقى هباء باطلا، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: " كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين - إلى أن قال - لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الايات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " (براءة: 12)، وقال تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله " (البقرة: 194)، وقال تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم و العدوان واتقوا الله " (المائدة: 2). وجملة الامر أن الاسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الاطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الاخر نقضه بمثل ما نقضه والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في ذلك خروجا عن رقية الاستخدام والاستعلاء المذمومة التى ما نهض ناهض الدين إلا لاماطتها. ولعمري ان ذلك أحد التعاليم العالية التى أتى بها دين الاسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الانسانية في حكمها والتحفظ على العدل الاجتماعي الذى لا ينتظم سلك الاجتماع

[ 161 ]

الانساني الا على أساسه وإماطة مظلمة الاستخدام والاستثمار، وقد صرح به الكتاب العزيز وسار به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الشريفة، ولو لا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفا من قصصه عليه أفضل الصلاة والسلام في ذلك، وعليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته وتاريخ حياته. وإذا قايست بين ما جرت عليه سنة الاسلام من احترام العهد وما جرت عليه سنن الامم المتمدنة وغير المتمدنة ولا سيما ما نسمعه ونشاهده كل يوم من معاملة الامم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم ومعاقداتهم وحفظها لها ما درت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم ونقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية الحق وخدمة الحقيقة. ومن الحرى بالدين ذاك وبسننهم ذلك، فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن الحق تجب رعايته كيفما كان وفي رعايته منافع المجتمع، ومنطق يقول: إن منافع الامة تجب رعايتها بأى وسيلة اتفقت وإن دحضت الحق، وأول المنطقين منطق الدين، وثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية والديموقراطية والشيوعية وغيرها. وقد عرفت مع ذلك أن الاسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمم حكمه إلى كل ما بنى عليه بناء ويوصى برعايته ولهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم " (الخ) الاحلال هو الاباحة والبهيمة اسم لكل ذى أربع من دواب البر والبحر على ما في المجمع، وعلى هذا فإضافة البهيمة إلى الانعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الانسان وجنس الحيوان، وقيل: البهيمة جنين الانعام، وعليه فالاضافة لامية. وكيف كان فقوله " أحلت لكم بهيمة الانعام " أي الازواج الثمانية أي أكل لحومها، وقوله " إلا ما يتلى عليكم " إشارة إلى ما سيأتي من قوله: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " (الاية). وقوله " غير محلى الصيد وأنتم حرم " حال من ضمير الخطاب في قوله " أحلت لكم

[ 162 ]

ومفاده حرمة هذا الذى أحل إذا كان اصطياده في حال الاحرام، كالوحشي من الظباء والبقر والحمر إذا صيدت، وربما قيل: إنه حال من قوله " أوفوا " أو حال من ضمير الخطاب في قوله " يتلى عليكم " والصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " خطاب مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى. والاحلال هو الاباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة والمنزلة، ويتعين معناه بحسب ما أضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها وتركها، وإحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته والقتال فيه، وهكذا. والشعائر جمع شعيرة وهى العلامة وكأن المراد بها أعلام الحج ومناسكه. والشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية وهى: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. والهدى ما يساق للحج من الغنم والبقر والابل. والقلائد جمع قلادة، وهى ما يقلد به الهدى في عنقه من نعل ونحوه ليعلم أنه هدى للحج فلا يتعرض له. والامين جمع آم اسم فاعل من أم إذا قصد، والمراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام. وقوله " يبتغون فضلا "، حال من " آمين " والفضل هو المال أو الربح المالى، فقد أطلق عليه في قوله تعالى " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " (آل عمران: 174) وغير ذلك أو هو الاجر الاخروي أو الاعم من المال والاجر. وقد اختلفوا في تفسير الشعائر والقلائد وغيرهما من مفردات الاية على أقوال شتى، والذى آثرناه ذكره هو الانسب لسياق الاية، ولا جدوى في التعرض لتفاصيل الاقوال. قوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من الاباحة بمعنى عدم المنع، والحل والاحلال - مجردا ومزيدا فيه - بمعنى وهو الخروج من الاحرام. قوله تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " يقال: جرمه يجرمه أي حمله، ومنه الجريمة للمعصية لانها محمولة من حيث وبالها، وللعقوبة

[ 163 ]

المالية وغيرها لانها محمولة على المجرم. وذكر الراغب أن الاصل في معناها القطع. والشنآن العداوة والبغض. وقوله " أن صدوكم " أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن ومحصل معنى الاية: ولا يحملنكم عداوة قوم وهو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم. قوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " المعنى واضح، وهذا أساس السنة الاسلامية، وقد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالايمان والاحسان في العبادات والمعاملات، كما مر في قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر الاية " (البقرة: 177) وقد تقدم الكلام فيه. والتقوى مراقبة أمر الله ونهيه، فيعود معنى التعاون على البر والتقوى إلى الاجتماع على الايمان والعمل الصالح على أساس تقوى الله، وهو الصلاح والتقوى الاجتماعيان، ويقابله التعاون على الاثم الذى هو العمل السيئ المستتبع للتأخر في امور الحياة السعيدة، وعلى العدوان وهو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب الامن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا الاية) آل عمران: 200) في الجزء الرابع من هذا الكتاب. ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الاثم والعدوان بقوله: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " وهو في الحقيقة تأكيد على تأكيد. قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " هذه الاربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الانعام والنحل وهما مكيتان، وسورة البقرة وهى أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم " (الانعام، 145) وقال تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " (البقرة: 173). والايات جميعا - كما ترى - تحرم هذه الاربعة المذكورة في صدر هذه الاية وتماثل الاية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم

[ 164 ]

فإن الله غفور رحيم " فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها وبين تلك مؤكدة لتلك الايات. بل النهى عنها وخاصة عن الثلاثة الاول أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير أسبق تشريعا من نزول سورتي الانعام والنحل لمكيتين، فإن آية الانعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، وقد قال تعالى في سورة المدثر - وهى من السور النازلة في أول البعثة -: " والرجز فاهجر " (المدثر: 5). وكذلك ما عده تعالى بقوله " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله " إلا ما ذكيتم " فإنما ذكرت في الاية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة ومزيد بيان للمحرمات من الاطعمة من غير أن تتضمن الاية فيها على تشريع حديث. وكذلك ما عده الله تعالى بقوله " وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق " فإنهما وإن كانا أول ما ذكرا ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما أو تحريم الثاني منهما - على احتمال ضعيف - بالفسق، وقد حرم الفسق في آية الانعام، وكذا قوله " غير متجانف لاثم " يدل على تحريم ما ذكر في الاية لكونه إثما، وقد دلت آية البقرة على تحريم الاثم، وقال تعالى أيضا: " وذروا ظاهر الاثم وباطنه " (الانعام: 120)، وقال تعالى: قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم " (الاعراف: 33). فقد اتضح وبان أن الاية لا تشتمل فيما عدته من المحرمات على أمر جديد غير مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الايات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد محرمات الاطعمة من اللحوم ونحوها. قوله تعالى: " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم " المنخنقة هي البهيمة التى تموت بالخنق، وهو أعم من أن يكون عن اتفاق أو بعمل عامل اختيارا، ومن أن يكون بأى آلة ووسيلة كانت كحبل يشد على عنقها ويسد بضغطه مجرى تنفسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة وأمثالها دائرة بينهم في الجاهلية.

[ 165 ]

والموقوذة هي التى تضرب حتى تموت، والمتردية هي التى تردت أي سقطت من مكان عال كشاهق جبل أو بئر ونحوهما. والنطيحة هي التى ماتت عن نطح نطحها به غيرها، وما أكل السبع هي التى أكلها أي أكل من لحمها السبع فإن الاكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه والسبع هو الوحش الضارى كالاسد والذئب والنمر ونحوها. وقوله " إلا ما ذكيتم " استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فرى الاوداج الاربعة منها كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس ونحو ذلك، والاستثناء كما ذكرنا آنفا متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيد بالتعلق بالاخير من غير دليل عليه. وهذه الامور الخمسة أعنى المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كل ذلك من أفراد الميتة ومصاديقها، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلا إنما تحرمان إذا ماتتا بالتردى والنطح، والدليل على ذلك قوله: " إلا ما ذكيتم " فإن من البديهى أنهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، وإنما تؤكلان بعد زهوقها وحينئذ فإما أن تذكيا أو لا، وقد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من غير تذكية، وأما لو تردت شاة - مثلا - في بئر ثم أخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلا أو كثيرا ثم ماتت حتف أنفها أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية، يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها ما إذا هلكت، واستند هلاكها إلى الوصف الذى ذكر لها كالانخناق والوقذ والتردى والنطح. والوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسبق إلى الوهم أنها ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها، والذهن يسبق غالبا إلى الفرد الشائع، وهو ما إذا ماتت بمرض ونحوه من غير أن يكون لمفاجأة سبب من خارج، فصرح تعالى بهذه الافراد والمصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس وتتضح الحرمة. قوله تعالى: " وما ذبح على النصب " قال الراغب في المفردات: نصب الشئ وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر، والنصيب الحجارة تنصب على الشئ، وجمعه نصائب ونصب، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها قال: " كأنهم إلى نصب

[ 166 ]

يوفضون "، قال: " وما ذبح على النصب " وقد يقال في جمعه: أنصاب قال: والانصاب والازلام " والنصب والنصب: التعب. فالمراد من النهى عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستن بسنن الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجارا يقدسونها ويذبحون عليها، وكان من سنن الوثنية. قوله تعالى: " وإن تستقسموا بالازلام " والازلام هي القداح، والاستقسام بالقداح أن يؤخذ جزور - أو بهيمة اخرى - على سهام ثم يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم ممن لا سهم له، وفي تشخيص نفس السهام المختلفة وهو الميسر، وقد مر شرحه عند قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر الاية) (البقرة: 219) في الجزء الثاني من هذا الكتاب. قال الراغب: القسم إفراز النصيب يقال: قسمت كذا قسما وقسمة، وقسمة الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما، قال: " لكل باب منهم جزء مقسوم " " ونبئهم أن الماء قسمة بينهم " واستقسمته سألته أن يقسم، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال: " وأن تستقسموا بالازلام "، وما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق مصداقا، والمعنى بالحقيقة طلب القسمة بالازلام التى هي آلات هذا الفعل، فاستعمال الالة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال. فالمراد بالاستقسام بالازلام المنهى عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور ونحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب. وأما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالازلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير والشر في الافعال، وتمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفرا أو ازدواجا أو شروعا في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه - قالوا: وكان ذلك دائرا بين عرب الجاهلية، وذلك نوع من الطيرة، وسيأتى زيادة شرح له في البحث الروائي التالى - ففيه: أن سياق الاية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، وذلك أن الاية - وهى مقام عد محرمات الاطعمة، وقد أشير إليها قبلا في قوله: " إلا ما يتلى عليكم " - تعد من محرماتها عشرا، وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالازلام الذى من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه استعلام الخير والشر في الامور فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية

[ 167 ]

في تعين حمل اللفظ على استقسام اللحم قمارا ؟ وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك. نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة، ولها معنى آخر وهو زيارة البيت الحرام، فإذا أضيف إلى البيت صح كل من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " البقرة: 119. إلا المعنى الاول، والامثله في ذلك كثيرة. وقوله: " ذلكم فسق يحتمل الاشارة إلى جميع المذكورات، والاشارة إلى الاخيرين المذكورين بعد قوله: " إلا ما ذكيتم " لحيلولة الاستثناء، والاشارة إلى الاخير ولعل الاوسط خير الثلاثة. قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " أمر الاية في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب، فإنك إذا تأملت صدر الاية أعنى قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم - إلى قوله: - ذلكم فسق " وأضفت إليه ذيلها أعنى قوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " وجدته كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه وإفادة المراد منه إلى شئ من قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " (الخ) أصلا، وألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الايات الواقعة في سورة الانعام والنحل والبقرة المبينة لمحرمات الطعام، ففى سورة البقرة: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " ويماثله ما في سورتي الانعام والنحل. وينتج ذلك أن قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " (الخ) كلام معترض موضوع في وسط هذه الاية غير متوقف عليه لفظ الاية في دلالتها وبيانها، سواء قلنا: إن الاية نازلة في وسط الاية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذى أمر كتاب الوحى بوضع الاية في هذا الموضع مع انفصال الايتين واختلافهما نزولا. أو قلنا: إنها موضوعة في موضعها الذى هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا، فإن شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل متعرضا إذا قيس إلى صدر الاية وذيلها. ويؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول - لو لم يكن كلها، وهى أخبار جمة - يخص قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " " (الخ) بالذكر من غير أن يتعرض

[ 168 ]

لاصل الاية أعنى قوله: " حرمت عليكم الميتة " أصلا وهذا يؤيد أيضا نزول قوله: " اليوم يئس " (الخ) نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر والذيل، وأن وقوع الاية في وسط الاية مستند إلى تأليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى تأليف المؤلفين بعده. ويؤيده ما رواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد عن الشعبى قال: نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية - وهو بعرفة -: " اليوم أكملت لكم دينكم " وكان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: وكان جبرئيل يعلمه كيف ينسك. ثم إن هاتين الجملتين أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " متقاربتان مضمونا، مرتبطتان مفهوما بلا ريب، لظهور ما بين يأس الكفار من دين المسلمين وبين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب، وقبول المضمونين لان يمتزجا فيتركبا مضمونا واحدا مرتبط الاجزاء، متصل الاطراف بعضها ببعض، مضافا إلى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق. ويؤيد ذلك ما نرى أن السلف والخلف من مفسري الصحابة والتابعين والمتأخرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما بعضا، وليس ذلك إلا لانهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك، وبنوا على نزولهما معا، واجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد. وينتج ذلك أن هذه الاية المعترضة أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم - إلى قوله: - ورضيت لكم الاسلام دينا " كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالاية المحيطة بها أو لم نقل، فإن ذلك لا يؤثر ألبتة في كون هذا المجموع كلاما واحدا معترضا لا كلامين ذوى غرضين، وأن اليوم المتكرر في قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، وفي قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم "، أريد به يوم واحد يئس فيه الكفار وأكمل فيه الدين. ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم " ؟ فهل المراد به زمان ظهور الاسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته فيكون المراد أن الله أنزل إليكم الاسلام، وأكمل لكم الدين وأتم عليكم النعمة وأيأس منكم الكفار ؟. لا سبيل إلى ذلك لان ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله أو تغييره، وكان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين مما طمعوا فيه وآمن

[ 169 ]

المسلمين وأنه كان ناقصا فأكمله الله وأتم نعمته عليهم، ولم يكن لهم قبل الاسلام دين حتى يطمع فيه الكفار أو يكمله الله ويتم نعمته عليهم. على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله: " اليوم أكملت "، على قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، حتى يستقيم الكلام في نظمه. أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش وأذهب شوكتهم، وهدم فيه بنيان دينهم، وكسر أصنامهم، فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، ويضادوا الاسلام ويمانعوا نفوذ أمره وانتشار صيته ؟. لا سبيل إلى ذلك أيضا فإن الاية تدل على إكمال الدين وإتمام النعمة ولما يكمل الدين بفتح مكة - وكان في السنة الثامنة من الهجرة - فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، وكم من حلال أو حرام شرع فيما بينه وبين رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. على أن قوله: " الذين كفروا " يعم جميع مشركي العرب ولم يكونوا جميعا آئسين من دين المسلمين، ومن الدليل عليه أن كثيرا من المعارضات والمواثيق على عدم التعرض كانت باقية بعد على اعتبارها واحترامها، وكانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين، وكانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية. أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الاسلام على جزيرة العرب تقريبا، وعفت آثار الشرك، وماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين ومناسك الحج أحدا من المشركين، وصفا لهم الامر، وأبدلهم الله بعد خوفهم أمنا يعبدونه ولا يشركون به شيئا ؟ لا سبيل إلى ذلك فإن مشركي العرب وإن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة وطي بساط الشرك من الجزيرة وإعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد، وقد نزلت فرائض وأحكام بعد ذلك، ومنها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، وقد اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها شئ كثير من أحكام الحلال والحرام والحدود والقصاص. فتحصل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الاية معناه الوسيع مما

[ 170 ]

يناسب مفاد الاية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الاسلامية أو ما بعد فتح مكة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال: إن المراد باليوم يوم نزول الاية نفسها، وهو يوم نزول السورة إن كان قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، معترضا مرتبطا بحسب المعنى بالاية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لمكان قوله تعالى: " اليوم أكملت ". فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه ؟ أو يوم نزول البراءة بعينه يكفى في فساده ما تقدم من الاشكالات الواردة على الاحتمال الثاني والثالث المتقدمين. أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين وبه ورد بعض الروايات ؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، وإن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة وهو في السنة التاسعة من الهجرة، وإن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود والنصارى والمجوس وغيرهم - وذلك الذى يقتضيه إطلاق قوله: " الذين كفروا " - فهؤلاء لم يكونوا آئسين من الظهور على المسلمين بعد، ولما يظهر للاسلام قوة وشوكة وغلبة في خارج جزيرة العرب اليوم. ومن جهة أخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم - وهو يوم عرفة تاسع ذى الحجة سنة عشر من الهجرة - من الشأن الذى يناسب قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " في الاية. فربما أمكن أن يقال: أن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه فيه، وتعليمه الناس تعليما عمليا مشفوعا بالقول. لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم - وقد أمرهم بحج التمتع ولم يلبث دون أن صار مهجورا، وقد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة وصوم وحج وزكاة وجهاد وغير ذلك - لا يصح أن يسمى إكمالا للدين، وكيف يصح أن يسمى تعليم شئ من واجبات الدين إكمالا لذلك الواجب فضلا عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين ؟. على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الاولى أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " بهذه الفقرة أعنى قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " وأى ربط

[ 171 ]

ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حج التمتع للناس ؟. وربما أمكن أن يقال: أن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال والحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده ولا حرام، وبإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفار، ولاحت آثاره على وجوههم. لكن يجب أن نتبصر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الاية بقوله: " الذين كفروا " على هذا التقدير وأنهم من هم ؟ فإن أريد بهم كفار العرب فقد كان الاسلام عمهم يومئذ ولم يكن فيهم من يتظاهر بغير الاسلام وهو الاسلام حقيقه، فمن هم الكفار الائسون. وإن أريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الامم والاجيال فقد عرفت آنفا أنهم لم يكونوا آئسين يومئذ من الظهور على المسلمين. ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة وانقضاء يوم عرفه فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عددا بنزول أحكام وفرائض بعد اليوم كما في آية الصيف (1) وآيات الربا، حتى أنه روى عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه مات رسول الله ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، الحديث. وروى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات. وليس للباحث أن يضعف الروايات فيقدم الاية عليها، لان الاية ليست بصريحة ولا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه وإنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه على انتفاء كل احتمال ينافيه، وهذه الاخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند. أو يقال: ان المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون وهم لا يخالطهم المشركون. وفيه: أنه قد كان صفا الامر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " ؟ على أنه لو سلم كون هذا الخلوص إتماما

______________________________

(1) وهى آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء. (*)

[ 172 ]

للنعمة لم يسلم كونه إكمالا للدين، وأى معنى لتسمية خلوص البيت إكمالا للدين، وليس الدين إلا مجموعة من عقائد وأحكام، وليس إكماله إلا أن يضاف إلى عدد أجزائها وأبعاضها عدد ؟ وأما صفاء الجو لاجرائها، وارتفاع الموانع والمزاحمات عن العمل بها فليس يسمى إكمالا للدين البتة. على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله. حاله. ويمكن أن يقال: إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بيانا تفصيليا ليأخذ به المسلمون، ويجتنبوها ولا يخشوا الكفار في ذلك لانهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين، وإظهار دينهم وتغليبهم على الكفار. توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الاسلام بذكر المحرمات الاربعة أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به الواقعة في بعض السور المكية وترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الاسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الاية إلى ما بعد فتح مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث والتشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلا ينفر العرب من الاسلام، ولا يروا فيه حرجا يرجون به رجوع من آمن فقرائهم وهم أكثر السابقين الاولين. جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الاسلام، وتوسعة الله على أهله وإعزازهم، وبعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، وزال طمعهم في الظهور عليهم، وإزالة دينهم بالقوة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، ولا يخافوهم على دينهم وعلى أنفسهم. فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع، وهو اليوم الذى نزلت فيه هذه الاية المبينة لما بقى من الاحكام التى أبطل بها الاسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله، ولا حاجة معه إلى شئ من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم. فالله سبحانه يخبرهم في الاية أن الكفار أنفسهم قد يئسوامن زوال دينهم وأنه ينبغى لهم - وقد بدلهم بضعفهم قوة، وبخوفهم أمنا، وبفقرهم غنى - أن لا يخشوا غيره تعالى، وينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الاية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص ما في النقل.

[ 173 ]

وفيه: أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الاخر من الاشكال فتورط بين المحاذير برمتها وأفسد لفظ الاية ومعناها جميعا. فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الاسلام وقوته وهو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " وقد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، وإنما اللفظ الوافى له أن يقال: قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنهم آئسون. وذهل عن أن هذا التدرج الذى ذكره في محرمات الطعام، وقاس تحريمها بتحريم الخمر إن أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الافراد بعد بعض فقد عرفت أن الاية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الاية أعنى آيات البقرة والانعام والنحل، وأن المنخنقة والموقوذة (الخ) من افراد ما ذكر فيها. وإن أريد به التدرج من حيث البيان الاجمالي والتفصيلي خوفا من امتناع الناس من القبول ففى غير محله، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به أغلب مصداقا، وأكثر ابتلاء، وأوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة والموقوذة وغيرها، وهى أمور نادرة التحقق وشاذة الوجود، فما بال تلك الاربعة وهى أهم وأوقع وأكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم يتقى من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالاضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها، ويخاف من التصريح بها ؟. على أن ذلك لو سلم لم يكن إكمالا للدين، وهل يصح ان يسمى تشريع الاحكام دينا ؟ وإبلاغها وبيانها إكمالا للدين ؟ ولو سلم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين وإتمام لبعض النعمة لا للكل والجميع، وقد قال تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " فأطلق القول من غير تقييد. على أنه تعالى قد بين أحكاما كثيرة في ايام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه الله أو سمى بيانه تفصيلا بإشمال الدين وإتمام النعمة ؟.

[ 174 ]

أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الاية المبينة لتفصيل محرمات الطعام، فما شأن الاحكام النازلة ما بين نزول المائدة ورحلة النبي صلى الله عليه ووآله وسلم ؟ بل ما شأن سائر الاحكام النازلة بعد هذه الاية في سورة المائدة ؟ تأمل فيه. وبعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى: " ورضيت لكم الاسلام دينا " - وتقديره: اليوم رضيت (الخ) - لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الاية من المحرمات يوم عرفة من السنة العاشرة ؟ وما وجه اختصاص هذا اليوم بأن الله سبحانه رضى فيه الاسلام دينا، ولا أمر يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضى ؟. وبعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الاشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه، ولا نطيل بالاعادة. أو أن المراد باليوم واحد من الايام التى بين عرفة وبين ورود النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار ومعنى إكمال الدين. وفيه من الاشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدم. فهذا شطر من البحث عن الاية بحسب السير فيما قيل أو يمكن ان يقال في توجيه معناها، ولنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب. قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم " - واليأس يقابل الرجاء، والدين إنما نزل من عند الله تدريجا - يدل على ان الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين وهو الاسلام، وكانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد وزمان، وأن أمرهم ذلك كان يهدد الاسلام حينا بعد حين، وكان الدين منهم على خطر يوما بعد يوم، وأن ذلك كان من حقه ان يحذر منه ويخشاه المؤمنون. فقوله: " فلا تخشوهم " تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر، ومن تسر به على خشية، قال تعالى: " ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم " (آل عمران: 69)، وقال تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم ومن بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير " (البقرة: 109).

[ 175 ]

والكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم، ولم يكن يضيق صدورهم وينصدع قلوبهم إلا من جهة ان الدين كان يذهب بسوددهم وشرفهم واسترسالهم في اقتراف كل ما تهواه طباعهم، وتألفه وتعتاد به نفوسهم، ويختم على تمتعهم بكل ما يشتهون بلا قيد وشرط. فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون اهل الدين الا من جهة دينهم الحق فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين وإفناء جمعهم بل إطفاء نور الله وتحكيم اركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، ورد المؤمنين كفارا كما مر في قوله: " لو يردونكم كفارا " (الاية) قال تعالى: " يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " (الصف: 9). وقال تعالى: " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " (المؤمن: 14). ولذلك لم يكن لهم هم إلا ان يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، ويهدموا هذا البنيان الرفيع من أسه بتفتين المؤمنين وتسرية النفاق في جماعتهم وبث الشبه والخرافات بينهم لافساد دينهم. وقد كانوا يأخذون بادئ الامر يفترون عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستمحقون همته في الدعوة الدينية بالمال والجاه، كما يشير إليه قوله تعالى: " وانطلق الملا منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " (ص: 6) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله: " ودوا لو تدهن فيدهنون " (القلم: 9)، وقوله: " ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " (أسرى: 74) وقوله: " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد " (الكافرون: 3) على ما ورد في اسباب النزول. وكان آخر ما يرجونه في زوال الدين، وموت الدعوة المحقة، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره ولا عقب له، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوة، وسلطنة في لباس الدعوة والرسالة فلو مات أو قتل لانقطع أثره ومات ذكره وذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين والجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالى والتجبر وركوب رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم، وسننهم وقوانينهم الحاكمة بين الناس وعليهم تدفن معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى: " إن شانئك هو الابتر " (الكوثر: 3)

[ 176 ]

على ما ورد في أسباب النزول. فقد كان هذه وأمثالها أمانى تمكن الرجاء من نفوسهم، وتطمعهم في إطفاء نور الدين، وتزين لاوهامهم ان هذه الدعوة الطاهرة ليست الا أحدوثة ستكذبه المقادير ويقضى عليها ويعفو أثرها مرور الايام والليالي، لكن ظهور الاسلام تدريجا على كل ما نازله له من دين وأهله، وانتشار صيته، واعتلاء كلمته بالشوكة والقوة قضى على هذه الامانى فيئسوا من إفساد عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيقاف همته عند بعض ما كان يريده، وتطميعه بمال أو جاه. قوة الاسلام وشوكته أيأستهم من جميع تلك الاسباب: - أسباب الرجاء - إلا واحدا وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم مقطوع العقب لا ولد له تخلفه في أمره، ويقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته، وذلك أن من البديهى ان كمال الدين من جهة أحكامه ومعارفه - وإن بلغ ما بلغ - لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، وأن سنة من السنن المحدثة والاديان المتبعة لا تبقى على نضارتها وصفائها لا بنفسها ولا بانتشار صيتها ولا بكثرة المنتحلين بها، كما أنها لا تنمحي ولا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلا بموت حملتها وحفظتها والقائمين بتدبير أمرها. ومن جميع ما تقدم يظهر ان تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظه وتدبير أمره، وإرشاد الامة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعى، ويكون ذلك إكمالا للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، وإتماما لهذه النعمة، وليس يبعد ان يكون قوله تعالى: " ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ان الله على كل شئ قدير " (البقرة: 109) باشتماله على قوله: " حتى يأتي " اشارة إلى هذا المعنى. وهذا يؤيد ما ورد من الروايات ان الاية نزلت يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذى الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية على عليه السلام، وعلى هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، ولا يرد عليه شئ من الاشكالات المتقدمة.

[ 177 ]

ثم إنك بعد ما عرفت معنى اليأس في الاية تعرف أن اليوم في قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ظرف متعلق بقوله: " يئس " وأن التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، وتعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيم الشخصي إلى مرحلة القيام بالقيم النوعى، ومن صفة الظهور والحدوث إلى صفة البقاء والدوام. ولا يقاس الاية بما سيأتي من قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات " (الاية) فإن سياق الايتين مختلف فقوله: " اليوم يئس " في سياق الاعتراض، وقوله: " اليوم أحل "، في سياق الاستيناف، والحكمان مختلفان: فحكم الاية الاولى تكويني مشتمل على البشرى من وجه والتحذير من وجه آخر، وحكم الثانية تشريعي منبئ عن الامتنان. فقوله: " اليوم يئس " يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى وهو يأس الذين كفروا من دين المؤمنين، والمراد بالذين كفروا - كما تقدمت الاشارة إليه - مطلق الكفار من الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم لمكان الاطلاق. وأما قوله: " فلا تخشوهم واخشون فالنهى إرشادى لا مولوى، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم - ومن المعلوم ان الانسان لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه ولا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه - فأنتم في أمن من ناحية الكفار، ولا ينبغى لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم اخشونى. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " واخشون " بمقتضى السياق أن اخشونى فيما كان عليكم ان تخشوهم فيه لو لا يأسهم وهو الدين ونزعه من أيديكم، وهذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، ولهذا لم نحمل الاية على الامتنان. ويؤيد ما ذكرنا أن الخشية من الله سبحانه واجب على أي تقدير من غير ان يتعلق بوضع دون وضع، وشرط دون شرط، فلا وجه للاضراب من قوله: " فلا تخشوهم " إلى قوله: " واخشون " لولا أنها خشية خاصة في مورد خاص. ولا تقاس الاية بقوله تعالى: " فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران: 175) لان الامر بالخوف من الله في تلك الاية مشروط بالايمان، والخطاب مولوى، ومفاده انه لا يجوز للمؤمنين ان يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب ان يخافوا الله سبحانه وحده.

[ 178 ]

فالاية تنهاهم عما ليس لهم بحق وهو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف من الله ام لا ولذلك يعلل ثانيا الامر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل، وهو قوله: " إن كنتم مؤمنين " وهذا بخلاف قوله: " فلا تخشوهم واخشون " فإن خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم، وليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنما النهى عنها لكون السبب الداعي إليها - وهو عدم يأس الكفار منه - قد ارتفع وسقط أثره فالنهى عنه إرشادى، فكذا الامر بخشية الله نفسه، ومفاد الكلام ان من الواجب أن تخشوا في امر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى يوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم وقد يئسوا اليوم وانتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده. فافهم ذلك. فالاية لمكان قوله: " فلا تخشوهم واخشون " لا تخلو عن تهديد وتحذير، لان فيه أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التى تجب على المؤمن على كل تقدير وفى جميع الاحوال، فلننظر في خصوصية هذه الخشية، وأنه ما هو السبب الموجب لوجوبها والامر بها ؟. لا إشكال في ان الفقرتين أعنى قوله. " اليوم يئس "، وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي "، في الاية مرتبطتان مسوقتان لغرض واحد، وقد تقدم بيانه، فالدين الذى أكمله الله اليوم، والنعمة التى أتمها اليوم - وهما أمر واحد بحسب الحقيقة - هو الذى كان يطمع فيه الكفار ويخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه وأكمله وأتمه، ونهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه وهو أن ينزع الله الدين من ايديهم، ويسلبهم هذه النعمة الموهوبة. وقد بين الله سبحانه ان لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها، وهدد الكفور أشد التهديد، قال تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم " (الانفال: 53) وقال تعالى: " ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب " (البقرة: 211) وضرب مثلا كليا لنعمه وما يؤول إليه أمر الكفر بها فقال: " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " (النحل: 112). فالاية أعنى قوله: " اليوم يئس - إلى قوله - دينا " تؤذن بأن دين المسلمين في أمن

[ 179 ]

من جهة الكفار، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم، وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم، وأن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة، ورفضهم هذا الدين الكامل المرضى، ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقم، ويذيقهم لباس الجوع والخوف، وقد فعلوا وفعل. ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الاية في ملحمتها المستفادة من قوله: " فلا تخشوهم واخشون " فعليه ان يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الاسلامي اليوم ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا وأعراقها. ولايات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الاية من التحذير والايعاد، ولم يحذر الله العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية، فقال فيها مرة بعد مرة: " ويحذركم الله نفسه " (آل عمران: 28، 30) وتعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب. قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " الاكمال والاتمام متقاربا المعنى، قال الراغب: كمال الشئ حصول ما هو الغرض منه. وقال: تمام الشئ انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شئ خارج عنه، والناقص ما يحتاج إلى شئ خارج عنه. ولك ان تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، وهو ان آثار الاشياء التى لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشئ عند وجود جميع اجزائه - إن كان له اجزاء - بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الامر كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالامساك في بعض النهار، ويسمى كون الشئ على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (البقرة: 187)، وقال: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " (الانعام: 115). وضرب آخر: الاثر الذى يترتب على الشئ من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الاجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الاثر ما هو بحسبه، ولو وجد الجميع ترتب عليه كل الاثر المطلوب منه، قال تعالى: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة " (البقرة: 196) وقال:

[ 180 ]

" ولتكملوا العدة " (البقرة: 185) فإن هذا العدد يترتب الاثر على بعضه كما يترتب على كله، ويقال: تم لفلان امره وكمل عقله، ولا يقال: تم عقله وكمل امره. وأما الفرق بين الاكمال والتكميل، وكذا بين الاتمام والتتميم فإنما هو الفرق بين بابى الافعال والتفعيل، وهو ان الافعال بحسب الاصل يدل على الدفعة والتفعيل على التدريج، وإن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوى ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالاحسان والتحسين، والاصداق والتصديق، والامداد والتمديد والافراط والتفريط، وغير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال. وينتج ما تقدم ان قوله: " أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف والاحكام المشرعة وقد أضيف إلى عددها اليوم شئ وأن النعمة أياما كانت امر معنوى واحد كأنه كان ناقصا غير ذى اثر فتمم وترتب عليه الاثر المتوقع منه. والنعمة بناء نوع وهى ما يلائم طبع الشئ من غير امتناعه منه، والاشياء وإن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض، وأكثرها أو جميعها نعم إذا أضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (ابراهيم: 34) وقال: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " (لقمان: 20). إلا انه تعالى وصف بعضها بالشر والخسة واللعب واللهو وأوصاف أخر غير ممدوحة كما قال: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " (آل عمران: 178)، وقال: " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان " (العنكبوت: 64)، وقال: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " (آل عمران: 197) إلى غير ذلك. والايات تدل على ان هذه الاشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الالهى من خلقتها لاجل الانسان، فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للانسان يتصرف فيها في سبيل سعادته الحقيقية، وهى القرب منه سبحانه بالعبودية والخضوع للربوبية، قال

[ 181 ]

تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " (الذاريات: 56). فكل ما تصرف فيه الانسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله وابتغاء مرضاته فهو نعمة، وإن انعكس الامر عاد نقمة في حقه، فالاشياء في نفسها، عزل، وإنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، ودخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التى هي تدبير الربوبية لشؤون العبد، ولازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الالهية، وأن الشئ إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شئ منها، قال تعالى: " الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " (البقرة: 257) وقال تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " (محمد: 11) وقال في حق رسوله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء: 65) إلى غير ذلك. فالاسلام وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين، وهو من جهة اشتماله - من حيث العمل به - على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الامر بعده نعمة. ولا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لامور عباده إلا بولاية رسوله، ولا ولاية رسوله إلا بولاية أولى الامر من بعده، وهى تدبيرهم لامور الامة الدينية بإذن من الله، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم " (النساء: 59) وقد مر الكلام في معنى الاية، وقال: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (المائدة: 55) وسيجئ الكلام في معنى الاية إن شاء الله تعالى. فمصل معنى الاية اليوم - وهو اليوم الذى يئس فيه الذين كفروا من دينكم - أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التى أنزلتها إليكم بفرض الولاية، وأتممت عليكم نعمتي وهى الولاية التى هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله، وهى إنما تكفى ما دام الوحى ينزل، ولا تكفى لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحى، ولا رسول بين الناس يحمى دين الله ويذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، وهو ولى الامر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القيم على أمور الدين والامة. فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولى الامر

[ 182 ]

بعد النبي. وإذا كمل الدين في تشريعه، وتمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الاسلام الذى هو دين التوحيد الذى لا يعبد فيه إلا الله ولا يطاع فيه - والطاعة عبادة - إلا الله ومن أمر بطاعته من رسول أو ولى. فالاية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، وأن الله رضى لهم أن يتدينوا بالاسلام الذى هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. وإذا تدبرت قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون " (النور: 55) ثم طبقت فقرات الاية على فقرات قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " (الخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذى يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: " يعبدونني لا يشركون بى شيئا " مسوقا سوق الغاية كماربما يشعر به قوله: " ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون ". وسورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الافك وآية الجد وآية الحجاب وغير ذلك. قوله تعالى: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " المخمصة هي المجاعة، والتجانف هو التمايل من الجنف بالجيم وهو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذى هو ميلهما إلى الداخل. وفى سياق الاية دلالة اولا على أن الحكم حكم ثانوى اضطرارى، وثانيا على أن التجويز والاباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار ويسكن به ألم الجوع، وثالثا على أن صفة المغفرة ومثلها الرحمة كما تتعلق بالمعاصى المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق بمنشأها، وهو الحكم الذى يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذى يستتبع العقاب.

[ 183 ]




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21398283

  • التاريخ : 18/04/2024 - 02:50

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net