00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاسراء من ( آية 37 ـ 78 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السادس )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: (ولاتمش في الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا(37) كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها(38) ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولاتجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا(39))

ثلاث آيات.

قرأ ابن كثير وأبوعمرو ونافع " سئ " منونا غير مضاف. الباقون على الاضافة فمن قرأ على الاضافة قال: لانه قدتقدم ذكر حسن وسئ في قوله " وقضى ربك أن لاتعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " فخص من ذلك السئ بأنه مكروه عندالله، لانه تعالى لايكره الحسن، وقووا ذلك بقراء‌ة أبي " كان سيئاته " بالجمع مضافا.

وقال آخرون إنما أراد بذلك المنهي عنه فقط، وقالوا: ليس فيما نهى الله تعالى عنه حسن بل جميعه مكروه، " وكل " وإن كان لفظه لفظ الواحد فمعناه معنى الجميع، فلذلك قال كان بلفظ الواحد.

ومثله قوله " وكل أتوه داخرين "(2) وقال " ان كل من في السموات والارض إلا آتي الرحمن عبدا "(3) و (مكروها) على هذه القراء‌ة نصب على الحال من الضمير في " عند ربك " أو يكون بدلا من قوله " سيئه ". وفي ذلك دلالة على بطلان مذهب المجبرة من أن الله تعالى يريد المعاصي، لان هذه الآية صريحة بأن السئ من الافعال مكروه عند الله.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 10 / 260 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3 / 219 وروح المعاني 15: 74.

(2) سورة 27 النمل آية 87.

(3) سورة 19 مريم آية 94

[479]

وقوله " ولاتمش في الارض مرحا " نهي للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الامة أن يمشوا في الارض مرحين.

وقيل في معنى المرح أربعة أقوال: اولها - انه البطر والاشر.

والثاني - التبختر في المشي والتكبر.

الثالث - تجاوز الانسان قدره مستخفا بالواجب عليه والرابع - شدة الفرح بالباطل.

وقول " انك لن تخرق الارض " مثل ضربه الله بانك يا إنسان لن تخرق الارض من تحت قدمك بكبرك " ولن تبلغ الجبال " بتطاولك.

والمعنى انك لن تبلغ بماتريد كثير مبلغ، كما لايمكنك ان تبلغ هذا، فما وجه المكابرة على ماهذه سبيله مع زجر الحكمة عنه.

وأصل الخرق القطع، خرق الثوب تخريقا أي قطعة ورجل خرق أي يقطع الامور التي لاينبغي ان يقطعها. والخرق الفلاة، لانقطاع اطرافها بتباعدها قال رؤبة:

وقائم الاعماق خاو المخترق *** مشتبه الاعلام لماع الخفق(1)

أي خاو المنقطع، والمرح شدة الفرح، مرح يمرح مرحا، فهو مرح.

وقال قتادة: مرحا خيلاء وكبرا.

وقوله " ذلك مما اوحى اليك ربك من الحكمة " أي ذلك الذي ذكرناه وقصصناه من جملة مااوحى اليك يامحمد ربك من الحكمة أي الدلائل التي تؤدي إلي المعرفة بالحسن والقبيح، والفرق بينهما، والواجب مما لايجب، وذلك كله مبين في القرآن، فهو الحكمة البالغة. ثم نهاه ان يتخذ مع الله معبودا آخر يشركه في العبادة مع الله، فانك متى فعلت ذلك ألقيت في " جهنم ملوما " أي مذموما " مدحورا " مطرودا - في قول ابن عباس.

___________________________________

(1) ديوانه 108 وقد مر قسم من هذا الرجز في 1: 296 وفي 4: 297

[480]

قوله تعالى: (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملئكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما(40) ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا(41) قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا(42))

ثلاث آيات بلاخلاف.

الالف في " أفأصفاكم " ألف استفهام، والمراد بها الانكار لانه لا جواب لمن سئل إلا بما فيه أعظم الفضيحة، وفي ذلك تعليم سؤال المخالفين للحق، وهذا خطاب لمن جعل لله بنات، وقال الملائكة بنات الله، فقال الله تعالى لهم: أأخلص لكم البنين واختار لكم صفوة الشئ دونه؟ وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فاختصكم بالارفع وجعل لنفسه الادون؟ ! ! ثم أخبر أنهم يقولون في ذلك " قولا عظيما " أي عظيم الوبال والوزر.

وقوله " لقد صرفنا في هذا القرآن ليتذكروا " وقرأ حمزة والكسائي في جميع القرآن خفيفا، من ذكر يذكر. والباقون بالتشديد في جميع القرآن بمعنى ليتذكروا، فادعموا التاء في الذال. وفي ذلك دلالة على بطلان مذهب المجبرة لانه أراد التصريف في القرآن، ليذكر المشركون مايردهم إلى الحق، وهذا مما علقت الارادة الفعل فيه بالمعنى من التذكر. ولولاها لم يتعلق.

ثم اخبر انه وان اراد منهم الايمان والهداية بتصريف القرآن لا يزدادون هم إلا نفورا عنه فان قيل كيف يجوز أن يفعل تعالى مايزدادون عنده الكفر؟ وهل ذلك الا استفساد ومنع اللطف؟ ! قلنا: ليس في ذلك منع اللطف، بل فيه إظهار الدلائل، مما لايصح التكليف إلا معه ولولم تظهر الدلائل، لازدادوا فسادا بأعظم من هذا الفساد، وفي إظهار الدلائل صلاح حاصل لمن نظر فيها وأحسن التدبر لها.

وإنما جاز أن يزدادوا بما يؤنس من الدلائل نفورا، باعتقادهم أنها حيل وشبه، فنفروا منها أشد النفور لهذا الاعتقاد الفاسد، ومنعهم ذلك من التدبر لها وادراك منزلتها في عظم الفائدة، وجلالة المنزلة.

[481]

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل " يامحمد لهؤلاء المشركين " لوكان مع الله آلهة " أخرى كما يزعمون " لابتغوا " ما يقربهم اليه لعلوه عليهم وعلظمته عندهم - في قول قتادة والزجاج - وقال الحسن والجبائي: لاتبغوا سبيلا إلى مغالبته ومضادته، كماقال " لوكان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا "(1)

قوله تعالى: (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا(43) تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا(44) وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالآخرة حجابا مستورا(45))

ثلاث آيات بلاخلاف.

قرأ أهل العراق إلا أبابكر " تسبح " بالتاء.

وقرأ ابن كثير وحفص " عما يقولون " بالياء.

وقرأ أهل الكوفة إلا أبابكر " عما تقولون " بالتاء.

قال ابوعلي: فمن قرأ " عما يقولون " بالياء فالمعنى على مايقول المشركون.

ومن قرأ بالتاء يحتمل شيئين: احدهما - أن يعطف على قوله " كما تقولون " كماعطف قوله " يحشرون " على " ستغلبون ". والثاني - ان يكون نزه نفسه عن دعواهم، فقال " سبحانه عما يقولون ".

وقرأ عاصم ونافع وابن عامر وابن عباس: بالياء عطف على ماتقدم.

___________________________________

(1) سورة 21 الانبياء اية 22

[482]

وقوله " عما يقولون " على أنه نزه نفسه عن قولهم أو على معنى قل لهم سبحانه عمايقولون فأما قوله " يسبح " بالياء والتاء، فحسنان. وقدبينا في غير موضع معناه، ويقوي التأنيث قراء‌ة عبدالله فسبحت له السموات.

لما اخبر الله تعالى أنه " لو كان معه آلهة " سواه على مايدعيه المشركون " ليبتغوا إلى ذي العرش سبيلا " ونزه نفسه عن ذلك، فقال " سبحانه " ويحتمل أن يكون أمر نبيه أن يقول " سبحانه " أي تنزيها له تعالى " عما يقولون " أى عن قولهم، ويجوز ان يكون المراد عن الذي يقولونه من الاقوال الشنيعة فيه بأن معه آلهة " علوا كبيرا " وإنما لم يقل تعاليا، لانه وضع مصدرا مكان مصدر نحو " وتبتل اليه تبتيلا "(1) ومعنى " تعالى " اي صفاته في أعلى المراتب، فانه لا مساوي له فيها، لانه قادر، ولاأحد أقدر منه، وعالم لا أحد أعلم منه، ولا مساوي له في ذلك.

ثم أخبر أنه " يسبح له " اي ينزهه عن ذلك " السموات السبع والارض ومن فيهن " يعني في السموات والارض من العقلاء، وتنزيه السموات والارض هوما فيهما من الدلالة على توحيده وعدله، وأنه لايشركه في الالهية سواه. وجرى ذلك مجرى التسبيح باللفظ، وتسبيح العقلاء يحتمل ذلك: تسبيحهم باللفظ، غير أن ذلك يختص بالموحدين منهم دون المشركين.

وقوله " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " اي ليس شئ من الموجودات إلا يسبح بحمد الله، يعني كل شئ يسبح بحمده، من جهة خلقته، او معنى صفته اذ كل موجود سوى القديم تعالى حادث، يدعو إلى تعظيمه لحاجته إلى صانع غير مصنوع، صنعه أو صنع من صنعه، فهويدعو إلى تثبيت قديم غني بنفسه عن كل شئ سواه، لايجوز عليه مايجوز على المحدثات، وماعداه الحادث يدل على تعظيمه بمعنى حدثه من معدوم لايصح الابه، لدخوله في مقدوره او مقدور

___________________________________

(1) سورة 73 المزمل آية 8

[483]

مقدوره ومماسبحه من يسبح بحمده من جهته، معنى صفة في قوله، فهو على العموم في كل شئ.

وقال بعضهم: سل الارض من شق أنهارك؟ وغرس أشجارك؟ وجنى ثمارك؟ فان لم تجبك حوارا أجابتك اعتبار.

وقال الحسن: المعنى وإن من شئ من الاحياء إلا يسبح بحمده.

وقال علي ابن ابراهيم وغيره من اهل العلم: كل شئ على العموم يسبح بحمده حتى صرير الباب.

وقوله " ولكن لاتفقهون تسبيحهم " اي لستم تفقهون تسبيح هذه الاشياء، من حيث لم تنظروا فيها، فتعلموا كيفية دلالتها على توحيده.

وقوله " إنه " كان حليما غفورا " اي كن حليما حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على كفركم، وأمهلكم إلى يوم القيامة، وستره عليكم، لانه ستار على عباده، غفور لهم إذ تابوا وأنابوا اليه.

وقوله " وإذا قرأت القرآن " خطاب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم انه متى قرأ القرآن " جعلنا بينك " يامحمد " وبين " المشركين " حجابا مستورا " اي كأن بينك وبينهم حجابا من أن يدركوا مافيه من الحكمة وينتفعوا به.

وقيل: " مستورا " عن أبصار الناس.

وقيل " مستورا " - ههنا - بمعنى ساترا عن إدراكه، كما يقال: مشؤم عليهم أو ميمون في موضع شائم ويامن، لانه من شؤمهم ويمنهم.

والاول أظهر وقيل قوله " وجعلنا بينك " وبينهم " حجابا مستورا " نزل في قوم كانوا يأذونه باللسان إذا تلا القرآن، فحال الله بينهم وبينه حتى لا يؤذوه.

والاول - قول قتادة: والثاني - قول ابوعلي، والزجاج.

وقال الحسن: معناه إن منزلتهم فيما أعرضوا عنه منزلة من بينك وبينه حجاب.

[484]

قوله تعالى: (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا(46) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا(47) أنظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا(48))

ثلاث آيات.

معنى قوله " وجعلنا على قلوبهم أكنة " أي حكمنا بأنهم بهذه المنزلة ذما لهم على الامتناع من تفهم الحق، والاستماع اليه، لتأمل معانيه، مع الاعراض عنه عداوة له ونفورا منه.

وقال الجبائي: إنه تعالى منعهم من ذلك وحال بينهم وبينه في وقت مخصوص، لئلا يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال " وجعلنا " ولم يقل وجعلناهم " على قلوبهم أكنة " لانه ابلغ في الذم مع قيام الدليل من جهة التكليف أنه ليس على جهة المنع، ونمالم يجز المنع والحيلولة بينهم وبين ان يفقهوه، لان ذلك تكليف مالايطاق، وذلك قبيح لايجوز ان يفعله الله تعالى، على انه لا يصح ان يريد تعالى مايستحيل حدوثه، وإنما يصح ان يراد مايصح ان يحدث اويتوهم ذلك منه، لان استحالته صارفة عن ان يراد، ولاداع يصح أن يدعو إلى ارادته، وتجري استحالة ذلك مجرى استحالة ان يريد كون الشئ موجودا معدومافي حال واحده. (والاكنة) جمع كنان، وهوماستر.

وقوله " وفي آذانهم وقرا " أي وجعلنا في آذانهم وقرا. (والوقر) - بفتح الواو - الثقل في الاذن، وبالكسر الحمل. والاصل فيه الثقل إلاانه خولف بين البنائين للفرق.

وقوله " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " يعني إذا ذكرته بالتوحيد وانه لاشريك له في الالهية " ولوا " عنك ولم يسمعوه " على ادبارهم نفورا " نافرين عنك.

وقال بعضهم: إذا سمعوا بسم الله الرحمن الرحيم ولوا. ثم اخبر تعالى عن نفسه انه " اعلم " من غيره " بما يستمعون اليك " في حال ما " يستمعون اليك " اي يصغون إلى سماع قراء‌تك ويعلم أي شئ غرضهم فيه

[485]

وقوله: " وإذ هم نجوى " معناه اذ يتناجون بأن يرفع كل واحد سره إلى الآخر، ووصفوا بالمصدر، لان نجوى مصدر، ونجواهم زعمهم انه مجنون، وانه ساحر وانه اتى بأساطير الاولين - في قول قتادة - وكان من جملتهم الوليد بن المغيرة وقوله " إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " قيل في معناه قولان: أحدهما - إنكم ليس تتبعون إلارجلا قد سحر، فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك للتنفير عنه، كما يقال: سحر فلان، فهو مسحور إذ اختلط عقله. وقيل " مسحورا " أي مصروفا عن الحق، يقال: ماسحرك عن كذا؟ أي ماصرفك.

الثاني - ان له سحرا أي رئة، لايستغني عن الطعام والشراب، فهو مثلكم.

والعرب تقول للجبان: انتفخ سحره قال لبيد:

فان تسلينا فيم نحن فإننا *** عصافير من هذا الانام المسحر(1)

وقال آخر: ونسحر بالطعام وبالشراب(2) وقيل: إن " نفورا " جمع نافر، كقاعد وقعود، وشاهد وشهود، وجالس وجلوس. وقيل: مسحور معناه مخدوع.

ومعنى الآية البيان عما يوجبه حال الجاحد للحق المعادي لاهله وذمه بأن قلبه كأنه في أكنة عن تفهمه، وكأن في أذنيه وقرا عن استماعه فهومول على دبره، نافر عنه بجهله يناجي بالانحراف عنه جهالا مثله، قد تعبوا بالحجة حتى نسبوا صاحبها إلى أنه مسحور، لمالم يكن إلى مقاومة ماأتى به سبيل، ولاعلى كسره دليل.

___________________________________

(1) ديوانه 1 / 80 وتفسير القرطبي 10 / 272 ومجاز القرآن 1 / 381 وتفسير الطبري 15 / 63 واللسان (سحر) وروح المعاني 15: 90 وقد مر في 1: 372.

(2) قائله امرؤ القيس. ديوانه (الطبعة الرابعة) 63 القصيدة 3 وهو مطلعها.

وتفسير القرطبي 10: 273 ومجاز القرآن 1: 382 واللسان (سحر) وتفسير الشوكاني 3: 223 وتفسير روح المعاني 15: 90 وغيرها، وقد مر في 1: 372، 5: 268 من هذا الكتاب، وصده: ارانا موضعين لامر غيب

[486]

وقوله " انظر " أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينظر " كيف ضربوا لك الامثال " أي كيف ضرب هولاء المشركون له المثل بالمسحور وغير ذلك، فجاروا بذلك عن طريق الحق، فلا يسهل عليهم ولايخف الرجوع اليه ولااتباع سبيل الدين، ويحتمل أن يكون المعنى إنهم لايقدرون على تكذبيك، وإن ماذكروه فيك من قولهم مسحور وكذاب صرفهم ولا يستطيعون على ذلك.

قوله تعالى: (وقالوا ء‌إذا كنا عظاما ورفاتا ء‌إنا لمبعوثون خلقا جديدا(49) قل كونوا حجارة أو حديدا(50) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا(51))

ثلاث آيات بلاخلاف.

حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين أنكروا البعث، والنشور، والثواب والعقاب: أنهم يقولون " أإذا كنا عظاما " أي إذا متنا وأنتثرت لحومنا وبقينا " عظاما ورفاتا " قال مجاهد: الرفات التراب.

وبه قال الفراء وقال: لاواحد له من لفظه، وهوبمنزلة الدقاق، والحطام، قال المبرد: كل شئ مدقوق مبالغ في دقه حتي انسحق، فهورفات، يقال: رفت رفتا، فهو مرفوت إذا صير كالحطام.

و (إذا) في موضع نصب بفعل يدل عليه " لمبعوثون " وتقديره أنبعث " إذا كناعظاما. ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا " وصورته صورة الاستفهام وإنما هم منكرون لذلك متعجبون منه وكل ماتحطم وترضض يجئ أكثره على (فعال) مثل (حطام، ورضاض ودقاق وغبار وتراب)) والخلق الجديد: هو المجدد أي يبعثهم الله أحياء بعد أن كانوا أمواتا، أنكروا ذلك وتعجبوا منه، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل " لهم " كونوا حجارة أو حديدا " أي لم كنتم حجارة أو حديدا

[487]

بعد موتكم لاحياكم وحشركم ولم تفوتوا الله، إلا أنه خرج مخرج الامر، لانه أبلغ في الالزام، كأن أكثر مايكون منهم مطلوب حتى يروا أنه هين حقير " أو خلقا مما يكبر في صدوركم " فقيل في معناه ثلاثة أقوال: قال مجاهد: السموات والارض والجبال.

وقال قتادة: أي شئ استعظموه من الخلق.

وقال ابن عباس. وسعيدبن جبير والفراء: انه الموت.

قال الفراء قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كنا الموت من كان يميتنا؟ ! فأنزل الله " او خلقا مما يكبر في صدوركم " يعني الموت نفسه اي ليبعث الله عليكم من يميتكم ثم يحييكم.

" فسيقولون من يعيدنا " اخبا رمنه حكاية عن هؤلاء الكفار انهم يقولون من يعيدنا احياء؟ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل الذي فطركم اول مرة " اي الذي خلقكم ابتداء يقدر على إعادتكم، لان أبتداء الشئ اصعب من إعادته، كما قال " وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه "(1) وقال لما قالوا " من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي انشأها اول مرة وهوبكل خلق عليم "(2) وإنماقال لهم ذلك، لانهم كانوا يقرون بالنشأة الاولى.

وقوله " فسينغضون اليك رؤوسهم " معناه انهم إذا سمعوا لهذا حركوا رؤوسهم مستبعدين لذلك.

وقال ابن عباس يحركون رؤوسهم مستهزئين، يقال: انغضت رأسي انغضه انغاضا، ونغض براسه ينغض نغضا إذا حركه والنغض تحريك الراس بارتفاع وانخفاض. ومنه قيل للظليم نغض، لانه يحرك رأسه في مشيه بارتفاع وانخفأض قال العجاج: اصك نغضا لايني مستهدجا(3) ونغضت سنه إذا تحركت من اصلهاقال الراجز: ونغضت من هرم اسنانها(4)

___________________________________

(1) سورة 30 الروم آية 27.

(2) سورة 36 يس آية 79.

(3) تفسير الطبري 15: 65 وتفسير الشوكاني 3: 226.

(4) تفسير الطبري 15 / 65 وتفسير الشوكاني 3: 226 وتفسير القرطبي 10: 274 ومجاز القرآن 1: 382

[488]

وقال آخر: لما رأتني أنغضت لي الرأسا(1) " ويقولون " هؤلاء الكفار " متى هو " يعنون بعثهم وإعادتهم أحياء فقال الله تعالى " قل " لهم يامحمد " عسى ان يكون قريبا " وعسى من الله واجبة، وكل ماهو آت قريب، ومن كلام الحسن انه قال: كأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل.

قوله تعالى: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا(52) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للانسان عدوا مبينا(53) ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا(54))

ثلاث آيات بلاخلاف.

" يوم " يتعلق بقوله " قل عسى ان يكون " بعثكم ايها المشركون " قريبا يوم يدعوكم " وقيل في معني قوله " يوم يدعوكم " قولان: احدهما - انهم ينادون بالخروج إلى ارض المحشر بكلام تسمعه جميع العباد، وذلك يكون بعد ان يحييهم الله، لانه لايحسن ان ينادى المعدوم ولاالجماد. الثاني - انهم يسمعون صيحة عظيمة، فتكون تلك داعية لهم إلى الاجتماع إلى ارض القيامة، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن البعث ويكون اجرى صرخة ثانية

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1: 382 وتفسير الطبري 1: 655 والشوكاني 3: 226

[489]

بسرعة فأجرى مجرى، دعي فأجاب في الحال " فيستجيبون بحمده " قيل في معناه قولان: احدهما - تستجيبون حامدين، كما يقول القائل: جاء فلان بغضبه اي جاء غضبان. الثاني - تستجيبون على ما يقتضيه الحمدلله (عزوجل)، وقيل: معناه يستجيبون معترفين بأن الحمدلله على نعمه، لاينكرونه، لان معارفهم هناك ضرورة قال الشاعر:

فإني بحمد الله لاثوب فاجر *** لبست ولامن غدرة اتقنع(1)

والاستجابة موافقة الداعي فيمادعا اليه بفعله من اجل دعائه، وهي والاجابة واحدة إلا ان الاستجابة تقتضي طلب الموافقة بالارادة بأوكد من الاجابة.

وقوله " وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " قيل في معناه قولان: احدهما - انهم لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة اللبث. الثاني - انه يراد بذلك تقريب الوقت، كما حكي عن الحسن انه قال: كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل.

وقال قتادة: المعنى احتقارا من الدنيا حين عاينوا يوم القيامة.

وقال الحسن ان " لبثتم إلا قليلا " في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة.

وقوله " وقل لعبادي يقول التي هي احسن " قال الحسن: معناه " قل " يامحمد " لعبادي " يأمروا بما امر الله به، وينهوا عمانهى عنه.

وقال الحسن: معناه قل لعبادي يقل بعضهم لبعض أحسن مايقال، مثل رحمك الله ويغفر الله لك.

ثم أخبر تعالى فقال " إن الشيطان ينزع بينهم " اي يفسد بينهم ويلقي بينهم العداوة والبغضاء.

وقال " إن الشيطان كان " في جميع الاوقات عدوا مباينا " للانسان " آدم وذريته.

وقوله " وربكم أعلم بكم " معناه التحذير لعباده من إضمار القبيح، والترغيب

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 10: 266 وتفسير الشوكاني 3: 226 وتفسير روح المعاني 15: 93

[490]

في الجميل، لانه عالم به يقدر أن يجازي على كل واحد منه بماهو حقه " إن يشأ يرحمكم " بالتوبة " وإن يشأ يعذبكم " بالاقامة على المعصية.

وقوله " وما أرسلناك عليهم وكيلا " معناه إنا ماوكلناك بمنعهم من الكفر بل أرسلناك داعيا لهم إلى الايمان وزاجرا عن الكفر، فإن أجابوك، وإلا، فلا شئ عليك واللائمة والعقوبة يحلان بهم.

قوله تعالى: (وربك أعلم بمن في السموات والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا(55) قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا(56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا(57))

ثلاث آيات بلاخلاف.

يقول الله تعالى لنبيه " إن ربك " يامحمد " أعلم بمن في السموات والارض ولقد فضلنا بعض التبيين على بعض " وانماقال ذلك ليدل على أن تفضيل الانبياء بعضهم على بعض وقع موقع الحكمة، لانه من عالم بباطن الامور، واذا ذكر ما هو معلوم فانما يذكره ليدل به على غيره. والانبياء وان كانوا في أعلى مراتب الفضل، لهم طبقات بعضهم أعلى من بعض، وإن كانت المرتبة الوسطى لاتلحق العليا ولايلحق مرتبة النبي من ليس بني أبدا.

وقوله " وآتينا داود زبورا " اي خصصناه بالذكر، وفيه لغتان فتح الزاي، وضمها. والفتح أفصح. ثم قال لنبيه " قل " لهم " ادعوا الذين زعمتم من دونه " يعني الذين زعمتم انهم أرباب وآلهة من دون الله ادعوهم اذا نزل بكم ضرر، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك ام لا.

[491]

وقال ابن عباس والحسن " الذين من دونه " الملائكة والمسيح وعزير.

وقال ابن مسعود: أراد به ماكانوا يعبدون من الجن: وقد أسلم اولئك النفر من الجن لان جماعة من العرب كانوا يعبدون الجن، فأسلم الجن وبقي الكفار على عبادتهم.

وقال أبوعلي: رجع إلى ذكر الانبياء في الآية الاولى. والتقدير إن الانبياء يدعون إلى الله يطلبون بذلك الزلفة لديه ويتوسلون به اليه والى رضوانه وثوابه، أيهم كان أفضل عندالله، واشد تقربا اليه بالاعمال.

ثم قال " فلايملكون " يعني الذين تدعون من دون الله " كشف الضر " والبلاء " عنكم " ولاتحويله إلى سواكم.

ثم قال " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب.. " الاية قوله " اولئك " رفع بالابتداء و " الذين " صفة لهم و " يبتغون إلى ربهم " خبر الابتداء.

والمعنى الجماعة الذين يدعون يبتغون إلى ربهم " أيهم " رفع بالابتداء و " اقرب " خبره.

والمعنى يطلبون الوسيلة ينظرون ايهم اقرب فيتوسلون به، ذكره الزجاج.

وقال قوم: الوسيلة هي القرية والزلفة.

وقال الزجاج: الوسيلة والسؤال والسؤل والطلبة واحد، والمعنى إن هؤلاء المشركين يدعون هؤلاء الذين اعتقدوا فيهم انهم ارباب ويبتغي المدعوون أربابا إلى ربهم القربة والزلفة لانهم اهل إيمان به. والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله، ايهم اقرب عندالله بصالح اعماله واجتهاده في عبادته، فهم يرجون بأفعالهم رحمته ويخافون عذابه بخلافهم إياه " إن عذاب ربك كان محذورا " اي متقى.

[492]

قوله تعالى: (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أؤ معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا(58) وما منعنا أن نرسل بالايات إلا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالايات إلا تخويفا(59) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وماجعلنا الرء‌يا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا(60))

ثلاث آيات.

اخبر الله تعالى انه ليس " من قرية إلا " والله تعالى مهلكها " قبل يوم القيامة ". بكفر من فيها من معاصيهم جزاء على افعالهم القبيحة " او معذبوها عذابا شديدا " والمعنى ان يكون إما الاهلاك والاستئصال أو العذاب، والمراد بذلك قرى لكفر والضلال دون قرى الايمان.

وقيل إن ذلك يكون في آخر الزمان، فيهلك الله كل قرية بعقوبة بعض من فيها، ويكون امتحانا للمؤمنين الذين فيها.

وقيل: ان المعنى مامن قرية إلا والله مهلكها إما بالموت لاهلها او عذاب يستأصلهم ثم اخبر أن ذلك كائن لامحالة، ولايكون خلافه، لان ذلك مسطور في الكتاب يعني في اللوح المحفوظ، والمسطور هو المكتوب يقال: سطر سطرا، قال العجاج:

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر *** في الصحف الاولى التي كان سطر(1)

ثم قال " ومامنعنا ان نرسل بالآيات " يعني الآيات التي اقترحتها قريش من قولهم: حول لنا الصفا ذهبا وفجر لنا من الارض ينبوعا، وغير ذلك، فأنزل الله الآية إني إن حولته، فلم يؤمنوا لم امهلهم كسنتي فيمن قبلهم، وهوقول قتادة وابن جريج. والمنع وجود مالايصح معه وقوع الفعل من القادر عليه فكأنه قد منع منه، ولايجوز إطلاق هذه الصفة في صفات الله، والحقيقة إنا لم نرسل بالآيات لئلا يكذب بها هؤلاء كما كذب من قبلهم، فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة.

وقال قوم: يجوز أن يكون قوله تعالى " إلا أن كذب بها الاولون " تكون (إلا) زايدة، وتقديره مامنعنا ان نرسل بالآيات " ان كذب بها الاولون " أي لم يمنعنا ذلك من إرسالها بل أرسلناها مع تكذيب الاولين.

___________________________________

(1) ديوان 19 ومجاز القرآن 1: 383 وتفسير الطبري 15: 99 واللسان والتاج (نتر)

[493]

ومعنى " ان كذب هو التكذيب، كما تقول: أريد ان تقوم بمعنى أريد قيامك.

ويحتمل ان يكون " إلا " بمعنى (الواو) كماقال " لئلا يكون للناس عليكم حجة، إلا الذين ظلموا "(1) معناه والذين ظلموا منهم، فلا حجة لهم عليهم.

ويكون المعنى ومامنعنا أن نرسل بالآيات وإن كذب بهاالاولون أي لسنا نمتنع من إرسالها، وإن كذبوا بها و (أن) الاولى في موضع نصب بوقوع " منعنا " عليها.

و (أن) الثانية رفع والمعنى، ومامنعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الاولين من الامم، والفعل ل‍ (أن) الثانية.

وقوله " وآتينا ثمود الناقة مبصرة " معناه مبصرة تبصر الناس بمافيها من العبر، والهدى من الضلالة والشقاء من السعادة، ويجوز أن يكون المراد انها ذات إبصار، حكى الزجاج: مبصرة بمعنى مبينة، وبالكسر معناه تبين لهم، قال الفراء: مبصرة مثل مجبنة ومنحلة، وكل (مفعلة) وضعته موضع (فاعل) أغنت عن الجمع والتأنيث، تقول العرب: هذا عشب ملبنة، مسمنة. والولد مجبنة منحلة. وان كان من الياء والواو، فاظهرهما، تقول سراب مبولة، وكلام مهينة للرجال قال عنترة: والكفر مخبثة لنفس المنعم(2) ومعنى مبصرة مضيئة، قال الله تعالى " والنهار مبصرا "(3) اي مضيئا.

وقوله " فظلموا بها " يعني بالناقة (لانهم نحروها وعصوا الله في ذلك، لانه نهاهم عن ذلك، فخالفوا ونحروها. وقيل: ظلموا بها)(4) معناه ظلموا بتكذيبهم إياها بانها معجزة باهرة.

وقوله " ومانرسل بالآيات إلا تخويفا " اي لم نبعث الآيات ونظهرها إلا

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 150.

(2) من معلقته المشهورة ديوانه (دار بيروت) 28 وصدره: نبئت عمرا غير شاكر نعمتي.

(3) سورة 10 يونس آية 67 وسورة 27 النمل اية 86 وسورة 40 المؤمن (غافر) اية 61.

(4) مابين القوسين ساقط من المطبوعة.

[494]

لتخويف العباد من عقوبة الله ومعاصيه.

وقوله " واذا قلنا لك " اي اذكر الوقت الذي قلنا لك يامحمد " ان ربك احاط بالناس " اي احاط علما باحوالهم، وما يفعلونه من طاعة او معصية، وما يستحقونه على ذلك من الثواب والعقاب، وقادرعلى فعل ذلك بهم، فهم في قبضته، لايقدرون على الخروج من مشيئته.

وقوله " وماجعلنا الرؤيا التي اريناك الا فتنة للناس " قيل في معنى ذلك قولان: احدهما - انه اراد رؤية عين، ليلة الاسراء إلى البيت المقدس، فلما اخبر المشركين بمارأى كذبوا به، ذكره ابن عباس، وسعيدبن جبير، والحسن، وقتادة، وابراهيم، وابن جريج، وابن زيد، والضحاك، ومجاهد. الثاني - في رواية اخرى عن ابن عباس: انه رؤيا نوم، وهي رؤيا انه سيدخل مكة، فلما صده المشركون في الحديبية شك قوم ودخلت عليهم الشبهة، فقالوا يارسول الله: أوليس قد اخبرتنا انا ندخل المسجد؟ فقال: قلت لكم انكم تدلونها السنة؟ !.

فقالوا: لا، فقال سندخلنها إن شاء الله، فكان ذلك فتنة وامتحانا وروي عن ابي جعفر وابي عبدالله (ع) ان ذلك رؤيا رآها في منامه أن قرودا تصعد منبره وتنزل، فساء‌ه ذلك، وروى مثل ذلك سهل بن سعد الساعدي عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك، ومثله عن سعدبن بشار،(1) فأنزل الله عليه جبرائيل واخبره مايكون من تغلب أمر بني أمية على مقامه وصعودهم منبره.

وقوله " والشجرة الملعونة في القرآن " قال ابن عباس والحسن وأبومالك وسعيدبن جبير وابراهيم ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: إنها شجرة الزقوم التي ذكرها الله في قوله " ان شجرة الزقوم طعام الايثم "(2) والمعنى ملعون آكلها، وكانت فتنتهم بها قول ابي جهل وذويه النار تأكل الشجرة وتحرقها، فكيف ينبت فيها الشجر، وعن أبي جعفر ان الشجرة الملعونة هم بنو امية،

___________________________________

(1) في المخطوطة (سعيدبن يسار).

(2) سورة 44 الدخان آية 43

[495]

وقال البلخي: يجوز ان يكون المراد به الكفار.

وقوله " ونخوفهم " أي نرهبهم بما نقص عليهم من هلاك من مضى بها، فما يزدادون عند ذلك " إلا طغيانا كبيرا " أي عتوا عظيما وتماديا وغيا.

الآية: 61 - 90

قوله تعالى: (وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال‌ ء‌أسجد لمن خلقت طينا(61) قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيمة لاحتنكن ذريته إلا قليلا(62) قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا(63))

ثلاث آيات.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم واذكر " إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا إبليس " وقد بينا أن امر الله تعالى بأن اسجدوا لآدم تعظيم لآدم وتفضيله عليهم وإن كانت القربى(1) بذلك السجود إلى الله تعالى، وفي الناس من قال: انه كان بمنزلة القبلة لهم وإن كان فيه تشريف له.

ثم اخبر تعالى ان الملائكة امتثلت امر الله فسجدت له " إلا إبليس " فقد قلنا ان اخبارنا تدل على ان ابليس كان من جملة الملائكة، وانما كفر بامتناعه من السجود، ومن قال ان الملائكة معصومون فان إبليس لم يكن من جملة الملائكة والاستثناء في الآية استثناء منقطع و (إلا) بمعنى (لكن) وإنماضمه إلى الملائكة من حيث جمعهم في الامر، والتكليف بالسجود، فلذلك استثناه من جملتهم.

ثم اخبر تعالى عن إبليس أنه قال " أأسجد لمن خلقت طينا " على وجه الانكار

___________________________________

(1) في المخطوطة (وان كان الغرض)

[496]

لذلك، وأن من خلق من نار أشرف وأعظم، من الذي خلق من طين، وآدم اذا كان مخلوقامن طين كيف يسجدله من هو مخلوق من نار، وهو ابليس، وذلك يدل على ان إبليس فهم من ذلك الامر تفضيله عليه، ولوكان بمنزلة القبلة لماكان لامتناعه عليه وجه، ولالدخول الشبهة بذلك مجال.

و " طينا " نصب على التمييز، ويجوز ان يكون نصبا على الحال. والمعنى إنك انشأته في حال كونه من طين. ووجه الشبهة الداخلة على إبليس ان الفروع ترجع إلى الاصول فتكون على قدرها في التكبر أو التصغر، فلما اعتقد أن النار اكرم أصلا من الطين جاء منه انه أكرم ممن خلق من طين، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها متماثلة، وان الله تعالى يصرفها بالاعراض كيف شاء مع كرم جوهر الطين وكثرة مافيه من المنافع التي تقارب منافع النار او توفى عليها.

وانماجاز ان يأمره بالسجود له، ولم يجز ان يأمره بالعبادة له، لان السجود يترتب في التعظيم بحسب مايراد به، وليس كذلك العبادة التي هي خضوع بالقلب ليس فوقه خضوع، لانه يترتب في التعظيم بحسب نيته، يبين ذلك انه لو سجد ساهيا لم يكن له منزلة في التعظيم على قياس غيره من افعال الجوارح.

قال الرماني: الفرق بين السجود لآدم والسجود إلى الكعبة، ان السجود لآدم تعظيم له باحسانه، وهذا يقارب قولنا في أنه قصد بذلك تفضيله بأن امره بالسجود له.

ووجه اتصال هذه الآية بماقبلها أن المعنى مايزيدهم إلا طغيانا كبيرا محققين ظن إبليس فيهم مخالفين موجب نعمة ربهم على أمتهم وعليهم ثم حكى تعالى عن إبليس أنه قال " ارأيتك هذا الذي كرمت علي " ومعناه اخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي؟ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ! فحذف لدلالة الكلام عليه.

وإنما قال " أأسجد " بلا حرف عطف، لانه على قوله " أأسجد " لمن خلقت طينا " والكاف في قوله " أرأيتك " لاموضع لها من الاعراب، لانها ذكرت في

[497]

المخاطبة توكيدا، و (هذا نصب ب‍ (أرأيتك)، والجواب محذوف. والمعنى ما قدمناه.

وقوله " لئن اخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا "، ومعنى لاحتنكن لاقطعنهم إلى المعاصي، يقال منه: احتنك فلان ماعند فلان من مال أوعلم او غير ذلك، قال الشاعر:

أشكو اليك سنة قد أجحفت *** جهدا إلى جهدبنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا وجلفت(1) وقال ابن عباس: معنى " لاحتنكن " لاستولين، وقال مجاهد: لاحتوين، وقال ابن زيد: لاضلنهم، وقال قوم: لاستأصلن ذريته بالاغواء، وقال آخرون: لاقودنهم إلى المعاصي، كماتقاد. الدابة بحنكها إذاشد فيها حبل تجر به.

وقوله " الا قليلا " استثناء من ابليس القليل من ذرية آدم الذين لا يتبعونه ولايقبلون منه.

فقال الله تعالى عند ذلك " اذهب " يا ابليس " فمن تبعك " من ذرية آدم واقتفى أثرك وقبل منك " فان جهنم جزاؤ كم جزاء موفورا " أي كاملا، يقال منه: وفرته أفره وفرا، فهو موفور، وقال زهير:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ومن لايتق الشتم يشتم(2)

ووفرته توفيرا، ويقال: موفورا بمعنى وافر، في قول مجاهد، كأنه ذو وفر، كقولهم: لابن أي ذولبن، وقد دل على انهم لاينقصون من عقابهم الذين يستحقونه شيئا، وفي ذلك استخفاف به وهوان له. وانما ظن ابليس هذا الظن الصادق، بأنه يغوي اكثر الخلق، لان الله تعالى كان قد أخبر الملائكة أن سيجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فكان قد علم بذلك.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 15: 75.

(2) ديوانه (دار بيروت) 87 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3 / 233 وتفسير روح المعاني 15 / 110

[498]

وقيل: انما قال ذلك، لانه وسوس إلى آدم فلم يجدله عزما، فقال: بنو هذا مثله في ضعف العزيمة، ذكره الحسن. وهذا الوجه لايصح على اصلنا، لان عندنا ان آدم لم يفعل قبيحا، ولاترك واجبا، فلوظن ابليس ان اولاده مثله، لانتقض غرضه، ولم يخبر بماقال.

و (لئن) حرف شرط، ولايليه الا الماضي، والشرط لايكون الا بالمستقبل والعلة في ذلك ان اللام في (لئن) تأكيد يرتفع الفعل بعده و (ان) حرف شرط ينجزم الفعل بعده، فلما جمعوا بينهما، لم يجز ان يجزم فعل واحد ويرفع، فغير المستقبل إلى الماضي، لان الماضي لايبين فيه الاعراب، ذكر هذه العله ابن خالوية.

قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا(64) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا(65) ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما(66))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ حفص وحده " ورجلك " بكسر الجيم. الباقون بتسكينها.

من سكن أراد جمع (راجل) مثل صاحب وصحب، وراكب وركب.

ومن كسر اراد قولهم: رجل يرجل، فهو راجل.

قوله: " واستفزز.. واجلب " صورته صورة الامر والمرادبه التهديد، وجرى

[499]

مجرى قوله " اعملوا ماشئتم "(1) وكمايقال للانسان: اجهد جهدك، فسترى ما ينزل بك، وانما جاء التهديد بصيغة الامر، لانه بمنزلة من امر باهانة نفسه، لان هذا الذي يعمله هوان له وهو مأمور به.

ومعنى (استفزز) استزل، يقال: استفزه واستزله بمعنى واحد، وتفزز الثوب اذ تمزق، وفززه تفززا، وأصله القطع، فمعنى استفزه استزله بقطعه عن الصواب " من استطعت منهم " فالاستطاعة قوة تنطاع بها الجوارح للفعل، ومنه الطوع والطاعة، وهو الانقياد للفعل.

وقيل في الصوت الذي يستفزهم به قولان: احدهما - قال مجاهد: صوت الغناء واللهو. الثاني - قال ابن عباس: هو كل صوت يدعا به إلى معصية الله.

وقيل: كل صوت دعي به إلى الفساد، فهومن صوت الشيطان.

وقال: " واجلب عليك بخيلك " فالاجتلاب السوق بجلبة من السائق. وفي المثل (اذا لم تغلب فاجلب) يقال: جلب يجلب جلبا واجلب إجلابا، واجتلب اجتلابا، واستجلب استجلابا، وجلب تجليبا مثل صوت، واصل الجلبة شدة الصوت، وبه يقع السوق.

وقوله: " بخيلك ورجلك " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: كل راكب او ماش في معصية الله من الانس والجن، فهو من خيل ابليس ورجله، والرجل جمع راجل مثل تجر وتاجر، وركب وراكب.

وقوله: " وشاركهم في الاموال والاولاد " فمشاركته إياهم في الاموال كسبها من وجوه محظورة او إنفاقها في وجوه محظورة، كمافعلوا في السائبة والبحيرة والحام، والاهلال به لغير الله، وغير ذلك. ومشاركته في الاولاد، قال مجاهد والضحاك: فهم اولاد الزنا.

وقال ابن عباس: الموؤدة.

وقيل: من هودوا ونصروا، في قول الحسن وقتادة.

وقال ابن عباس في رواية: هو تسميتهم عبد

___________________________________

(1) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 40

[500]

الحارث، وعبد شمس، ومااشبه ذلك.

وقيل: ذلك واحد من هذه الوجوه، وهو أعم.

وقوله " وعدهم " اي منهم البقاء وطول الامل.

ثم قال تعالى " وما يعدهم الشيطان " أي ليس يعدهم الشيطان " الا غرورا " ونصب على انه مفعول له (اي ليس يعدهم الشيطان الا لاجل الغرور)(1).

ثم قال تعالى " ان عبادي " يعني الذين يطيعوني ويقرون بتوحيدي ويصدقون أنبيائي، ويعملون بمااوجبه عليهم، وينتهون عن معاصي " ليس لك " ياابليس " عليهم " حجة ولاسلطان.

قال الجبائي: معناه ان عبادي ليس لك عليهم قدرة، على ضر ونفع اكثر من الوسوسة، والدعاء إلى الفساد، فأما على كفر أو ضرر، فلا، لانه خلق ضعيف متخلخل، لايقدر على الاضرار بغيره.

ثم قال " وكفى بربك " اي حسب ربك " وكيلا " اي حافظا، ومن يسند الامر اليه ويستعان به في الامور.

ثم خاطب تعالى خلقه فقال: ربكم الذي خلقكم " هوالذي " يزجي لكم الفلك في البحر " قال ابن عباس: معناه يجريها، وبه قال قتادة، وابن زيد يقال: أزجى يزجي ازجاء إذاساق الشئ حالا بعد حال " لتبتغوا من فضله " اي لتطلبوا فضل الله في ركوب البحر من الارياح وغيرها " انه كان بكم رحيما " اي منعما عليكم راحم لكم، يسهل لكم طرق ماتنتفعون بسلوكه دينا ودنيا.

___________________________________

(1) مابين القوسين ساقط من المطبوعة.

[501]

قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا(67) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا(68) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعا(69))

ثلاث آيات.

قرأ ابن كثير وابوعمرو " أن نخسف.. او نرسل.. أن نعيدكم.. فنرسل " بالنون فيهن الباقون بالياء. الاابا جعفر، وورش، فانهما قرأا " فتغرقكم " بالتاء يردانه إلى الريح.

ومن قرأ بالنون اراد الاخبار من الله عن نفسه.

ومن قرأ بالياء اراد أن محمدا اخبر عن الله، والمعنيان متقاربان.

وقال ابوعلي: من قرأ بالياء فلانه تقدم " ضل من تدعون الا اياه، فلما نجاكم إلى البر.. أفامنتم ان يخسف بكم " ومن قرأ بالنون، فلان مثله قد ينقطع بعضه عن بعض.

والمعنى واحد، يقول الله تعالى لخلقه: انه اذا نالكم الضر، وانتم ركاب البحر بان أشرفتم على الهلاك وخب بكم البحر وماجت الامواج " ضل من تدعون " اي يكون بمنزلة من يضل عنكم، ولاينجيكم من اهواله الا الله تعالى.

وانما خص البحر بذكر النجاة، لان له اهوالا هيجانية وخبة، لايطمع عاقل في ان ينجيه احد منه الا الذي خلق النفس وانعم بما وهب من العقل والسمع والبصر.

وقال: اذا دعوتموه في ذلك الحال، ونجاكم، وخلصكم، واخرجكم منه إلى البر اعرضتم عن ذكر الله، والاعتراف بنعمه.

ثم قال تعالى: " وكان الانسان كفورا " لنعم الله تعالى، ثم قال مهددا لهم: " أفأمنتم " اي هل أمنتم اذا ضربتم في البر " أن يخسف بكم " جانبه ويقلب اسفله اعلاه فتهلكون عند ذلك، كما خسفنا بمن كان قبلكم من الكفار نحو قوم لوط وقوم فرعون " أو يرسل عليكم حاصبا " بمعنى حجارة تحصبون بها او ترمون بها والحصباء الحصى الصغار، ويقال: حصب الحصى يحصبه حصبا اذ رماه رميا متتابعا، والحاصب ذو الحصب. والحاصب فاعل الحصب " ثم لاتجدوا لكم وكيلا " أي من يدفع ذلك عنكم.

[502]

ثم قال: " أم " اي هل " أمنتم أن يعيدكم " في البحر دفعة اخرى بان يجعل لكم إلى ركوبه حاجة " فيرسل عليكم قاصفا من الريح " فالقاصف الكاسر بشدة قصفه يقصفه قصفا، فهو قاصف، وتقصف شعره تقصفا، وانقصف الرجل انقصافا وقصف الشئ تقصيفا، " فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " اي من يتبع إهلاككم للمطالبة بدمائكم او يأخذ بثاركم، وقيل ان القاصف الريح الشديدة تقصف الشجر بشدتها.

وانما قيل: حاصب على وزن فاعل لامرين: احدهما - ريح حاصب أي تحصب الحجارة من السماء، قال الشاعر:

مستقبلين شمال الشام يضربنا *** بحاصب كنديف القطن منثور(1)

وقال الآخر:

ولقد علمت إذا العشار تروحت *** حتى تبيت على العصاة حفالا(2)

الثاني - حاصب ذو حصب.

قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا(70) يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرون كتابهم ولايظلمون فتيلا(71) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا(72))

ثلاث آيات بلا خلاف.

___________________________________

(1) قائله الفرزدق ديوانه (دار بيروت) 1: 213 وتفسير الطبري 15 / 79 وتفسير القرطبي 10 / 292 والشوكاني 3 / 235 وروح المعاني 15 / 116(2) تفسير الطبري 15 / 97

[503]

اخبر الله تعالى: انه كرم " بني آدم " وانما عنى بني آدم بالتكرمة مع ان فيهم كفارا، لان المعنى كرمناهم بالنعمة على وجه المبالغة في الصفة.

وقال قوم: جرى ذلك مجرى قوله " كنتم خير أمة اخرجت للناس(1) " فاجرى الصفة على جماعتهم من اجل من فيهم على هذه الصفة.

ثم بين تعالى الوجوه التي كرم بها بني آدم بأنه حملهم في البر والبحر على مايحملهم من الابل وغيرها، كما قال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة "(2) والبحر، والسفن التي خلقها لهم واجراها بالرياح فوق الماء ليبلغوا بذلك حوائجهم " ورزقناهم من الطيبات " يعني من الثمار والفواكه وطيبات الاشياء، وملاذها التي خص بها بني آدم ولم يشرك شيئا من الحيوان فيها من فنون الملاذ.

وقيل: من تفضيل بني آدم ان يتناول الطعام بيديه دون غيره، لان غيره يتناوله بفيه، وانه ينتصب، وما عداه على اربع او على وجهه.

وقوله: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " وليس المراد بذلك تفضيلهم بالثواب، لان الثواب لايتفضل به ابتداء، وانما فضلهم ابتداء بان خلق لهم من فنون النعم وضروب الملاذ مالم يجعله لشئ من الحيوان، وانما فعل ذلك تفضلا منه تعالى، ولمافي ذلك من اللطف للعاقل، والصلاح الذي ينتظم ويتم بهذا التأويل، واستدل جماعته بقوله " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا " على تفضيل الملائكة على الانبياء، قال لان قوله " على كثير ممن خلقنا " يدل على ان ههنا من لم يفضلهم عليهم، وليس الا الملائكة، لان ابن آدم افضل من كل حيوان سوى الملائكة بلا خلاف. وهذا باطل بماقلناه من ان المراد بذلك تفضيلهم بالنعم الدنياوية، والالطاف، وليس المراد بذلك الثواب بدلالة ابتدائهم بهذا التفضيل. والثواب لايجوز الابتداء به.

وقوله " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " قال الزجاج: يتعلق بقوله " يعيدكم.. يوم ندعو " وقيل: تقديره اذكر يوم. وقيل انه يتعلق بقوله " وفضلناهم على

___________________________________

(1) سورة آل عمران اية 110.

(2) سورة 16 النحل آية 8

[504]

كثير ممن خلقنا تفضيلا.. يوم ندعو "، لان مافعله بهم من الالطاف في الدنيا، لان يطيعوا ويفعلوا من الافعال مايدعون به يوم القيامة. واختلفوا في الامام الذي يدعون به يوم القيامة، فقال مجاهد وقتادة: إمامه نبيه.

وقال ابن عباس: إمامه كتاب علمه. وروي عنه ايضا أن إمامهم كتابهم الذي انزل الله اليهم فيه الحلال والحرام والفرائض والاحكام.

وقال البلخي: بماكانوا يعبدونه، ويجعلونه إماما لهم.

وقال ابوعبيد: بماكانوا يأتمون به في الدنيا. وهو قول ابي جعفر وابي عبدالله (ع).

وقوله " فمن أرتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم.. " الاية، جعل الله تعالى إعطاء الكتاب باليمين من علامة الرضا والخلاص، وأن من أعطي كتابه باليمين تمكن من قراء‌ته وسهل له ذلك، وكان فحواه أن من أعطي كتابه بشماله أو وراء ظهره، فإنه لايقدر على قراء‌ة كتابه، ولايتأتي له، بل يتلجلج فيه، لمايراه من المعاصي الموبقات.

وقوله " ولايظلمون فتيلا " معناه لا يبخص أحد حقه، ولايظلم شيئا، سواء كان مستحقا للثواب أو العقاب، فإن المستحق للثواب لايبخس منه شيئا والمستحق للعقاب لايفعل به أكثر من استحقاقه، فيكون ظلما له.

(والفتيل) هوالمفتول الذي في شق النواة - في قول قتادة - وقيل الفتيل في بطن النواة، والنقير في ظهرها، والقطمير قشر النواة، ذكره الحسن.

وقوله " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " قرأأهل العراق إلا حفصا والاعشى " ومن كان في هذه أعمى " بالامالة. الباقون بالتفخيم وقرأ حمزة والكسائي إلا نصيرا، وخلفا، وأبابكر إلا الاعشى والبرجمي " فهو في الآخرة أعمى " بالامالة: الباقون بالتفخيم.

وقيل في معنى الآية قولان: أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة، وابن زيد: من كان في أمر هذه

[505]

الدنيا، وهي شاهدة له من تدبيرها وتوثقها وتقلب النعم فيها أعمى عن اعتماد(1) الصواب الذي هو مقتضاها، فهو في الآخرة التي هي غائبة(2) عنه " أعمى وأضل سبيلا " وقال قوم: من كان في هذه الدنيا أعمى عن طريق الحق، فهو في الاخرة أعمى عن الرشد المؤدي إلى طريق الجنة.

وقال أبوعلي: فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة.

ومن فخم في الموضعين، فلان الياء فيهما قد صارت ألفا لانفتاح ماقبلها.

والاصل فمن كان في هذه اعمى، فهو في الآخرة أعمى، ومن كان فيما وضعناه من نعيم الدنيا اعمى، فهو في نعيم الآخرة اعمى.

واما تفريق ابي عمروبين اللفظين فلا ختلاف المعنى، فقال ومن كان في هذه اعمى ممالا، فهو في الاخرة اعمى بالفتح اي أشد عما، فجعل الاول صفة بمنزلة أحمر وأصفر، والثاني بمنزلة أفعل منك، كقوله " وأضل سبيلا " اي اعمى قلبا.

والعمى في العين لايتعجب منه بلفظة (أفعل)، ولا يقال ماأعماه، بل يقال ماأشد عماه، وفي القلب ماأعماه بغير أشد، لان عما القلب حمق، كماقال الشاعر لمرور ماأحمره وأبيضه، فقال:

أما الملوك فأنت اليوم ألامهم *** لؤما وأبيضهم سربال طباخ(3)

وقال بعضهم: لاوجه لتفريق ابي عمرو، لان الثاني، وإن كان بمعنى (أفعل منك " فلايمنع من الامالة، كمالم يمنع بالذي هو ادنى، قال ابن خالويه ابوعبدالله إنمااراد ابوعمرو ان يفرق بينهما لما اختلف معناهما، واجتمعا في آية واحده، كماقرأ " ويوم القيامة يردون " يعني الكفار، ثم قال في آخر؟ " عما تعملون "(4) اي أنتم وهم، ولو وقع مفردا، لاجاز الامالة والتفخيم فيهما، قال ابوعلي: ومن أمال الجميع كان حسنا، لانه ينحو نحوالياء بالالف ليعلم انها منقلبة إلى الياء وان كانت فاصلة او مشبهة للفاصلة، فالامالة حسنة فيها، لان الفاصلة موضع

___________________________________

(1) في المخطوطة (اعتقاد).

(2) أثبتنا مافي المخطوطة، وكان في المطبوعة (غايته).

(3) تفسير القرطبي 10 / 299 وتفسير الشوكاني 3 / 238.

(4) سورة البقرة آية 85

[506]

وقف، والالف تخفى في الوقف، فأما إذا أمالها، نحا بهانحو الكسرة وليكون أظهر لها وأبين.

قوله تعالى: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا(73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا(74) إذا لاذقناك ضعف الحيوة وضعف الممات ثم لاتجد لك علينا نصيرا(75))

ثلاث آيات.

قال الزجاج: معنى الكلام كادوا يفتنونك، ودخلت (ان واللام) للتوكيد ومعنى (كاد) المقاربة.

وقوله " وإن كادوا " قال الحسن: معناه قارب بأن هم من غير عزم.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله وضع عن أمتي ماحدثت به نفسها إلا من عمل شيئا او تكلم به) وقيل انهم قالوا: لاندعك تستلم الحجر حتى تلم بآلهتنا.

وقال مجاهد، وقتادة: الفتنة التي كاد المشركون ان يفتنوا النبي صلى الله عليه وسلم. بها الالمام بآلهتهم ان يمسها في طوافه، لما سألوه في ذلك، ولاطفوه.

وقال ابن عباس: هم بإنظار ثقيف بالاسلام حتى يقبضوا مايهدي لآلهتهم ثم يسلموا فيها.

امتن الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لولا انه ثبته بلطفه، وكثرة زواجره وتواتر نهيه، لقد كاد يركن اي يسكن، ويميل إلى المشركين قليل، على مايريدون يقال: ركن يركن، وركن يركن، ثم قال " إذا لاذقناك ضعف الحياة، وضعف المماة " اي لو فعلت ذلك، لاذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب المماة لعظم ذلك منه لو فعله، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.

وإنماكان يعظم عذابه بالركون اليهم لكثرة زواجره وفساد العباد به.

[507]

وقيل لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين) روى ذلك قتادة.

ومعنى الفتنة - ههنا - الضلال، والتقدير وإن كادوا ليفتنونك ليضلوك عن الذي اوحينا اليك، في قول الحسن وأصل الفتنة المحنة التي يطلب بها خلاص الشئ مما لابسه، فطلبوا إخراجه إلى الضلالة.

وقوله " لتفتري علينا غيره " اي لتكذب علينا غير مااوحينا اليك وإن فعلت ذلك لاتخذوك خليلا وديدا.

وقوله " ثم لاتجد لك علينا نصيرا " اي لو فعلت الركون اليهم لاذقناك ماقلناه من العذاب، ثم لاتجد لك علينا ناصرا يدفع عنك مانريد فعله بك.

قوله تعالى: (وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لايلبثون خلافك إلا قليلا(76) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولاتجد لسنتنا تحويلا(77) أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا(78))

ثلاث آيات.

قرأ ابن عامر واهل الكونة الا ابابكر " خلافك ". الباقون " خلفك " فمن قرأ " خلفك " فلقوله " فجعلناها نكالا لما بين يديها وماخلفها "(1) وقوله " بمقعدهم خلاف رسول الله "(2) اي لمخالفتهم إياه، ومن قرأ " خلافك " قال بعدك وخلفك وخلافك بمعنى واحد، يقول الله تعالى " وإن كادوا " يعني المشركين " ليستفزونك من الارض " قال الحسن: معناه ليقتلونك، وقال غيره: الاستخفاف بالانزعاج.

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 66.

(2) سورة 9 التوبة آية 82

[508]

وقال ابوعلي: هموا بأن يخرجوه من ارض العرب لامن مكة فقط، إذ قد أخرجوه من مكة، وقال المعتمد ابن ابي سليمان عن ابيه: الارض التي ارادوا استزلاله منها: هي ارض المدينة، لان اليهود قالت له: هذه الارض ليست ارض الانبياء وانما أرض الانبياء الشام.

وقال قتادة ومجاهد: هي مكة، لان قريشا همت بإخراجه منها.

ثم قال تعالى: انهم لو اخرجوك من هذه الارض لمالبثوا، لمااقاموا بعدك فيها إلا قليلا.

وقال ابن عباس والضحاك: المدة التي لبثوا بعده هو مابين خروج النبي من مكة، وقتلهم يوم بدر.

ومن قرأ خلافك اراد بعدك، كماقال الشاعر:

عقب الرذاذ خلافها فكأنما *** بسط الشواطب بينهن حصيرا(1)

الرذاذ المطر الخفيف، يصف روضة وأرضا غب مطرها، وكانت حضراء وقال الحسن الاستفزاز - ههنا - الفتل.

وقوله " وإذا لايلبثون " بالرفع، لان (إذا) وقعت بعد الواو، فجاز فيها الالغاء، لانها متوسطة في الكلام، كما انه لابد من ان تلغى في آخر الكلام.

وقوله " سنة من قد ارسلنا " انتصب (سنة) بمعنى لايلبثون. وتقديره: لا يلبثون لعذابنا إياهم كسنة من قبلك، إذ فعلت اممهم مثل ذلك. ثم قال " لاتجد لسنتنا تحويلا " اي تغييرا وانتقالا من حالة إلى حالة اخرى. بل هي على وتيرة واحدة. ثم امر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال " اقم الصلاة " والمراد به أمته معه " لدلوك الشمس " اختلفوا في الدلوك، فقال ابن عباس، وابن مسعود، وابن زيد: هوالغروب والصلاة المأمور بها - ههنا - هي المغرب، وقال ابن عباس في رواية اخرى والحسن، ومجاهد، وقتادة: دلوكها زوالها، وهوالمروي عن ابي جعفر وابي عبدالله (ع). وذلك ان الناظر اليها يدلك عينيه، لشدة شعاعها. واماعند غروبها فيدلك عينيه لقلة تبينها، والصلاة المأمور بها عند هؤلاء الظهر، وقال الراجز:

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1 / 387 وتفسير الطبري 10 / 127، 15 / 84 واللسان والتاج (خلف) وتفسير الشوكاني 3: 239 وقد روي (عقب الربيع) وفي راوية اخرى (عفت الديار).

[509]

هذا مقام قدمي رباح *** للشمس حتى دلكت براح(1)

ورباح اسم ساقي الابل.

من روى بكسر الباء اراد براحته، قال الفراء: يقال: بالراحة على العين، فينظر هل غابت الشمس بعد، قال الفراء هكذا فسروه لنا، ومن روأه بفتح الباء جعله اسما للشمس مبنيا على (فعال) مثل قطام وحذام وقال العجاج:

والشمس قد كادت تكون دنفا *** ادفعها بالراح كي تزحلفا(2)

وغسق الليل ظهور ظلامه، ويقال غسقت القرحة إذا انفجرت، فظهر ما فيها.

وقال ابن عباس وقتادة: هو بدؤ الليل، قال الشاعر: إن هذا الليل اذ عسقا(3) وقال الجبائي غسق الليل ظلمته، وهووقت عشاء الآخرة.

وقوله " وقرآن الفجر " قال قوم يعني القرآن الفجر في الصلاة، وذلك يدل على أن الصلاة، لاتتم إلا بالقراء‌ة، لانه أمر بالقراء‌ة وأراد بها الصلاة، لانها لاتتم إلابها.

وقوله: " إن قرآن الفجر كان مشهودا " معناه يشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار، ذهب اليه ابن عباس، وقتادة ومجاهد وابراهيم.

وروي عن امير المؤمنين (ع) وأبي بن كعب أنها الصلاة الوسطي، وقال الحسن: " لدلوك الشمس " لزوالها: صلاة الظهر، وصلاة العصر إلى " غسق الليل " صلاة المغرب والعشاء

___________________________________

(1) البيت من نوادر ابي زيد. تفسير القرطبي 10: 303 ومجاز القرآن 1: 387 وتهذيب الالفاظ 393 والمجالس للثعالبي 373 وتفسير الشوكاني 3: 241 وتفسير الطبري 15: 85 وغيرها. وقد روى (عدوة) بدل للشمس) وروي ايضا (ذبيب) في رواية اخرى.

(2) ديوانه 82 وتفسير القرطبي 10: 303 وتفسير الطبري 15: 86 وتفسير القرطين 1: 261.

(3) قائله عبدالله بن قيس الرقيات. ديوانه (دار بيروت) 188 وتفسير روح المعاني 15: 132 وتفسير القرطبي 10: 304 وتفسير الطبري 15: 87 ومجاز القرآن 1: 388 واللسان والتاج (غسق) وتفسير الشوكاني 3: 241 وعجزه: واستكن الهم والارقا.

[510]

الآخرة، كأنه يقول من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على مايبين لك من حال الصلوات الاربع، ثم صلاة الفجر، فأفردت بالذكر.

وقال الزجاج: سمى صلاة الفجر " قرآن الفجر "، لتأكد أمر القراء‌ة في الصلاة، ومعنى " لدلوك الشمس " أي عند دلوبها. واستدل قوم بهذه الآية على أن وقت الاولى موسع إلى آخر النهار، لانه أوجب إقامة الصلاة من وقت دلوك الشمس إلى وقت غسق الليل، وذلك يقتضي ان مابينهما وقت. وهذا ليس بشئ، لان من قال: إن الدلوك هوالغروب لادلالة فيها عليه عنده، لان من قال ذلك يقول: انه يجب إقامة المغرب من عند المغرب إلى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق، ومابين ذلك وقت المغرب.

ومن قال: الدلوك هو الزوال يمكنه أن يقول: المراد بالآية البيان لوجوب الصلواة الخمس على ماذكره الحسن، لابيان وقت صلاة واحدة، فلا دلالة له في الآية.

و (مشهودا) قيل في معناه قولان: احدهما - تشهده ملائكة الليل، والنهار. والثاني - قال الجبائي: فيه حث للمسلمين على ان يحضروا هذه الصلاة ويشهدوها للجماعة.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21329751

  • التاريخ : 28/03/2024 - 08:23

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net