00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الجن 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء العاشر)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

72 - سورة الجن

مكية في قول قتادة وابن عباس والضحاك وغيرهم وهي ثمان وعشرون آية ليس فيها اختلاف.

قال الحسن: نزلت هذه السورة فقرأها رسول الله صلى الله عليه واله على نفر من الجن فآمنوا به فأتوا قومهم فقالوا (إنا سمعنا قرآنا عجبا) وكان يقول بعث الله محمدا إلى الجن والانس وقال غيرهم من المفسرين: لما رميت الشياطين بالشهب ومنعوا من صعود السماء، قال لهم ابليس ما هذا الحادث؟ فبث شياطينه في الارض فبعث قوما من جن اليمن فلقوا النبي صلى الله عليه واله بمكة يصلي بأصحابه ويقرأ القرآن فاعجبهم ذلك وآمنوا به، وأخبروا قومهم فقال ابليس لهذا رجمتم.

بسم الله الرحمن الرحيم

(قل أوحي إلىّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا(1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا(2) وأنه تعالى جَدّ ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا(3) وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا(4) وأنا ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا(5) وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا(6) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا(7) وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا(8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا(9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا(10))

عشر آيات.

[145]

قال الفراء: قرأ حوبة بن عابد (قل أحي إلي) أراد وحي الي مثل وعد فقلبت الواو همزة، كما قلبها في قوله (وإذا الرسل اقتت)(1) وأصله وقتت.

والعرب تقول: وحيت اليه، واوحيت بمعنى واحد وومأت اليه وأومات، قال الراجز: وحى لها القرار فاستقرت(2) وقرأ ابن كثير وابوعمرو (قل أوحى إلى أنه استمع) و (أن لو استقاموا) (وأن المساجد لله) و (أنه لما قام عبدالله) أربعة أحرف - بفتح الالف - والباقي من أول السورة إلى ههنا بكسر الالف.

وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر كذلك، إلا قوله (وانه لما قام عبدالله) فانه قرأ بالكسر. الباقون بفتح جميع ذلك إلا ما جاء بعد (قول) او (فاء جزاء) فانهم يكسرونه من فتح جميع ذلك جعله عطفا علي (أوحي إلي انه) وأنه.

___________________________________

(1) سورة 77 المرسلات آية 11.

(2) مر في 2 / 459 و 3 / 84 و 4 / 61 و 6 / 403

[146]

ومن كسر عطف على قوله (إنا) وإنا.

قال قوم: ومن نصب فعلى تقدير آمنا به وبكذا فعطف عليه.

قال الزجاج: إن عطف على الهاء كان ضعيفا، لان عطف المظهر على المضمر ضعيف، ومن جعله مفعول (آمنا) فنصبه به كأنه قال: آمنا بكذا وكذا، وأسقط الباء فنصب على المعنى، لان معنى (آمن) صدق، فكأنه قال: صدقنا بكذا وكذا، وحذف الجار.

ومن كسر من هؤلاء بعد القول أو فاء الجزاء، فلانه لا يقع بعد القول والفاء إلا ما هو ابتداء، أو ما هو في حكم الابتداء. ومن كسر جميع ذلك جعله مستأنفا، ولم يوقع (آمنا) عليه، وما نصب من ذلك جعله مفعولا بايقاع فعل عليه.

فأما قوله (أوحي الي انه استمع) فمفعول (أوحي) لا غير بلا خلاف.

وقرأ ابوجعفر (أن لن تقول الانس) على معنى تكذب. الباقون بتخفيف الواو من القول.

يقول الله تعالى آمرا لمحمد نبيه صلى الله عليه واله (قل) يا محمد لقومك ومن بعثت اليه (اوحي الي) فالايحاء القاء المعنى إلى النفس خفيا كالالهام، وانزال الملائكة به لخفائه عن الناس إلا على النبي الذي انزل اليه كالايماء الذي يفهم به المعنى.

والمراد - ههنا - انزال الملك به عليه. ثم بين ما أوحي اليه فقال (انه استمع نفر من الجن) فالاستماع طلب سماع الصوت بالاصغاء اليه، وهو تطلب لفهم المعنى، وتطلب ليستدل به على صاحبه.

وقيل: ان الجن لما منعوا من استراق السمع طافوا في الارض، فاستمعوا القرآن، فآمنوا به، فانزل بذلك الوحي على النبي صلى الله عليه اله ذكره ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم. والنفر الجماعة. والجن جيل رقاق الاجسام خفية على صور مخصوصة بخلاف صورة الملائكة والناس.

وقيل: العقلاء من الحيوان ثلاثة اصناف: الملائكة، والناس، والجن. والملك مخلوق من النور، والانس من الطين والجن من النار.

ثم ذكر انه قالت الجن بعضها لبعض (إنا سمعنا قرآنا عجبا) والعجب هو كل شئ لا يعرف سببه.

[147]

وقيل: هو ما يدعو إلى التعجب منه لخفاء سببه وخروجه عن العادة في مثله، فلما كان القرآن قد خرج بتأليفه عن العادة في الكلام، وخفي سببه عن الانام كان عجبا، وقوله (يهدي إلى الرشد) حكاية ما قالت الجن ووصفت به القرآن، فانهم قالوا: هذا القرآن يهدي إلى ما فيه الرشاد والحق (فآمنا به) أي صدقنا بأنه من عند الله (ولن نشرك) فيما بعد (بربنا احدا) فنوجه العبادة اليه بل نخلص العبادة له تعالى (وانه تعالى جد ربنا) من كسر الهمزة عطفه على قوله (إنا سمعنا) وحكى أنهم قالوا (إنه) ويجوز أن يكون استأنف الاخبار عنهم، ومن فتح فعلى تقدير فآمنا بأنه تعالى جد ربنا، ومعناه تعالى عظمة ربنا، لانقطاع كل شئ عظمة عنها لعلوها عليه. ومنه الجد ابوالاب، والجد الحظ لانقطاعه بعلو شأنه. والجد ضد الهزل لانقطاعه عن السخف، ومنه الجديد لانه حديث عهد بالقطع في غالب الامر.

وقال الحسن - في رواية - ومجاهد وقتادة: معناه تعالى جلالته وعظمته.

وفى رواية اخرى عن الحسن: تعالى غني ربنا، وكل ذلك يرجع إلى معنى وصفه بأنه عظيم غني.

ويقال: جد فلان في قومه إذا عظم فيهم.

وروي عن أحدهما عليهم السلام انه قال: ليس لله جد وإنما قالت ذلك الجن بجهلها فحكاه كما قالت.

وقال الحسن: ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه واله إلى الانفس والجن، وانه لم يرسل رسولا قط من الجن ولا من أهل البادية، ولا من النساء، لقوله (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى)(1).

وقوله (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) على ما قال قوم من الكفار.

وقوله (وانه كان يقول سفيهنا على الله شططا) من كسر استأنف. ومن

___________________________________

(1) سورة 12 يوسف آية 109

[148]

نصب عطف على قوله (وانه تعالى جد ربنا) ونصب ذلك بتقدير آمنا، وقدر للباقي فعلا يليق به، ويمكن أن يعمل فيه، كما قال الشاعر:

إذا ما الغانيات برزن يوما * وزججن الحواجب والعيونا(1)

على تقدير: وكحلن العيون، وقال مجاهد وقتادة: أرادوا ب‍ (سفيههم) ابليس و (الشطط) السرف في ظلم النفس والخروج عن الحق، فاعترفوا بأن ابليس كان يخرج عن الحد بما يغري به الخلق ويدعوهم إلى الضلال.

وقوله (وأنا ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا) اخبار عن اعترافهم بأنهم ظنوا أن لا يقول أحد من الجن والانس كذبا على الله في اتخاذ الشريك معه والصاحبة والولد، وأن ما يقولونه من ذلك صدق حتى سمعنا القرآن وتبينا الحق به.

وقوله (وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن) قال البلخي: قال قوم: المعنى إنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الانس من أجل الجن، لان الرجال لا يكون إلا في الناس دون الجن. ومن قال بالاول قال في الجن رجال مثل ما في الانس.

وقال الحسن وقتادة ومجاهد: كان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه.

ومعنى (يعوذون) يستجيرون، وهذا اخبار من الله تعالى عن نفسه دون الحكاية عن الجن. والعياذ الاعتصام وهو الامتناع بالشئ من لحاق الشر. والرجال جمع رجل وهو الذكر البالغ من الذكران. والانسان يقع على الذكر والمرأة، والصغير والكبير ثم ينفصل كل واحد بصفة تخصه وتميزه من غيره.

وقوله (فزادوهم رهقا) أي اثما إلى اثمهم الذي كانوا عليه من الكفر والمعاصي - في قول ابن عباس وقتادة - وقال مجاهد: يعني طغيانا.

وقال الربيع وابن زيد:

___________________________________

(1) مر في 9 / 492

[149]

يعني فرقا. وقيل سفها.

قال الزجاج: يجوز ان يكون الجن زادوا الانس، ويجوز أن يكون الانس زادوا الجن رهقا. والرهق لحاق الاثم، وأصله اللحوق. ومنه راهق الغلام إذا لحق حال الرجال قال الاعشى:

لا شئ ينفعني من دون رؤيتها * هل يشتفى وامق ما لم يصب رهقا(1)

أي لم يعش اثما.

ثم حكى تعالى (وأنهم ظنوا كما ظننتم) معاشر الانس (ان لن يبعث الله احدا) أي لا يحشره يوم القيامة ولا يحاسبه.

وقال الحسن: ظن المشركون من الجن، كما ظن المشركون من الانس (ان لن يبعث الله احدا) لجحدهم بالبعث والنشور، واستبعدوا ذلك مع اعترافهم بالنشأة الاولى، لانهم رأوا إمارة مستمرة في النشأة الاولى، ولم يروها في النشأة الثانية، ولم ينعموا النظر فيعلموا أن من قدر على النشأة الاولى يقدر على النشأة الاخرى.

وقال قتادة: ظنوا أن لا يبعث الله احدا رسولا.

ثم حكى ان الجن قالت (إنا لمسنا السماء) أي مسسناها بايدينا.

وقال الجبائي: معناه إنا طلبنا الصعود إلى السماء، فعبر عن ذلك باللمس مجازا، وانما جاز من الجن تطلب الصعود مع علمهم بأنهم يرمون بالشهب لتجويزهم أن يصادفوا موضعا يصعدون منه ليس فيه ملك يرميهم بالشهب، او اعتقدوا أن ذلك غير صحيح، ولم يصدقوا من أخبرهم بأنهم رموا حين أرادوا الصعود (فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) نصب (حرسا) على التمييز و (شديدا) نعته و (شهبا) عطف على (حرسا) فهو نصب ايضا على التمييز. وتقديره ملئت من الحرس. والشهب جمع شهاب، وهو نور يمتد من السماء من النجم كالنار.

قال الله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين)(2) والحرس جمع

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 124.

(2) سورة 67 الملك آية 5

[150]

حارس.

وقيل: إن السماء لم تحرس قط إلا لنبوة أو عقوبة عاجلة عامة.

ثم حكى أنهم قالوا ايضا (إنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا) أي لم يكن فيما مضى منع من الصعود في المواضع التي يسمع منها صوت الملائكة وكلامهم، ويسمع ذلك، فالان من يستمع منا ذلك يجدله شهابا يرمى به ويرصد و (شهابا) نصب على أنه مفعول به و (رصدا) نعته.

ثم حكى انهم قالوا (وإنا لاندري) بما ظهر من هذه الاية العجيبة (أشر أريد بمن في الارض) من الخلق أي اهلاكا لهم بكفرهم وعقوبة على معاصيهم (أم أراد بهم ربهم رشدا) وهداية إلى الحق بأن بعث نبيا، فان ذلك خاف عنا وقال قوم: إنا الشهب لم تكن قبل النبي صلى الله عليه واله وإنما رموا به عند بعثه صلى الله عليه وا له وقال آخرون: الشهب معلوم أنها كانت فيما مضى من الزمان، ولكن كثرت في زمن النبي صلى الله عليه واله وعمت لا أنها لم تكن أصلا.

قال البلخي: الشهب كانت لا محالة غير انه لم تكن تمتنع بها الجن عن صعود السماء، فلما بعث النبي صلى الله عليه واله منع الجن من الصعود

[151]

قوله تعالى: (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا(11) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا(12) وأنا لمّا سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا(13) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فاولئك تحرّوا رشدا(14) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا(15) وأنْ لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا(17) لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا(17) وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا(18) وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا(19) قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا(20))

عشر آيات.

قرأ اهل الكوفة ويعقوب وسهل (يسلكه) بالياء بمعنى يسلكه الله. الباقون بالنون على وجه الاخبار منه تعالى عن نفسه بنون العظمة.

وقرأ ابوجعفر وعاصم وحمزة (قل إنما ادعوا ربي) بلفظ الامر. الباقون (قال) على فعل ماض.

وقرأ هشام بن عماد عن ابن عامر (لبدا) بضم اللام. الباقون بكسر اللام.

واللبد واللبد بمعنى واحد، وجمع اللبدة لبد، مثل ظلمة وظلم.

ويقال: لابد ولبد، مثل راكع وركع.

يقول الله تعالى في تمام الحكاية عما قالته الجن الذين امنوا عند سماع القرآن فانهم قالوا (وانا منا الصالحون) وهم الذين عملوا الصالحات وسمي صالحا، لانه عمل ما يصلح به حاله في دينه.

وأما المصلح فهو فاعل الصلاح الذي يقوم به أمر من الامور، ولهذا وصف تعالى بأنه مصلح، ولم يجز وصفه بأنه صالح. والصلاح يتعاظم استحقاق المدح عليه والثواب كما يختلف استحقاق الشكر بالنعم، ففي النعم ما يستحق به العبادة وفيها ما لا يستحق به ذلك وإن استحق به الشكر، فلذلك قال (ومنادون ذلك) والمعنى ان منا الصالحين في مراتب عالية ومنادون ذلك في الرتبة.

وقوله (كنا طرائق قددا) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني على مذاهب مختلفة: مسلم، وكافر، وصالح، ودون الصالح. والطرائق جمع طريقة وهي الجهة

[152]

المستمرة مرتبة بعد مرتبة. والمعنى فيها إنا كنا في طرق مختلفة. والقدد جمع قدة. وهي المستمرة بالقد في جهة واحدة. والقدد مضمن بجعل جاعل، وهو القاد، وليس كذلك الطريقة في تضمن الصفة، وإنما هي كالمذهب الذي يمكن فيه على استمرار إلى حيث انتهى اليه.

والمعنى إنا كنا على طرائق متباينة كل فرقة يتباين صاحبها كما بين المقدود بعضه من بعض.

وقوله (وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض) فالظن - ههنا - بمعنى العلم والمعنى اعترافهم بأن علموا أنه لايفوت الله شئ يذهب في الارض، ولا إذا هرب منه بسائر ضروب الهرب، واعترفوا ايضا فقالوا (وانا لما سمعنا الهدى) يعنون القرآن الذي فيه هدى كل حي (آمنا به) أي صدقناه.

ثم قالوا (فمن يؤمن بربه) أي من يصدق بتوحيد الله وعرفه على صفاته (فلا يخاف بخسا) أي نقصانا فيما يستحقه من الثواب (ولارهقا) أي ولا يخاف ظلما، فالرهق لحاق السرف في الامر، وكأنه قال لا يخاف نقصا قليلا ولا كثيرا، وذلك أن اجره وثوابه موفر على أتم ما يكون فيه.

وقال ابن عباس: معناه لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته، وهو قول الحسن وقتادة وابن زيد، والتقدير فمن يؤمن بربه فانه لا يخاف ثم قالوا ايضا (وانا منا المسلمون) يعني الذين استسلموا لما أمرهم الله به، وانقادوا له (ومنا القاسطون) يعني الجائرون عن طريق الحق.

والقاسط الجائر عن طريق الحق (فمن اسلم) أي استسلم لامر الله (فأولئك تحروا رشدا) أي طلبوا الهدى إلى الحق، (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) أي استحقوا بذلك أن يكونوا وقود النار يوم القيامة يحرقون بها.

وقوله (وأن لو استقاموا على الطريقة) اخبار من الله تعالى عن نفسه. وقيل (ان) يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، فيكون محمولا على الوحي، فكانه قال (اوحي الي أن لو استقاموا) وفصل لو بينها وبين

[153]

الفعل، كما فصل (السين) و (لا) في قوله (علم ان سيكون منكم مرضى)(1) وقوله (ان لا يرجع اليهم)(2) ويحتمل أن تكون (لو) بمنزلة اللام في قوله (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم)(3) فيسقط مرة ويلحق أخرى، لان (لو) بمنزلة فعل الشرط، فكما لحقت اللام زائدة قبل (إن) الداخلة على الشرط قبل فعل الشرط، كذلك لحقت (أن) هذه قبل (لو) ومعنى (وأن لو استقاموا) أحد أمرين: احدهما - لو استقاموا على طريقة الهدى بدلالة قوله (ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما انزل اليهم من ربهم لا كلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم)(4) وقوله (ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا)(5)، الثاني - لو استقاموا على طريقة الكفر بدلالة قوله (ولولا أن يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة)(6) وقيل: انه دخلت (ان) في (وأن لو استقاموا) لانه جواب القسم.

ويجوز أن يحذف، كما قال الشاعر:

فأقسم لو شئ أتانا رسوله * سواك ولكن لم نجد لك مدفعا(7)

وقال آخر:

___________________________________

(1) سورة 73 المزمل آية 20.

(2) سورة 20 طه آية 89.

(3) سورة 33 الاحزاب 60.

(4) سورة 5 المائدة آية 69.

(5) سورة 7 الاعراف آية 95.

(6) سورة 43 الزخرف آية 33.

(7) مر في 5 / 529 و 6 / 253 و 7 / 341 و 9 / 12

[154]

اما والله إن لو كنت حرا * وما بالحر انت ولا العتيق(1)

والاستقامة الاستمرار في جهة العلو. والمستقيم من الكلام المستمر على طريقة الصواب. وهو نقيض المحال. والاستقامة على طريق الحق التي يدعو اليها العقل طاعة الله.

والمعنى - ههنا - في قول أكثر المفسرين: إنه لو استقام العقلاء على طريقة الهدى استمروا عليها وعملوا بموجبها لجازاهم على ذلك بأن اسقاهم ماء غدقا، يعني كثيرا. والغدق بفتح الدال المصدر، وبكسرها اسم الفاعل، وفي ذلك ترغيب في الهدى.

قال الفراء: معناه وأن لو استقاموا على طريقة الكفر لفعلنا بهم ما ذكرناه تغليظا للمحنة في التكليف، ولذلك قال (لنفتنهم فيه) أي نختبرهم بذلك ونبلوهم به وغدق المكان يغدق غدقا إذا كثر فيه الماء والندى، وهو غدق - في قول الزجاج - وقوله (لنفتنهم فيه) معناه لنختبرهم ونعاملهم معاملة المختبر في شدة التعبد بتكليف الانصراف عما تدعو شهواتهم اليه، على ما تقتضيه الحكمة في ذلك والفتنة المحنة الشديدة، والمثوبة على قدر المشقة في الصبر عما تدعوا اليه الشهوة.

ثم قال تعالى مهددا لهم ومتوعدا (ومن يعرض عن ذكر ربه) والمعنى من يعدل عن الفكر فيما يؤديه إلى معرفة الله وتوحيده واخلاص عبادته، فالذكر حضور المعنى الدال على المذكور للنفس، وضده السهو، ومثله حضور المعنى بالقلب. والفكر في وجوه السؤال عن المعنى طلب للذكر له. والفكر في البرهان طلب للعلم بصحة المعنى المذكور وأنه حق ونقيضه باطل.

وقوله (يسلكه عذبا صعدا) اى متصعدا في العظم. وقيل: متصعدا قد غمره وأطبق عليه. ومعناه عذبا أشهد العذاب من قوله (سأرهقه صعودا)(2) فاما قول العرب: تنفس الصعداء على وزن (فعلاء) أكثر كلامهم، ومنه قيل تنفس صعدا على وزن غرب والصعود العقبة الشاقة.

___________________________________

(1) تفسير القرطبى 18 / 17.

(2) سورة 74 المدثر آية 17

[155]

وقال الفراء: الصعود صخرة ملساء في النار ويكلف الصعود عليها، فكلما بلغ رأسها أحد هوى إلى أسفلها وقوعا.

وقوله (وان المساجد لله فلا تدعو مع الله احدا) عطف عند جميع المفسرين على قوله (أوحي) كأنه قال: أوحي الي أن المساجد لله، وقال الخليل: التقدير، ولان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا مثل قوله (وان هذه أمتكم) وتقديره: ولان هذه أمتكم (أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)(1) والمعنى الاخبار منه تعالى بأن لا يذكر مع الله في المساجد - وهي المواضع التي وضعت للصلاة - أحد على وجه الاشتراك في عبادته، كما يدعوا النصارى في بيعهم والمشركون في الكعبة.

وقال الحسن: من السنة إذا دخل المسجد أن يقول: لا إله الا الله، لا أدعو مع الله أحدا. وقيل: معناه إنه يجب أن يدعوه بالوحدانية.

وقال الفراء والزجاج: المساجد مواضع السجود من الانسان: الجبهة، واليدان، والرجلان وزاد أصحابنا عيني الركبتين. والمعنى انه لا ينبغي أن يسجد بهذه الاعضاء لاحد سوى الله تعالى.

وقوله (وأنه لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) معناه إنه لما قام محمد صلى الله عليه واله يدعو الله، فيقول: لا إله الا الله كادوا يكونون عليه جماعات متكاثفات بعضها فوق بعض ليزيلوه بذلك عن دعوته باخلاص الالهية.

وقال ابن عباس والضحاك: معناه إن الجن كادوا يركبونه حرصا على سماع القرآن منه.

وقال الحسن وقتادة: معناه تلبدت الانس والجن على هذ الامر ليطفئوه فابي الله الا أن ينصره ويظهره على من ناواه، كما قال (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون)(2) وقال ابن عباس: هذا من قول الجن، لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله وإئتمامهم به في الركوع

___________________________________

(1) سورة 21 الانبياء آية 92.

(2) سورة 61 الصف آية 8

[156]

والسجود، وهو قول سعيد بن جبير: واللبد القطع المتكاثفة على الشئ واحدها لبد، ومنه اللبد لتكاثف صفوفه بعضه على بعض. ولبد رأسه إذا ألصق بعض شعره ببعض قال عبد مناف بن ربع:

صابوا بستة أبيات واربعة * حتى كأن عليهم جابيا لبدا.(1)

فالجابي الجراد الذي يجبي كل شئ يأكله.

ثم حكى ان النبي صلى الله عليه واله قال (انما أدعوا ربي) ومن قرأ (قل) فمعناه إن الله أمره بأن يقول: إنما أدعو ربي وحدة ولا أشرك به أحدا من الاصنام والاوثان. والمعنيان متقاربات، لان الله تعالى إذا أمره بأن يقول فانه يقول لا محالة فقد حصل الامران.

___________________________________

(1) اللسان (لبد)

[157]

قوله تعالى: (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا(21) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا(22) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها أبدا(23) حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا(24) قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا(25) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا(26) إلا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا(27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا(28))

ثمان آيات.

قرأ (ليعلم) بضم الياء يعقوب. الباقون بفتح الياء.

أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه واله أن يقول للمكلفين (اني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) ومعناه إني لا أقدر على دفع الضرر عنكم ولا إيصال الخير اليكم، وانما يقدر على ذلك الله تعالى. وانما أقدر على أن ادعوكم إلى الخير وأهديكم إلى طريق الرشاد، فان قبلتم نلتم الثواب والنفع، وان رددتموه نالكم العقاب وأليم العذاب، ثم قال ايضا (قل) لهم يا محمد (اني لن يجيرني من الله احد) أي لا يقدر أن يجير على الله حتى يدفع عنه ما يريده به من العقاب (ولن اجدا) أيضا انا (من دنه) أي من دون الله (ملتحدا) يعنى ملتجأ ألجأ اليه أطلب به السلامة مما يريد الله تعالى فعله من العذاب والالم. وأضافه إلى نفسه، والمراد به أمته، لانه لايفعل قبيحا فيخاف العقاب. والمعنى ليس من دون الله ملتحد أى ملجأ.

وقوله (الابلاغ من الله ورسالاته) معناه لكن املك البلاغ من الله الذي هو بلاغ الحق لكل من ذهب عنه وأعرض عن اتباعه بأن أرشده إلى الادلة التي نصبها الله له وأمر بالدعاء إليها سائر عباده المكلفين، كما أمر أنبياء‌ه بتبليغ رسالاته، فيكون التقدير لا أملك إلا بلاغا من الله ورسالاته. وقيل يجوز ان يكون المراد لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته، فيكون نصب البلاغ على اضمار فعل من الجزاء، كقولك إن لا قياما فقعودا وان لا عطاء فردا جميلا فتكون (لا) منفصلة من (إن) وتقديره إن لا أبلغ بلاغا من الله ورسالاته .

ثم قال (ومن يعص الله ورسوله) بأن خالف ما أمراه به وارتكب مانهياه

[158]

عنه (فان له نار جهنم) جزاء على ذلك (خالدين فيها ابدا) أي مقيمين فيها على وجه التأبيد والقراء على كسر (فان) على الابتداء.

وروي عن طلحة بن مصروف انه فتح على تقدير فجزاء‌ه أن له.

وقال ابن خالويه: سألت ابن مجاهد عن ذلك، فقال: هو لحن.

وقال بعض أهل النظر: زعم ابوعبيدة: ان ما كان من قول الجن فهو مكسور نسقا على قوله (إنا سمعنا) ومن فتح فعلى قوله (قل اوحي) الي، وهو اختيار ابن خالويه.

وقوله (حتى إذا رأوا ما يوعدون) يعني ما يوعدون به من العقاب على المعاصي (فسيعلمون) عند ذلك (من اضعف ناصرا) يدفع منه عقاب الله ومن (أقل عددا) يستنصر بهم آلكفار أم المؤمنون؟.

وقيل معناه أجند الله أم الذين عبده المشركون؟

وإنما قال (من أضعف ناصرا) ولا ناصر لهم في الاخرة، لانه جاء على جواب من توهم انه إن كانت لهم أخوة فناصرهم أقوى وعددهم اكثر.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله (قل إن ادري) أي قل لهم لست اعلم (أقريب ماتوعدون) به من العقاب (أم يجعل له ربي امدا) أي غاية ينتهي اليها بعينها أم يؤخره الله تعالى إلى مدة لا يعلمها بعينها إلا الله تعالى الذي هو (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) ثم قال (إلا من ارتضى من رسول) فانه ربما أطلعه على ماغاب عن غيره من الخلائق بأن يوحي اليهم بما شاء من الغيب - ذكره قتادة - (فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) ومعناه إن الله إذا نزل الملك بالوحي ارسل معه رصدا يحفظون الملك من أن يأتي احد من الجن ويسمع الوحي، ونصب (رصدا) على المفعول، كأنه قال يجعل رصدا يسلك من بين يديه ومن خلفه (ليعلم ان قد ابلغوا) معناه ليظهر المعلوم من التبليغ.

وقال قتادة: معناه ليعلم محمد أن الرسل قبله قد ابلغوا رسالات ربهم.

وقال سعيد بن جبير: ليعلم الرسل أن قد ابلغوا رسالات

[159]

ربهم على احاطة بهم وتحصين لما بلغوا من رسالاته.

وقال الزجاج: ليعلم الله أن قد ابلغوا.

وقوله (واحاط بما لديهم) معناه انه يعلم ما عندهم فيحيط بما لديهم فيصير في معلومه بمنزلة ما احيط به (وأحصى كل شئ عددا) معناه انه يعلم الاشياء مفصلة بمنزلة من يحصيها ليعلمها كذلك.

وقال الزجاج: نصب (عددا) يحتمل شيئين احدهما - واحصى كل شى في حال العدد، فيكون العدد بمعنى المعدود، كما يقال: للمنقوص نقص، فلا يخفى عليه شئ من الاشياء، لا سقوط ورقة، ولا حبة في ظلمات الارض. والثاني - ان يكون بمعنى المصدر، وتقديره وأحصى كل شئ احصاء.

وقال الجبائي معنى (ليعلم ان قد ابلغوا) أي ليبلغوا (رسالات ربهم) فعبر عن المعلوم بالعلم كما يقال: ما علم الله مني ذلك أي ما فعلته، لانه لو فعله لعلم الله ذلك (واحصى كل شئ عددا) معناه انه لا شئ يعلمه عالم او يذكره ذاكر إلا وهو تعالى عالم به ومحص له.

والاحصاء فعل، وليس هو بمنزلة العلم، فلا يجوز ان يقال احصى مالا يتناهى كما يجوز ان يقال: علم ما لا يتناهى، لان الاحصاء مثل المحصي لا يكون إلا فعلا متناهيا، فاذا لم يجز ان يفعل ما لا يتناهى لم يجز ان يقال يحصي ما لا يتناهى. والفرق بينهما واضح.

[160]




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404718

  • التاريخ : 20/04/2024 - 08:25

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net