00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الحشر 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

59 - سورة الحشر

مدينة بلا خلاف. وهي أربع وعشرون آية بلا خلاف.

بسم الله الرحمن الرحيم

(سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم(1) هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتيهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار(2) ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار(3) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فان الله شديد العقاب(4) ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فباذن الله وليخزي الفاسقين(5))

خمس آيات.

[559]

قرأ ابوعمرو وحده " يخربون بيوتهم " بالتشديد قال الفراء: وهى قراء‌ة ابي عبدالرحمن السلمي والحسن. الباقون بالتخفيف.

قال قوم: معناهما واحد مثل اكرمته وكرمته.

وقال بعضهم: معنى التخفيف انهم ينتقلون عنها فيعطلونها، وبالتشديد يهدمونها.

قد مضي تفسير " سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم " فلا معنى لا عادته.

وقوله " هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم " معناه ان الذي وصفه بأنه عزيز حكيم هو الله الذي أخرج الكفار من اليهود من ديارهم " لاول الحشر " قال قتادة ومجاهد: هم بنو النضير، لما نزل النبي صلى الله عليه واله بالمدينة عاقده بنو النضير على ان لا يكونوا عليه ولا له. ثم نقضوا العهد وأرادوا أن يطرحوه حجرا حين مضى النبي صلى الله عليه واله اليهم يستعين بهم في تحمل بعض الديتين اللتين لزمتا صاحب النبي صلى الله عليه واله حين انقلب من بئر معونة فقتل نفسين، كان النبي صلى الله عليه واله أجرهما، ومالوا للمشركين على النبى صلى الله عليه واله فأجلاهم الله عن ديارهم على ان لهم الذرية وما حملت إبلهم والباقي لرسول الله فأجلاهم النبي صلى الله عليه واله على هذا عن ديارهم ومنازلهم، فمنهم من خرج إلى خيبر، ومنهم من خرج إلى الشام.

وقوله تعالى " لاول الحشر " قال قوم: أول الحشر هو حشر اليهود من بني النضير إلى ارض الشام، وثاني الحشر حشر الناس يوم القيامة إلى ارض الشام أيضا.

وقال البلخي: يريد أول الجلاء، لان بني النضير أول من أجلي عن ارض العرب.

والحشر جمع الناس من كل ناحية، ومنه الحاشر الذي يجمع الناس إلى ديوان الخراج، والجمع حشار " ما ظننتم أن يخرجوا " أي لم تظنوا خروجهم منها " وظنو " هم " انهم مانعتهم حصونهم من الله " أي حسبوا ان الحصون التي هم

[560]

فيها تمنعهم من عذاب الله وإنزاله بهم على يد نبيه، فجعل تعالى امتناعهم من رسوله امتناعا منه.

وقوله تعالى " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " أي اتاهم أمرالله من حيث لم يحتسبوا مجيئه منه " وقذف " أي ألقى " في قلوبهم الرعب " وهو الخوف " يخربون بيوتهم بايديهم وايدي المؤمنين " معناه إنهم كانوا يهدمون بيوتهم بأيديهم من داخل ليهربوا ويخرب المؤمنون من خارج - على ما ذكره الحسن - ثم قال تعالى " فاعتبروا يا أولي الابصار " معناه اتعظوا وفكروا فلا تفعلوا كما فعل هؤلاء فيحل بكم ما حل بهم. والحصون جمع حصن، وهو البناء العالي المنيع، يقال: تحصن فلان إذا امتنع بدخوله الحصن.

ومن استدل بهذه الآية على صحة القياس في الشريعة فقد أبعد. لان الاعتبار ليس من القياس في شئ، وإنما معناه الاتعاظ على ما بيناه، ولا يليق بهذا الموضع قياس في الشرع، لانه لو قال بعد قوله " يخربون بيوتهم بأيديهم وايدي المؤمنين " فقيسوا الارز على الحنطة، لما كان كلاما صحيحا ولا يليق بما تقدم. وإنما يليق بما تقدم الاتعاظ والانزجار عن مثل افعال القوم من الكفر بالله.

وقوله تعالى " ولو لا أن كتب الله عليهم الجلاء " معناه لولا ان الله كتب في اللوح المحفوظ بما سبق في علمه انهم يجلون عن ديارهم يعني اليهود (لعذبهم في الدنيا) بعذاب الاستئصال. والجلاء الانتقال عن الديار والاوطان البلاء. وقيل: هو الفرار عن الاوطان يقال: جلا القوم عن منازلهم جلاء، وأجليتهم إجلاء.

ثم قال (ولهم في الآخرة) مع الجلاء عن الاوطان في الدنيا (عذاب النار) يعذبون بها. ثم بين لم فعل بهم ذلك فقال (ذلك) أي فعلنا بهم ذلك (بانهم شاقوا الله ورسوله) وخالفوهما وعصوهما. ثم توعد من يسلك مسلكهم في المشاقة لله

[561]

ورسوله، فقال " ومن يشاق الله ورسوله فان الله شديد العقاب " يعاقبهم على مشاقتهم بالشد العقاب.

وقوله " ما قطعتم من لينة " فاللينة كل نخلة لينة سوى العجوة - في قول ابن عباس وقتادة - وهي لغة أهل المدينة.

وقال بعضهم: إلا البرني والعجوة، قال مجاهد وعمرو بن ميمون وابن زيد: كل نخلة لينة ولم يستثنوا.

وقال سفيان: اللينة كرام النخل. وأصل اللينة اللونة فقلبت الواو ياء للكسرة. ويجمع ليانا، قال ذو الرمة:

طراق الخوافي مشرق فوق ريعة *** ندى ليلة في ريشه يترقرق(1)

فكأنه قال لون من النخل أي ضرب منه.

وقيل: يجوز أن تكون من اللبن للين ثمرتها، وقوله " او تركتموها قائمة على أصولها فباذن الله " أي قطعتموها او تركتموها بحالها كل ذلك سائغ لكم، وهو بعلم الله وإذنه في ذلك وأمره به.

وقوله " وليخزي الفاسقين " أي فعل ذلك ليذل به الكفار الفاسقين من اليهود ويهينهم به لا أنهم يفعلونه على وجه الفساد في الارض، لان فيما فعلوه إذلال اهل الشرك وعز أهل الاسلام.

___________________________________

(1) مر في 8 / 44

[562]

قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير(6) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتيكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب(7) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون(8) والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون(9) والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولا خواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم(10))

خمس آيات.

قرأ ابوجعفر " كيلا تكون " بالتاء " دولة " بالرفع أضاف الفعل إلى (دولة). الباقون بالياء " دولة " نصب أرادوا الفئ والمال.

قوله " وما أفاء الله على رسوله منهم " يعني من اليهود الذين أجلاهم من بني النضير، وإن كان الحكم ساريا في جميع الكفار إذا كان حكمهم، فالفئ رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله إياهم ذلك، على ما شرط فيه، يقال: فاء بفئ فيئا إذا رجع وأفأته عليه إذا رددته عليه.

وقال عمر بن الخطاب ومعمر: مال الفئ هو مال الجزية والخراج.

[563]

والفئ كل ما رجع من أموال الكافرين إلى المؤمنين، سواء كان غنيمة او غير غنيمة، فالغنيمة ما اخذ بالسيف، فأربعة أخماسه للمقاتلة وخمسه للذين ذكرهم الله في قوله " واعلموا أنما غنمتم.. " الآية(1).

وقال كثير من العلماء: ان الفئ المذكور في هذه الآية هو الغنيمة.

وقال قوم: مال الفئ خلاف مال الصدقات، لان مال الفئ اوسع، فانه يجوز ان يصرف في مصالح المسلمين، ومال الصدقات إنما هو في الاصناف الثمانية.

وقال قوم: مال الفئ يأخذ منه الفقراء من قرابة رسول الله صلى الله عليه واله باجماع الصحابة في زمن عمر ابن الخطاب، ولم يخالفه فيه احد إلا الشافعي، فانه قال: يأخذ منه الفقراء والاغنياء، وإنما ذكروا في الآية لانهم منعوا الصدقة، فبين الله أن لهم في مال الفئ حقا.

وقال عمر بن الخطاب: مال بني النضير كان فيألرسول الله صلى الله عليه واله خاصة " ولذي القربى " قرابة رسول الله صلى الله عليه واله من بني هاشم وبني عبدالمطلب.

وقيل: جعل ابوبكر وعمر سهمين: سهم رسوله وسهم قرابته من الاغنياء في سبيل الله، وصدقة عن رسول الله صلى الله عليه واله ذكره قتادة. والباقي في اهل الحاجة من اطفال المسلمين الذين لا أبالهم، وابن السبيل المنقطع به من المسافرين في غير معصية الله.

وقال يزيد ابن رومان: الغنيمة ما أخذ من دار الحرب بالقتال عنوة.

وقيل: كانت الغنائم في صدر الاسلام لهؤلاء الاصناف.

ثم نسخ بما ذكره في سورة الانفال: بالخمس. والباقي للمحاربين - ذكره قتادة -. والذي نذهب اليه أن مال الفئ غير مال الغنيمة، فالغنيمة كل ما اخذ من دار الحرب بالسيف عنوة مما يمكن نقله إلى دار الاسلام، وما لا يمكن نقله إلى دار الاسلام، فهو لجميع المسلمين ينظر فيه الامام ويصرف انتفاعه إلى بيت المال لمصالح المسلمين.

___________________________________

(1) سورة 8 الانفال آية 41

[564]

والفئ كل ما اخذ من الكفار بغير قتال او انجلاء اهلها وكان ذلك للنبي صلى الله عليه واله خاصة يضعه في المذكورين في هذه الآية، وهو لمن قام مقامه من الائمة الراشدين. وقد بين الله تعالى ذلك. ومال بني النضير كان للنبي خاصة، وقد بينه الله بقوله " وما أفاء الله " يعني ما رجعه الله ورده " على رسوله منهم " يعني من بني النضير.

ثم بين فقال " فما أو جفتم عليه من خيل ولا ركاب " أي لم توجفوا على ذلك بخيل ولا ركاب. والايجاف الايقاع، وهو تسيير الخيل والركاب وهو من وجف يجف وجيفا، وهو تحرك باضطراب، فالايجاف الازعاج للسير، والركاب الابل " ولكن الله يسلط رسله على من يشاء " من عباده حتى يقهروهم ويأخذوا ما لهم (والله على كل شئ قدير).

ثم قال مبينا من استحق ذلك، فقال (ما أفاء الله على رسوله من اهل القرى) يعني بني النضير (فلله وللرسول ولذي القربى) يعني اهل بيت رسول الله " واليتامى والمساكين وابن السبيل " من أهل بيت رسول الله لان تقديره ولذي قرباه ويتامى أهل بيته، وابن سبيلهم، لان الالف واللام تعاقب الضمير، وظاهره يقتضي أنه لهؤلاء سواء كانوا أغنياء او فقراء. ثم بين لم فعل ذلك فقال " كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم " فالدولة - بضم الدال - نقلة النعمة من قوم إلى قوم وبفتح الدال المرة من الاستيلاء والغلبة.

ثم قال " وما أتاكم الرسول فخذوه " أي ما اعطاكم رسوله من الفئ فخذوه وارضوا به. وما أمركم به فافعلوه " وما نهاكم عنه فانتهوا " عنه فانه لا يأمر ولا ينهى إلا عن أمر الله.

ثم قال " واتقوا الله " في ترك معاصيه وفعل طاعاته " إن الله شديد العقاب " لمن عصاه وترك أو امره.

ثم قال " للفقراء " يعني الذين لا مال لهم " المهاجرين " الذين هاجروا من

[565]

مكة إلى المدينة او هاجروا من دار الحرب إلى دار الاسلام " الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم " الذي كان لهم بمكة فأخرجوا منها " يبتغون فضلا " أي طالبين بذلك فضلا " من الله ورضوانا " فالجملة في موضع الحال " وينصرون الله ورسوله " يعني ناصرين لدين الله ورسوله " اولئك هم الصادقون " عندالله في الحقيقة العظيموا المنزلة لديه.

وقيل: تقدير الآية " كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم " بل للفقراء المهاجرين. ثم وصف الانصار فقال " والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم " أي جعلوا ديارهم موضع مقامهم وآمنوا بالله من قبلهم نزلت في الانصار، فانهم نزلوا المدينة قبل نزول المهاجرين. وقيل ان كان من نزل بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه واله فهو من الانصار.

وقوله " والايمان من قبلهم " يعني إن الانصار آمنوا قبل هجرة المهاجرين وإن كان في المهاجرين من آمن قبل إيمان الانصار " يحبون من هاجر اليهم " من اهل مكة " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " قال الحسن يعني حسدا، قال الزجاج: معناه لا تجد الانصار في نفوسهم حاجة مما يعطون المهاجرين.

وقال البلخي: لا يجدون حاجة في نفوسهم مما يؤتون المهاجرين من الفضل في الدين، وقال الطبري: معناه لا يجدون في نفوسهم حاجة فيما أعطي المهاجرين من مال بني النضير، فان النبي خص به المهاجرين إلا رجلين من الانصار: أباد دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف أعطاهما لفقرهما. وإنما فعل النبي صلى الله عليه واله ذلك لان مال بني النضير كان له خاصة. والمهاجرين بهم حاجة خصهم بذلك. والانصار كانوا في غنى فرضوا بذلك، ومدحهم الله على ذلك - ذكره ابن زيد -.

وقوله " ويؤثرون على أنفسهم " أي يختارون على أنفسهم من يولونه من مالهم

[566]

من المهاجرين " ولو كان بهم خصاصة " يعني حاجة. والخصاصة الحاجة التي يختل بها الحال.

والخصاص الفرج التي يتخللها البصر، والواحد خصاص.

قال الراجز: والناظرات من خصاص لمحا وأصله الاختصاص بالانفراد بالامر والخصاص الانفراد عما يحتاج اليه والخصوص الانفراد ببعض ما وضع له الاسم، والخص إنفراد كل قصبة من أختها في الاشراج، والخاصة إنفراد المعنى بما يقوله دون غيره.

وقوله " ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون " أي من منع شح نفسه. والشح والبخل واحد. وفى أسماء الدين هو منع الواجب " فاولئك هم المفلحون " يعني المنجحين الفائزين بثواب الله ونعيم جنته.

ثم قال " والذين جاؤا من بعدهم " يعني بعد المهاجرين والانصار، وهم جميع التابعين لهم إلى يوم القيامة - في قول الحسن - وهو كل من أسلم بعد العصر الاول.

وقال الاصم: يعني من جاء‌ك من المهاجرين أي بعد انقطاع الهجرة وبعد إيمان الانصار " يقولون ربنا " الجملة في موضع الحال، وتقديره قائلين " ربنا اغفر لنا ولا خواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا " أي حقدا وغشا " للذين آمنوا " ويقولون " ربنا إنك رؤف رحيم " أي متعطف على عبادك منعم عليهم. وقسمة الغنيمة عندنا للفارس سهمان وللراجل سهم.

وقال قوم: للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم إلا ما كان من الارض والاشجار، فانه للامام أن يقسمها إن شاء، وله ان يجعلها أرض الخراج ويردها إلى من كانت في أيديهم قبل، على هذا الوصف بحسب ما يرى، كما فعل عمر بأرض السواد.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه واله فتح مكة عنوة ولم يقسم أرضها بين المقاتلة.

وقال قوم: فتحا سلما. وقسم كثيرا

[567]

من غنائم حنين في المؤلفة قلوبهم دون المقاتلة حتى وقع من نفر من الانصار في ذلك ما وقع، فقال رسول الله صلى الله عليه واله اما ترضون ان يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله، فرضوا وسلموالله ورسوله في قصة مشهورة..

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون(11) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون(12) لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون(13) لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون(14) كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم(15))

خمس آيات

قرأ ابن كثير وابوعمرو " من وراء جدار " على التوحيد. الباقون " جدر " على الجمع.

لما وصف الله تعالى المهاجرين الذين هاجروا من مكة وما لهم من الفضل، وذكر الانصار ومالهم من جزيل الثواب، وذكر التابعين باحسان وما يستحقونه من النعيم في الجنان، ذكر المنافقين وما يستحقونه وما هم عليه من الاوصاف.

[568]

فقال " ألم تر " يا محمد " إلى الذين نافقوا " فأظهروا الايمان وأبطنوا الكفر " يقولون لاخوانهم " في الكفر وهم " الذين كفروا من أهل الكتاب " يعني يهود بني النضير (لئن أخرجتم) من بلادكم (لنخرجن معكم) مساعدين لكم (ولا نطيع فيكم أحدا ابدا) يعني في قتالكم ومخاصمتكم (ولئن قوتلتم) معاشر بني النضير (لننصرنكم) ولندفعن عنكم.

فقال الله تعالى (والله يشهد انهم لكاذبون) فيما يقولونه في مساعدتهم والخروج معهم والدفاع عنهم. وظاهره يدل على انهم لم يخبروا عن ظنهم، لانهم لو اخبروا عن ظنهم وعن نيتهم لما كانوا كاذبين.

ويحتمل: ان يكونوا كاذبين في العزم ايضا بأن يقولوا إنهم عازمون ولا يكونوا كذلك.

ثم قال تعالى (لئن أخرجوا) يعني بني النضير (لا يخرجون معهم) يعني المنافقون الذين قالوا لهم إنا نخرج معكم (ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار) أي ينهزمون ويسلمونهم (ثم لا ينصرون) الجميع، وقال الزجاج: فيه وجهان: احدهما - إنهم لو تعاطوا نصرهم. الثاني - ولئن نصرهم من بقي منهم لولوا الادبار، فعلى هذا لا ينافي قوله (لا ينصرونهم) قوله (ولئن نصروهم).

ثم خاطب المؤمنين، فقال (لانهم أشد رهبة في صدورهم من الله) أي أنتم أشد خوفا في قلوب هؤلاء المنافقين يخافونكم مالا يخافون الله (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) أي لانهم قوم لا يفقهون الحق ولا يعرفونه ولا يعرفون معاني صفات الله، فالفقه العلم بمفهوم الكلام في ظاهره ومتضمنه عند إدراكه، ويتفاضل أحوال الناس فيه.

وقيل: إن المنافقين الذين نزلت فيهم هذه الآية عبدالله بن ابي سلول وجماعة معه بعثوا إلى بني النضير بهذه الرسالة - ذكره ابن عباس ومجاهد -

[569]

ثم عاد تعالى إلى ذكر الخبر عن أحوال بني النضير، فقال (لا يقاتلونكم) معاشر المؤمنين (إلا في قرى محصنة) يعني ممتنعة جعل عليها حصون (أو من وراء جدر) أى من وراء الحيطان، فالجدار الحائط.

فمن قرأ على التوحيد فلانه اسم جنس يقع على القليل والكثير، ومن قرأ على الجمع، فلا ختلاف الجدران.

ثم قال (بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) معناه عداوة بعض هؤلاء اليهود لبعض شديدة وقلوبهم شتى بمعاداة بعضهم لبعض أى ظاهرهم على كلمة واحدة وهم متفرقون في الباطن (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) يعنى ما فيه الرشد مما فيه الغي.

وقال مجاهد (وقلوبهم شتى) يعني المنافقين وأهل الكتاب، وإنما كان قلوب من يعمل بخلاف العقل شتى لا ختلاف دواعيهم وأهوائهم، وداعي الحق واحد، وهو داعي العقل الذى يدعو إلى طاعة الله والاحسان في الفعل.

وقوله (كمثل الذين من قبلهم قريبا) معناه مثل هؤلاء كمثل الذين من قبلهم يعني بني فينقاع - في قول ابن عباس - وقال مجاهد: هم مشركوا قريش ببدر - (ذاقوا وبال أمرهم) من الشرك والكفر بالله فان عاقبة أمرهم كان القتل او الجلاء وفي الآية دلالة على النبوة من جهة علم الغيب الذى لا يعلمه إلا الله تعالى وقوله (ولئن نصروهم ليولن الادبار) جاء على تقدير المستقبل كما يجيئ في الماضي ب‍ (لو) لتبين خورهم وضعف قلوبهم، واللام في قوله (لئن اخرجوا) و (لئن قوتلوا) و (لئن نصروهم) كلها لام القسم. واللام في قوله (ليولن الادبار) جواب القسم.

[570]

قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال أني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين(16) فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين(17) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون(18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنسيهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون(19) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون(20))

خمس آيات.

معنى قوله (كمثل الشيطان) أي مثل هؤلاء المنافقين فيما قالوا لليهود، مثل قيل الشيطان (إذ قال للانسان اكفر) واغواه به ودعاه اليه (فلما كفر) يعني الانسان (قال) الشيطان (إني برئ منك اني اخاف الله رب العالمين) بمعنى أخاف عقابه. وإنما يقول الشيطان للانسان اكفر بأن يدعوه اليه ويغويه به ويقول له: التوحيد ليس له حقيقة والشرك هو الحق ويأمره بجحد النبوة، ويقول لا أصل لها. وإنما هي مخرقة.

والبراء‌ة قطع العلقة إلى ما تقتضيه العداوة فهذه البراء‌ة من الدين، وقد تكون البراء‌ة قطع العلقة بما يدفع المطالبة كبراء‌ة الدين، وبراء‌ة الطلاق، وبراء‌ة الذمي إذا أخذت منه الجزية. والاصل قطع العلقة التي يقع بها مطالبة في نقيض الحكمة، فالتقدير في الآية إن مثل المنافقين في وعدهم لبني النضير مثل الشيطان في وعده للانسان بالغرور، فلما أحتاج اليه الانسان أسلمه للهلاك.

وقيل: إن ذلك في إنسان بعينه كل من الرهبان فاغواه الشيطان بأن ينجيه من بلية وقع فيها عند السلطان، فقال له: اسجد لي سجدة واحدة، فلما احتاج اليه أسلمه حتى قتل - روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود - وقال مجاهد:

[571]

هو عام في جميع الكفار، فقال الله تعالى (فكان عاقبتهما) يعني عاقبة الفريقين الداعي والمدعو من الشيطان ومن أغواه والمنافقين واليهود (أنهما في النار) معذبان فيها، والعاقبة نهاية العمل في البادية، فعاقبة الطاعة الله تعالى الجنة، وعاقبة معصيته النار (خالدين فيها) أي مؤبدين فيها معذبين ثم قال (وذلك جزاء الظالمين) لانفسهم بارتكاب المعاصي.

ثم خاطب المؤمنين فقال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) باجتناب معاصيه وفعل طاعاته (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) أي تنظر وتفكر ما الذي تقدمه من الافعال ليوم القيامة من طاعة او معصية (واتقوا الله) باجتناب معاصيه وفعل طاعاته (إن الله خبير بما تعملون) أي عالم بأعمالكم لا يخفى عليه شئ منها فيجازيكم بحسبها على الطاعات بالثواب وعلى المعاصي بالعقاب.

وقيل معناه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) فيما تقدم نفس لغد (واتقوا الله) فيما يعلمه منكم، وليس ذلك بتكرار ثم قال (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) أي كالذين تركوا أداء حق الله فانهم نسوه فأنساهم أنفسهم بأن حرمهم حظوظهم من الخير والثواب، وقال سفيان: نسوا حق الله فأنساهم حظ أنفسهم.

وقيل: نسوا الله بترك ذكره والشكر والتعظيم فأنساهم انفسهم بالعذاب الذي نسي به بعضهم بعضا، كما قال تعالى (فاذا دخلتم بيوتا فسلموا على انفسكم)(1) أي يسلم بعضكم على بعض ثم اخبر عنهم فقال (اولئك هم الفاسقون) الذين خرجوا من طاعته إلى معصيته.

وقوله (لا يستوي أصحاب النار واصحاب الجنة) أي لا يتساويان، لان هؤلاء مستحقون للنار وأولئك مستحقون لثواب الجنة، ثم قال (أصحاب الجنة هم الفائزون) بثواب الله. ولا يدل على أن من معه إيمان وفسق لا يدخل الجنة،

___________________________________

(1) سورة 24 النور آية 61

[572]

لانه تعالى قسم أصحاب الجنة وأصحاب النار الذين يستحقون ثوابا بلا عقاب او عقابا بلا ثواب، لانهما لا يتقاربان، ولم يذكر من يستحق الامرين. وعندنا أن الفاسق المسلم يستحق الامرين فليس هو داخلا فيه.

قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون(21) هو الله الذي لآإله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم(22) هو الله الذي لآ إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون(23) هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم(24))

أربع آيات.

يقول الله تعالى معظما لشأن القرآن الذى انزله عليه مكبرا لحاله في جلالة موقعه بأنه لو أنزل القرآن على جبل لرئي الجبل خاشعا، والمراد به المثل، وتقديره لو كل الجبل مما ينزل عليه القرآن ولو شعر به - مع غلظه وجفاء طبعه وكبر جسمه - لخشع لمنزله تعظيما لشأنه ولتصدع من خشيته، فالانسان أحق بهذا لو عقل الاحكام التي فيه. والتصدع التفرق بعد التلاؤم، ومثله التفطر يقال: صدعه يصدعه صدعا فهو صادع وذاك مصدوع ومنه الصداع في الرأس وهو معروف، وتصدع تصدعا

[573]

وانصدع إنصداعا فبين انه على وجه المثل بقوله (وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) ومعناه ليتفكروا، لان (لعل) بمعنى الشك، والشك لا يجوز على الله.

وقوله (هوالله الذي لا إله إلا هو) معناه هو المستحق للعبادة الذي لا تحق العبادة إلا له (عالم الغيب والشهادة) معناه عالم بما يشاهده العباد، وعالم بما يغيب عنهم علمه.

وقيل: معناه (عالم الغيب) مالا يقع عليه حس من المعدوم او الموجود الذي لا يدرك مما هو غائب عن الحواس كأفعال القلوب وغيرها (والشهادة) أي وعالم بما يصح عليه الادراك بالحواس.

وقال الحسن: الغيب ما اخفاه العباد، والشهادة ما أعلنوه، ففي الوصف بها بين كونه عالما بجميع المعلومات، لانها لا تعدو هذين القسمين.

وقوله (هو الرحمن) يعني المنعم على جميع خلقه (الرحيم) بالمؤمنين، ولا يوصف بالرحمن سوى الله تعالى. وأما الرحيم، فانه يوصف به غيره تعالى. ثم اعاد قوله (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك) يعني السيد المالك لجميع الاشياء الذي له التصرف فيها على وجه ليس لاحد منعه منه (القدوس) ومعناه المطهر فتطهر صفاته عن ان يدخل فيها صفة نقص (السلام) وهو الذي يسلم عباده من ظلمه (المؤمن) الذي أمن العباد من ظلمه لهم إذ قال (لا يظلم مثقال ذرة)(1) (المهيمن) قال ابن عباس معناه الامين.

وقال قوم: معناه المؤمن إلا انه أشد مبالغة في الصفة، لانه جاء على الاصل في المؤمن، فقلبت الهمزة هاء، وفخم اللفظ به لتفخيم المعنى.

وقال قتادة: معناه الشهيد كأنه شهيد على إيمان من آمن به أو الشهيد على الامن في شهادته (العزيز) يعنى القادر الذي لا يصح عليه القهر

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 39

[574]

(الجبار) العظيم الشأن في الملك والسلطان، ولا يستحق ان يوصف به على هذا الاطلاق إلا الله تعالى، فان وصف بها العبد، فانما هو على وضع لفظة في غير موضعها، فهو ذم على هذا المعنى (المتكبر) يعني في كل شئ.

وقيل: معناه المستحق لصفات التعظيم.

وقوله (سبحان الله عما يشركون) تنزيه لله تعالى عن الشرك به كما يشرك به المشركون من الاصنام وغيرها.

ثم قال (هو الله الخالق) يعني للاجسام والاعراض المخصوصة (البارئ) المحدث المنشئ لجميع ذلك (المصور) الذى صور الاجسام على اختلافها من الحيوان والجماد (له الاسماء الحسنى) نحو الله، الرحمن، الرحيم، القادر، العالم، الحي وما اشبه ذلك.

ثم قال (يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم) وقد مضى تفسيره.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335705

  • التاريخ : 28/03/2024 - 16:55

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net