00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من آية ( 83 - 93) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : تفسير كنز الدقائق ( الجزء الأول )   ||   تأليف : الميرزا محمد المشهدي

[284]

الآية 83 - 93

[ وإذ أخذنا ميثق بنى إسرء_يل لا تعبدون إلا الله وبالولدين إحسانا وذى القربى واليتمى والمسكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلوة وء_اتوا الزكوة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون(83) ]

اسبابها في الدنيا.

هم فيها خلدون: لان نياتهم في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، فبالنيات خلدوا، كذا في الكافي عن الصادق (عليه السلام)(1).

وفي التوحيد عن الكاظم (عليه السلام): لا يخلد الله في النار إلا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك(2).

وفي الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إذا جحد إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(3).

وقوله: والذين ء_امنوا وعملوا الصلحت أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون: بناء على ما جرت عادته سبحانه على أن يقرن بالوعد الوعيد، لترجى رحمته ويخشى عذابه، ولما جاز أن يكون عطف العمل على الايمان لزيادة الاهتمام والاشعار بأنه أدخل أجزاء_ه لم يدل على خروجه من مسماه، مع أنه

___________________________________

(1) الكافي: ج 2، ص 85، باب النية، ح 5، ولفظ الحديث قال: أبو عبدالله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته " قال: على نيته.

(2) التوحيد: ص 407، باب 63، الامر والنهي والوعد والوعيد، قطعة من ح 6.

(3) الكافى: ج 1، ص 429، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 82. (*)

[285]

معارض بقوله تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلوة و آتوا الزكوة "(1) فإنه لا نزاع في أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت العمل الصالح.

وإذ أخذنا ميثق بنى إسرء_يل لا تعبدون إلا الله: إخبار في معنى النهي، وهو أبلغ من الصريح، لما فيه من إيهام من أن المنهي سارع إلى الانتهاء، فهو يخبر عنه، وتنصره قراء_ة (لا تعبدوا) وعطف (قولوا) عليه، فيكون على إرادة القول، وقيل: إن معناه، أن لا تعبدوا، فلما حذف (أن) رفع.

كقوله: ألا يا أيها اللائمي أحضر الوغى * وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي(2) وتنصره قراء_ة أن لا تعبدوا.

ويحتمل أن تكون (أن) مفسرة، وأن تكون مع الفعل بدلا من الميثاق، أو معمولا له بحذف الجار، وإن ادعى في حذف حرف التفسير، إن فيه نظر.

وقيل: إنه جواب قسم دل عليه المعنى، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وقرئ بالتاء، حكاية لما خوطبوا به، وبالياء لانهم غيب.

وبالولدين إحسانا: متعلق بمضمر، تقديره وتحسنون، أو أحسنوا.

___________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 277.

(2) في هامش بعض النسخ المخطوطة ما هذا لفظه (هو لطرفة بن العبد، والوغى: الحرب، وأصله الصوت، والتقدير أن أحضر، يقول: يا أيها اللائمي على حضور الحرب وشهود اللذات، هل تخلدني إن كففت عنها؟ (منه رحمه الله تعالى).

وفي هامش الكشاف في ذيل الآية الشريفة: ألا أيها الزاجري أحضر الوغى * وان اشهد اللذات هل أنت مخلدي لطرفة بن العبد من معلقته. وألا اداة استفتاح، وحرف النداء محذوف، وأي منادى، واسم الاشارة نعت له، والزاجر نعت لاسم الاشارة مضاف لياء المتكلم إضافة الوصف لمفعوله، وروي بدله (اللائمي) وروي (أحضر) منصوبا بإضمار أن، ومرفوعا على إهمالها، وحسن حذفها ذكرها فيما بعد، يقول: يا أيها الزاجر لي عن حضور الحرب وشهود لذات النصر والظفر والغنيمة، أو شهود لذات الشراب ومغازلة النساء، المستدعين لاتلاف المال، لست مخلدا لي لو طاوعتك فالاستفهام إنكاري. (*)

[286]

والاحسان الذي اخذ عليهم الميثاق، هو ما فرض على امتنا أيضا، من فعل المعروف بهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل لهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك.

وفي الكافي: سئل الصادق (عليه السلام): ما هذا الاحسان؟ قال: أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنين، أليس الله يقول: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون "(1)(2) وفي التفسير المنسوب إلى الامام (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفضل والديكم وأحقهما ببركم محمد وعلي(3).

وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا وعلي أبوا هذه الامة، ولحقنا عليهم أعظم من حق أبوي ولادتهم، فإنا ننقذهم إن أطاعونا من النار إلى دار القرار، ونلحقهم من العبودية بخيار الاخيار(4). وذى القربى: من آبائكم وامهاتكم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من رعى حق قرابات أبويه اعطي في الجنة ألف ألف درجة، ثم فسر الدرجات ثم قال: ومن رعى حق قرابة محمد وعلي اوتي من فضائل الدرجات وزيادة المثوبات على قدر زيادة فضل محمد وعلي على أبوي نسبه(5).

واليتمى: جمع يتيم ك_ندامى جمع نديم، وهم الذين فقدوا آباء_هم المتكلفين بامورهم.

___________________________________

(1) سورة آل عمران: الآية 92.

(2) الكافي: ج 2، ص 157، باب البر بالوالدين، ح 1.

(3 و 4) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 133، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل " وفيه (وأحقهما لشكركم).

(5) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 134، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ".

(*)

[287]

وروي: إن أشد من يتم هذا اليتيم، يتم يتيم غاب عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الاعلى(1).

والمسكين: والمسكين فعيل من السكون، كأن الفقر أسكنه.

وقولوا للناس حسنا: أي قولوا: حسنا، وسماه حسنا للمبالغة، وقرئ حسنا بفتحتين، وحسنا بضمتين وهو لغة أهل الحجاز.

وحسنى: قيل على أنه مصدر، وفيه نظر إذ كون فعلى مصدرا سماعي، ولم ينقل من العرب حسنى مصدر حسن، كما قال أبوحيان(2)، والاحسن أنه صفة لموصوف محذوف، أي كلمة حسنى، على أنه اسم تفضيل.

وقولوا للناس حسنا، أي معروفا.

روى جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: " قولوا للناس حسنا " قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين، الفاحش المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحليم العفيف المتعفف(3).

واختلف في أنه هل هو عام في المؤمن والكافر، أو هو خاص في المؤمن، والاول مروي عن الصادق (عليه السلام)(4).

___________________________________

(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 136، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ".

(2) راجع تفسير البحر المحيط، ج 1، ص 286.

(3) مجمع البيان: ج 1، ص 150، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل "، وفي تفسير البرهان: ج 1، ص 121، ح 7 - 8.

(4) تفسير البرهان: ج 1، ص 120، ح 5 و 9 و 10، ولفظ الاول (عن سدير قال: قلت لابي عبدالله (عليه السلام): اطعم سائلا لا أعرفه مسلما؟ فقال: نعم، اعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق، إن الله عزوجل يقول: " وقولوا للناس حسنا " الحديث. (*)

[288]

[ وإذ أخذنا ميثقكم لا تسفكون دماء_كم ولا تخرجون أنفسكم من ديركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون(84) ]

واقيموا الصلوة وء_اتوا الزكوة: يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم. ثم توليتم إلا قليلا منكم: يريد به من أقام اليهودية على وجهها، ومن أسلم منهم.

وأنتم معرضون: أي عادتكم الاعراض عن الوفاء والطاعة.

وفي هذه الآية دلالة على ترتيب الحقوق، فبدأ الله سبحانه بذكر حقه، وقدمه على كل حق، لانه المنعم باصول النعم، ثم ثنى بحق الوالدين وخصهما بالمزية لكونهما سببا للوجود وانعامهما بالتربية، ثم ذكر ذوي القربى لانهم أقرب إلى المكلف من غيرهم، ثم ذكر حق اليتامى لضعفهم، والفقراء لفقرهم. وإذ أخذنا ميثقكم لا تسفكون دماء_كم: على نحو ما سبق، والسفك: الصب.

ولا تخرجون أنفسكم من ديركم: والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والاجلاء عن الوطن، وجعل قتل الرجل غيره، قتل نفسه، لاتصاله به نسبا، أو دينا، أو لانه يوجبه قصاصا.

وقيل: المراد به أن لا ترتكبوا ما تبيح سفك دمائكم، وإخراجكم من دياركم.

وقيل: لا تفعلوا ما يصرفكم عن الحياة الابدية، فإنه القتل في الحقيقة، ولا تقترفوا ما يمنعكم عن الجنة التي هي داركم، فإنه الجلاء الحقيقي. ثم أقررتم: بالميثاق واعترفتم بلزومه.

وأنتم تشهدون: توكيد، كقولك: أقر فلان شاهدا على نفسه.

[289]

[ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم تظهرون عليهم بالاثم والعدون وإن يأتوكم أسرى تفدوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغفل عما تعملون(85) ]

وقيل معناه: وأنتم تحضرون سفك دمائكم وإخراج أنفسكم من دياركم. وقيل: يشهد كل واحد على إقرار غيره.

وقيل: معناه وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم، فيكون إسناد الاقرار إليهم مجازا.

قال بعض المفسرين: نزلت الآية في بني قريظه. وقيل: نزلت في أسلاف اليهود.

ثم أنتم هؤلاء: استبعاد لما اسند إليهم من القتل والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم.

(وأنتم) مبتدأ، و (هؤلاء) خبره، على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون، يعني أنكم قوم آخرون غير اولئك المقرين، تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وعدهم باعتبار ما اسند إليهم حضورا، وباعتبار ما سيحكي عنهم غيبا. تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم: إما حال،

[290]

والعامل معنى الاشارة، أو بيان لهذه الجملة.

وقيل: (هؤلاء) تأكيد، أو بدل، والخبر هو الجملة.

وقيل: بمعنى الذين، والجملة صلته، والمجموع هو الخبر، كقوله: عدس ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق(1) وقرئ تقتلون على التفعيل، للتكثير.

تظهرون عليهم بالاثم والعدون: حال من فاعل (تخرجون) أو من مفعوله، أو من كليهما، ويحتمل أن يكون اعتراضا، لبيان أن إخراجهم ظلم وعدوان.

والتظاهر: التعاون، والظهير: المعين.

والاثم: الفعل القبيح الذي يستحق به اللوم.

وقيل: هو ما تنفر منه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) لنواس بن سمعان حين سأله عن البر والاثم: فقال: البر ما اطمأنت به نفسك، والاثم ما حك في صدرك(2).

والعدوان: الافراط في الظلم، وقرئ بحذف إحدى التائين وبإثباتهما، و تظهرون بمعنى تتظهرون.

___________________________________

(1) هو مطلع قصيدة ليزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ الحميري يهجو بها عباد بن زياد بن أبي سفيان، وقوله عدس منادى بحذف حرف النداء أي يا عدس، وهو بالمهملات كفرس، في الاصل صوت يزجر به البغل ثم صار إسما له وإنما سكنت سينه للضرورة، وعباد كرمان هو ابن زياد بن أبي سفيان الذي هجاه الشاعر بها والامارة ككتابة: الحكم، وتحملين بفتح المضارعة وكسر الميم بمعنى الخمل، والطليق كرفيق: المطلق من الحبس - جامع الشواهد باب العين، ص 156، وفيه (أمنت) بدل (نجوت).

(2) رواه في مجمع البيان: ج 1، ص 153، في ذيل الآية الشريفة " ثم أنتم هؤلاء تقتلون انفسكم " و رواه أصحاب الصحاح والسنن بألفاظ متقاربة وإليك بعضها: سنن الدارمي: ج 2، ص 245، كتاب البيوع (باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) عن وابصة بن معبد الاسدي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لوابصة: جئت تسأل عن البر والاثم قال: قلت: نعم، قال: فجمع أصابعة فضرب بها صدره، وقال: إستفت نفسك إستفت قلبك يا وابصة - ثلاثا - البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والاثم ما حاك في الصدر وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. ولاحظ مسند أحمد بن حنبل، أيضا: ج 4، ص 228. (*)

[291]

وإن يأتوكم أسرى تفدوهم: روي أن قريظة من اليهود كانوا حلفاء الاوس من المشركين، والنظير من اليهود كانوا حلفاء الخزرج من المشركين، وكانت قريظة والنظير أخوين، كالاوس والخزرج فافترقوا، فكانت الخزرج مع النظير و قريظة مع الاوس، فاذا اقتتل الحلفاء عاون كل فريق حلفاء_ه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها، وإذا اسر أحد من الفريقين جمعوا الاسراء حتى يفدوهم بمثلهم ممن أسره الفريق الآخر منهم، تصديقا لما في التوراة، فالاوس والخزرج أهل شرك يعبدون الاوثان لا يعرفون جنة ولا نار، ولا قيامة ولا كتابا، فأنب الله اليهود بما فعلوه من مخالفة التوراة في القتل والاجلاء والموافقة في المفاداة.

وقيل: معناه: وإن يأتوكم اساري في أيدي الشياطين تتصدون لانقاذهم بالارشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم، كقوله تعالى: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم "(1).

والاول أقرب بحسب اللفظ وسياق الكلام.

وقرأ حمزة أسرى(2)، وهو جمع أسير، كجريح وجرحى، واسارى جمعه كسكرى والسكارى.

وقيل: هو أيضا جمع أسير، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه، ووجه الشبه أن كلا منهما محبوس عن كثير من تصرفه.

وقيل الاسارى الذين هم في الوثاق، والاسرى الذين هم في اليد، وإن لم يكونوا في الوثاق، وقرئ (تفدوهم).

وهو محرم عليكم إخراجهم: متعلق بقوله: " وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " تعلق الحال بعاملها أو صاحبها.

والنكتة في إعادة تحريم الاخراج - وقد أفاده " لا تخرجون أنفسكم " بأبلغ وجه، وفي تخصيص تحريم الاخراج بالاعادة دون القتل - أنهم انقادوا حكما في باب

___________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 44.

(2) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 152. (*)

[292]

[ أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون(86) ]

المخرج وهو الفداء، وخالفوا حكما وهو الاخراج، فجمع مع الفداء معرفة الاخراج، ليتصل به قوله: " أفتؤمنؤن " إلى آخره، أشد اتصال، ويتضح كفرهم بالبعض و إيمانهم بالبعض كمال الايضاح، حيث وقع في شخص واحد.

والضمير للشأن كما في قوله: " قول هو الله أحد "، أو مبهم يفسره " إخراجهم " كقوله تعالى: " إن هي إلا حياتنا الدنيا "(1) أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر، وإخراجهم تأكيد. ويحتمل أن يكون راجعا إلى إخراجهم لانه مبتدأ قدم عليه الخبر، فالمرجع مقدم رتبة. أفتؤمنون ببعض الكتب: كالفداء.

وتكفرون ببعض: كحرمة القتل والاجلاء.

فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا: كقتل قريظة وسبيهم، وإجلاء النظير، وأصل الخزي ذل يستحيي منه، ولذلك يستعمل في كل منهما.

ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب: من عذاب غيرهم من نظائرهم، لان عصيانهم أشد من عصيانهم.

وما الله بغفل عما تعملون: تأكيد للوعيد، أي الله تعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم.

أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب: بأن يهون عليهم، واختلف في الخفة والثقل، فقيل: إنه يرجع إلى تناقص الجواهر وتزايدها.

___________________________________

(1) سورة الانعام: الاية 29. (*)

[293]

[ ولقد ء_اتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل وء_اتينا عيسى ابن مريم البينت وأيدنه بروح القدس أفكلما جاء_كم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون(87) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون(88) ]

وقيل: إن الاعتماد اللازم سفلا يسمى ثقلا، والاعتماد اللازم المختص بجهة العلو يسمى خفة، والمراد به في الآية المعنى الشامل للخفة بحسب تناقص الاجزاء و بحسب انتقاص الكيفية.

ولا هم ينصرون: بدفعهما عنه.

وفي الآية دلالة على من آمن ببعض أحكام الله وكفر ببعض آخر مع معرفته بأنهما حكم الله، كافر خالد في العذاب، لا تخفيف في عذابه، ولا نصر له فيه، ولا شك أن النواصب أكثرهم بهذه الصفة، فهم أجدر بأن ينصب لهم علم الكفر.

ولقد ء_اتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل: أي أرسلنا على أثره يتبع الآخر الاول في الدعاء إلى ما دعى الاول، لان كل نبي بعث من بعد موسى إلى زمن عيسى، فإنما بعث على إقامة التوراة، من قفاه إذا أتبعه، وقفاه به: اتبعه إياه، من القفا نحو ذنبه من الذنب.

والرسل على ما ذكر صاحب الكشاف وغيره، هم: يوشع، وأشمويل، و شمعون، وداود، وسليمان، وشعيا، وأرميا، وعزير، وحزقيل، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم(1).

___________________________________

(1) الكشاف: ج 1، ص 161، سورة البقرة ذيل الآية 87، والتفسير الكبير للفخر الرازي: ج 3 ص 176. وتفسير البحر المحيط لابي حيان: ج 1، ص 298، وغيرها من التفاسير.

[294]

وء_اتينا عيسى ابن مريم البينت: المعجزات الواضحات، كإحياء الموتى و إبراء الاكمه والابرص والاخبار بالمغيبات، أو الانجيل.

وعيسى بالعبرية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم، وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال.

قال رؤبة:

قلت لزير لم تصله مريمه *** ضليل أهواء الصبا تندمه(1)

والزير بكسر الزاي: من الرجال الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن، ووزنه مفعل، إذ لم يثبت فعيل.

وأيدنه: قويناه، وقرئ أيدناه على وزن أفعلناه.

بروح القدس: بالروح المقدسة، كقولك حاتم الجود، ورجل صدق.

والمراد جبرئيل (عليه السلام) وقيل: روح عيسى، ووصفها به، لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته على الله تعالى، ولذلك أضافه إلى نفسه، أو لانه تضمه الاصلاب والارحام الطوامث، أو الانجيل، أو اسم الله الاعظم الذي كان به يحيي الموتى. وقرأ ابن كثير القدس بالاسكان في جميع القرآن(2).

أفكلما جاء_كم رسول بما لا تهوى أنفسكم: بما لا تحبه، ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذلك بهذا وتعجبا من شأنهم، و

___________________________________

(1) لرؤبة بن العجاج يعاتب أبا جعفر الدوانيقي على البطالة ومغازلة النساء، والزير من يكثر مودة النساء وزيارتهن، والمريم: من تكثر مودة الرجال وزيارتهم، والضليل كثير الضلال، والصبا: الميل إلى الجهل والعتوه، وتندمه: بمعنى ندمه، فهو مصدر مرفوع فاعل ضليل، ولعل معناه أن ندمه ضال ضايع في أهواء الصبا، ويروى (مندمه) بصيغة اسم الفاعل وضليل مرفوع على الابتداء ومندمة خبره، ولعل معناه أن الرجل كثير الضلال، يعني نفسه هو الذي يندمه وبجعله نادما، أي يأمره بالندم. هامش الكشاف: ج 1، ص 161.

(2) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 155. (*)

[295]

[ ولما جاء_هم كتب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاء_هم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكفرين(89) ]

يحتمل أن يكون استئنافا، والفاء للعطف على مقدر.

استكبرتم: عن الايمان واتباع الرسل.

ففريقا كذبتم: كموسى وعيسى.

وفريقا تقتلون: كزكريا ويحيي.

وفي التعبير بالمضارع استحضار للحال الماضية في النفوس، ورعاية للفواصل، ودلالة على أنهم بعد فيه، فإنهم يحومون حول محمد لولا أني أعصمه منهم.

وقالوا قلوبنا غلف: جمع أغلف، أي هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد ولا تفقهه، مستعار من الاغلف الذي لم يختن، وقيل: أصله جمع غلاف ككتب وكتاب وحمر وحمار فخفف.

والمعنى أنها أوعية العلم، لا تسمع علما إلا وعته، ولا تعي ما يقول محمد (صلى الله عليه وآله)، أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره، وروي في الشواذ غلف بضم اللام عن أبي عمرو(1).

بل لعنهم الله بكفرهم: رد لما قالوا، يعني أنها خلقت على الفطرة، والتمكن من قبول الحق، ولكن الله خذلهم بسبب كفرهم، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة، وتسببوا بذلك لمنع الالطاف، أو هم كفرة ملعونون، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عن النبي (صلى الله عليه وآله)؟ !

___________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 155. (*)

[296]

فقليلا ما يؤمنون: فإيمانا قليلا يؤمنون، و (ما) مزيدة للمبالغة في التقليل، وهو إيمانهم ببعض الكتاب كالمفاداة، وقيل: معناه ويؤمنون وهم قليل.

وقيل: يجوز أن تكون القلة بمعنى العدم. ولما جاء_هم كتب من عند الله: هو القرآن.

مصدق لما معهم: من كتابهم لا يخالفه، وقرئ مصدقا على الحال، لتخصيصه بالوصف، وهو (من عند الله) وجواب (لما) محذوف، وهو كذبوا به و استهانوا بمجيئه.

وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا: أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة، ويقولون لاعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم، وقد قرب زمانه.

والسين للمبالغة كما في استعجب واستحجر، أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم، أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم، والشئ بعد الطلب أبلغ كقولهم مر مستعجلا، أي مر طالبا للعجلة من نفسه.

روى العياشي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كانت اليهود تجد في كتبها، أن مهاجر محمد (صلى الله عليه وآله) ما بين عير واحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد واحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم ب_(تيما) وبعضهم ب_(فدك) وبعضهم ب_(خيبر) فاشتاق الذين بتيما إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس، فتكاروا(1) منه، وقال لهم: أمر بكم ما بين عير واحد، فقالوا له: إذا مررت بهما فأرناهما، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم: ذلك عير وهذا احد، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم

___________________________________

(1) المكاري بضم الميم من باب قتل فاعل المكاراة وهو من يكري دوابه والجمع مكارون مجمع البحرين: ج 1، ص 359، في مادة (كرا). (*)

[297]

[ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباء_و بغضب على غضب وللكفرين عذاب مهين(90) ]

الذين بفدك وخيبر: أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا، فكتبوا إليهم: إنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا بها الاموال وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم.

واتخذوا بأرض المدينة أموالا، فلما كثر أموالهم بلغ ذلك تبع(1) فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم أمنهم فنزلوا عليه فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم، فقالوا له: ليس ذلك لك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لاحد حتى يكون ذلك، فقال لهم: فإني مخلف من اسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حيين، نراهم الاوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمد (صلى الله عليه وآله) لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) آمنت به الانصار وكفرت به اليهود(2). فلما جاء_هم ما عرفوا: من نعت محمد (صلى الله عليه وآله).

كفروا به: حسدا وخوفا على الرئاسة. فلعنة الله على الكفرين: اللعن هو الاقصاء والابعاد. وأتى بالمظهر، للدلالة

___________________________________

(1) تبع كسكر واحد التبابعة من ملوك حمير، سمي تبعا لكثرة أتباعه، وقيل: سموا تبابعة لان الاخير يتبع الاول في الملك وهم سبعون تبعا ملكوا جميع الارض ومن فيها: من العرب والعجم، وكان تبع الاوسط مؤمنا - مجمع البحرين: ج 4، ص 305، في مادة (تبع).

(2) تفسير العياشي: ج 1، ص 49، ح 69. (*)

[298]

[ وإذا قيل لهم_ء_امنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراء_ه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين(91) ]

على أنهم لعنوا لكفرهم، فيكون اللام للعهد، ويجوز أن يكون للجنس ويدخلوا فيه دخولا أوليا.

بئسما اشتروا به أنفسهم: (ما) نكرة موصوفة بالجملة التي بعده مميز لفاعل (بئس) المستكن فيه، ومعناه.

بئس شئ باعوا به أنفسهم، أو شروا به أنفسهم بحسب ظنهم، فإنهم ظنوا أنهم أخلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا.

أن يكفروا بما أنزل الله: هو المخصوص بالذم.

بغيا: طلبا لما ليس لهم وحسدا، تعليل للكفر.

أن ينزل الله: أي لان ينزل الله، أي حسدوا لذلك.

من فضله على من يشاء من عباده: على من اختاره للرسالة.

فباء_و بغضب على غضب: فصاروا أحقاء بغضب مترادف.

وللكفرين عذاب مهين: لهم، بخلاف عذاب العاصي، فإنه طهرة لذنوبه.

وإذا قيل لهم_ء_امنوا بما أنزل الله: يعم جميع ما جاء به أنبياء الله.

قالوا نؤمن بما أنزل علينا: أي بالتوراة.

ويكفرون بما وراء_ه: قال ابن الانباري: تم الكلام عند قوله " بما انزل علينا " ثم ابتدأ بالاخبار عنهم(1)، وصاحب الكشاف على أنه حال عن الضمير في

___________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 161. (*)

[299]

[ ولقد جاء_كم موسى بالبينت ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون(92) وإذ أخذنا ميثقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما ء_اتينكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمنكم إن كنتم مؤمنين(93) ]

(قالوا) اي قالوا ذلك والحال انهم يكفرون بما وراء التوراة(1) والاول أقرب.

ووراء في الاصل: مصدر جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل، فيراد ما يتوارى به وهو خلفه، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه، ولذلك عد من الاضداد.

وقال الفراء: معنى وراء_ه سواه، كما يقال: للرجل يتكلم بالكلام الحسن: ما وراء هذا الكلام شئ، يراد ليس عند المتكلم به شئ سوى ذلك الكلام(2).

وهو الحق: ما وراء_ه أي القرآن، الحق.

مصدقا لما معهم: أي التوراة، و " مصدقا " حال مؤكدة يتضمن رد مقالتهم، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بها. ثم اعترض عليهم بقتلهم الانبياء مع ادعائهم الايمان بالتوراة، والتوراة لا تسوغه، بقوله: قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين: وإسناد القتل إليهم مع أنه فعل آبائهم، لانهم راضون به عازمون عليه.

ولقد جاء_كم موسى بالبينت ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون: (وأنتم ظالمون): يجوز أن يكون حالا، أي عبدتم العجل وأنتم واضعون

___________________________________

(1) الكشاف: ج 1، ص 165.

(2) مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 161. (*)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336221

  • التاريخ : 28/03/2024 - 20:59

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net