00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة النجم 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

53 - سورة النجم

هي مكية، وهي اثنتان وستون آية في الكوفي وستون في البصري والمدنيين.

بسم الله الرحمن الرحيم

(والنجم إذا هوى(1) ما ضل صاحبكم وما غوى(2) وما ينطق عن الهوى(3) إن هو إلا وحي يوحى(4) علمه شديد القوى(5) ذومرة فاستوى(6) وهو بالافق الاعلى(7) ثم دنا فتدلى(8) فكان قاب قوسين أو أدنى(9) فأوحى إلى عبده ما أوحى(10))

عشر آيات بلا خلاف.

قوله " والنجم " قسم من الله تعالى. وقد بينا أن الله تعالى له أن يقسم بما يشاء من خلقه، وليس للعباد أن يحلفوا إلا به.

وقال قوم: معناه ورب النجم فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه، وفى معنى " النجم " ههنا ثلاثة أقوال: احدها - قال مجاهد: المراد به الثريا إذا سقطت مع الفجر.

الثاني - في رواية أخرى عن مجاهد أن المراد به القرآن إذا نزل.

الثالث - قال الحسن: معناه جماعة النجوم.

[421]

" إذا هوى " أي إذا سقط يوم القيامة كقوله - عزوجل - " وإذا الكواكب انتثرت "(1) وقيل: النجم على طريق الجنس، كما قال الراعى:

وباتت تعد النجم في مستحيرة *** سريع بأيدي الآكلين جمودها(2)

(مستحيرة) شحمة مذابة صافية في إهالة، لانها من شحم سمين.

وقوله " إذا هوى " قيل: معناه إذا هوى للمغيب ودل على ما فيه من العبرة بتصريف من يملك طلوعه وغروبه، ولا يملك ذلك إلا الله تعالى. وقيل: كان القرآن ينزل نجوما، وبين أول نزوله وأخره عشرون سنة - ذكره الفراء وغيره - والنجم هو الخارج عن الشئ بخروج المنتشئ عنه. والهوى ميل الطباع إلى ما فيه الاستمتاع، وهو مقصور وجمعه أهواء، والهواء الذي هو الجو ممدود وجمعه أهوية.

وقوله " ما ضل صاحبكم " يعني النبي صلى الله عليه واله ما ضل عن الحق " وما غوى " أي وما خاب عن إصابة الرشد، يقال: غوى يغوي غيا إذا خاب، وقال الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما(3)

أي من يخب " وما ينطق عن الهوى " أي ليس ينطق عن الهوى أي بالهوى، يقال: رميت بالقوس وعن القوس. والمعنى إنه لا يتكلم في القرآن وما يؤديه اليكم عن الهوى الذي هو ميل الطبع " إن هو إلا وحي يوحى " معناه ليس الذي يتلوه عليكم من القرآن إلا وحي أوحاه الله اليه، فالوحي القاء المعنى إلى النفس في خفى إلا أنه صار كالعلم في ما يلقيه الملك إلا النبي صلى الله عليه واله من البشر

___________________________________

(1) سورة 82 الانفطار آية 2.

(2) مجاز القرآن 2 / 235 واللسان (نجم).

(3) مر في 8 / 36، 493 وهو في القرطبي 17 / 84

[422]

عن الله تعالى، ومنه قوله " فأوحى اليهم أن سبحوا بكرة وعيشا "(1) وقوله " وأوحى ربك إلى النحل "(2) أي ألهمها مراشدها، وهو راجع إلى ما قلناه من إلقاء المعنى إلى النفس في خفى.

وقوله " علمه شديد القوى " في نفسه وعلمه. والقوة هي القدرة. وقد تستعمل القوة بمعنى الشدة التي هي صلابة العقد كقوى الحبل.

وقوله " ذو مرة " صفة لجبرائيل عليه السلام أي صاحب مرة، وهي القوة. واصل المرة شدة الفتل، وهو ظاهر في الحبل الذي يستمر به الفتل حتى ينتهي إلى ما يصعب به الحل. ثم تجري المرة على القدرة، لانه يتمكن بها من الفعل، كما يتمكن من الفعل بالآلة، فالمرة والقوة والشدة نظائر.

وقوله " فاستوى " معناه استولى بعظم القوة، فكأنه استوت له الامور بالقوة على التدبير. ومنه قوله " استوى على العرش "(3) أي استولى عليه بالسلطان والقهر.

وقال ابن عباس وقتادة: معنى " ذو مرة " ذو صحة بخلق حسن.

وقال مجاهد وسفيان وابن زيد والربيع: ذو قوة، وهو جبرائيل. والمرة واحدة المرر، ومنه قوله عليه السلام (لا تحل الصدقة لغني ولا لذى مرة سوي) وقيل " فاستوى " جبرائيل ومحمد عليهما السلام " بالافق الاعلى " أي سماء الدنيا عند المعراج.

وقيل في " هو " قولان: احدهما - انه مبتدأ وخبره في موضع الحال، وتقديره ذو مرة فاستوى في حال كونه بالافق الاعلى. الثاني - إنه معطوف على الضمير في (استوى) وحسن ذلك كي لا يتكرر

___________________________________

(1) سورة 19 مريم آية 10.

(2) سورة 16 النحل آية 68.

(3) سورة 7 الاعراف آية 53 وسورة 10 يونس آية 3 وسورة 13 الرعد آية 2 وسورة 25 الفرقان 59 وسورة 32 الم السجدة آية 4 وسورة 57 الحديدآية 4

[423]

(هو) وانشد الفراء:

ألم تر ان النبع تصلب عوده *** ولا يستوي والخروع المتقصف(1)

وقال الزجاج: لا يجوز عطف (هو) على الضمير من غير تأكيد إلا في الشعر وقال تعالى " أئذا كنا ترابا وآباؤنا "(2) فرد الآباء على المضمر.

وقال الربيع: واستوى يعني جبرائيل عليه السلام (وهو) كناية عنه على هذا.

وفي الوجه الاول (هو) كناية عن النبي صلى الله عليه واله.

وقال قتادة: الافق الاعلى الذي يأتي منه النهار.

وقيل: هو مطلع الشمس " شديد القوى " في أمر الله " ذو مرة " أي ذو قوة في جسمه.

وقيل: فاستوى جبرائيل على صورته التي خلقه الله، لان جبرائيل كان يظهر قبل ذلك للنبي صلى الله عليه واله في صورة رجل.

وقوله " ثم دنا فتدلى " قال الحسن وقتادة والربيع: يعني جبرائيل عليه السلام وفيه تقديم وتأخير والتقدير ثم تدلى فدنا.

وقال الزجاج: معنى دنا وتدلى واحد، لان المعنى إنه قرب وتدلى زاد في القرب، كما يقال: دنا فلان وقرب.

والمعنى ثم دنا جبرائيل إلى محمد صلى الله عليه واله، فتدلى اليه من السماء " فكان قاب قوسين أو أدنى " معناه كان بينه وبين جبرائيل مقدار قاب قوسين من القسى العربية أو أقرب بل أقرب منه.

وقيل: معنى (او) في الآية معنى (الواو) كقوله " وأرسلناه إلى مئة ألف او يزيدون "(3) ومعناه ويزيدون.

وقيل: إنه رأى جبرائيل عليه السلام في صورته له ستمائة جناح - في قول ابن مسعود - ومعنى " قاب قوسين " قدر الوتر من القوس مرتين " او أدني " منه وأقرب.

وقوله " فاوحى إلى عبده ما أوحى " قيل اوحى جبرائيل إلى عبدالله محمد ما أوحى.

___________________________________

(1) تفسير الطبرى 27 / 23 والقرطبي 17 / 85.

(2) سورة 27 النحل آية 67.

(3) سورة 37 الصافات آية 147

[424]

وقيل أوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى. ويحتمل ان تكون (ما) مع ما بعدها بمنزلة المصدر والتقدير فأوحى إلى عبده وحيا. ويحتمل ان يكون بمعنى الذي وتقديره فأوحى إلى عبده الذي أوحى اليه.

والمعنى أوحى جبرائيل إلى محمد ما أوحى اليه ربه - وهو قول ابن زيد -

وقوله " ما كذب الفؤاد ما رأى " قال ابن عباس رأى ربه بقلبه وهو معنى قوله " علمه " وإنما علم ذلك بالآيات التي رآها.

وقال ابن مسعود وعائشة وقتادة: رآى محمد جبرائيل على صورته.

وقال الحسن: يعني ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته.

وقال الحسن: عرج بروح محمد صلى الله عليه واله إلى السماء وجسده في الارض.

وقال اكثر المفسرين - وهو الظاهر من مذهب اصحابنا والمشهور في اخبارهم - أن الله تعالى صعد بجسمه حيا سليما حتى رأى - ملكوت السموات وما ذكره الله - بعيني رأسه، ولم يكن ذلك في المنام بل كان في اليقظة. وقد بيناه في سورة بني إسرائيل.

قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى(11) أفتمارونه على ما يرى(12) ولقد رآه نزلة أخرى(13) عند سدرة المنتهى(14) عندها جنة المأوى(15) إذ يغشى السدرة ما يغشى(16) ما زاغ البصر وما طغى(17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى(18) أفرأيتم اللات والعزى(19) ومنوة الثالثة الاخرى(20))

عشر آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما ويعقوب " افتمرونه " بمعنى افتجحدونه، وهو قول إبراهيم.

[425]

وقرأ الباقون " افتمارونه " بمعنى افتجادلونه في انه رأى ربه بقلبه أو آيات الله ومعجزاته.

وقرأ ابن عامر - في رواية هشام - وأبي جعفر " ما كذب " مشددة الدال الباقون بالتخفيف.

وقرأ ابن كثير والاعشى إلا ابن غالب " ومنآة " مهموزة ممدودة.

الباقون " ومناة " مقصورة، وهما لغتان.

يقول الله تعالى إنه لم يكذب فواد محمد ما رآه بعينه يعني لم يكذب محمد بذلك بل صدق به والفؤاد القلب.

وقال ابن عباس: يعني ما رأى بقلبه.

وقال الحسن: إنه رأى ربه بقلبه. وهذا يرجع إلى معنى العلم.

ومعنى " ما كذب الفؤاد " أي ما توهم أنه يرى شيئا وهو لا يراه من جهة تخيله لمعناه، كالرائي للسراب بتوهمه ماء ويرى الماء من بعيد فيتوهمه سرابا. ومن شدد أراد لم يكذب فؤاد محمد ما رأت عيناه من الآيات الباهرات فعداه. ومن خفف فلان في العرب من يعدي هذه اللفظة مخففة، فيقولون صدقني زيد وكذبني خفيفا، وصدقني وكذبني ثقيلا وانشد:

وكذبتني وصدقتني *** والمرؤ ينفعه كذابه(1)

والفرق بين الرؤية في اليقظة وبين الرؤية في المنام أن رؤية الشئ في اليقظة إدراكه بالبصر على الحقيقة، ورؤيته في المنام لصورة في القلب على توهم الادراك بحاسة البصر من غير ان يكون كذلك.

وقوله " افتمارونه " فمن قرأ " افتمرونه " أراد أفتجحدونه. ومن قرأ " أفتمارونه " أراد أفتجادلونه وتخاصمونه مأخوذ من المراء وهو المجادلة (على ما يرى) يعني على الشئ الذي يراه.

___________________________________

(1) مر في 8 / 390

[426]

وقوله (ولقد رآه نزلة أخرى) قال عبدالله بن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع: رآى محمد صلى الله عليه واله جبرائيل عليه السلام دفعة أخرى. وروي أنه رآه في صورته التي خلقه الله عليها مرتين.

وقوله (عند سدرة المنتهى) قيل: هي شجرة النبق وقيل لها: سدرة المنتهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج إلى السماء - في قول ابن مسعود والضحاك - وقيل: لانه ينتهي اليها أرواح الشهداء.

وقوله (عندها جنة المأوى) معناه عند سدرة المنتهى جنة المقام وهي جنة الخلد، وهي في السماء السابعة.

وقيل: إنه يجتمع اليها أرواح الشهداء.

وقال الحسن: جنة المأوى هي التي يصير اليها أهل الجنة.

وقوله (إذ يغشى السدرة ما يغشى) معناه يغشى السدرة من النور والبهاء والحسن والصفاء الذي يروق الابصار ما ليس لوصفه منتهى.

وقال ابن مسعود ومجاهد - وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه واله أنه غشى السدرة فراش الذهب.

وقال الربيع: غشيها من النور نور الملائكة.

وقوله (ما يغشى) أبلغ لفظ في هذا المعنى والغشيان لباس الشئ مما يعمه، يقال غشيه يغشاه غشيانا.

وقوله " ما زاغ البصر " اي ما ذهب عن الحق المطلوب، والزيغ الذهاب عن الحق المطلوب، يقال: زاغ بصره وقلبه يزيغ زيغا، ومنه قوله " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم "(1) ومنه قوله " فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه "(2) والزيغ الميل عن الحق " وما طغى " معناه ما طغى البصر أي ما ذهب يمينا وشمالا.

وقيل: ما ارتفع كارتفاع الظالم عن الحق لمن يريده، والطاغي الذي لا يلوي على شئ.

والطغيان طلب الارتفاع بظلم العباد: طغى يطغي طغيانا. والطاغي والباغي نظائر. وهم الطغاة والبغاة، والمعنى ما زاغ بصر محمد وما طغى

___________________________________

(1) سورة 61 الصف آية 5.

(2) سورة 3 آل عمران آية 7

[427]

أي ما جاوز القصد ولا عدل في رؤية جبرائيل، وقد ملا الافق.

وقوله " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " قسم من الله تعالى ان النبي صلى الله عليه واله رأى من آيات الله ودلائله أكبرها جنة الخلد وهي في السماء السابعة وقيل: إنه يجتمع فيها أرواح الشهداء وهي الكبرى التي تصغر عندها الآيات في معنى صفتها. والاكبر هو الذي يصغر مقدار غيره عنده في معنى صفته. وقيل رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنة قد سد الافق - في قول ابن مسعود -.

وقوله (أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى) اسماء أصنام كانت العرب تعبدها، والعزى كانت تعبدها غطفان، وهي شجرة سمرة عظيمة، واللات صنم كانت ثقيف تعبدها، ومنات كانت صخرة عظيمة لهذيل وخزاعة كانو يعبدونها فقيل لهم: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها وتعبدون معها الملائكة وتزعمون ان الملائكة بنات الله، فوبخهم الله تعالى فقال (أفرايتم) هذه (اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى) والمعنى أخبرونا عن هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل لها من هذه الآيات والصفات شئ.

قوله تعالى: (ألكم الذكر وله الانثى(21) تلك إذا قسمة ضيزى(22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاء‌هم من ربهم الهدى(23) أم للانسان ما تمنى(24) فلله الآخرة والاولى(25))

خمس آيات بلا خلاف.

[428]

قرأ اهل مكة (ضئزى) مهموز إلا ابن فليح. الباقون بلا همز.

يقول الله تعالى على وجه الانكار على كفار قريش الذين أضافوا إلى الله تعالى الملائكة بأنهم بنات الله، فقال لهم: كيف يكون ذلك وانتم لو خيرتم لا خترتم الذكر على الانثى، فكيف تضيفون إليه تعالى مالا ترضون لانفسكم، فقد أخطأتم في ذلك من وجهين: احدهما - أنكم أضفتم اليه ما يستحيل عليه ولا يليق به، فهو قسم فاسد غير جائز. الثاني - أنكم اضفتم اليه مالا ترضون لانفسكم، فكيف ترضونه لله تعالى.

وقيل: إنما فضل الذكر على الانثى لان الذكر يصلح لما لا تصلح له الانثى. وينتفع به في مالا ينتفع فيه بالانثى، ولهذا لم يبعث الله نبيا من الاناث.

وقوله (تلك إذا قسمة ضيزى) أي تلك قسمة فاسدة غير جائزة بأن تجعلوا لانفسكم الافضل ولربكم الادون، ولو كان ممن يجوز عليه الولد لما اختار الادون على الافضل، كما قال (لو أراد الله ان يتخذ ولدا لا صطفى مما يخلق ما يشاء)(1) فهذا على تقدير الجواز لا على صحة الجواز. والضيزة الجائرة الفاسدة ووزنه (فعلى) إلا أنه كسر أوله لتصح الياء من قبل انه ليس في كلام العرب (فعلى) صفة، وصفة (فعلى) نحو (حبلى) يحمل على ماله نظير. وأما الاسم فانه يجيئ على (فعلى) كقوله (فان الذكرى)(2) وتقول العرب ضزته حقه أضيزه وضأزته - لغتان - إذا أنقضته حقه ومنعته، ومنهم من يقول: ضزته - بضم الضاد - أضوزه، وانشد ابوعبيدة والاخفش:

فان تنأعنا ننتقصك وان تغب *** فسهمك مضؤز وانفك راغم(3)

ومنهم من يقول: ضيزى - بفتح الضاد - ومنه من يقول - ضأزى بالفتح

___________________________________

(1) سورة 39 الزمر آية 4.

(2) سورة 51 الذاريات آية 55.

(3) مجاز القرآن 2 / 237 الشاهد 883 والقرطبى 17 / 102

[429]

والهمز، ومنهم من يقول: ضؤزى - بضم الضاد والهمزة - وقال ابن عباس وقتادة (قسمه ضيزى) جائرة. وقال سفيان: منقوصة.

ثم قال ان تسميتكم لهذه الاصنام بأنها آلهة وللملائكة بأنها بنات الله (ماهي إلا اسماء سميتموها أنتم واباؤكم) بذلك (ما أنزل الله بها من سلطان) يعني من حجة ولا برهان إن يتبعون أي ليس يتبعون في ذلك (إلا الظن) الذي ليس بعلم (وما تهوى الانفس) أي وما تميل اليه نفوسكم (ولقد جاء‌هم من ربهم الهدى) عدل عن خطابهم إلى الاخبار عنهم بأنهم قد جاء‌هم الهدى يعني الدلالة على الحق.

وقوله (أم للانسان ما تمنى) قيل معناه: بل لمحمد صلى الله عليه واله ما تمنى من النبوة والكرامة. وقيل التقدير أللانسان ما تمنى؟ ! من غير جزاء. لا: ليس الامر كذلك، (فلله الآخرة والاولى) يعطي من يشاء ويمنع من يشاء.

وقال الجبائي معناه ليس للانسان ما تمنى من نعيم الآخرة ونعيم الدنيا، وإنما المالك لذلك الله تعالى المالك للسموات والارض، لا يعطي الكفار ما يتمنونه، وإنما يعطي الثواب من يستحقه.

[430]

قوله تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى(26) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملئكة تسمية الانثى(27) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا(28) فاعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا(29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى(30))

خمس آيات كوفي وأربع في ما عداه، عد الشاميون (فأعرض عن من تولى) ولم يعده الباقون. وعد الكوفيون (من الحق شيئا) ولم يعده الباقون وعد الكل (الحياة الدنيا) إلا الشاميون، فانهم عدوا آخر الآية (اهتدى).

يقول الله تعالى مخبرا بان كثيرا من ملائكة السموات (لا تغني شفاعتهم) أي لا تنفع شفاعتهم في غيرهم باسقاط العقاب عنهم (شيئا إلا من بعد أن باذن الله لمن يشاء) ان يشفعوا فيه ويطلق لهم ذلك (ويرضى) ذلك، وقيل: إن الغرض بذلك الانكار على عبدة الاوثان وقولهم: إنها تشفع لان الملك إذا لم تغن شفاعته شيئا فشفاعة من دونة أبعد من ذلك. وفي ذلك التحذير من الاتكال على الشفاعة، لانه إذا لم يغن شفاعة الملائكة كان شفاعة غيرهم أبعد من ذلك. ولا ينافي ما نذهب اليه من أن النبي صلى الله عليه واله والائمة والمؤمنين يشفعون في كثير من أصحاب المعاصي، فيسقط عقابهم لمكان شفاعتهم، لان هؤلاء - عندنا - لا يشفعون إلا باذن من الله ورضاه، ومع ذلك يجوز أن لا يشفعوا فيه فالزجر واقع موقعه.

ثم أخبر الله تعالى (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي لا يصدقون بالبعث ولا بالثواب ولا بالعقاب (يسمون الملائكة تسمية الانثى) قال الحسن كانوا يسمون الملائكة بنات الله. ثم قال (ومالهم به من علم) أي بما يقولونه ويسمونه (من علم) أي ليسوا عالمين بذلك (إن يتبعون إلا الظن) أي ليس يتبعون في قولهم ذلك إلا الظن الذي يجوز أن يخطئ ويصيب، وليس معهم شئ من العلم.

[431]

وقوله (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) معناه إن الظن لا يغني من العلم لانه لابد من علم يحسن الفعل حتى يجوز أن يفعل، وإن كان الظن في بعض الاشياء علامة للحسن، فما أغنى عن العلم.

ثم قال للنبي صلى الله عليه واله (فاعرض) يا محمد (عمن تولى عن ذكرنا) ولم يقر بتوحيدنا وجحد نبوتك ومال إلى الدنيا ومنافعها (ولم يرد إلا الحياة الدنيا) والتمتع فيها أي لا تقابلهم على أفعالهم واحتملهم، ولم ينهه عن تذكيرهم ووعظهم.

ثم قال (ذلك مبلغهم من العلم) ومعناه إن علمهم انتهى إلى نفع الدنيا دون نفع الآخرة، وهو صغير حقير في نفع الآخرة، فطلبوا هذا وتركوا ذلك جهلا به.

ثم قال (إن ربك) يا محمد (هو أعلم) منك ومن جميع الخلق (بمن ضل عن سبيله) أي بمن جار وعدل عن طريق الحق الذي هو سبيله (وهو أعلم بمن اهتدى) اليها فيجازي كل واحد على حسب ذلك إن عملوا طاعة أثابهم عليها وإن عملوا معصية عاقبهم عليها.

قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الارض ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى(31) ألذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى(32) أفرأيت الذي تولى(33) وأعطى قليلا وأكدى(34) أعنده علم الغيب فهو يرى(35))

خمس آيات.

[432]

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما (كبير الاثم) على لفظ الواحد. الباقون بلفظ الجمع (كبائر) وقد بيناه في سورة (حم عسق).

هذا اخبار من الله بأن له ملك (ما في السموات) وملك (ما في الارض) من جميع الاجناس بالحق (ليجزى الذين اسؤا) أي يعاقبهم (بما عملوا) من المعاصي (ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) أى يثيبهم على طاعاتهم بنعيم الجنة والخلود فيها.

ثم وصف الذين احسنوا فقال هم (الذين يجتنبون كبائر الاثم) أى عظائم الذنوب (والفواحش). والمعاصي - عندنا - كلها كبائر غير ان بعضها اكبر من بعض، فقد تكون المعصية كبيرة بالاضافة إلى مادونها، وقد تكون صغيرة بالاضافة إلى ما هو اكبر منها.

والفواحش جمع فاحشة وهي أقبح الذنوب وأفحشها، والاساء‌ة مضرة يستحق بها الذم، ولا يستحق الذم إلا مسيئ، وذم من ليس بمسئ قبيح، كذم المحسن بالقبيح، والاحسان فعل ما هو نفع في نفسه أو هو سبب للنفع ليستحق به الحمد، ولا يستحق الحمد إلا محسن.

والكبير من الذنوب هو الذي يعظم به الزجر إلى حد لا يكفره إلا التوبة منه - عند من لم يحسن إسقاط العقاب تفضلا - والصغير هو الذي يخف فيه الزجر إلى حد يصح تكفيره من غير توبة - عند من قال بالصغائر - وقوله (إلا اللمم) قال قوم: هو الهم بالمعصية من جهة مقاربتها في حديث النفس بها من غير مواقعتها ولا عزم عليها، لان العزم على الكبير كبيرة. ولكن يقرب من مكانها لشهوته لها غير عازم عليها.

وقال قوم (إلا اللمم) استثناء منقطع، لانه ليس من الكبائر ولا الفواحش، كما قال الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس(1)

___________________________________

(1) مر في 1 / 151 و 3 / 327 و 5 / 498 و 7 / 501

[433]

واليعفور من الظباء الاحمر والاعيس الابيض.

وقيل (اللمم) مقاربة الشئ من غير دخول فيه، يقال: ألم بالشئ يلم إلماما إذا قاربه.

وقيل (اللمم) الصغير من الذنوب، كما قال (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم)(1) ذهب اليه ابن عباس وابن مسعود.

وقيل (اللمم) اتيان الشئ من غير اقامة عليه قال الحسن: هو إصابة الفاحشة من غير إقامة للمبادرة بالتوبة.

ثم أخبر عن نفسه تعالى بأنه واسع المغفرة للمذنبين بقوله (إن ربك) يامحمد (واسع المغفرة هم اعلم بكم إذ أنشأكم من الارض) يعني أنشأ أباكم آدم من أديم الارض.

وقال البلخي: يجوز ان يكون المراد به جميع الخلق، من حيث خلقهم الله تعالى من الطبائع الاربعه على حسب ما أجرى العادة من خلق الاشياء عند ضرب من تركيبها، وخلق الحيوان عند تناول أغذية مخصوصة خلقها الله من الارض، فكأنه تعالى أنشأهم منها.

وقوله (وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم) أي هو أعلم بكم في هذه الاحوال كلها لم يخف عليه من أحوالكم شئ منها. ثم نهاهم تعالى فقال (فلا تزكوا أنفسكم) أي لا تعظموها ولا تمدخوها بما ليس لها، فاني أعلم بها (هو اعلم بمن اتقى) معاصيه وفعل طاعاته والفرق بينه وبين من خالفه.

وقال قوم: نهاهم أن يزكوا انفسهم بفعل الواجبات، وفعل المندوبات، وترك القبائح لانه اقرب إلى النسك والخشوع. والاجنة جمع جنين.

وهو الدفين في الشئ قال الحارث:

ولا شمطاء لم تترك شفاها *** لها من تسعة إلا جنينا(2)

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 30.

(2) اللسان (جنن)

[434]

أي إلا دفينا في قبره، ثم قال للنبي صلى الله عليه واله (أفرايت الذي تولى وأعطى قليلا واكدى) قال مجاهد: نزلت في الوليد ابن المغيرة وكان أعطى قليلا من ماله لمن يتحمل عنه العذاب في الآخرة. ثم منع ما ضمن له.

وقيل: إن (الذي أعطى قليلا واكدى) هو المنافق الذي يعطي قليلا في المعونة على الجهاد ثم يمنع وقال ابن عباس ومجاهد: معنى (وأكدى) قطع العطاء، كما يقطع البئر الماء واشتقاق (اكدى) من كدية الركية، وهي صلابة تمنع الماء إذا بلغ الحافر اليها يئس من الماء، فيقول بلغنا كديتها أي صلابتها التي تويئس من الماء، يقال: اكدى يكدي إكداء إذا منع الخير، وكديت اظفاره إذا غلظت، وكديت أصابعه إذا كلت، فلم تعمل شيئا، وكدى النبت إذا قل ريعه، والاصل واحد.

وقيل: الكدية صخرة يبلغ اليها حافر البئر فلا يمكنه الحفر.

وقوله (اعنده علم الغيب فهوى يرى) إنكار على من ذكره، وهو الذي تولى واعطى قليلا من ماله ليتحمل عنه خطأه، فقال (اعنده علم الغيب فهوى يرى) أي يعلم صدق الذي وعده ليتحمل خطاياه؟ !

[435]

قوله تعالى: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى(36) وإبراهيم الذي وفى(37) ألا تزر وازرة وزر أخرى(38) وأن ليس للانسان إلا ما سعى(39) وأن سعيه سوف يرى(40) ثم يجزيه الجزاء الاوفى(41) وأن إلى ربك المنتهى(42) وأنه هو أضحك وأبكى(43) وأنه هو أمات وأحيا(44) وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى(45) من نطفة إذا تمنى(46))

احدى عشرة آية بلا خلاف.

لما وبخ الله تعالى الذي أعطى قليلا واكدى، وبين أنه ليس عنده علم الغيب فيصدق من قال إنه يتحمل خطاياه، بين ان الذى وعده بذلك (أم لم ينبأ) أى لم يخبر بما في صحف الانبياء ولم يعلم ذلك ف‍ (أم) بمعنى (بل) وتقديره بل لم ينبأ بما في صحف موسى والصحف جمع صحيفة والمراد - ههنا - مكتوب الحكمة، لانها كتب الله.

وقوله (وابراهيم) أى ولا في صحف ابراهيم (الذى وفى) أى وفى بما يجب عليه الله - عزوجل - واستحق أن يمدح بهذا المدح.

وقال مجاهد (وابراهيم الذى وفى ألا تزر وازرة وزر اخرى) وقيل في رسالة ربه في هذا أو في غيره - ذكره سعيد بن جبير وقتادة وابن زيد - وهو أليق بالعموم.

وقوله (الذى وفى) قيل: استحق المدح بذبح ولده وإلقائه في النار وتكذيبه في الدعاء إلى الله فوفى ما عليه في جميع ذلك.

وقوله (ألا تزر وازرة وزر أخرى) أي بين الله تعالى في صحف ابراهيم وموسى أن لا تزر وازرة وزر أخرى، ومعناه أنه لا يؤاخذ احد بذنب غيره، يقال: وزر يزر إذا كسب وزرا، وهو الاثم، فهو وازر.

وقوله (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) معناه ليس له من الجزاء إلا جزاء ما عمل دون ما عمله غيره، ومتى دعا إلى الايمان من أجاب اليه فهو محمود عليه على طريق التبع كأنه من أجل عمله صار له الحمد على هذا، ولو لم يعمل شيئا ما استحق شيئا لا ثوابا ولا عقابا.

وقوله (وأن سعيه سوف يرى) معناه إن ما يفعله الانسان ويسعى فيه لابد أن يرى في ما بعد بمعنى أنه يجازى عليه من ثواب او عقاب، وبين ذلك بقوله

[436]

(ثم يجزاه الجزاء الاوفى) أي يجازى على اعماله الطاعات بأوفى ما يستحقه من الثواب الدائم، والهاء في (يجزاه) عائدة على السعي.

وقوله (وان إلى ربك المنتهى) معناه وأن إلى ثواب ربك وعقابه آخر الامور، والمنتهى هو المصير إلى وقت بعد الحال الاولى عن حال مثلها، فللتكليف منتهى، وليس للجزاء في دار الآخرة منتهى. والمنتهى قطع العمل إلى حال أخرى والمنتهى والآخر واحد.

وقوله (وأنه هو اضحك وأبكى) قيل اضحك بأن فعل سبب ذلك من السرور والحزن، كما يقال أضحكني فلان وأبكاني اذا كان سبب ذلك بما يقع عنده ضحكي وبكائي، فعلى هذا الضحك والبكاء من فعل الانسان.

وقد قال الله تعالى (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا)(1) ولو لم يكن من فعلنا لما حسن ذلك.

وقال تعالى (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون)(2) وقال (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون)(3) فنسب الضحك اليهم.

وقال الحسن: الله تعالى هو الخالق للضحك والبكاء، والضحك تفتح اسرار الوجه عن سرور وعجب في القلب، فاذا هجم على الانسان منه مالا يمكنه دفعه فهو من فعل الله الذي أضحك وابكى.

والبكاء جريان الدموع على الخد عن غم في القلب، وإنما يبكى الانسان عن فرح يمازجه تذكر حزن، فكأنه عن رقة في القلب يغلب عليها الغم.

وقوله (إنه امات واحيا) معناه انه تعالى الذي يخلق الموت فيميت به الاحياء لا يقدر على الموت غيره، لانه لو قدر على الموت غيره لقدر على الحياة، لان القادر على الشئ قادر على ضده، ولا احد يقدر على الحياة إلا الله.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 83.

(2) سورة 53 النجم آية 60.

(3) سورة 83 المطففين آية 34

[437]

وقوله (وأحيا) أي هو الذي يقدر على الحياة التي يحيي بها الحيوان لا يقدر عليها غيره من جميع المحدثات. ثم بين ايضا (أنه) الذي (خلق الزوجين الذكر) منهما (والانثى من نطفة) أي خلق الذكر والانثى من النطفة، وهي ماء الرجل والمرأة التي يخلق منها الولد (إذا تمنى) يعني إذا خرج المني منهما وجعل في الرحم خلق الله تعالى منها الولد إما ذكرا واما انثى، ومعنى تمنى أي تلقى على تقدير في رحم الانثى، واصله التقدير يقولون: منى يمني فهو مان إذا قدر قال الشاعر: حتى تقلاقي ما يمنى لك الماني(1) أى يقدرو منه التمني تقدير المعنى للاستمتاع به.

قوله تعالى: (وأن عليه النشأة الاخرى(47) وانه هو اغنى واقنى(48) وأنه هو رب الشعرى(49) وأنه أهلك عادا الاولى(50) وثمود فما أبقى(51) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى(52) والمؤتفكة أهوى(53) فغشيها ما غشى(54) فبأي آلآء ربك تتمارى(55))

تسع آيات بلا خلاف.

قرأ اهل البصرة غير سهل (عاد الولى) مدغمة بلا همز، وعن نافع خلاف فانه ادغم وترك الهزة إلا قالون، فانه همز، الباقون بالهمز والاظهار. من أدغم القى حركة الهمزة على اللام، فانضمت ثم سكنها وحذف همزة الوصل، ولقيتها

___________________________________

(1) مر في 1 / 319 وهو في القرطبي 17 / 118

[438]

النون فأدغمت في اللام، ونظير ذلك قول العرب: قم الان عنا، يريدون ثم الآن عنا. وقولهم: صم الثنين أى صم الاثنين. الباقون تركوه على حاله.

وقرأ حمزة وحفص عن عاصم (وثمود) بلا تنوين. الباقون بتنوين.

قال الفراء: وقوله (وآتينا ثمود الناقة)(1) ترك صرفها لانه ليس فيها الف.

لما بين الله تعالى انه هو الذى يخلق الذكر والانثى من النطفة إذا تمنى ذكر (وان عليه النشأة الاخرى) وهي البعثة يوم القيامة، والنشأة الصنعة المخترعة خلاف المسببة، وهما نشأتان: الاولى في الدنيا، والثانية في الآخرة.

ثم قال " وانه هو اغنى واقنى " ومعناه أغنى بالمال واقنى باصول الاموال.

وقال مجاهد: اقنى أي اخدم.

وقال الزجاج: ومعناه اغنى بعد الفقر واقنى بالمال الذى يقتنى.

وقيل: معنى (اقنى) انه جعل له اصل مال، وهو القنية التي جعلها الله للعبد، فاما (اغنى) فقد يكون بالعافية والقوة والمعرفة قال الاعشى:

فاقنيت قوما واعمرتهم *** واخربت من ارض قوم ديارا(2)

اى جعل لهم قنية.

واصل (اقنى) الاقتناء، وهو جعل الشئ للنفس على اللزوم، فمنه القناة، لانها مما يقتنى ومن ذلك اقنى الانف، لانه كالقناة في ارتفاع وسطه ودقة طريقه. والقنو العذق قبل ان يبلغ لانه كالذى يقتنى في اللزوم حتى يبلغ، والمقاناة المشاكلة في اللون.

وقوله (وأنه هو رب الشعرى) معناه وان الله الذى خلق الشعرى واخترعها. والشعرى النجم الذى خلف الجوزاء وهو احد كوكبي ذراع الاسد وقم المرزم، وكانوا يعبدونهما في الجاهلية - في قول مجاهد وقتادة - ثم قال " وانه اهلك عادا الاولى " قيل هو عاد بن ارم، وهم الذين اهلكهم الله بريح صرصر عاتية. وعاد

___________________________________

(1) سورة 17 الاسرى آية 59.

(2) ديوانه (دار بيروت) 82 وروايته (فأقللت)

[439]

الآخرة أهلكوا ببغي بعضهم على بعض، فتفاتوا بالقتل - ذكره ابن اسحاق - وقال الحسن: الاولى أي قبلكم، وإنما فتحت (أن) في المواضع كلها، لانها عطف على قوله " أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى " وبكذا وكذا، فلما حذف الباء نصبه.

وقوله " وثمود فما ابقى " نصب ب‍ (اهلك) الذي قبله، وتقديره وأهلك ثمودا فما ابقى، ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله " فما أبقى " لان (ما) لا يعمل ما بعدها في ما قبلها، لا تقول: زيدا ما ضربت، لانها من الحروف التي لها صدر الكلام، كألف الاستفهام.

وقوله " وقوم نوح من قبل " معناه وأهلكنا قوم نوح من قبل قوم صالح " إنهم كانوا هم اظلم وأطغى " فالاظلم الاعظم ظلما، والاطغى الاعظم طغيانا، فالظلم يتعاظم كما يتعاظم الضرر، وعظم الظلم بحسب عظم الزاجر عنه. وقيل: مكث نوح في قومه يدعوهم إلى الله وكلما دعاهم فما يزدادون إلا تتابعا في الضلال وتواصيا بالتكذيب لامرالله - في قول قتادة - وقوله " والمؤتفكة " يعني المنقلبة، وهي التي صار اعلاها أسفلها، واسفلها اعلاها ائتفكت بهم تؤتفك ائتفاكا، ومنه الافك الكذب، لانه قلب المعنى عن وجهه.

ومعنى " اهوى " نزل بها في الهوى، ومنه الهوى: أهوى بيده ليأخذ كذا، وهوى هواء إذا نزل في الهواء، فأما إذا نزل في سلم أو درجة، فلا يقال: أهوى، ولا هوى.

وقيل: قرية سدوم، قوم لوط، رفعها جبرائيل إلى السماء ثم اهوى بها قالبا لها - في قول مجاهد وقتادة - وقوله " فغشاها ما غشى " يعني من الحجارة المسومة التي رموا بها من السماء - في قول قتادة وابن زيد - والمعنى فجللها من العذاب ما يعمها حتى أتى عليها (ما غشى) وفيه تفخيم شأن العذاب الذي رماها به ونالها من جهة إبهامه في قوله " ما غشى " كأنه قد جل الامر عن أن يحتاج إلى تفصيل وصفه.

[440]

وقوله " فبأي آلاء ربك تتمارى " معناه بأي نعم ربك ترتاب يا بن آدم ! - ذكره قتادة - وإنما قيل بعد تعديد النعم " فبأي آلاء‌ربك تتمارى " لان النقم التي عددت على من ذكر نعم من الله علينا لما لنا في ذلك من اللطف في الانزجار عن القبيح مع أنه نالهم ما نالهم بكفرهم فبأي نعم ربك أيها المخاطب تتمارى حتى تكون مقارنا لهم في سلوك بعض مسالكهم، أي فما بقيت لك شبهة بعد تلك الاهوال في جحد نعمه.

قوله تعالى: (هذا نذير من النذر الاولى(56) أزفت الآزفة(57) ليس لها من دون الله كاشفة(58) أفمن هذا الحديث تعجبون(59) وتضحكون ولا تبكون(60) وأنتم سامدون(61) فاسجدوا لله واعبدوا(62))

سبع آيات بلا خلاف.

قوله " هذا نذير " إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه واله - في قول قتادة - وقال ابومالك: هو إشارة إلى القرآن " من النذر الاولي " في صحف إبراهيم وموسى. يقول الله تعالى " هذا " يعني محمدا " نذير " أي مبين لما ينبغي أن يحاذر منه وما ينبغي ان يرغب فيه بأحسن البيان، وهذه صفة رسل الله عليهم السلام. والنبي أحسن الناس انذارا وأكرمهم إبلاغا لما امر الله بتبليغه إلى أمته.

وقوله " من النذر الاولى " من جملة الرسل الذين بعثهم الله، وإن كان هو آخرهم، كما تقول: هو من بني آدم، وإن كان أحدهم.

وقوله " ازفت الآزفة " معناه دنت القيامة، وهي الدانية.

[441]

قال النابغة الذبياني

ازف الترحل غير ان ركابنا *** لما تزل برحالنا وكأن قد(1)

وقال كعب بن زهير:

بان الشباب وامسى الشيب قد أزفا *** ولا ارى لشباب ذاهب خلفا(2)

وإنما سميت القيامة آزفة، وهي الدانية، لان كل آت قريب، فالقيامة قد قربت بالاضافة إلى ما مضى من المدة من لدن خلق الله الدنيا.

وقوله " ليس لها من دون الله كاشفة " معناه لا يقدر أن يقيمها إلا الله وحده، وليس يجلي عنها ويكشف عنها سواه. وقيل كاشفة أي جامعة كاشفة أي نفس كاشفة، ويجوز ان يكون مصدرا مثل العافية والعاقبة والواقية، فيكون المعنى ليس لها من دون الله كشف أي ذهاب أي لا يقدر أحد غير الله على ردها.

وقال الحسن: هو مثل قوله " لا يجليها لوقتها إلا هو "(3) وقيل: كاشفة بمعنى الانكشاف كقوله " ليس لوقعتها كاذبة "(4) ومثله " ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم "(5) أي خيانة.

والسامد اللاهي، يقال دع عنك سمودك أي امرك، وكأنه المستمر في اللهو، يقال: سمد يسمد سمودا فهو سامد، وقال الشاعر:

قيل قم فانظر اليهم *** ثم دع عنك السمودا(6)

ويقال للجارية: اسمدي لنا أى غني.

وقوله " فاسجدوا لله واعبدوا " أمر من الله تعالى بالسجود له والصلاة وان يعبدوه خالصا مخلصا لا يشركون به احدا في العبادة، فتعالى الله عن ذلك، وفي الآية دلالة على ان السجود - ههنا - فرض على ما يذهب اليه اصحابنا لان الامر يقتضي الوجوب.

___________________________________

(1) القرطبى 17 / 122 والطبرى 27 / 43.

(2) تفسير الطبري 27 / 43.

(3) سورة 7 الاعراف آية 186.

(4) سورة 56 الواقعة آية 2.

(5) سورة 5 المائدة آية 14.

(6) اللسان (سمد)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404144

  • التاريخ : 20/04/2024 - 05:12

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net