00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الشورى 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

42 - سورة الشورى

مكية في قول قتادة ومجاهد، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وخمسون آية في الكوفى، وخمسون في البصري والمدنيين.

الآية: 1 - 25

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم(1) عسق(2) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم(3) له ما في السموات وما في الارض وهو العلي العظيم(4) تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملئكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم(5))

خمس آيات في الكوفى وثلاث في ما عداه عد الكوفيون (حم) وعدوا (عسق) ولم يعده الباقون.

قال ابوعبدالله بن خالويه سألت ابن مجاهد، فقلت: إن القاف أبعد من الميم، فلم اظهر حمزة النون عند الميم في (طسم) ولم يظهرها عند القاف في (عسق) فقال والله ما فكرت في هذا قط، قال ابوعبدالله الحجة في ذلك ان (طسم) اول سورة النمل ثم جاء‌ت سورتان فيهما الميم، فبين ليعلم ان الميم زائدة على هجاء

[141]

السين واتفق اهل الكوفة على ان لم يفردوا السين بين حرفين في الكلام هذا على الاصل.

واما الحجة من جهة التخفي، فان النون تدغم في الميم وتخفى عند القاف والمخفي بمنزلة المظهر، فلما كره التشديد في (طسم) اظهروا لما كان المخفي بمنزلة الظاهر ولم يحتج إلى اظهار القاف، قال الفراء: ذكر عن ابن عباس انه قال (حمسق) بلا عين. وقال السين كل فرقة تكون. والقاف كل جماعة كانت، قال الفراء وكانت في بعض مصاحف عبدالله مثل ذلك.

وقرأ ابن كثير وحده (يوحى اليك) بفتح الحاء على مالم يسم فاعله، فعلى هذا يكون اسم الله مرتفعا بمحذوف يدل عليه المذكور قال الشاعر:

ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح(1)

أي يبكيه ضارع، فيكون التقدير يوحى اليك يوحي الله.

قال ابوعلي: ذكر أن مثل هذه السورة أوحى إلى من تقدم من الانبياء، فعلى هذا يكون التقدير يوحي اليك هذه السورة كما اوحى إلى الذين، وقال الزجاج، والفراء: يقال إن (حمعسق) اوحيت إلى كل نبي كما اوحيت إلى محمد صلى الله عليه واله قال ابن عباس: وبها كان علي عليه السلام يعلم الفتن.

وقرأ الباقون يوحي - بكسر الحاء - فيكون على هذا إسم الله مرتفعا بأنه فاعل (يوحي) وقد قرئ شاذا (نوحي) بالنون مع كسر الحاء فعلى هذا يحتمل رفع اسم الله لوجهين: احدهما - ان يكون رفعا بالابتداء. والثاني - ان يكون مرتفعا بفعل مقدر يدل عليه (يوحي) الاول، كما قلناه في من فتح الحاء. ويجوز أن يكون بدلا من الضمير. ويجوز أن يجعل اسم الله خبر ابتداء محذوف، وتقديره هو الله العزيز الحكيم.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 4 / 310 و 6 / 329 و 7 / 440

[142]

وقرأ ابوعمرو وعاصم في رواية أبي بكر (يكاد) بالياء (ينفطرن) بالياء والنون، لان تأنيث السموات غير حقيقي، وقد تقدم الفعل ولذلك أتت (يتفطرن) لما تأخر الفعل عن السموات وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة في رواية حفص (تكاد) بالتاء لتأنيث السموات (وينفطرن) بالياء والنون لما قدمناه.

وقرأ نافع والكسائي (يكاد) بالياء لما قلناه من ان التأنيث غير حقيقي (يتفطرن) بياء، وتاء و (يتفطرن) في معنى تنفطر وهو مضارع فطرته فتفطر وفطرته بالتخفيف فانفطر، ومعنى بتفطرن يتشققن.

قيل إنما عدوا (حم) و (عسق) آية ولم يعد (طس) لان (طس) لما انفرد عن نظيره من (طسم) فاشبه الاسم حمل عليه، ولما لم ينفرد (حم) عن نظيره جرى عليه حكم الجملة التامة التي تعد آية من اجل انها آية. فلما اجتمع في (طس) الانفراد عن النظير وأشبه (قابيل) وكل واحد من هذين الوجهين يقتضي مخالفة حكم (طسم) وجب الخلاف. وأما إنفراد (حاميم) بالزنة فقط، لم يجب الخلاف كما وجب في ما اجتمع فيه سببان. وفى (حم) من الفائدة تعظيم الله - عزوجل - السورة وتسميتها وتشريفا لها وتنويها باسمها وإجراؤها في التفصيل مجرى ما يعقل في فضله على مالا يعقل من الاجسام والاعراض.

وقيل ان (حم عسق) انفردت بأن معاينها اوحيت إلى سائر الانبياء، فلذلك خصت بهذه التسمية. وقيل إنما فصل (حم عسق) من سائر الحواميم ب‍ (عسق) لان جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح به إلا هذه السورة فانه دل عليه دلالة التضمين بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب، والوحي أعم من الكتاب في معناه إلا انه دال في هذا الموضع على الكتاب بهذه الصفة.

وقوله (كذلك يوحي اليك وإلى الذين من قبلك) قيل في المشبه به في قوله (كذلك) وجها:

[143]

احدهما - كالوحي الذي تقدم يوحي اليك. والثاني - هذا الوحي الذي يأتي في هذه السورة يوحى اليك، لان مالم يكن حاضرا يراه صلح فيه (هذا) لقرب وقته و (ذلك) لبعده في نفسه. ومعنى التشبيه في (كذلك) أن بعضه كبعض في انه حكمة وصواب بما تضمنه من الحجج والمواعظ والفوائد التي يعمل عليها في الدنى (وإلى الذين من قبلك) معناه مثل ذلك اوحى إلى الذين من قبلك من الانبياء وتعبدهم بشريعة كما تعبدك بمثل ذلك.

وقوله (العزيز الحكيم) معناه القادر الذي لا يغالب الحكيم في جميع أفعاله. ومن كان بهاتين الصفتين خلصت له الحكمة في كل ما يأتي به، لانه العزيز الذي لا يغالب والغني الذي لا يحتاج إلى شئ، ولا يجوز أن يمنعه مانع مما يريده، وهو الحكيم العليم بالامور لا يخفى عليه شئ منها لا يجوز أن يأتي إلا بالحكمة. فاما الحكيم غيره يحتاج فلا يوثق بكل ما يأتي به إلا أن يدل على ذلك الحكمة دليل.

قوله (له ما في السموات والارض) معناه أنه مالكهما ومدبرهما وله التصرف فيهما ولا احد له منعه من ذلك ويكون (العلي) مع ذلك بمعنى المستعلي على كل قادر العظيم في صفاته التي لا يشاركه فيها احد.

وقوله (تكاد السموات يتفطرن من فوقهن " قيل في معناه قولان: احدهما - قال ابن عباس وقتادة والضحاك: يتفطرن من فوقهن من عظمة الله وجلاله. والثاني - ان السموات تكاد تتفطرن من فوقهن استعظاما للكفر بالله والعصيان له مع حقوقه الواجبة على خلقه، وذلك على وجه التمثيل ليس لان السموات تفعل شيئا او تنكر شيئا، وإنما المراد ان السموات لو انشقت لمعصيته استعظاما لها أو لشئ من الاشياء لتفطرت استعظاما لكفر من كفر بالله وعبد معه غيره.

[144]

وقوله (الملائكة يسبحون بحمد ربهم) معناه ينزهونه عما لا يجوز عليه من صفات، ومالا يليق به من افعال (ويستغفرون لمن في الارض) من المؤمنين. وفي ذلك صرف الاهلاك لهم ولغيرهم من اهل الارض يصرفه عنهم.

ثم قال (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) لعباده عصيانهم تارة بالتوبة وتارة ابتداء منه كل ذلك تفضلا منه ورأفة بهم ورحمة لهم.

قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل(6) وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير(7) ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون مالهم من ولي ولا نصير(8) أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شئ قدير(9) وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب(10))

خمس آيات بلا خلاف.

هذا اخبار من الله تعالى (أن الذين اتخذوا من دونه اولياء) يعني الكفار الذين اتخذوا الاصنام آلهة ووجهوا عبادتهم اليها. وجعلوهم أولياء لهم وانصارا من دونه.

[145]

وإنما قال (من دونه) لان من اتخذ وليا بأمر الله لم يتخذه من دون الله.

وقوله (الله حفيظ عليهم) أي حافظ عليهم أعمالهم وحفيظ عليها بأنه لا يعزب عنه شئ منها، وانه قد كتبها في اللوح المحفوظ مظاهرة في الحجة عليهم وما هو اقرب إلى افهامهم إذا تصوروها مكتوبة لهم وعليهم.

وقوله (وما انت عليهم بوكيل) معناه إنك لم توكل بحفظ اعمالهم، فلا يظن ظان هذا، فانه ظن فاسد وإنما بعثك الله نذيرا لهم وداعيا إلى الحق ومبينا لهم سبيل الرشاد، وقيل: معناه إنك لم توكل عليهم أي تمنعهم من الكفر بالله، لانه قد يكفر من لا يتهيأ له منعه من كفره بقتله.

وقوله (وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا) معناه مثل ما اوحينا إلى من تقدمك من الانبياء بالكتب التي أنزلناها عليهم أوحينا اليك ايضا قرآنا عربيا لتنذر أم القرى أي لتخوفهم بما فيه من الوعيد وتبشرهم بما فيه من الوعد.

قال السدي: أم القرى مكة والتقدير لتنذر اهل أم القرى (ومن حولها) من سائر الناس.

وسميت أم القرى، لانه روي أن الله تعالى دحا الارض من تحت الكعبة قال المبرد: كانت العرب تسمي مكة أم القرى (ومن حولها) ومن يطيف بها (وتنذر يوم الجمع) معناه وتخوفهم يوم الجمع أيضا، ونصب (يوم) لانه مفعول ثان وليس بظرف، لانه ليس ينذر في يوم الجمع، وإنما يخوفهم عذاب الله يوم الجمع.

وقيل هو يوم القيامة (لا ريب فيه) أي لا شك فيه وفى كونه. ثم قسم اهل يوم القيامة فقال (فريق) منهم (في الجنة) بطاعتهم (وفريق) منهم (في السعير) جزاء على معاصيهم.

ثم قال (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) معناه الاخبار عن قدرته بأنه لو شاء ان يلجئهم إلى الايمان ودين الاسلام، لكان

[146]

قادرا على ذلك وفعله، لكن ذلك يبطل الغرض بالتكليف وهو ان يفعلو العبادة على وجه يستحقون بها الثواب، ومع الالجاء لا يمكن ذلك، فلذلك لم يشأ ذلك. فالآية تفيد قدرته على الالجاء وتأتي ذلك.

ثم قال (ولكن يدخل من يشاء في رحمته) أي يدخلهم في الجنة وثوابها من يشاء منهم إذا اطاعوا واجتنبوا معاصيه وبين أن (الظالمين) نفوسهم بارتكاب معصية الله (مالهم من ولي) يواليهم (ولا نصير) يمنعهم من عذاب الله إذا اراد فعله بهم جزاء على معاصيهم، ثم قال (أم اتخذوا من دونه اولياء) معناه بل هؤلاء الكفار اتخذوا من دون الله أولياء من الاصنام والاوثان يوالونهم وينصرونهم.

ثم قال (فالله هو الولي) معناه المستحق في الحقيقة للولاية والتقرب اليه هو الله تعالى دون غيره (وهو يحيي الموتى وهو على كل شئ قدير) يصح ان يكون مقدورا له قادر. ومن كان بهذه الصفة فهو الذي يجب ان يتخذ وليا.

وقوله (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) معناه ان الذي تختلفون فيه من أمر دينكم ودنياكم وتتنازعون فيه (فحكمه إلى الله) يعني أنه الذي يفصل بين المحق فيه وبين المبطل، لانه العالم بحقيقة ذلك، فيحكم على المحق باستحقاق الثواب وعلى المبطل باستحقاق العقاب.

وقيل: معناه فحكمه إلى الله، لانه يجب ان يرجع إلى أمره في الدنيا وفصل القضاء في الآخرة.

ثم قال لنبيه قل لهم (ذلك) الذي وصفته من أنه يحيي الموتى وهو على كل شئ قدير (هو الله ربي) ومدبري (عليه توكلت) بمعنى فوضت أمري اليه واسندت ظهري اليه (واليه انيب) أي ارجع اليه في جميع أموري واحوالي.

[147]

قوله تعالى: (فاطر السموات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير(11) له مقاليد السموات والارض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شئ عليم(12) شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ألله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب(13) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاء‌هم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب(14) فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواء‌هم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم ألله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم ألله يجمع بيننا وإليه المصير(15))

خمس آيات بلا خلاف.

لما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله قل لهم الذي وصفته بأنه الذي يحيي ويميت

[148]

هو ربي واليه ارجع في أموري كلها، زاد في صفاته تعالى (فاطر السموات والارض) أي هو فاطر السموات، ومعنى فاطر خالق السموات ابتداء.

وحكي عن ابن عباس انه قال لم اكن أعرف معنى (فاطر) حتى تحاكم إلى اعرابيان في بئر فقال احدهما انا فطرته بمعنى أنا ابتدأته، والفطر ايضا الشق.

ومنه قوله تعالى (تكاد السموات يتفطرن منه) وقوله (جعل لكم من انفسكم أزواجا) يعني اشكالا مع كل ذكر أنثى يسكن اليها ويألفها. ومن الانعام أزواجا من الضان اثنين ومن المعز اثنين ومن البقر اثنين ومن الابل اثنين، ذكورا وإناثا ووجه الاعتبار بجعل الازواج ما في ذلك من إنشاء الشئ مالا بعد حال على وجه التصريف الذي يقتضي الاختيار، وجعل الخير له أسباب تطلب كما للشر أسباب تجتنب، فخعل لكل حيوان زوجا من شكله على ما تقتضيه الحكمة فيه.

وقوله (يذرؤكم فيه) أي يخلقكم ويكثركم فيه يعني في التزويج وفي ما حكم فيه.

وقال الزجاج والفراء: معناه يذرؤكم به أي بما جعل لكم أزواجا وانشد الازهري قول الشاعر يصف امرأة:

وارغب فيها عن لقيط ورهطه *** ولكنني عن سنبس لست ارغب(1)

أي ارغب بها عن لقيط.

فالذرء إظهار الشئ بايجاده يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرء‌ا واصله الظهور، ومنه ملح ذرآني لظهور بياضه. والذرية لظهورها ممن هي منه.

وقوله (ليس كمثله شئ) قيل في معناه ثلاثة اقوال: احدها - إن الكاف زائدة وتقديره ليس مثل الله شئ من الموجودات ولا المعدومات كما قال أوس بن حجر:

___________________________________

(1) مر في 6 / 278

[149]

وقتلى كمثل جذوع النخيل *** يغشاهم سيل منهر(1)

وقال آخر:

سعد بن زيد إذا ابصرت فضلهم *** ما إن كمثلهم في الناس من احد(2)

وقال الراجز: وصاليات ككما توثقين(3)

الثاني - قال الرماني: إنه بلغ في نفي الشبيه إذا نفى مثله، لانه يوجب نفي الشبهة على التحقيق والتقدير، وذلك انه لو قدر له مثل لم يكن له مثل صفاته ولبطل ان يكون له مثل ولنفرده بتلك الصفات، وبطل ان يكون مثلا له فيجب أن يكون من له مثل هذه الصفات على الحقيقة لامثل له أصلا إذ لو كان له مثل لم يكن هو بصفاته وكان ذلك الشئ الآخر هو الذي له تلك الصفات، لانها لا تصح إلا لواحد في الحقيقة وهذا لا يجوز أن يشبه بشبه حقيقة، ولا بلاغة فوجب التبعيد من الشبه لبطلان شبه الحقيقة.

الثالث - وجه كان المرتضى علي بن الحسين الموسوى (رحمة الله عليه) جارانا فيه فاتفق لي بالخاطر وجه قلته فاستحسنه واستجاده، وهو ان لا تكون الكاف زائدة ويكون المعنى انه نفى ان يكون لمثله مثل وإذا ثبت انه لا مثل لمثله فلا مثل له ايضا.

لانه لو كان له مثل لكان له امثال، لان الموجودات على ضربين: احدهما - لا مثل له، كالقدرة فلا أمثال لها ايضا. والثاني - له مثل كالسواد والبياض واكثر الاجناس فله امثال ايضا وليس في الموجودات ماله مثل واحد فحسب، فعلم بذلك ان المراد انه لا مثل له اصلا من حيث لا مثل لمثله.

وقوله (وهو السميع البصير) معناه انه على صفة يجب ان يسمع المسموعات

___________________________________

(1، 2، 3) تفسير الطبري 25 / 8 والقرطبى 16 / 8 والشوكاني 4 / 514

[150]

إذا وجدت ويبصر المبصرات إذا وجدت وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به، وفائدة ذكره - ههنا - هو انه لما نفى ان يكون له شبه على وجه الحقيقة والمجاز، وعلى وجه من الوجوه بين انه مع ذلك سميع بصير، لئلا يتوهم نفي هذه الصفة له على الحقيقة فقط، فانه لا مدحة في كونه مما لا مثل له على الانفراد، لان القدرة لا مثل لها، وإنما المدحة في انه لا مثل له مع كونه سميعا بصيرا، وذلك يدل على التفرد الحقيقي.

وقوله (له مقاليد السموات والارض) معناه له مفاتيح الرزق منها بانزال المطر من السماء واستقامة الهواء فيها وابنات الثمار والاقوات من الارض.

ثم قال (يبسط الرزق لمن يشاء) أي يوسعه له (ويقدر) أي يضيق لمن يشاء ذلك على ما يعلمه من مصالحهم (إنه بكل شئ عليم) مما يصلحهم او يفسدهم.

ثم خاطب تعالى خلقه فقال (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) معنى شرع بين وأظهر، وهو (الذي اوحينا اليك) يا محمد صلى الله عليه واله وهو (ما وصينا به إبراهيم وموصى وعيسى) وسائر النبيين، وهو أنا أمرناهم بعبادة الله والشكر له على نعمه وطاعته في كل واجب وندب مع اجتناب كل قبيح، وفعل ما أمر به مما أدى إلى التمسك بهذه الاصول مما تختلف به شرائع الانبياء.

ثم بين ذلك فقال (ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وموضع (ان أقيموا) يحتمل ثلاثة اوجه من الاعراب: احدها - ان يكون نصبا بدلا من (ما) في (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا).

الثاني - ان يكون جرا بدلا من الهاء في (به).

الثالث - ان يكون رفعا على الاستئناف، وتقديره هو ان أقيموا الدين.

[151]

وقوله (كبر على المشركين ما تدعوهم اليه) معناه كبر عليهم واستعظموا كونك داعيا إلى الله، ودعاؤك يا محمد وأنث مثلهم بشر ومن قبيلتهم إنك نبي، وليس لهم ذلك، لان الله يجتبى لرسالته من يشاء على حسب ما يعلم من قيامه باعباء الرسالة وتحمله لها، فاجتباك الله تعالى كما اجتبى موسى ومن قبلك من الانبياء، ومعنى (يجتبى) يختار.

وقوله (ويهدي اليه من ينيب) معناه ويهديه إلى طريق الثواب ويهدي المؤمنين الذين أنابوا اليه وأطاعوه.

وقيل: يهديه إلى طريق الجنة والصواب بأن يلطف له في ذلك إذا علم ان له لطفا، ثم قال (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاء‌هم العلم بغيا بينهم) ومعناه إن هؤلاء الكفار لم يختلفوا عليك إلا بعد أن اتاهم طريق العلم بصحة نبوتك، فعدلوا عن النظر فيه بغيا بينهم للحسد والعداوة والحرص على طلب الدنيا وإتباع الهوى.

وقيل: إن هؤلاء لم يختلفوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة، لكن فعلوا ذلك للبغي.

ثم قال (ولولا كلمة سبقت من ربك) بأن اخبر بأنه يبعثهم (إلى أجل مسمى) ذكر انه يبقيهم اليه لم يجز مخالفته، لانه يصير كذبا (لقضي بينهم) أي لفصل بينهم الحكم وانزل عليهم ما يستحقونه من العذاب عاجلا.

ثم قال (وإن الذين اورثوا الكتاب من بعدهم) قال السدي: يعني اليهود والنصارى من بعد الذين أورثوا الكتاب الذي هو القرآن (لفي شك منه مريب) أي من الدين.

وقال غيره: الذين اورثوا الكتاب من بعد اليهود والنصارى في شك من الدين مريب، وهم الذين كفروا بالقرآن وشكوا في صحته وانه من عند الله من سائر الكفار والمنافقين.

وقوله (فلذلك فادع واستقم) معناه فالى ذلك فادع، كما قال (بأن ربك أوحى لها)(1) أي اوحى اليها يقال دعوته لذا وبذا وإلى ذا.

___________________________________

(1) سورة 99 الزلزال آية 5

[152]

وقيل: معنا فلذلك الدين فادع.

وقيل: معناه فلذلك القرآن فادع.

والاول احسن واوضح وقوله (ولا تتبع أهواء‌هم) نهي للنبي صلى الله عليه واله عن إتباع ما هو به المشركون والمراد به أمته.

وقيل: ثلاث من كن فيه نجا: العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والخشية في السر والعلانية. وثلاث من كن فيه هلك: شح مطاع، وهوى متبع، وعجب المرء بنفسه.

وقوله (وقل آمنت بما انزل الله من كتاب) أي قل لهم صدقت بما انزل الله من القرآن وبكل كتاب انزله الله على الانبياء قبلي (وأمرت لاعدل بينكم). وقيل في معناه قولان: احدهما - امرت بالعدل. والثاني - أمرت كي اعدل. وقل لهم أيضا (الله ربنا وربكم) أي مدبرنا ومدبركم ومصرفنا ومصرفكم (لنا اعمالنا ولكم اعمالكم) ومعناه أن جزاء أعمالنا لنا من ثواب او عقاب وجزاء اعمالكم لكم من ثواب او عقاب، لا يؤاخذ احد بذنب غيره، كما قال (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(1) (لا حجة بيننا وبينكم) أي لا خصومة بيننا - في قول مجاهد وابن زيد - أي قد ظهر الحق فسقط الجدال والخصومة.

وقيل: معناه إن الحجة لنا عليكم لظهورها، وليست بيننا بالاشتباه والالتباس.

وقيل: معناه لا حجة بيننا وبينكم لظهور أمركم في البغي علينا والعداوة لنا والمعاندة، لا على طريق الشبهة، وليس ذلك على جهة تحريم إقامة الحجة، لانه لم يلزم قبول الدعوة إلا بالحجة التي يظهر بها الحق من الباطل فاذا صار الانسان إلى البغي والعداوة سقط الحجاج بينه وبين اهل الحق.

ثم قال (الله يجمع بيننا يوم القيامة واليه المصير) أي المرجع حيث لا يملك احد الحكم فيه ولا الامر والنهي غيره، فيحكم بيننا بالحق. وفي ذلك غاية التهديد. وقيل: إن ذلك كان قبل الامر بالقتال والجهاد.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 164 وسورة 17 الاسرى آية 15 وسورة 35 آية فاطر آية 18 وسورة 39 الزمر آية 7

[153]

قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد(16) ألله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب(17) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألآ إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد(18) ألله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز(19) من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب(20))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى إن (الذين يحاجون في الله) أي يجادلون في الله بنصرة مذهبهم (من بعد ما استجيب له) وقيل في معناه قولان: احدهما - من بعد ما استجاب له الناس لظهور حجته بالمعجزات التي اقامها الله - عزوجل - والآيات التي أظهرها الله فيه، لانهم بعد هذه الحال في حكم المعاندين بالبغي والحسد.

قال مجاهد: كانت محاجتهم بأن قولوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن أولى بالحق منكم، فلذلك قال الله تعالى " حجتهم

[154]

داحضة " لان ما ذكروه لا يمنع من صحة نبوة نبينا بأن ينسخ الله كتابهم وما شرعه النبي الذي كان قبله.

والثاني - معناه من بعد ما استجيب للنبي دعاء‌ه بالمعجزات التي اجاب الله تعالى دعاء‌ه في إقامتها له.

قال الجبائي: أجاب الله تعالى دعاء‌ه في كفار بدر حتى قتلهم الله بأيدي المؤمنين، وأجاب دعاء‌ه عليهم بمكة وعلى مضر من القحط والشدائد التي نزلت بهم، وما دعا به من إنجاء الله المستضعفين من أيدي قريش فأنجاهم الله وخلصهم من ايديهم وغير ذلك مما يكثر تعداده، فقال الله تعالى " حجتهم داحضة عند ربهم " وهي شبهة، وإنما سماها حجة - على اعتقادهم - فلشبهها بالحجة أجرى عليها اسمها من غير اطلاق الصفة بها، و (داحضة) معناه باطلة " عند ربهم وعليهم غضب من الله " أي لعن واستحقاق عقاب والاخبار به عاجلا " ولهم " مع ذلك " عذاب شديد " يوم القيامة.

وقوله تعالى " الله الذي انزل الكتاب " يعني القرآن " بالحق والميزان " فقوله " بالحق " فيه دلالة على بطلان مذهب المجبرة: بأن الله أنزله ليكفروا به واراد منهم الضلال والعمل بالباطل.

وانزل " الميزان " يعني العدل، لان الميزان إظهار التسوية من خلافها في ما للعباد اليه الحاجة في المعاملة او التفاضل ومثل الموازنة المعارضة والمقابلة والمقايسة، فالقرآن إذا قوبل بينه وبين ما يدعونه، وقويس بينهما ظهرت فضيلته، وبانت حجته، وعلمت دلالته، فلذلك وصفه بالميزان.

وقال مجاهد وقتادة: الميزان - ههنا - العدل.

وقال الجبائي: انزل الله عليهم الميزان من السماء وعرفهم كيف يعملون به بالحق وكيف يزنون به.

وقيل: إن الحق الذي انزل به الكتاب وصفه على عقد معتقده على ما هو به من ثقة. والحق قد يكون بمعنى حكم ومعنى امر او نهي ومعنى وعد او وعيد ومعنى دليل.

[155]

وقوله " وما يدريك " يا محمد ولا غيرك " لعل الساعة قريب " إنما قال (قريب) مع تأنيث الساعة، لان تأنيثها ليس بحقيقي. وقيل: التقدير لعل مجيئها قريب. وإنما اخفى الله تعالي الساعة ووقت مجيئها عن العباد، ليكونوا على خوف ويبادروا بالتوبة، ولو عرفهم عنها لكانوا مغريين بالقبيح قبل ذلك تعويلا على التأني بالتوبة.

وقوله " يستعجل بها " يعني بالساعة " الذين لا يؤمنون بها " أي لا يقرون بها ولا يصدقون لجهلهم بما عليهم في مجيئها من استحقاق العقاب وما للمؤمنين من الثواب.

وقال " والذين آمنوا " أي صدقوا بها " مشفقون منها " أي خائفون من مجيئها لعلمهم بما فيها من استحقاق العقاب والاهوال فيحذرونها " ويعلمون انها الحق " أي ويعلمون ان مجيئها الحق الذي لا خلاف فيه.

ثم قال تعالى ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد أي يجادلون في مجيئها على وجه الانكار لها لفي ضلال عن الصواب وعدول عن الحق بعيد.

ثم قال تعالى " الله لطيف بعباده " فلطفه بعباده إيصاله المنافع اليهم من وجه يدق على كل عاقل إدراكه، وذلك في الارزاق التي قسمها الله لعباده وصرف الافات عنهم، وإيصال السرور اليهم والملاذ، وتمكينهم بالقدرة والآلات إلى غير ذلك من ألطافه التي لا تدرك على حقيقتها ولا يوقف على كنهها لغموضها.

ثم قال تعالى " يرزق من يشاء وهو القوي " يعني القادر الذي لا يعجزه شئ " العزيز " الذي لا يغالب.

وقوله " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه " قيل: معناه إنا نعطيه بالحسنة عشرا إلى ما شئنا من الزيادة " ومن كان يريد حرث الدنيا " أي من عمل الدنيا " نؤته " أي نعطيه نصيبه " منها " من الدنيا لا جميع ما يريده بل على

[156]

ما تقتضيه الحكمة دون الآخرة، وشبه الطالب بعمله الآخرة بالزارع في اطلب النفع لحرثه، وكذلك الطالب بعمله نفع الدنيا.

ثم قال " وماله " يعني لمن يطلب الدنيا دون الآخرة " في الآخرة من نصيب " من الثواب والنعيم في الآخرة.

وقيل: إن الذي وعدهم الله به أن يؤتيهم من الدنيا إذا طلبوا حرث الدنيا هو ما جعل لهم من الغنيمة والفئ إذا قاتلوا مع المسلمين، لانهم لا يمنعون ذلك مع إظهارهم الايمان لكن ليس لهم في الآخرة نصيب من الثواب.

قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم(21) ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير(22) ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور(23) أم يقولون افترى على الله كذبا فان يشا الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور(24) وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيآت ويعلم ما تفعلون(25))

خمس آيات بلا خلاف.

[157]

قرأ ابن كثير، ونافع، وابوعمرو، وابن عامر، وابوبكر عن عاصم " يفعلون " بالياء. الباقون بالتاء. من قرأ بالياء، فعلى أن الله يعلم ما يفعله الكفار فيجازيهم عليه. ومن قرأ بالتاء فعلى وجه الخطاب لهم بذلك.

لما اخبر الله تعالى ان من يطلب بأعماله الدنيا أنه يعطيه شيئا منها، وانه ليس له حظ من الخير في الآخرة. وقال (أم لهم شركاء) يعني بل هؤلاء الكفار لهم شركاء في ما يفعلونه أي اشركوهم معهم في أعمالهم بأن " شرعوا لهم من الدين " الذي قلدوهم فيه " مالم يأذن به الله " أي لم يأمر به ولا أذن فيه.

ثم قال " ولو لا كلمة الفصل " أي كلمة الحكم الذي قال الله: إني اؤخر عقوبتهم، ولا أعاجلهم به في الدنيا " لقضي بينهم " وفصل الحكم فيهم وعوجلوا بما يستحقونه من العذاب.

ثم قال " وإن الظالمين " لنفوسهم بارتكاب المعاصي " لهم عذاب اليم " أي مؤلم أي هم مستحقون لذلك يوم القيامة.

ثم قال " ترى الظالمين " يا محمد " مشفقين " أي خائفين " مما كسبوا " يعني من جزاء ما كسبوا من المعاصي وهو العقاب الذي استحقوه " وهو واقع بهم " لا محالة لا ينفعهم اشفاقهم منه، ولا خوفهم من وقوعه، والاشفاق الخوف من جهة الرقة على المخوف عليه من وقوع الامر، واصل الشفقة الرقة من قولهم ثوب مشفق أي رقيق ردئ، ودين فلان مشفق أي ردئ.

ثم قال " والذين آمنوا " بالله وصدقوا رسله " وعملوا " الافعال " الصالحات " من الطاعات " في روضات الجنات " فالروضة الارض الخضرة بحسن النبات، والجنة الارض التي يجنها الشجر، والبستان التي عمها النبات أي هم مستحقون للكون فيها " لهم ما يشاؤن عند ربهم " ومعناه لهم ما يشتهون من اللذات، لان

[158]

الانسان لا يشاء الشئ إلا من طريق الحكمة او الشهوة او الحاجة في دفع ضرر ودفع الضرر لا يحتاج اليه في الجنة، وإرادة الحكمة تتبع التكليف، فلم يبق بعد ذلك إلا انهم يشاؤن ما يشتهون.

وقوله " عند ربهم " يعني يوم القيامة الذي لا يملك فيه الامر والنهي غيره، وليس يريد ب‍ " عند ربهم " من قرب المسافة، لان ذلك من صفات الاجسام.

ثم قال " ذلك " يعني الكون عند ربهم وأن لهم ما يشاؤن " هو الفضل الكبير " يعني الزيادة التي لا يوازيها شئ في كثرتها.

ثم قال " ذلك " يعني ما تقدم ذكره مما يشاؤنه هو " الذي يبشر الله عباده " به ومن شدد الشين أراد التكثير، ومن خفف، فلانه يدل على القليل والكثير. وقيل: هما لغتان، وحكى الاخفش لغة ثالثة: أبشرته. ثم وصفهم فقال " الذين آمنوا " بالله وصدقوا رسله " وعملوا " الاعمال " الصالحات ".

ثم قال " قل " لهم يا محمد صلى الله عليه واله " لا أسألكم عليه " أي على ادائي اليكم " أجرا " عن الرسالة، وما بعثني الله به من المصالح " إلا المودة في القربى " وقيل في هذا الاستثناء قولان: احدهما - إنه استثناء منقطع لان المودة في القربى ليس من الاجر ويكون التقدير لكن أذكركم المودة في قرابتي. الثاني - إنه استثناء حقيقة ويكون أجرى المودة في القربي كأنه أجر، وإن لم يكن أجر واختلفوا في معنى " المودة في القربى " فقال علي بن الحسين عليهما السلام وسعيد ابن جبير وعمرو بن شعيب: معناه أن تودوا قرابتي، وهو المروي عن أبي جعفر وابي عبدالله عليهما السلام وقال الحسن: معناه " إلا المودة في القربى " إلى الله تعالى والتودد بالعمل الصالح اليه.

[159]

وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي والضحاك وابن زيد وعطاه بن دينار: معناه إلا ان تودوني لقرابتي منكم.

وقالوا: كل قرشي كانت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه واله قرابة، ويكون المعنى إن لم تودوني لحق النبوة افلا تودوني لحق القرابة. والاول هو الاختيار عندنا، وعليه اصحابنا.

وقال بعضهم: إلا ان تصلوا قرابتكم.

وقال آخرون: معناه إلا ان تتقربوا إلى الله بالطاعات.

ثم قال تعالى " ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا " أي من فعل طاعة نزد له في تلك الطاعة حسنا بأن نوجب له عليها الثواب. والاقتراب الاكتساب واصله من قرفت الشئ إذا كشفت عنه، كقولك قرفت الجلد وهو من الاعتماد والاكتساب " إن الله غفور " أي ستار على عباده معاصيهم بالتوبة وغير التوبة تفضلا منه تعالى وإحسانا منه إلى عباده " شكور " ومعناه إنه يعاملهم معاملة الشاكر في توفية الحق حتى كأنه ممن وصل اليه النفع فشكره.

وقيل: معناه يجازيهم على شكرهم إياه فسماه شكرا على عادتهم في تسمية الشئ باسم ما كان سببه مجازا، كما قال " وجزاء سيئة سيئة مثلها "(1).

ثم قال " ام يقولون افترى على الله كذبا " بمعنى بل يقولون هؤلاء الكفار إنك يا محمد افتريت على الله كذبا في ادعائك رسالة على الله فقال له تعالى " فان يشأ الله يختم على قلبك " قال قتادة: معناه يختم على قلبك بأن ينسيك القرآن.

وقيل: معناه لو حدثتك نفسك بأن تفتري على الله كذبا لطبعت على قلبك واذهبت الوحي الذي أتيتك، لاني أمحوا الباطل واحق الحق.

وقال الزجاج: معناه فان يشأ الله ان يربط على قلبك بالصبر على أذاهم لك وعلى قولهم افترى على الله كذبا " ويمحوا الله الباطل " وقوله " ويمحوا الله الباطل " رفع إلا أنه حذف الواو من المصاحف كما حذف من قوله " سندع الزبانية "(2) على اللفظ وذهابه لا لتقاء

___________________________________

(1) آية 40 من هذه السورة.

(2) سورة 96 العلق آية 18

[160]

الساكنين، وليس بعطف على قوله " يختم " لانه رفع " وبين ذلك بقوله " ويحق الحق بكلماته " أي ويثبت الحق بأقواله التي ينزلها على انبيائه يتبين بها كذب من ادعى على الله كذبا في أنه نبي، ولا يكون كذلك " إنه عليم بذات الصدور " أي بأسرار ما في الصدور، لا يخفى عليه شئ منها.

ثم قال " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون " فتمدحه بأن يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات بأن لا يعاقب عليها دليل على ان إسقاط العقاب عندها تفضل، ويعلم ما تفعلونه من التوبة وغيرها فيجازيكم عليها. فمن قرأ بالتاء فعلى الخطاب ومن قرأ بالياء فعلى وجه الاخبار عن الغائب.

الآية: 26 - 53

قوله تعالى: (ويستجيب الذين آمنوا وعملو الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد(26) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير(27) وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد(28) ومن آياته خلق السموات والارض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير(29) وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير(30))

خمس آيات بلا خلاف.

[161]

قرأ ابن عامر ونافع " بما كسبت " بلا فاء، وكذلك هو في مصاحف اهل المدينة واهل الشام. الباقون بالفاء، وكذلك في مصاحفهم، فعلى هذا يكون جزاء وعلى الاول يكون المعنى الذي أصابكم من مصيبة بما كسبت ايديكم.

لما اخبر الله تعالى انه يقبل التوبة عن عباده وانه يعلم ما يفعلونه من طاعة او معصية وانه يجازيهم بحسبها، ذكر انه " يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يجيبهم بمعنى و (الذين) في موضع نصب، وأجاب واستجاب بمعنى واحد، قال الشاعر:

وداع دعايا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب(1)

وقيل: الاستجابة موافقة عمل العامل ما يدعو اليه، لاجل دعائه اليه، فلما كان المؤمن يوافق بعمله ما يدعو النبي صلى الله عليه واله من اجل دعائه كان مستجيبا له، وكذلك من وافق بعمله داعي عقابه كان مستجيبا للداعي بالفعل.

وعن معاذ بن جبل: إن الله تعالى يجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات في دعاء بعضهم لبعض.

وقيل: معناه ويجيب المؤمنون ربهم في ما دعاهم اليه، فبكون (الذين) في موضع رفع، ويكون قوله " ويزيدهم " راجعا إلى الله أي يزيدهم الله من فضله.

وقيل: معناه ويستجيب دعاع المؤمنين، ولا يستجيب دعاء الكافرين، لانه ثواب ولا ثواب للكافرين.

وقيل: بل يجوز ان يكون ذلك إذا كان فيه لطف للمكلفين.

وقوله " ويزيدهم من فضله " معناه ويزيدهم زيادة من فضله على ما يستحقونه من الثواب.

وقال الرماني: الزيادة بالوعد تصير اجرا على العمل إذا كان ممن يحسن الوعد بها من طريق الوعد، كما لو كان إنسان يكتب مئة ورقة بدينار، ورغبه ملك في نسخ مئة ورقة بعشرة دنانير، فانه يكون الاجرة حينئذ عشرة دنانير وإذا بلغ غاية الاجر في مقدار لا يصلح عليه اكثر من ذلك، فانما تستحق الزيادة بالوعد.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 2 / 131 و 3 / 88 و 6 / 232

[162]

وقوله " والكافرون لهم عذاب شديد " اخبار عما يستحقه الكافر على كفره من العقاب المؤلم الشديد.

وقوله " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض " إخبار منه تعالى بأنه لو وسع رزقه على عباده وسوى بينهم لبطروا النعمة وتنافسوا وتغالبوا، وكان ذلك يؤدي إلى وقوع الفساد بينهم والقتل وتغلب بعضهم على بعض واستعانة بعضهم ببعض ببذل الاموال، ولكن دبرهم على ما علم من مصلحتهم في غناء قوم وفقر آخرين، وإحواج بعضهم إلى بعض وتسخير بعضهم لبعض، فلذلك قال " ولكن ينزل بقدر ما يشاء " مما يعلمه مصلحة لهم " إنه بعباده خبير بصير " يعني عالم بأحوالهم بصير بما يصلحهم مما يفسدهم.

ثم قال " وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا " أى ينزله عليهم من بعد أياسهم من نزوله، ووجه إنزاله بعد القنوط انه أدعى إلى شكر الآتي به وتعظيمه والمعرفة بمواقع إحسانه، وكذلك الشدائد التي تمر بالانسان، ويأتي الفرج بعدها، تعلق الامل بمن يأتي به وتكسب المعرفة بحسن تدبيره في ما يدعو اليه من العمل بأمره والانتهاء إلى نهيه.

ونشر الرحمة عمومها لجميع خلقه، فهكذا نشر رحمة الله مجددة حالا بعد حال. ثم يضاعفها لمن يشاء، وكل ذلك على مقتضى الحكمة وحسن التدبير الذي ليس شئ لحسن منه " وهو الولي الحميد " معناه هو الاولى بكم وبتدبيركم المحمود على جميع افعاله لكونها منافعا وإحسانا.

ثم قال " ومن آياته " أي من حججه الدالة على توحيده وصفاته التي باين بها خلقه " خلق السموات والارض " لانه لا يقدر على ذلك غيره لما فيهما من العجائب والاجناس التي لا يقدر عليها قادر بقدرة " وما بث فيهما من دابة " أي

[163]

من سائر اجناس الحيوان " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " أي على جمعهم يوم القيامة وحشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم قادر، لا يتعذر عليه ذلك.

ثم قال " وما اصابكم من مصيبة " معاشر الخلق (فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) قال الحسن: ذلك خاص في الحدود التي تستحق على وجه العقوبة.

وقال قتادة: هو عام.

وقال قوم: ذلك خاص وإن كان مخرجه مخرج العموم لما يلحق من المصائب على الاطفال والمجانين ومن لا ذنب له من المؤمنين.

وقال قوم: هو عام بمعنى ان ما يصيب المؤمنين والاطفال إنما هو من شدة محنة تلحقهم، وعقوبة للعاصين كما يهلك الاطفال والبهائم مع الكفار بعذاب الاستئصال. ولانه قد يكون فيه استصلاح اقتضاه وقوع تلك الاجرام.

وقيل قوله (ولو بسط الله الرزق لعباده) بحسب ما يطلبونه ويقترحونه (لبغوا في الارض) فانه لم يمنعهم ذلك لعجز، ولا بخل.

وقوله (إذا يشاء) يدل على حدوث المشيئة، لانه لا يجوز ان يكون إذا قدر على شئ فعله ولا إذا علم شيئا فعله. ويجوز إن شاء ان يفعل شيئا فعله.

وقوله (أصابكم) قال ابوعلي النحوي: يحتمل أمرين احدهما - ان يكون صلة ل‍ (ما). والثاني - ان يكون شرطا في موضع جزم، فمن قدره شرطا لم يجز سقوط الفاء - على قول سيبويه - واجاز ذلك ابوالحسن والكوفيون. وإن كان صلة فالاثبات والحذف جائزان على معنيين مختلفين، فاذا ثبت الفاء كان ذلك دليلا على ان الامر الثاني وجب بالاول كقوله (الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم)(1) فثبوت الفاء يدل على وجوب الانفاق وإذا حذف احتمل الامرين.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 274

[164]

قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الارض ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير(31) ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام(32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لا يات لكل صبار شكور(33) أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير(34) ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص(35))

خمس آيات كوفي وأربع في ما عداه عد الكوفيون (كالاعلام) ولم يعد، الباقون.

قرأ ابوعمرو، ونافع (الجواري في البحر) بياء في الوصل، ووقف / ابن كثير بياء ايضا. الباقون بغير ياء في الوصل والوقف.

وقرأ نافع وابوجعفر وابن عامر (ويعلم الذين) رفعا على الاستئناف، لان الشرط والجزاء قدتم، فجاز الابتداء بما بعده. الباقون بالنصب.

فمن نصبه فعلى الصرف، كما قال النابغة:

فان يهلك ابو قابوس يهلك *** ربيع الناس والبلد الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش *** اجب الظهر ليس له سنام(1)

قال الكوفيون: هو مصروف من مجزوم إلى منصوب، وقال البصريون: هو نصب بأضمار (أن) وتقديره ان يعلم، كما قال الشاعر:

ولبس عباء‌ة وتقر عيني *** احب إلي من لبس الشفوف

وتقديره وأن تقر عيني، قال ابوعلي: ومن نصب (ويعلم) فلان قبله

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 16 / 34 والشوكاني 4 / 525 والطبري 25 / 20

[165]

شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب، تقول في الشرط إن تأتني وتعطيني اكرمك فينصب وتعطيني، وتقديره إن يكون منك اتيان وإعطاء أكرمك، والنصب بعد الشرط إذا عطفته بالفاء أمثل من النصب بالفاء بعد جزاء الشرط فأما العطف على الشرط نحو إن تأتني وتكرمني اكرمك، فالذي يختار سيبويه في العطف على الشرط نحو إن تأتني وتكرمني الجزم، فيختار (ويعلم الذين) إذا لم يقطعه عن الاول فيرفعه، وإن عطف على جزاء الشرط، فالنصب أمثل.

ومن اثبت الياء في الحالين في قوله (الجواري) فلا أنها الاصل، لكن خالف المصحف، ومن اثبتها وصلا دون الوقف استعمل الاصل وتبع المصحف، ومن حذفها في الحالين يتبع المصحف، واجتزأ بالكسوة الدالة على الياء. وواحد الجواري جارية، وهي السفينة، وحكي عن ابن مسعود انه قرأ بضم الراء كأنه قلب، كما قالوا (شاك) في (شائك) فأراد الجوائر فقلب.

قوله (وما انتم بمعجزين في الارض) خطاب من الله تعالى للكفار بأنكم لستم تفوتون الله بالهرب منه في الارض ولا في السماء، فانه يقدر عليكم في جميع الاماكن ولا يمكن النجاة من عذابه إلا بطاعته، فواجب عليكم طاعته، ففي ذلك استدعاء إلى عبادة الله وترغيب في كل ما أمر به وتحذير عما نهى عنه. ووجه الحجة بذلك على العبد انه إذا كان لا يعجز الله، ولا يجد دافعا عن عقابه خف عليه عمل كل شئ في جنب ما توعد به.

وقوله (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) اي ليس لكم من يدفع عنكم عقاب الله إذا اراد فعله بكم ولا ينصركم عليه، فيجب أن ترجعوا إلى طاعة من هذه صفته.

[166]

وقوله (ومن آياته الجواري في البحر كالاعلام) معناه من آياته الدالة على انه تعالى مختص بصفات لا يشركه فيها احد، السفن الجارية في البحر مثل الجبال، لانه تعالى يسيرها بالريح لا يقدر على تسييرها غيره، ووجه الدلالة في السفن الجارية هو ان الله خلق الماء العظيم وعدل الريح بما يمكن أن يجري فيه على حسب المراد لانه إذا هبت الريح في جهة وسارت بها السفينة فيها، فلو اجتمعت الخلائق على صرفها إلى جهة أخرى لما قدروا، وكذلك لو سكنت الريح لوقفت. وما قدر احد على تحريكها، ولا إجرائها غيره تعالى. ثم بين ذلك بأن قال (إن يشأ يسكن الريح) وتقديره إن يشأ يسكن الريح أسكنها او إن يشأ ان يسكنها سكنت، وليس المعنى إن وقعت منه مشيئة أسكن لا محالة، لانه قد وقعت منه مشيئة لاشياء كثيرة ولم تسكن الريح.

والجواري السفن - في قول مجاهد والسدي - والاعلام الجبال - في قولهما - وقوله (فيظللن رواكد على ظهره) قال ابن عباس: معناه تظل السفن واقفة على ظهر الماء، قال الشاعر:

وإن صخرا لتأتم الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار

وقوله (إن في ذلك) يعني في تسخير البحر وجريان السفن فيها لآيات أي حججا واضحات (لكل صبار) على أمر الله (شكور) على نعمه، وإنما اضاف الآيات إلى كل صبار وإن كانت دلالات لغيرهم أيضا من حيث هم الذين انتفعوا بها دون غيرهم، ممن لم ينظر فيها.

وقوله (او يوبقهن بها كسبوا) معناه يهلكهن بالغرق - في قول ابن عباس والسدي ومجاهد - (بما كسبوا) أي جزاء على ما فعلوا من المعاصي (ويعفو عن كثير) اخبار منه تعالى انه يعفو عن معاصيهم لا يعاجلهم الله بعقوبتها.

وقوله (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا مالهم من محيص) اخبار منه تعالى أن

[167]

الذين يجادلون في إبطال آيات الله تعالى ويدفعونها سيعلمون انه ليس لهم محيص أي ملجأ يلجؤن اليه - في قول السدي -.

قوله تعالى: (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحيوة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون(36) والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون(37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلوة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون(38) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون(39) وجزاؤا سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين(40))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما (كبير الاثم) على التوحيد. الباقون (كبائر) على الجمع جمع التكسير. ومن وحد قال: إنه اسم جنس يقع على القليل والكثير. وقال قوم: اراد الشرك فقط. ومن جمع، فلان انواع الفواحش، واختلاف اجناسها كثيرة.

يقول الله تعالى مخاطبا لمن تقدم وصفه (وما اوتيتم) يعني ان الذي اوتيتموه وأعطيتموه (من شي ء) من الاموال، (فمتاع الحياة الدنيا) أى هو شئ ينتفع به عاجلا لا بقاء له ولا محصول له. والمتاع يخير به عن الامتاع ويعبر به عن الاثاث، ففي ذلك تزهيد في الدنيا وحث على عمل الآخرة. ثم قال (وما عند الله) يعني من الثواب في الجنة (خير وأبقى) من هذه المنافع العاجلة التي هي قليلة والآخرة

[168]

باقية دائمة، وهذه فانية منقطعة. ثم بين انها حاصلة (للذين آمنوا) بتوحيد الله وتصديق رسله (وعلى ربهم يتوكلون) أى يفوضون أمرهم اليه تعالى دون غيره فالتوكل على الله تفويض الامر اليه باعتقاد أنها جارية من قبله على احسن التدبير مع الفزع اليه بالدعاء في كلما ينوب. والتوكل واجب، الترغيب فيه كالترغيب في جملة الايمان.

وقوله (والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش) يحتمل ان يكون (الذين) في موضع جر بالعطف على قوله (للذين) فكأنه قال وحا عندالله خير وأبقى المؤمنين المتوكلين على ربهم المجتنبين كبائر الاثم والذنوب. والفواحش جمع فاحشة، وهي اقبح القبيح. ويحتمل ان يكون في موضع رفع بالابتداء، ويكون الخبر محذوفا، وتقديره الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش (واذا ما غضبوا) مما يفعل بهم من الظلم والاساء‌ة (هم يغفرون) ويتجاوزون عنه ولا يكافونهم عليه لهم مثل ذلك. والعفو المراد في الآية هو ما يتعلق بالاساء‌ة إلى نفوسهم الذى لهم الاختصاص بها فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين.

فأما ما يتعلق بحدود الله ووجوب حدوده فليس للامام تركها ولا العفو عنها، ولا يجوز له ان يعفو عن المرتد وعمن يجرى مجراه. ثم زاد في صفاتهم فقال (والذين استجابوا لربهم) في ما دعاهم اليه (واقاموا الصلاة) على حقها (وامرهم شورى بينهم) أى لا ينفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم، لانه قيل: ما تشاور قوم إلا وفقوا لاحسن ما يحضرهم (ومما رزقناهم ينفقون) في طاعة الله وسبيل الخير.

ثم قال (والذين اذا أصابهم البغي) من غيرهم وظلم من جهتهم (هم ينتصرون) يعني ممن بغى عليهم من غير ان يعتدوا فيها فيقتلوا غير القاتل ويجنوا على غير الجاني، وفي قوله (والذين إذا اصابهم البغي هم ينتصرون) ترغيب في انكار المنكر.

[169]

ثم قال (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قال ابونجيح والسدى: معناه إذا قال أخزاه الله متعديا قال له مثل ذلك اخزاه الله. ويحتمل ان يكون المراد ما جعل الله لنا إلا الاقتصاص منه من (النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص)(1) فان للمجني عليه أن يفعل بالجاني مثل ذلك من غير زيادة وسماه سيئة للاردواج، كما قال (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)(2) وقال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(3) ثم مدح العافي عما له أن يفعله، فقال (فمن عفى وأصلح) عما له المؤاخذة فيه " فأجره " في ذلك وجزاؤه " على الله " فانه يثيبه على ذلك.

وقوله (إنه لا يحب الظالمين) قيل في معناه وجهان: احدهما - إني لم ارغبكم في العفو عن الظالم لاني أحبه، بل لاني أحب الاحسان والعفو. والثاني - إني لا أحب الظالم لتعديه ما هو له إلى ما ليس له في القصاص ولا غيره. وقيل الكبائر الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين، واكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، واكل الحرام. وعندنا كل معصية كبيرة، وإنما تسمى صغيرة بالاضافة إلى ما هو اكبر منها لا انها تقع محبطة، لان الاحباط باطل عندنا. وقيل إن هذه الآيات نزلت في قوم من المهاجرين والانصار.

___________________________________

(1) سورة 5 المائدة آية 48.

(2) سورة 16 النحل آية 126.

(3) سورة 3 البقرة آية 194

[170]

قوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل(41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم(42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور(43) ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل(44) وتريهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم(45))

خمس آيات بلا خلاف

قوله (ولمن انتصر من بعد ظلمه) اخبار من الله تعالى أن من انتصر لنفسه بعد أن كان ظلم وتعدي عليه، فاخذ لنفسه بحقه، فليس عليه من سبيل.

قال قتادة: بعد ظلمه في ما يكون فيه القصاص بين الناس في النفس او الاعضاء او الجراح، فأما غير ذلك فلا يجوز أن يفعل لمن ظلمه ولا ذم له على فعله.

وقال قوم: معناه إن له أن ينتصر على يد سلطان عادل بأن يجمله اليه ويطالبه بأخذ حقه منه، لان السلطان هو الذي يقيم الحدود، ويأخذ من الظالم للمظلوم، ويمكن أن يستدل بذلك على أن من ظلمه غيره بأخذ ماله كان له إذا قدر أن يأخذ من ماله بقدره، فلا إثم عليه، والظالم هو الفاعل للظلم. وقد بينا حكم الظالم في غير موضع، فلما بين أن للمظلوم أن يقتص منه، وانه متى اخذ بحقه لم يكن عليه سبيل

[171]

بين (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) ويأخذون ما ليس لهم ويتعدون يكن مذموما به إن طلب بذلك ما أباحه الله له (اولئك لهم عذاب اليم) اخبار منه تعالى أن من قدم وصفه لهم عذاب موجع مؤلم. ثم مدح تعالى من صبر على الظلم ولم ينتصر لنفسه ولا طالب به ويغفر لمن أساء اليه بأن قال (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور) أي من ثابت الامور التي أمر الله بها فلم ينسخ.

و (عزم الامور) هو الاخذ بأعلاها في باب نيل الثواب والاجر وإحتمال الشدائد على النفس وإيثار رضا الله على ما هو مباح.

وقيل: (ان ذلك لمن عزم الامور) جواب القسم الذي دل عليه (لمن صبر وغفر) كما قال (لئن اخرجوا لا يخرجون معهم)(1) وقيل: بل هي في موضع الخبر. كأنه قال إن ذلك منه لمن عزم الامور، وحسن ذلك مع طول الكلام.

وقوله (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده) يحتمل أمرين: احدهما - ان من اضله الله عن طريق الجنة إلى عذاب النار فليس له ناصر ينصره عليه ويرفعه عنه من بعد ذلك بالتخليص منه. والثاني - أن من حكم الله بضلاله وسماه ضالا عن الحق فما له من ولي ولا ناصر يحكم بهدايته ويسميه هاديا.

ثم قال (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل) اخبار منه تعالى إنك يا محمد ترى الظالمين إذا شاهدوا عذاب النار يقولون هل إلى الرجوع والرد إلى دار التكليف. من سبيل تمنيا منهم لذلك وإلتجاء إلى هذا القول لما ينزل بهم من البلاء. مع علمهم بأن ذلك لا يكون، لان معارفهم ضرورية.

___________________________________

(1) سورة 59 الحشرآية 12

[172]

ثم قال (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) قال ابن عباس: من طرف ذليل.

وقال الحسن وقتادة: يسارقون النظر، لانهم لا يجبرؤن أن ينظروا إلى النار بجميع أبصارهم لما يرون من هول النار وألوان العذاب.

وقيل: يرون النار بقلوبهم، لانهم يحشرون عميا (وقال الذين آمنوا) يعني الذين صدقوا الله ورسوله ذلك اليوم إذا رأوا حصول الظالمين في النار واليم العقاب (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم) باستحقاق النار (وأهليهم) لما حيل بينهم وبينهم (يوم القيامة ألا إن) هؤلاء (الظالمين في عذاب مقيم) أي دائم لا زوال له. وقد منعوا من الانتفاع بنفوسهم واهليهم ذلك اليوم.

قوله تعالى: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل(46) استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله مالكم من ملجا يومئذ وما لكم من نكير(47) فان أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فان الانسان كفور(48) لله ملك السموات والارض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور(49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير(50))

خمس آيات بلا خلاف

[173]

لما اخبر الله تعالى أن الظالمين انفسهم بارتكاب المعاصي وترك الواجبات في عذاب مقيم دائم غير منقطع، اخبر في الآية التي بعدها انهم لم يكن لهم أولياء في ما عبدوه من دون الله، ولا فيمن أطاعوه في معصية الله، أي انصار ينصرونهم من دون الله ويرفعون عنهم عقابه.

وقيل: المراد من يعبدونه من دون الله او يطيعونه في معصية الله لا ينفعهم يوم القيامة. فالفائدة بذلك اليأس من أي فرج إلا من قبل الله، فلهذا من كان هلاكه بكفره لم يكن له ناصر يمنع منه.

ثم قال (ومن يضلل الله) أي من أضله الله عن طريق الجنة وعدل به إلى النار (فما له من سبيل) يوصله إلى الجنة والثواب. ويحتمل ان يكون المراد ومن يحكم الله بضلاله ويسميه ضالا لم يكن لاحد سبيل إلى ان يحكم بهدايته.

ثم قال تعالى لخلقه (استجيبوا لربكم) يعني اجيبوه إلى ما دعاكم اليه ورغبكم فيه من المصير إلى طاعته والانقياد لامره (من قبل ان يأتي يوم لامرد له من الله مالكم من ملجأ يومئذ) أي لا مرجع له بعد ما حكم به. وقيل معناه لا يتهيأ لاحد رده ولا يكون لكم ملجأ تلجؤن اليه في ذلك اليوم. والملجأ والمحرز نظائر (ومالكم من نكير) أى تعيير انكار.

وقيل: معناه من نصير ينكر ما يحل بكم ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله (فان اعرضوا) يعني هؤلاء الكفار وعدلوا عما دعوناهم اليه ولا يستجيبون اليه (فما ارسلناك عليهم حفيظا) أي حافظا تمنعهم من الكفر (إن عليك) أي ليس عليك (إلا البلاغ) وهو ايصال المعنى إلى افهامهم وتبين لهم ما فيه رشدهم، فالذي يلزم الرسول دعاؤهم إلى الحق، ولا يلزمه ان يحفظهم من اعتقاد خلاف الحق.

ثم اخبر تعالى عن حال الانسان وسرعة تنقله من حال إلى حال فقال (وانا اذا أذقنا الانسان منا رحمة) واوصلنا اليه نعمة (فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم) أي عقوبة جزاء بما قدمته ايديهم من المعاصى (فان الانسان كفور) يعدد المصائب

[174]

ويجحد النعم وقوله (لله ملك السموات والارض) ومعناه له التصرف في السموات والارض وما بينهما وسياستهما بما تقتضيه الحكمة حسب ما يشاء (ويخلق ما يشاء) من انواع الخلق (يهب لمن يشاء) من خلقه (اناثا) يعني البنات بلا ذكور (ويهب لمن يشاء) من خلقه (الذكور) بلا اناث (او يزوجهم ذكرانا واناثا) قال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي: معناه ان يكون حمل المرأة مرة ذكرا ومرة انثى ويحتمل ان يكون المراد ان يرزقه. تواما ذكرا وانثى او ذكرا وذكرا. وانثى وانثى وهو قول ابن زيد (ويجعل من يشاء عقيما) فالعقيم من الحيوان الذي لا يكون له ولد ويكون قد عقم فرجه عن الولادة بمعنى منع (انه عليم) بمصالحهم (قدير) أي قادر على خلق ما اراد من ذلك.

قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء إنه علي حكيم(51) وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(52) صراط الله الذي له ما في السموات وما في الارض ألا إلى الله تصير الامور(53))

ثلاث آيات بلا خلاف قرأ

نافع وابن عامر في رواية الداحوني عن صاحبه (او يرسل.. فيوحي) بالرفع على تقدير او هو يرسل فيوحى ويكون المعنى يراد به الحال بتقدير إلا موحيا

[175]

او مرسلا وذلك كلامه اياهم. الباقون بالنصب ويرسل فيوحي على تأويل المصدر، كأنه قال إلا ان يوحي او يرسل.

ومعنى (او) في قوله (او يرسل رسولا) يحتمل وجهين: احدهما - العطف، فيكون ارسال الرسول احد اقسام بكلام كما يقال عتابك السيف كانه قيل الا وحيا او ارسالا. الثاني - ان يكون (الا ان) كقولك لالزمنك او تعطيني حقي، فلا يكون الارسال في هذا الوجه كلاما. ولا يجوز ان يكون (او يرسل) فيمن نصب عطفا على قوله (أن يكلمه الله) لانك لو حملته على ذلك لكان المعنى وما كان لبشر أن يكلمه الله او ان يرسل رسولا، ولم يخل قولك (او يرسل رسولا) من ان يكون المراد به او يرسله رسولا او يكون المراد او يرسل اليه رسولا، والتقدير ان جميعا فاسدان، لاناء نعلم أن كثيرا من البشر قد ارسل رسولا، وكثيرا منهم ارسل اليه رسولا، فاذا بطل ذلك صح ما قدرناه اولا، ويكون التقدير ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وسيا او يرسل رسولا، فيوحي، ويجوز في قوله (إلا وحيا) أمران: احدهما - ان يكون استثناء منقطعا. والآخر - ان يكون حالا، فان قدرته استثناء منقطعا لم يكن في الكلام شئ توصل به (من) لان ما قبل الاستثناء لا يعمل في ما بعده، لان حرف الاستثناء في معنى حرف النفي، ألا ترى أنك إذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فالمعنى قام القوم لا زيد.

فكما لا يعمل ما قبل حرف النفي في - ما بعده كذلك لا يعمل ماقبل الاستثناء - إذا كان كلاما تاما - في ما بعده إذ كان بمعنى النفي، وكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد (إلا) في ما قبلها، فاذا كان كذلك لم يتصل الجار بما قبل (إلا)

[176]

ويمتنع أن يتصل به الجار من وجه آخر، وهو ان قوله (أو من وراء حجاب) من صلة (يوحي) الذي هو بمعنى (أن يوحي) فاذا كان كذلك لم يجز ان يحمل الجار الذي هو في قوله (من وراء حجاب) على (أو يرسل) لانك تفصل بين الصلة والموصول بما ليس منهما.

ألا ترى أن المعطوف على الصلة من الصلة إذا حملت العطف على ما ليس في الصلة فصلت بين الصلة والموصول بالاجنبي الذي ليس منها، فاذا لم يجز حمله على (يكلمه) في قوله (ما كان لبشر أن يكلمه الله) ولم يكن بد من ان يعلق الجار بشئ، ولم يكن في اللفظ شئ يحمل عليه أضمرت (بما يكلم) وجعلت الجار في قوله (او من وراء حجاب) متعلقا بفعل مراد في الصلة محذوف حذفا للدلالة عليه، ويكون في المعنى معطوفا على الفعل المقدر صلة، لان الموصول يوحي، فيكون التقدير: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحى اليه، او يكلمه من وراء حجاب، فحذف (يكلم) من الصلة، لان ذكره قد جرى وإن كان خارجا من الصلة، فحسن لذلك حذفه من الصلة.

ومن رفع (أو يرسل رسولا) فانه يجعل (يرسل) حالا والجار في قوله (او من وراء حجاب) يتعلق بمحذوف، ويكون في الظرف ذكر من ذى الحال، ويكون قوله (إلا وحيا) على هذا التقدير مصدرا وقع موقع الحال، كقولك جئت ركضا او اتيت عدوا.

ومعنى (او من وراء حجاب) فيمن قدر الكلام استثناء منقطعا او حالا: يكلمهم غير مجاهر لهم بكلامه، يريد ان كلامه يسمع ويحدث من حيث لا يرى، كما ترى سائر المتكلمين، ليس ان ثم حجابا يفصل موضعا من موضع، فيدل ذلك على تحديد المحجوب.

ومن رفع (يرسل) كان (يرسل) في موضع نصب على الحال.

والمعنى هذا كلامه كما تقول: تحبتك الضرب وعتابك السيف.

[177]

يقول الله تعالى إنه ليس لبشر من الخلق أن يكلمه الله إلا أن يوحي اليه وحيا (او من وراء حجاب) معناه او بكلام بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، لانه تعالى لا يجوز عليه مالا يجوز إلا على الاجسام من ظهور الصورة للابصار (او يرسل رسولا) فان جعلناه عطفا على إرسال الرسول، كان احد أقسام الكلام كما قلناه في قولهم: عتابك السيف، كأنه قال إلا وحيا او إرسالا، وإن لم تجعله عطفا لم يكن احد اقسامه، ويكون كقولهم: لالزمنك او تعطيني حقي، فلا يكون الارسال في هذا الوجه كلاما، فيكون كلام الله لعباده على ثلاثة اقسام:

اولها - ان يسمع منه كما يسمع من وراء حجاب، كما خاطب الله به موسى عليه السلام.

الثاني - بوحى يأتي به الملك إلى النبي من البشر كسائر الانبياء.

الثالث - بتأدية الرسول إلى المكلفين من الناس، وقيل في الحجاب ثلاثة اقوال:

احدها - حجاب عن إدراك الكلام لا المكلم وحده.

الثاني - حجاب لموضع الكلام.

الثالث - إنه بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب (فيوحي باذنه ما يشاء) معناه إن ذلك الرسول الذي هو الملك يوحي إلى النبي من البشر بامر الله ما شاء‌ه الله (إنه علي حكيم) معناه إن كلامه المسموع منه لا يكون مخاطبة يظهر فيها المتكلم بالرؤية، لانه العلي عن الادراك بالابصار وهو الحكيم في جميع افعاله وفي كيفية خطابه لخلقه.

وقال السدي: معنى الآية إنه لم يكن لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا بمعنى إلا إلهاما بخاطر او في منام او نحوه من معنى الكلام اليه في خفاء (او من وراء حجاب) يحجبه عن إدراك جميع الخلق إلا عن المتكلم الذي يسمعه كما سمع موسى كلام الله (او يرسل رسولا) يعني به جبرائيل.

[178]

وقوله (وكذلك اوحينا اليك روحا من أمرنا) معناه مثل ما اوحينا إلى من تقدم من الانبياء اوحينا اليك كذلك الوحي من الله إلى نبيه روح من أمره وهو نور يهدي به من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم بصاحبه إلى الجنة والصراط المستقيم الطريق المؤدي إلى الجنة، وهو صراط الله الذي له ما في السموات وما في الارض، ملك له يتصرف فيه كيف يشاء، وهو صراط من تصير الامور اليه، ولا يبقى لاحد أمر ولا نهي ولا ملك ولا تصرف، وهو يوم القيامة.

وقوله " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان " يعني ما كنت قبل البعث تدري ما الكتاب ولا ما الايمان قبل البلوغ " ولكن جعلناه " يعني الروح الذي هو القرآن " نورا نهدي من نشاء من عبادنا " يعني من المكلفين، لان من ليس بعاقل وإن كان عبدالله، فلا يمكن هدايته لانه غير مكلف.

ثم قال " وانك لتهدي " يا محمد " إلى صراط مستقيم " أي طريق مفض إلى الحق، وهو الايمان، وإنما جر (صراط الله) بأنه بدل من قوله " صراط مستقيم " ثم قال " ألا إلى الله تصير الامور، أي اليه ترجع الامور والتدبير وحده يوم القيامة




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21399326

  • التاريخ : 18/04/2024 - 13:36

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net