00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يونس من ( آية 1 ـ 50 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

10 - سورة يونس

(مكية وهي مئة وتسع آيات)

الآية: 1 - 19

بسم الله الرحمن الرحيم

الر تلك آيات الكتاب الحكيم(1)

آية.

إنما لم تعد (الر) آية كما عد (الم) آية في عدد الكوفيين لان آخره لا يشاكل رؤس الاي التي بعده، إذ هي بمنزلة المردف بالياء. و (طه) عد، لانه يشاكل رؤس الاي التي.

وقرأ (الر) بالتفخيم ابن كثير ونافع وأبوجعفر.

وقرأ بالامالة أبوعمرو، وابن عامر، وحمزة والكسائي.

واختلفوا عن عاصم: فروى هبيرة عن حفص بكسر الراء.

الباقون عنه بالتفخيم.

قال ابوعلي الفارسي: من ترك الامالة، فلان كثيرا من العرب لايميل ما يجوز فيه الامالة كما يمنعها المستعلي. ومن أمال، فلانها اسم لما يلفظ به من الاصوات، فجازت الامالة من حيث كانت اسما ولم تكن كالحروف التي تمنع فيها الامالة.

وقال الرماني: انما جاز إمالة حروف الهجاء، لان ألفه في تقدير الانقلاب عن ياء. وقد بينا في أول سورة البقرة معنى هذه الحروف التي في أول السور، واختلاف المفسرين، وقلنا: إن أقوى الوجوه أنها اسماء السور، فلا وجه لاعادته.

وقوله " تلك قال ابوعبيدة معنا هذه.

وقال الزجاج: المعنى الايات التي تقدم ذكرها، وهو قول الجبائي.

وقال قوم: انما قال " تلك " لتقدم الذكر (الرفي) كقولك هند هي كريمة. وانما اضيفت الايات إلى الكتاب لانها أبعاض

[332]

الكتاب، كما أن السورة ابعاضه، وكذلك محكمه ومتشابهه واسماؤه وصفاته ووعده ووعيده وأمره ونهيه وحلاله وحرامه والاية العلامة النى تنبئ عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة.

والقرآن مفصل يالايات مضمن بالحكم النافية للشبهات وانما وصف الكتاب بأنه حكيم، لانه دليل على الحق كالناطق بالحكمة، ولانه يؤدي إلى المعرفة التي يميز بها طريق الهلاك من طريق النجاة.

وقال ابوعبيدة: حكيم ههنا بمعنى محكم وأنشد لابي ذؤيب:

يواعدني عكاظ لننزلنه *** ولم يشعر إذن أني خليف(1)

أي مخلف من اخلفته الوعد.

ويؤكد ذلك قوله " الر كتاب أحكمت آياته " والايات العلامات.

والكتاب اسم من اسماء القرآن وقد بيناه فيما مضى.

وحكي عن مجاهد أنه قال (تلك) اشارة إلى التوراة الانجيل.

وهذا بعيد لانه لم يجر لهما ذكر.

قوله تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين(2)

آية.

قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي " لساحر مبين " بألف. الباقون بغير ألف.

قال أبوعلي الفارسي: يدل على ساحر قوله " وقال الكافرون هذا ساحر كذاب "(2) ويدل على " سحر " قوله " ولما جاء‌هم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون "(3) والقول في الوجهين أنه قد تقدم قوله " أن اوحينا إلى رجل منهم " فمن قال " ساحر " أراد به الرجل ومن قال " سحر " أراد الذي أوحي " سحر "

___________________________________

(1) ديوان الهذليين 1 / 99 واللسان (خلف) ومجاز القرآن 1 / 273.

(2) سورة 38 ص آية 4.

(3) سورة 43 الزخرف آية: 30

[333]

أي الذي يقول أنه وحي " سحر " وليس بوحي.

ومعنى قوله " أكان للناس عجبا " أكان أيحاؤنا القرآن إلى رجل منهم عجبا؟ وإنذارهم عقاب الله على معاصيه كأنهم لم يعلموا أن الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر، فعجبوا من وحينا اليه الان؟ فالالف ألف استفهام والمراد به الانكار.

وقال ابن عباس ومجاهد وابن جريح: عجبت العرب وقريش أن يبعث الله منهم نبيا فأنزل الله الاية.

وقال الحسن: معنا ليس بعجب ما فعلنا في ذلك.

والمعنى ألم يبعث الله رسولا من أهل البادية ولا من الجن ولا من الانس.

والعجب تغير النفس بما لا يعرف سببه مما خرج عن العادة إلى ما يجوز كونه.

والانذار هو الاخبار على وجه التخويف، فمن حذر من معاصي الله فهو منذر. وهذه صفة النبي صلى الله عليه واله.

وقوله " أن أوحينا " في موضع رفع وتقديره أكان للناس عجبا وحينا و " أن أنذر " في موضع نصب، وتقديره وحينا بأن أنذر، فحذف الجار فصار موضعه نصبا، و " أن لهم " نصب بقوله " وبشر الذين آمنوا " ولو قرئ بالكسر كان جائزا لان البشارة هي القول إلا أنه لم يقرأ به.

وقوله " وبشر الذين آمنوا " أمر للنبي صلى الله عليه واله أن يبشر المؤمنين، وهو أن يعرفهم ما فيه السرور بالخلود في نعيم الجنة على وجه الاكرام والاجلال بالاعمال الصالحة.

وقوله " أن لهم قدم صدق عند ربهم " معناه ان لهم سابقة إخلاص الطاعة كاخلاص الصدق من شائب الكذب.

وقالوا: له قدم في الاسلام، والجاهلية.

وهو كالقدم في سبيل الله، قال حسان:

لنا القدم العليا اليك وخلفنا *** لاولنا في طاعة الله تابع(1)

وقال ذو الرمة:

لكم قدم لاينكر الناس أنها *** مع الحسب العادي طمت على البحر(2)

وقال أبوسعيد الخدري وأبوعبدالله عليه السلام: معناه إن محمدا صلى الله عليه واله لهم شفيع يوم القيامة، وهو المروي عن ابي عبدالله عليه السلام.

وقال مجاهد: معناه لهم قدم خير بأعمالهم الصالحة.

___________________________________

(1) ديوانه 254 وقد مر في 5 / 21.

(2) ديوانه 19 والطبري 11 / 53

[334]

وقال قتادة: معناه لهم سلف صدق.

وقال الضحاك: لهم ثواب صدق.

وقال ابن عباس: لهم ما قدموه من الطاعات.

وقوله " قال الكافرون إن هذا لساحر مبين " حكاية عن الكفار أنهم يقولون إن النبي ساحر مظهر، أو ما إتى به سحر مبين على اختلاف القراء‌ات. والسحر فعل يخفى وجه الحيلة فيه حتى يتوهم أنه معجز. والعمل بالسحر كفر لادعاء المعجزة به، ولا يمكن مع ذلك معرفة النبوة.

وقال الزجاج: المراد ب‍ (الناس) في الاية أهل مكة.

وقيل إنهم قالوا: لم يجد الله من يبعثه رسولا إلا يتيم أبي طالب؟ !

قوله تعالى: إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون(3)

آية

خاطب الله تعالى بهذه الاية جميع الخلق وأخبرهم بأن الله الذي يملك تدبيركم وتصريفكم بين أمره ونهيه ويجب عليكم عبادته " الله الذي خلق السموات والارض " فاخترعهما وأنشأهما على ما فيهما من عجائب الصنعة ومتقن الفعل.

وإطلاق الرب لايقال إلا فيه تعالى، فاما غيره فانه يقيد له، فيقال: رب الدار، ورب الضيعة بمعنى أنه مالكها.

وكذلك معنى قوله " رب العرش " والربوبية ملك التدبير الذي يستحق به العبادة.

وقيل في الوجه " الذي خلق السموات والارض في ستة أيام " بلا زيادة ولانقصان مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدد قولان: أحدهما - أن في اظهارهما كذلك مصلحة للملائكة وعبرة لهم. والثاني - لما فيه من الاعتبار إذا أخبر عنه بتصرف المال كما صرف الله الانسان من حال إلى حال، لان ذلك أبعد من توهم الاتفاق فيه.

[335]

وقوله " ثم استوى على العرش " معناه استولى عليه بانشاء التدبير من جهته كما يستوي الملك على سرير ملكه بالاستيلاء على تدبيره، قال الشاعر:

ثم استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق(1)

يعني بشر بن مروان.

ودخلت (ثم) لان التدبير من جهة العرش بعد استوائه.

وقوله " يدبر الامر " فالتدبير تنزيل الامور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مأخوذ من الدبور، فتجري على أحكام الدابر في الباري.

وقوله " وما من شفيع إلا من بعد إذنه " فالشفيع هو السائل في غيره لاسقاط الضرر عنه. وعند قوم أنه متى سأله في زيادة منفعة توصل اليه كان شفيعا. والذي اقتضى ذكره - ههنا - صفات التعظيم مع اليأس من الاتكال في دفع الحق على الشفيع.

والمعنى - ههنا - ان تدبيره للاشياء وصنعته لها ليس يكون منه بشفاعة شفيع ولا بتدبير مدبر لها سواه، وأنه لايجسر أحد أن يشفع اليه إلا بعد ان يأذن له فيه، من حيث كان تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب من خلقه بمصالحهم.

وقوله " ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون " معناه إن الموصوف بهذه الصفات هو ربكم وإلهكم فاعبدوه وحده، لانه لا إله لكم سواه، ولا يستحق هذه الصفات غيره. وحثهم على التذكير والتفكر في ذلك وعلى تعرف صحة ما أخبرهم به وقيل: ان العرش المذكور - ههنا - هو السموات والارض، لانهن من بنائه. والعرش البناء.

ومنه قوله " يعرشون "(2) أي يبنون. وأما العرش المعظم الذي تعبد الله الملائكة بالحفوف به والاعظام له وعناه بقوله " الذين يحلمون العرش ومن حوله(3) فهو غير هذا. وانما ذكر الشفيع في الاية ولم يجر له ذكر، لان المخاطبين بذلك كانوا يقولون الاصنام شفعاؤهم عند الله.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1 / 125 و 2 / 396.

(2) سورة 16 النحل آية 68 وسورة 7 الاعراف آية 136.

(3) سورة 40 المؤمن آية 7

[336]

وذكر بعدها " ويعبدون " من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله(1) واذا كانت الاصنام لاتعقل فيكف تكون شافعة؟ ! مع أنه لا يشفع عنده الا من ارتضاه الله.

واختار البلخي أن يكون خلق السموات والارض في ستة أيام إنما كان لان خلقه لهما دفعة واحدة لم يكن ممكنا كما لا يمكن الجمع بين الضدين، ولا يمكن الحركة إلا في المتحرك. وهذا الذي ذكره غير صحيح، لان خلق السموات والارض خلق الجواهر واختراعها، والجواهر لا تختص بوقت دون وقت، فلا حال إلا ويصح اختراعها فيه ما لم يكن فيما لم يزل. وانما يصح ما ذكره في الاعرض التي لا يصح عليها البقاء او ما يستحيل جمعه للتضاد، فأما غيره فلا يصح ذلك فيه.

قوله تعالى: إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون(4)

آية.

قرأ أبوجعفر " حقا أنه " بفتح الهمزة. الباقون بكسرها.

من فتح، فمعناه اليه مرجعكم، لانه يبدأ. ومن كسر استأنف.

قال الفراء: من فتح جعله مفعول حقا كأنه قال حقا أنه.

قال الشاعر:

أحقا عباد الله ان لست زائرا *** بثينة او يلقى الثريا رقيبها(2)

___________________________________

(1) آية 18 من هذه السورة.

(2) تفسير الطبري 11 / 54

[337]

اخبر الله تعالى أن الذي خلق السموات والارض هو الله تعالى، وهو الذي يستحق العبادة لاغيره وان اليه مرجع الخلق كلهم.

والمرجع يحتمل معنيين: احدهما أن يكون في معنى الرجوع فيكون مصدرا. والاخر - موضع الرجوع فيكون ظرفا، كأنه قال: اليه موضع رجوعكم يكونه اذا شاء.

ومعنى الرجوع اليه يحتمل أمرين: احدهما - ان يعود الامر إلى ان لايملك أحد التصرف في ذلك الوقت غيره تعالى بخلاف الدنيا، لانه تعالى قد ملك كثيرا من خلقه التصرف في دار الدنيا ومكنهم من ذلك. والثاني - ان يكون معناه انكم ترجعون اليه احياء بعد الموت أي إلى موضع جزائه.

وقوله " وعد الله حقا " نصب على المصدر وتقديره احقه حقا او وعد الله وعدا حقا، لان في قوله " مرجعكم " انه وعد بذلك الا انه لما لم يذكر الفعل اضيف المصدر إلى الفاعل، كما قال كعب بن زهير:

يسعى الوشاة جنابيها وقيلهم *** انك ياابن أبي سلمى لمقتول(1)

اي ويقولون قيلهم.

وقوله " انه يبدأ الخلق ثم يعيده " اخبار منه تعالى انه الذي أنشأ الخلق ابتداء، وهو الذي يعيدهم بعد موتهم النشأة الاخرى ليدل بذلك خلقه على أنه اذا كان قادرا على الابتداء فهو قادر على الاعادة.

وقوله " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فيه بيان أنه انما يعيد الخلق ليعطيهم جزاء اعمالهم من طاعة ومعصية، والعطاء اذا كان ابتداء لايسمى جزاء.

وقوله " بالقسط " معناه بالعدل، لانه لو زاد الجزاء او نقص لخرج عن العدل، ولكن يجزيهم وفق اعمالهم حتى لايكون الجزاء على النبوة كالجزاء على الايمان بل كل طاعة يستحق الجزاء على قدرها.

وقوله " والذين كفروا لهم شراب من حميم " معناه ان الذين يجحدون نعم الله ويكفرون بوحدانيته ويجحدون رسله " لهم شراب من حميم " وهو الذي اسخن بالنار اشد اسخان.

___________________________________

(1) ديوانه 19 ومجاز القرآن 1 / 112، 273 وقد مر في 1 / 300

[338]

قال المرقش الاصغر:

وكل يوم لها مقطرة *** فيها كباء معد وحميم(1)

الكباء العود الذي يتبخر به.

وقوله " وعذاب أليم " معناه مؤلم " بما كانوا يكفرون " اي جزاء على كفرهم.

قوله تعالى: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصّل الايات لقوم يعلمون(5)

آية.

روى ابن مجاهد عن قنبل. والمولى عن الربيبي (ضئاء) بهمزة بعد الضاد مكان الياء حيث وقع.

الباقون بياء بعد الضاد ومدة بعدها.

قال ابوعلي الفارسي: لايخلو " ضياء " من أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط، وحوض وحياض، او مصدر (ضاء) يضوء ضياء مثل عاذ يعوذ عياذا أوقام يقوم قياما، وعلى أي الوجهين حملته فالمضاف محذوف، والمعنى جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور.

أو يكون جعل النور والضياء لكثرة ذلك فيهما، فأما الهمزة في موضع العين من " ضياء " فيكون على القلب كأنه قدم اللام التي هي همزة إلى موضع العين واخر العين التي هي واو إلى موضع اللام، فلما وقعت طرفا بعد الف زائدة قلبت همزة.

كما فعلوا ذلك في (سقاء وعلاء) وهذا اذا قدر جمعا كان أسوغ. كما قالوا قوس وقسي. فصححوا الواحد وقلبوا في الجمع، واذا قدرته مصدأ كان أبعد، لان المصدر يجري على فعله في الصحة والاعتلال، والقلب ضرب من الاعتلال فاذا لم يكن في الفعل يمتنع أن يكون أيضا في المصدر ألا ترى انهم قالوا: لاذلو اذا

___________________________________

(1) لسان العرب " قطر "، " حمم " ومجاز القرآن 1 / 274

[339]

وباع بياعا، فصححوها في المصدر كصحتها في الفعل، وقالوا: قام قياما فأعلوه ونحوه، لاعتلاله في الفعل.

وقرأ ابن كثير واهل البصرة وحفص (يفصل) بالياء. الباقون بالنون.

من قرأ بالياء فلانه قد تقدم ذكر الله تعالى فاضمر الاسم في الفعل.

ومن قرأ بالنون فهذا المعنى يريد.

ويقويه بقوله " تلك آيات الله نتلوها " وقد تقدم " اوحينا " فيكون نفصل محمولا على " اوحينا " والياء أقوى، لان الاسم الذي يعود اليه أقرب اليه من (اوحينا).

اخبر الله تعالى ان الذي يرجع اليه الخلق هو الله " الذي جعل الشمس ضياء " والجعل وجود ما به يكون الشئ على صفة لم يكن عليها، فتارة يكون باحداثه وأخرى باحداث غيره.

والشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لما فيهما من عظم النور، ومسيرهما بغير علاقة ولادعامة، وفيهما أعظم الدلالة على وحدانية الله تعالى.

والنور شعاع فيه ما ينافي الظلام.

ونور الشمس لما كان أعظم الانوار سماه الله ضياء، كما قيل للنار نارا، لما فيها من الضياء، ولما كان نور القمر دون ذلك سماه نورا، لان نور الشمس وضياء‌ها يغلب عليه، ولذلك يقال أضاء النهار، ولا يقال اضاء الليل بل يقال انار الليل، وليلة منيرة.

ويقولون: في قلبه نور، ولا يقال فيه ضياء، لان الضوء يقال لما يحس بكثرته.

وقوله " وقدره منازل " انما وحد في قوله " وقدره " ولم يقل وقدرهما، لاحد أمرين: احدهما - أنه أراد به القمر، لان بالقمر تحصى شهور الاهلة التي يعمل الناس عليها في معاملتهم. والاخر - ان معناه التثنية غير أنه وحده للايجاز اكتفاء بالمعلوم، كقوله " والله ورسوله أحق أن يرضوه "(1) وقال الشاعر:

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئا ومن جول الطوي رماني(2)

وقوله " ماخلق الله ذلك إلا بالحق " معناه لم يخلق ما ذكر من السموات والارض والشمس والقمر وقدرهما منازل إلا حقا.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 63.

(2) مر تخريجه في 1 / 172، 203

[340]

وقوله " يفصل الايات " اي يميز بعضها من بعض " لقوم يعلمون " ذلك ويتبينونه.

وقال قوم: معناه لقوم لهم عقول يتناولهم التكليف ويصح منهم الاستدلال دون البهائم ومن لاعقل له.

قوله تعالى: إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والارض لآيات لقوم يتقون(6)

آية.

الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين في غير جهة الاخر، فاختلاف الليل والنهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء والاخر في جهة الظلام. والليل عبارة عن وقت غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، وهو جمع ليلة كتمرة وتمر. والنهار عبارة عن اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. والنهار واليوم معناهما واحد إلا أن في النهار فائدة اتساع الضياء.

وقوله " وما خلق الله في السموات والارض " معناه ما قدر فيهما وفعله على مقدار تقتضيه الحكمة: من الحيوان والنبات وغيرهما ومن غير نقصان ولازياد، وإن في رفعه السماء بلا عمد، وتسكينه الارض بلا سند، مع عظمها لاعظم آيات لمن تفكر في ذلك وتعقله، ويتقي مخالفته. والخلق مأخوذ من خلقت الاديم اذا قدرته. وإنما خص ما خلق في السموات والارض بالذكر للاشعار بوجوه الدلالات إذ قد يكون الدلالة في الشئ من جهة الخلق، وقد تكون من جهة اختلاف الصورة ومن جهة حسن المنظر، ومن جهة كثرة النفع ومن جهة عظم الامر، كالجبل والبحر.

وقوله " لايات لقوم يتقون " معناه ان في هذه الاشياء التي ذكرها دلالات على وحدانية الله لقوم يتقون معاصيه ويخافون عقابه، وخص المتقين بالذكر لما كانوا هم المنتفعين بها دون غيرهم.

[341]

قوله تعالى: إن الذين لايرجون لقاء‌نا ورضوا بالحيوة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون(7)

آية.

معنى " إن الذين لايرجون لقاء‌نا " يحتمل أمرين: احدهما - لايخافون عقابنا، كما قال الهذلي:

اذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وخالفها في بيت نوب عواسل(1)

والثاني - أن يكون معناه لايطمعون في ثوابنا، كما يقال تاب رجاء لثواب الله وخوفا من عقابه. والملاقاة وإن كانت لاتجوز الاعلى الاجسام. فانما اضافها إلى نفسه، لان ملاقاة ما لايقدر عليه إلا الله يحسن ان يجعل لقاء الله تفخيما لشأنه كما جعل إتيان ملائكته اتيانا لله في قوله " هل ينظرون الا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام "(2) وكما قال " وجاء ربك "(3) وانما يريد وجاء امر ربك.

ومعنى قوله " ورضوا بالحياة الدنيا " قنعوا بها دون غيرهامن خير الاخرة ومن كان على هذه الصفة، فهو مذموم لانقطاعه بها عن الواجب من أمر الله.

وقوله " واطمأنوا بها " معناه ركنوا اليها على وجه التمكين فيه، فهؤلاء مكنوا الاحوال الدنيا، فصاحبها يفرح لها ويغتم لها ويرضى لها ويسخط لها.

وقوله " والذين هم عن آياتنا غافلون " معنان الذين يذهبون عن تأمل هذه الايات ولا يعتبرون بها. والغفلة والسو نظائر، وهو الذهاب المعنى عن القلب بما يضاده وقد تستعمل الغفلة في التعرض لها، ولذلك يقولون: تغافل ولا يقولون مثله في السهو.

___________________________________

(1) اللسان (خلف) ومجاز القرآن 1 / 275 وقد مر في 2 / 210 و 3 / 315.

(2) سورة 2 البقرة آية 210.

(3) سورة 89 الفجر آية 22

[342]

قوله تعالى: أولئك مأويهم النار بما كانوا يكسبون(8)

آية

" أولئك " اشارة إلى الذين تقدم ذكرهم في الاية الاولى، والكاف في " أولئك " حرف الخطاب، مثل الكاف في قولهم أنا ذاك، ولهذا لم يجز تأكيده ولاالبدل منه، ولو كان اسما لجاز: أولئك نفسك، وأولاء مبني على الكسر، وإنما بني لتضمنه معنى الاشارة إلى المعرفة لان أصله أن يتعرف بعلامة، اذ لم يوضع للشئ بعينه، كما وضع زيد وعمرو، وبني على الحركة لالتقاء الساكنين، وبني على الكسر لانها في الاصل في حركة إلتقاء الساكنين إذا كثر ذلك في الفعل لما يدركه من الجزم فاستحق الكسر لانه لما يدخله في حال الاعراب و (هؤلاء) لما قرب و (أولئك) لما بعد، كما تقول في (هذا) و (ذاك) لان ما بعد يقتضي التعريف بالخطاب وما قرب يكفي فيه التنبيه. اخبر الله تعالى أن الذين تقدم وصفهم في الاية الاولى مستقرهم النار جزاء بما كانوا يكسبون من المعاصي.

قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم(9)

آية.

لما ذكر الله تعالى الكفار وما يستحقونه من المصير إلى النار في الايات الاول ذكر في هذه " ان الذين آمنوا " يعني صدقوا بالله ورسوله، واعترفوا بهما وأضافوا إلى ذلك الاعمال الصالحات " يهديهم " الله تعالى جزاء بايمانهم إلى الجنة " تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم " يعني البساتين التي تجري تحت أشجارها الانهار التي فيها النعيم يعني أنواع اللذات والمنافع يتنعمون فيها.

[343]

ومعنى " تجري من تحتهم الانهار " تجري بين أيديهم، وهم يرونها من عل، كما قال تعالى " قد جعل ربك تحتك سريا "(1) ومعلوم انه لم يجعل السري تحتها وهي قاعدة عليه، لان السري هو الجدول، وإنما أراد أنه جعل بين يديها.

وقال حاكيا عن فرعون " أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي "(2) وقيل من تحت بساتينهم وأسرتهم وقصورهم - في قول ابي علي. معنى الهدى - هنا - الارشاد إلى طريق الجنة ثوابا على أعمالهم الصالحة، ألا ترى انه قال " يهديهم ربهم بايمانهم " يعني جزاء على إيمانهم، وذلك لايليق إلا بما قلناه. ويحتمل أن يكون وصفهم بالهداية على وجه المدح جزاء على إيمانهم بالله تعالى.

قوله تعالى: دعويهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين(10)

آية

معنى " دعواهم فيها " ان دعاء المؤمنين لله في الجنة، وذكرهم له فيها هو ان يقولوا " سبحانك اللهم " ويقولون ذلك ولهم فيها لذة لاعلى وجه العبادة، لانه ليس هناك تكليف.

وقيل: إنه اذا مربهم الطير ويشتهونه قالوا " سبحانك اللهم " فيؤتون به، فاذا نالوا منه شهوتهم قالوا " الحمد الله رب العالمين " هذا قول ابن جريح.

وقال الحسن: آخر كلام يجري لهم في كل وقت " الحمد لله رب العالمين " لا أنه ينقطع. والدعوى قول يدعى به إلى أمر، ومعنى " سبحانك اللهم " ننزهك يا ألله من كل ما لا يليق بك ولا يجوز من صفاتك من تشبيه أو فعل قبيح. وقيل معناه براء‌ة الله من السوء فيما يروى عن النبي صلى الله عليه واله وقال الشاعر:

___________________________________

(1) سورة 19 مريم آية 23.

(2) سورة 43 الزخرف آية 51

[344]

أقول لما جاء‌ني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر(1)

أي براء‌ة منه.

والتحية التكرمة بالحال الجليلة، ولذلك يسمون الملك التحية، قال عمرو بن معد يكرب:

ازور بها أبوقابوس حتى *** أنيخ على تحيته بجند(2)

وقال زهير بن خباب الكلبي:

من كل ما نال الفتى *** قد نلته الا التحيه(3)

وهو مأخوذ من قولهم احياك الله حياة طيبة.

والمعنى تحية بعضهم لبعض سلام اي سلمت وامنت مما ابتلى به اهل النار.

و (أن) في الاية هي المخففة من الثقيلة وجاز ان لاتعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل، كما قال الشاعر:

في فتية كسيوف الهند قد علموا *** ان هالك كل من يحفى وينتعل(4)

والميم في اللهم بمعنى (يا) كأنه قال يا ألله، ولم يجعل في موضع (يا) لئلا يكون كحروف النداء التي تجري في كل اسم.

قوله تعالى: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لايرجون لقاء‌نا في طغيانهم يعمهون(11)

آية

قرا ابن عامر ويعقوب " لقضى اليهم اجلهم " بفتح القاف. الباقون بضمها على ما لم يسم فاعله.

قال ابوعلي الفارسي: اللام في قوله " لقضي اليهم اجلهم " جواب (لو) في قوله " ولو يعجل الله للناس " والمعنى " ولو يعجل الله للناس " دعاء

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1 / 134 و 3 / 81 و 5 / 241.

(2، 3) تفسير الطبري 11 / 58.

(4) حاشية الصبان 1 / 290

[345]

" الشر " اي ما يدعون به من الشر على انفسهم في حال ضجر وبطر " استعجالهم " اياه بدعاء " الخير " فأضاف المصدر إلى المفعول به وحذف الفاعل كقوله دعاء الخير، وحذف ضمير الفاعل، والتقدير " ولو يعجل الله للناس الشر " استعجالا مثل " استعجالهم بالخير لقضي اليهم اجلهم " قال ابوعبيدة: معنا الفراغ من اجلهم ومدتهم المضروبة للحياة، فهلكوا. وهو قريب من قوله " ويدعو الانسان بالشر دعاؤه بالخير وكان الانسان عجولا "(1). وقيل للميت مقضي كأنه قضي إذا مات وقضى فعل، التقدير استوفى أجله، قال ذو الرمة:

إذا الشخص فيها هزه الال أغمضت *** عليه كاغماض المقضي هجولها(2)

والمعنى أغمضت هجول هذه البلاد على الشخص الذي فيها، فلم يرلقربه كاغماض المقضي، وهو الميت.

فأما قوله " لقضي اليهم " وبما يتعلق هذا الجار، فانه لما كان معنى (قضى) معنى (فرغ) وكان قولك (فرغ) قد يتعدى بهذا الحرف وفي التنزيل " سنفرغ لكم "(3) فانه يمكن أن يكون الفعل يتعدى باللام كما يتعدى ب‍ (إلى) كما ان اوحى في قوله " وأوحينا اليه " قد تعدى ب‍ (إلى) وفي قوله " بأن ربك أوحى لها "(4) تعدى باللام، فلما كان معنى قضى فرغ، وفرغ تعلق بها (إلى) كذلك تعلق بقضى.

ووجه قراء‌ة ابن عامر واسناده الفعل إلى الفاعل، لان الذكر قد تقدم في قوله " ولو يعجل الله للناس " فقال (لقضى) الله - على هذا - وقوى ذلك بقوله " ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده "(5) فقوله " قضى اجلا " اضافه إلى الفاعل فكذلك في هذه الاية.

وقوله " واجل مسمى عنده " يعني أجل البعث بدلالة قوله " ثم انتم تمترون "(6) أي تشكون في البعث.

___________________________________

(1) سورة 17 الاسرى آية 11.

(2) اللسان " غمض " الال ما أشرف من البعير ومعنى البيت أن الابل مسرعة.

(3) سورة 55 الرحمن آية 31.

(4) سورة 99 الزلزال آية 5.

(5، 6) سورة 6 الانعام آية 2

[346]

ومن ضم القاف وبنى الفعل للمفعول، فلانه في المعنى مثل قول من بنى الفعل للفاعل.

أخبر الله تعالى في هذه الاية انه لو عجل للخلق الشر، والتعجيل تقديم الشئ قبل حينه. وقد يكون تقديم الشئ في المكان، فلا يكون تعجيلا.

والفرق بين التعجيل والاسراع ان التعجيل بالشئ عمله قبل وقته الذي هو أولى به.

والاسراع عمله في وقته الذي هو احق به، وضده الابطاء. الشر ظهور ما فيه الضرر. واصله الاظهار من قولهم: شررت الثوب اذا اظهرته للمشس، ومنه شرر النار لظهوره وانتشاره.

وقوله " لقضي اليهم اجهلم " قيل: إن معناه لاميتوا كأنه قيل لقطع اجلهم وفرغ منه قال ابوذؤيب:

وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع(1)

وقال الحسين بن علي المغربي: معناه رد قطع أجلهم اليهم لكون السبب فيه دعاؤهم.

وقوله " استعجالهم بالخير " نصب استعجالهم على المصدر وتقديره ولو يعجل الله للناس تعجيله استعجالهم بالخير اذا دعوا.

وقيل في معناه قولان احدهما - قال مجاهد وقتادة: وهو كقول الرجل لولده وماله في حال غضبه: اللهم لاتبارك فيه والعنه.

وقال الحسن: هو كقوله " ويدعو الانسان بالشر دعاؤه بالخير "(2) وقال الجبائي: معناه إنهم يطلبون الخير قبل حينه، وسبيله في أنه لاينبغي أن يكون كسبيل الشر من الاهلاك بالعقاب قبل حينه لما فيه من الاقتطاع عن التوبة واللطف.

وقوله " فنذر الذين لايرجون لقاء‌نا " معناه نترك الذين لايخافون لقاء‌نا أو لا يطمعون فيه بمعنى أنه لايخافون عقاب معاصينا، ولايطمعون في ثواب طاعتنا " في طغيانهم يعمهون " فالطغيان الغلو في ظلم العباد والطاغي والباغي نظائر.

و (العمه) شدة الحيرة، وتقديره نتركهم وهم يترددون في ضلالتهم، لا أنه يريد منهم العمه

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1 / 275 وقد مر في 1 / 429 و 4 / 88، 165.

(2) سورة 17 الاسراء آية 11.

[347]

في الطغيان، لانه إنما يتركهم ليتوبوا من ذلك ويؤمنوا لكنه بين أنه لايعاجلهم بالعقاب في الدنيا، وهم مع ذلك لا يرعوون بل يترددون في الطغيان.

وقيل المعنى نتركهم في الاخرة يتحيرون في جزاء طغيانهم.

قوله تعالى: وإذا مس الانسان الضرد دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون(12)

آية.

اخبر الله تعالى في هذه الاية عن قلة صبر الانسان، اذا ناله الضر دعا ربه على سائر حالاته التي يصيبه ذلك عليها، سواء كان قائما أو قاعدا إذا أطاقه، أو على جنبه من شدة المرض فيجتهد الدعاء لان يهب الله له العافية. وليس غرضه بذلك نيل الثواب للاخرة. وانما غرضه زوال ما هو فيه من الالام، فاذا كشف الله عنه ذلك الضرر، ووهب له العافية، مر معرضا عن شكر ما وهبه له من نعمة عافية فلا يتذكر ما كان فيه من الالام، وصار في الاعراض عن ذلك بمنزلة من لم يدع الله كشف ألمه ولا سأله ازالة الضرر عنه الذي كان به.

وقوله " كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون " قال ابوعلي الجبائي: الشياطين الذين دعوا المسرفين إلى المعاصي واغووهم بها وبترك شكر نعم الله زينوا لهؤلاء المسرفين ما كانوا يعملونه من المعاصي والاعراض عن ذكر نعمه واداء شكره. والغرض بذلك انه ينبغي لمن وهب الله له العافية بعد المرض ان يتذكر حسن صنع الله اليه وجزيل نعمه عليه، فيشكره على ذلك ويسأله ادامة ذلك عليه.

ونبه بذلك على انه يجب عليه الصبر عند المرض وترك الجزع عند احتساب الاجر وطلب الثواب في الصبر على ذلك، وأن يعلم أن الله محسن اليه بذلك، وليس بظالم له.

[348]

وقال الحسن التزيين هو التحسين من الشيطان والغواة.

وقال غيره هو التحبيب بالشهوة لتحبيب المشتهى.

وقوله " أو قاعدا او قائما " نصب على الحال.

وقوله " كأن " هي المخففة عن الثقيلة، وتقديره كأنه لم يدعنا، ومثله قول الخنساء:

كأن لم يكونوا حمى متقى*** اذ الناس اذ ذاك من عزبز(1)

اي كأنهم.

وقوله " مر كأن لم " اي استمر على طريقته الاولى كأنه لم يدعنا ولم يسألنا ذلك. وموضع الكاف نصب على أنه مفعول مالم يسم فاعله والمعنى زين للمسرفين عملهم " كذلك " أي مثل ذلك.

قوله تعالى: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاء‌تهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين(13)

آية

أقسم الله تعالى في هذه الاية أنه اهلك من كان قبل هذه الامة من القرون، وهو جمع قرن. وسمي أهل كل عصر قرنا لمقارنة بعضهم لبعض. والقرن هو المقاوم لقرينه في الشدة، ويعني بذلك الذين كذبوا رسل الله الذين بعثهم الله اليهم فكفروا بذلك بربهم وظلموا أنفسم، فأهلكهم الله بأنواع العذاب وفنون الاستئصال كما أهلك قوم لوط وقوم موسى وغيرهم، وبين بقوله " وما كانوا ليؤمنوا " ان هذه الامم التي أهلكهم لم يكونوا مؤمنين ولو أبقاهم الله لم يؤمنوا بالرسل الذين أتوهم والكتب التي جاؤهم بها، ولما كان ذلك المعلوم من حالهم استحقوا من الله تعالى العذاب فأهلكهم.

وقوله " كذلك نجزي القوم المجرمين " اي نعاقب مثل عقوبة هؤلاء المجرمين اذا استحقوا أو كانوا ممن لا يؤمن ولايصلح. وجعل ابو علي الجبائي ذلك دليلا

___________________________________

(1) ديوانها انيس الجلساء 144

[349]

على ان تبقية الكافر إذا علم من حاله أنه يؤمن فيما بعد واجبة.

قوله تعالى: ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون(14)

آية.

بين الله تعالى بهذه الاية أنه إنما جعل المخاطبين بهذه الخطاب بعد إهلاك من أهلك وتكليفه إياهم بطاعته وتصديق رسله مثل ما كان كلفهم " لننظر كيف تعملون " معناه إنكم إن عملتم بالمعاصي مثل وما عمل بها أولئك وكذبتم الرسول ولم ترجعوا عن الكفر أهلككم ببعض العقاب كما أهلك من تقدم. وإن آمنتم أثابكم الله في الدنيا والاخرة ورضي عنكم، فجعل قوله " لننظر كيف تعلمون " دلالة لهم على اني أفعل بكم احد هذين: الثواب إن آمنتم وأطعتم، والعذاب إن كفرتم وعصيتم.

واستعمل ذلك على هذا المعنى مجازا كما يستعمله اهل اللغة على هذا المعنى، لانهم لايعلمون ما يكون من المكلفين وما يفعل بهم من الثواب والعقاب وهو عالم بذلك. ومثل ذلك يستعمله العرب فيما يعلمه الانسان يقول القائل لغلامه الذي يأمره: إني سأعاقبك وأضربك لانظر كيف صبرك، واعطيك ما لا لانظر كيف تعمل، وإن كان عالما بما يؤل اليه الامر في ذلك.

وموضع (كيف) نصب بقوله " تعملون " وإنما قدم لانه للاستفهام ولايجوز أن يكون معمولا " لننظر " لان ما قبل الاستفهام لايعمل في الاستفهام ولو قلت لننظر أخيرا يعملون أو شرا؟ كان العامل في (خير، وشر) يعملون.

[350]

قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لايرجون لقاء‌نا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء‌ نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم(15)

آية.

اخبر الله تعالى في هذه الاية أنه إذا قرأ النبي صلى الله عليه واله على الكفار آيات الله وكلامه.

و (بينات) نصب على الحال. وهي الايات التي امر فيها عباده بأشياء ونهاهم عن اشياء " قال الذين لايرجون لقاء‌نا " اي لقاء عذاب الله او ما وعدهم به من ثوابه ان اطاعوه " ائت بقرآن غير هذا " الذي تتلوه علينا " أو بدله " فاجعله على خلاف ما تقرأه علينا، وإنما فرق بين قوله " ائت بقرآن غير هذا او بدله " لان الاتيان بغيره قد يكون معه، وتبديله لايكون إلابرفعه، والاتيان بغيره. وانما لم يرجوا ثواب الله وعذابه لانهم كانوا غير مقرين بالله ولا معترفين بنبوة نبيه صلى الله عليه واله ولا يصدقونه فيما يخبرهم به عن الله ويذكرهم به من البعث والنشور والحساب والجزاء.

وكان قولهم هذا له على وجه التعنت والتسبب إلى الكفر به وتكذيبه، واحتجاجا عليه بما ليس بحجة لانه صلى الله عليه واله كان قد بين لهم ان هذا القرآن ليس من كلامه وانه ليس له تغييره وتبديله، فأرادوا أن يوهموا ان الامر موقوف على رضاهم به، وليس يرضون بهذا فيريدون غيره.

وقال الزجاج: إنه كان غرضهم اسقاط ما فيه من عيب آلهتم وتسفيه أحلامهم ومن ذكر البعث والنشور، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم في جواب ذلك: ليس لي " أن أبدله من تلقاء نفسي " أي من جهة نفسي ومن ناحية نفسي كأنه قيل له: قل ليس لي أن اتلقاه بالتبديل كما ليس لي أن اتلقاه بالرد. والتلقاء جهة مقابلة الشئ إلا أنه قد يستعمل ظرفا فيقال: هو تلقاء‌ه كما يقال: هو حذاه وقبالته وتجاهه.

قوله " إن أتبع إلا ما يوحى الي " أى ليس لي أن أتبع إلا الذي يوحى إلي

[351]

" إني أخاف إن عصيت ربي " في اتباع غيره " عذاب يوم عظيم " يعني يوم القيامة ومن استدل بهذه الاية على أن نسخ القرآن بالسنة لايجوز فقد أبعد، لانه اذا نسخ ما يتضمنه القرآن بالسنة، فالسنة لايقولها النبي صلى الله عليه واله إلا بوحي من الله. وليس بنسخه من قبل نفسه. بل يكون ذلك النسخ مضافا إلى الله. وانما لايكون قرآنا لانه تعالى قد يوحي إلى نبيه ما هو قرآن وما ليس بقرآن، لان جميع ما بينه النبي صلى الله عليه واله من الشريعة لم يبينها إلا بوحي من الله لقوله " وما ينطق عن الهوى ان هو الاوحى يوحى "(1) وان كان تفصيل ذلك ليس بموجود في القرآن فالاستدلال بذلك على ما قالوه بعيد.

قوله تعالى: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون(16)

آية.

حكي عن الحسن انه قرأ " ولا أدراكم به " وقرأ ابوربيعة وقنبل الا المالكي والعطار " ولادراكم به " يجعلانها (لاما) ادخلت على (ادراكم) وأمال (أدراكم) و (ادراك) في جميع القرآن ابوعمرو وحمزة والكسائي وخلف والداحوني عن ابن ذكوان، والكسائي عن ابي بكر، وافقهم يحيى والعليمي في هذه السورة.

حكى سيبويه: دريته ودريت به، قال واكثر الاستعمال التعدي بالباء، يبين ذلك قوله " ولا أدراكم به " ولو كان على اللغة الاخرى لقال ولا ادراكموه، وقالوا: الدرية على وزن (فعلة) كما قالوا الشعرة والفطنة، وهي مصادر يراد بها ضروب من العلم. فأما الدراية فكالهداية والدلالة، وكأن الدراية التأني والتعمل لعلم الشئ وعلى هذا المعنى ما تصرف من هذه الكلمة، وقالوا: داريت الرجل اذا لاينته وختلته

___________________________________

(1) سورة 53 النجم آية 3 - 4

[352]

فعلى هذا لايوصف الله تعالى بالداري، واما قول الراجز. اللهم لاأدري وانت الداري فلا يكون حجة في جوزا ذلك لامرين: احدهما - انه لما تقدم قوله: لا أدري استجاز أن يذكر الداري بعده، ليزدوج الكلام، كما قال تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه "(1) ونظائره كثيرة.

والثاني - إن الاعراب ربما ذكروا أشياء امتنع جوازها كما قال: لو خافك الله عليه حرمه(2) وقال آخر:

اللهم إن كنت الذي بعهدي *** ولم تغيرك الامور بعدي

فاما الهمزة على ما حكي عن الحسن، فلا وجه له لان الدرء الدفع، كما قال " فأدرء‌وا عن انفسكم الموت "(3) وقال " فادارأتم فيها "(4) وقوله عليه السلام (ادرأوا الحدود بالشبهات) قال الفراء: ان كان ما حكي عن الحسن لغة، وإلا يجوز أن يكون الحسن ذهب إلى طبعه وفصاحته فذهب إلى درأت الحد، وقد يغلط بعض العرب في الحرف اذا ضارعه آخر في الهمزة فيهمز ما ليس مهموزا، سمعت امرأة من غني تقول: رثأت زوجي بأبيات، ويقولون: لبأت بالحج وحلات السويق.

وكل ذلك غلظ، لان (حلات) انما هو من دفع الابل العطاش عن الماء و " لبأت " من اللباء الذي يؤكل، و " رثأت " من الرثية اذا حلبت الحليب على الرايب، ومن أمال فتحة الراء وأمال الالف بعدها، فلان هذه الالف تنقلب ياء في أدريته، وهما مدريان. ومن لم يمل فلان الاصل عدم الامالة، ولان كثيرا من الفصحاء لا يميل ذلك.

ومعنى قوله " ولا ادراكم به " قال ابن عباس ولا أعلمكم به من (دريت به)

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 194.

(2) قد مر في 2 / 185.

(3) سورة 3 آل عمران آية 168.

(4) سورة 2 البقرة آية 72

[353]

وأدراني الله به. ومعنى الاية الامر للني صلى الله عليه واله بأن يقول لهؤلاء الكفار لو اراد الله ان يمنعهم فائدته ما أعلمهم به، ولا أمر النبي صلى الله عليه واله بتلاوته عليهم.

وقوله " فقد لبثت فيكم عمرا من قبله " معناه لبثت عليه هذه الصفة لا أنلوه عليكم ولا يعلمكم الله به حتى أمرني به وشاء اعلامكم.

وقال قتادة: لبث في قومه أربعين سنة قبل أن يوحى اليه.

وقوله " أفلا تعقلون " معناه هلا تتفكرون فيه بعقولكم فتتبينوا بذلك ان هذا القرآن من عند الله انزله تصديقا لنبيه صلى الله عليه واله.

قال الرماني: والعقل هو العلم الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب.

الناس يتفاضلون فيه بالامر المتفاوت فبعضهم أعقل من بعض اذ كان أقدر على الاستدلال من بعض.

ومعنى ذلك ان يقول لهم قد لبثت فيكم حينا طويلا ونشأت بين أظهركم وعرفتم منصرفي ومنقلبي فلو كان ما أتيت به مخترعا او كان ما فيه من الاخبار من عند غير الله لكنتم عرفتم ذلك اذ فيكم ولدت ونشأت ومعكم تصرفت " أفلا تعقلون " في التدبير والنظر والانصاف فتفعلون فعل من يعقل. وعلى انه صلى الله عليه واله لو كان اخذ ذلك من غيره وخالط اهلها، او لو كان شاعرا، اولو كان يعلم السحر - كما ادعوا - ثم خفي ذلك اجمع عليهم حتى لم يعرفوا الوجه الذي منه اخذ لكان في ذلك أعظم الحجة. وعلى ما روي عن قنبل يكون المعنى " لو شاء الله ما تلوته " يكون نفيا للتلاوة " ولا دراكم " ولا علمكم ثبوته، ويكون اثباتا للعلم، وعلى قراء‌ة الباقين يكون نفيا للامرين معا.

قوله تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لايفلح المجرمون(17)

آية.

[354]

قوله " فمن اظلم ممن " ظاهره الاستفهام والمراد به الاستعظام والاخبار به انه لا احد اظلم ممن اخترع كلاما او خبرا ثم اضافه إلى الله ويرد به النبي نفسه لوكان فعل " او كذب بآياته " يعنيهم " إنه لا يفلح " اي لايفوز " المجرمون " وانما قال: لااحد اظلم ممن هذه صفته، لانه ظلم كفر، وهو اعظم من ظلم ليس بكفر. والتقدير لااحد اظلم ممن يظلم ظلم كفر، فعلى هذا من يدعي الربويية داخل في هذه الجملة لان ظلمه ظلم كفر، كأنه قيل لا احد اظلم من الكافر، وليس لاحد ان يقول: المدعي للربوبية اظلم من المدعي للنبوة وهو كاذب.

والكذاب بآيات الله ظالم لنفسه بما يدخل عليها من استحقاق العقاب وظالم لغيره ممن يجوز ان تلحقه المنافع والمضار بتكذيبه اياه ورده عليه، لان من شأنه ان يعمه مثل هذا الكتذيب.

و (من) في الاية للاستفهام وهي لاتوصل لانها تضمنت حرف الاستفهام فعوملت معاملته، كما انها اذا كانت بمعنى الجزاء لم توصل لتضمنها معنى (إن) التي هي ام الباب في الجزاء.

قوله تعالى: ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولاينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون(18)

آية.

قرأ اهل الكوفة الا عاصما " عما تشركون " بالتاء ههنا وفي النحل في موضعين وفي الروم. الباقون بالياء.

من قرأ بالتاء بناه على ما تقدم من قوله " اتنبئون الله بما لايعلم " فلما خاطبهم بذلك وجه اليهم الخطاب بتنزيهه عما يشركون.

ومن قرأ بالياء بناه على الخبر عن الغائب لان اول الاية مبني على ذلك، وهو قوله ويعبدون من دون الله " وكلاهما حسن.

[355]

اخبر الله تعالى على وجه الذم للكفار بأنهم يوجهون عبادتهم إلى من هو دون الله من الاصنام والاوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فان قيل: كيف ذمهم على عبادة الوثن الذي لاينفع ولايضر مع انه لو نفع وضر لم تجز عبادته؟ ! قلنا: لانه اذا كان من يضر وينفع قد لا يستحق العبادة اذا لم يقدر على اصول النعم، فمن لايقدر على النفع والضر اصلا ابعد من ان يستحق العبادة.

وقوله " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " اخبار منه تعالى عن هؤلاء الكفار انهم يقولون انا نعبد هذه الاصنام لتشفع لنا عند الله، فتوهموا ان عبادتها اشد في تعظيم الله من قصده تعالى بالعبادة، فحلت من هذه الجهة محل الشافع عند الله.

وقال الحسن: شفعاء في صلاح معاشهم في الدنيا، لانهم لايقرون بالبعث بدلالة قوله " واقسموا بالله جهد ايمانهم لايبعث الله من يموت " والعبادة خضوع بالقلب في اعلى مراتب الخضوع، فكل طاعة فعلت على هذا الوجه فهي عبادة.

وانما قال " ويعبدون من دون الله " مع انهم كانوا يشركون في عبادة الله لامرين: احدهما - ان عابد الوثن خاصة قد اشرك في استحقاق العبادة. الثاني ان من عبدالله وعبد الوثن فقد عبده من دون اخلاص العبادة لله.

وقوله " اتنبئون الله بمالا يعلم " امر منه تعالى لنبيه ان يقول لهم على وجه الالزام اتخبرون الله بما لايعلم من حسن عبادة الاوثان وكونها شافعة لان ذلك لو كان صحيحا لكان الله به عالما ولما نفى العلم بذلك نفي المعلوم.

وقوله " سبحانه وتعالى عما يشركون " تنزيه منه تعالى لنفسه، وتنزيه من ان يعبد معه إله او يتخذ من دونه معبود.

[356]

قوله تعالى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون(19)

آية

اخبر الله تعالى في هذه الاية انه لم يكن الناس فيما مضى الا امة واحدة والامة الجماعة التي على معنى واحد في خلق او ما يستمر على عبادته بالظاهر، فعلى هذا الناس أمة والطير أمة. والمراد - ههنا - أنها كانت على دين واحد.

واختلفوا في الدين الذي كانوا مجتمعين عليه قبل حدوث الاختلاف بينهم على قولين: فقال الحسن كانوا على الشرك كما قال تعالى " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين "(1) وقال الزجاج: أراد بذلك العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه واله فانهم كانوا مشركين، فلما بعث النبي آمن به قوم وكفر به آخرون.

وقال الجبائي: انهم كانوا على الاسلام، في عهد آدم وولده وأنكر الاول. قال لان الله تعالى قال " فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا "(2) فلو كانوا كلهم على الكفر لما كان فيهم شهيدا أصلا قال الرماني: لا يمتنع ان يكون الامر على ما قال الحسن ويكون المراد التغليب كأن المسلمين كانوا قليلين، فلا يعتد بهم، فيجوز أن يقال فيهم أنهم امة مشركة كما روي عن النبي صلى الله عليه واله أنه قال (ان الله نظر إلى اهل الارض فمقتهم الا بقايا من أهل الكتاب).

وقال مجاهد: فاختلفوا حين قتل ابن آدم أخاه.

والاختلاف هو الذهاب في الجهتين فصاعدا من الجهات، وحد المختلفين ان لايسد احدهما مسد صاحبه فيما يرجع إلى ذاته كما لايسد السواد مسد البياض.

وقوله " ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " معناه لو لا كلمة سبقت من ربك من انه لايعاجل العصاة بالعقوبة انعاما عليهم في التأني بهم " لقضي بينهم " في اختلافهم بما يضطرهم إلى علم المحق من المبطل.

وقيل معنى ذلك " لقضي بينهم " اي فصل بينهم بأن اهلك العصاة وانجى المؤمنين، لكنه أخرهم إلى يوم القيامة تفضلا منه وزيادة في الانعام عليهم.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 213.

(2) سورة 4 النساء آية 40

الآية: 20 - 39

قوله تعالى: ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين(20)

آية

حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا: هلا أنزل على محمد آية وأرادوا بذلك أنه يضطرهم إلى المعرفة ولا يحتاجون معها إلى النظر والاستدلال، ولم يطلبوا معجزة يستدل بها على صدقه، لانه قد كان أتاهم بالمعجزات التي تدل على صدقه فلم يجبهم الله على التمسوه، لان التكليف يمنع من الاضطر إلى المعرفة، لان الغرض بالتكليف التعريض للثواب. واو عرفوا الله تعالى ضرورة لما استحقوا ثوابا فكان ذلك ينقض غرضهم.

وقال ابوعلي: طلبوا آية سوى القرآن.

والاصل في (لولا) امتناع الثاني لكون الاول كقولك: لو لازيد لجئتك فخرجت إلى معنى التحضيض بأنه ليس ينبغي ان يمتنع ذا لكون غيره قوله " فقل إنما الغيب لله " معناه إن ما لا تعرفونه ولانصب لكم عليه دليل يجب أن تسلموا علمه إلى الله، لانه العالم بالخفيات وما يكون في المستقبل، فلاجل ذلك لا يفعل الاية التي اقترحتموها في هذا الوقت لما في ذلك من حسن التدبير ووجه المصلحة.

والغيب خفاء الشئ عن علم العباد، والله تعالى عالم الغيب والشهادة لانه عالم لنفسه يعلم الاشياء قبل كونها وبعد كونها لايخفى عليه خافية.

وقوله " فانتظروا " معناه انتظروا ما وعدكم الله من نصر المؤمنين وقهر الكافرين وانزال الذل العقاب بهم إن أقاموا على كفرهم ف‍ " إني معكم من المنتظرين " لذلك.

[358]

قوله تعالى: وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون(21)

آية.

روى روح " يمكرون " بالياء. الباقون بالتاء.

أخبر الله تعالى بأنه إذا أذاق الناس يعني الكافرون " رحمة " بأن أنعم عليهم واوسع أرزاقهم وأخصب أسعارهم " من بعد ضراء " يعني بعد شدة كانوا فيها من جدب وضيق نالتهم " مكروا في آياتنا " فجواب (اذا) الاولى في (اذا) الثانية وإنما جعلوا (إذا) جوابا إذا كانت بمعنى الجملة على ما فيها من المفاجأة، كما قال تعالى " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون "(1). وحقيقة الذوق تناول ما له طعم بالفم ليوجد طعمه.

وانما قال: اذقناهم الرحمة على طريق البلاغة لشدة إدراك الحاسة.

والمكر فتل الشئ إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه، فهؤلاء محتالون لدفع آيات الله بكل ما يجدون السبيل اليه من شبهة او تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الامور الفاسدة.

وقال مجاهد: مكرهم استهزاؤهم وتكذيبهم.

فقال الله لنبيه صلى الله عليه واله " قل " لهم " الله اسرع مكرا " يعني اقدر جزاء على المكر، وذلك أنهم: جعلوا جزاء النعمة المكر مكان الشكر، فقوبلوا بما هو أشد.

والسرعة عمل الشئ في وقته الذي هو أحق به، والمعنى: إن ما يأتيهم من العقاب اسرع مما أتوه من المكر اي وقع في حقه.

وقوله " ان رسلنا يكتبون ما تمكرون " إخبار منه تعالى أن ملائكة الله الموكلين بهم يكتبون مايمكرون من كفرهم وتكذيبهم، ففي ذلك غاية الزجر والتهديد على ما يفعلونه من المكر والحيل في امر النبي صلى الله عليه واله

___________________________________

(1) سورة 30 الروم آية 36

[359]

وقيل انما سمى جزاء المكر مكرا، لانهم اذا نالهم العذاب على مكرهم بحيث لايحتسبونه ولا يتوقعونه فكأنه مكربهم.

قوله تعالى: هو الذي يسيّركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاء‌تها ريح عاصف وجاء‌هم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين(22)

آية

قرأ ابن عامر وابوجعفر " ينشركم " بالنون والشين من النشر. والباقون بالياء والسين وتشديد الياء من التسيير.

قال ابوعلي: حجة ابن عامر أن (ينشركم) مثل قوله " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء "(1) فالبث تفريق ونشر.

وحجة الباقين قوله " قل سيروا في الارض "(2) " فامشوا في مناكبها "(3) فالمعنيان متقاربان. امتن الله على خلقه في هذه الاية وعدد نعمه التي يفعلها بهم في كل حال، فقال " هو الذي يسيركم في البر والبحر " وتسييره إياهم اما في البحر، فلانه بالريح والله المحرك لها دون غيره، فلذلك نسبه إلى نفسه، واما في البر فلانه كائن باقداره وتمكينه وتسبيبه، فلذلك نسبه إلى نفسه.

والتسيير التحريك في جهة تمتد كالسير المدود، والبر الارض الواسعة التي تقطع من بلد إلى بلد، ومنه البر لا تساع الخير به

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 1.

(2) سورة 6 الانعام آية 11 وسورة 27 النمل آية 69 وسورة 29 العنكبوت آية 20 وسورة 30 الروم آية 42.

(3) سورة 67 الملك آية 15

[360]

والبحر مستقر الماء الواسع حتى لايرى من وسطه حافتاه وجمعه أبحر وبحور، ويشبه به الجواد، فيقال انما هو بحر لاتساع عطائه.

وقوله " حتى إذا كنتم في الفلك " خص الخطاب براكبي البحر. والفلك السفن، وسميت فلكا لدورانها في الماء، وأصله الدور، ومنه فلكة المغزل، والفلك الذي تدور فيه النجوم. وتفلك ثدي الجارية اذا استدار.

والفلك - ههنا - جمع، وقد يكون واحدا. كقوله " في الفلك المشحون "(1) وقوله " وجرين بهم بريح طيبة " عدل عن الخطاب إلى الاخبار عن الغائب تصرفا في الكلام مع انه خطاب لمن كان في تلك الحال وإخبار لغيره من الناس، قال لبيد:

باتت تشكي الي النفس مجهشة *** وقد حملتك سبعا بعد سبعينا(2)

وقوله " وفرحوا بها " يعني بالريح الطيبة " جاء‌تها ريح عاصف " يعني ريحا شديدة يقولون: عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة، ومنهم من يقول: أعصفت فهي معصف ومعصفة. والريح مؤنثة، وانما قال عاصف، لانه لايوصف بذلك غير الريح فجرى مجرى قولهم امرأة حائض، قال الشاعر:

حتى اذا عصفت ريح مزعزعة *** فيها قطار ورعد صوته زجل(3)

وقوله " وجاء‌هم الموج من كل مكان " معناه جاء راكبي الفلك الامواج العظيمة الهائلة من جميع الوجوه.

" وظنوا أنهم أحيط بهم " أي ظنوا انهم هالكون لما أحاط بهم من الامواج " دعوا الله مخلصين له الدين " اي عند هذه الشدائد والاهوال والتجؤا إلى الله ودعوه وجه الاخلاص، ولم يذكروا الاوثان والاصنام لعلمهم بأنها تنفع ههنا شيئا وقالوا " لئن انجيتنا " يارب من هذه الشدة " لنكونن " من جملة من يشكرك لنعمك، ويقوم بآدابها.

ويقال لمن اشرف على الهلاك أحيط

___________________________________

(1) سورة 36 يس آية 41 وسورة 26 الشعراء آية 119.

(2) مر تخريجه في 1 / 35، 472.

(3) تفسير الطبري " الطبعة الاولى " 11 / 63

[361]

به، ومنه قوله " واحبط بثمره "(1) أي اهلكت.

قوله تعالى: فلما أنجيهم إذا هم يبغون في الارض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيوة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون(23)

آية

قرأ حفص " متاع الحياة " بنصب العين. الباقون بالرفع.

من رفع يحتمل أمرين: احدهما - ان يكون رفعا بأنه خبر المبتدأ والمبتدأ قوله " بغيكم " الثاني - ان يكون بغيكم مبتدأ، وقوله " على انفسكم " خبره. ورفع متاع على تقدير ذلك متاع الحياة الدنيا. ومن نصب فعلى المصدر.

قال أبوعلي الفارسي " على انفسكم " يحتمل أن يكون متعلقا بالمصدر، لان فعله متعد بهذا الحرف كما قال " بغى بعضنا على بعض "(2) وقال " ثم بغي عليه لينصرنه الله "(3) فاذا جعلت الجار من صلة المصدر كان الخبر متاع الحياة الدنيا والمعنى بغي بعضكم على بعض متاعا في الحياة الدنيا. ويجوز ان تجعله متعلقا بمحذوف، ولا ثجلعه من صلة المصدر، وفيه ذكر يعود إلى المصدر. والتقدير انما بغي بعضكم على بعض عائد على أنفسكم، فعلى هذا يتعلق بالمحذوف دون المصدر المبتدأ وهو في المعنى كقوله " ولايحيق المكر السئ الا بأهله "(4) وقوله " فمن نكث فانما ينكث على نفسه "(5) فاذا رفعت متاع الحياة على هذا كان خبر مبتدأ محذوف كأنك قلت: ذاك متاع الحياة الدنيا أو هو متاع.

___________________________________

(1) سورة 18 الكهف آية 43.

(2) سورة 38 ص آية 22.

(3) سورة 22 الحج آية 60.

(4) سورة 35 فاطر آية 43.

(5) سورة 48 الفتح آية 10

[362]

ومن نصب احتمل وجهين: احدهما - ان يجعل من صلة المصدر، فيكون الناصب للمتاع هو المصدر الذي هو البغي، ويكون خبر المبتدأ محذوفا، وحسن ذلك لطول الكلام، لان بغيكم يدل على تبغون. والاخر - ان يجعل على أنفسكم خبر المبتدأ، ويكون نصب متاع على أحد وجهين: احدهما - يمتعون متاع الحياة فيدل انتصاب المصدر عليه والاخر - ان يضمر تبغون كأنه قال تبغون متاعا، فيكون مفعولا له.

ولايجوز أن يتعلق بالمصدر إذا جعلت (على) خبرا، لقوله إنما بغيكم على انفسكم، لفصلك بين الصلة والموصول.

اخبر الله تعالى في هذه الاية عن هؤلاء الكفار الذين اذا رأوا الاهوال والشدائد في الفلك في البحر فزعوا إلى الله ودعوه مخلصين له الدين، وقالوا متى انجيتنا من هذه " لنكونن من الشاكرين " أنه اذا انجاهم وخلصهم من تلك الشدائد عادوا إلى البغي وهو الاستعلاء بالظلم.

واصل البغي الطلب.

تقول بغاه يبغيه اذا طلبه.

والبغية الطلبة، والنجاة التخلص من الهلاك.

والتخليص من الاختلاط لايسمى نجاة.

ومعنى " لما " ايجاب وقوع الثاني بالاول كقولك: لما قام قمت، ولما جاء زيد قام عمرو.

والحق وضع الشئ في موضعه على ما يدعوا العقل اليه، والحق والحسن معناهما واحد.

وقوله " يا ايها الناس إنما بغيكم على أنفسكم " خطاب من الله تعالى للخلق بأن بغيكم على انفسكم من حيث ان عقابه يلحقكم دون غيركم " متاع الحياة الدنيا " معناه إنكم تطلبون بالبغي بغير الحق التمتع في الحياة الدنيا. ثم بعد ذلك ترجعون إلى الله بعد موتكم فيجازيكم بأعمالهم بعد أن يعلمكم ما عملتموه وما استحققتم به من انواع العقاب.

وقال مقاتل: معنى " يبغون في الارض بغير الحق " يعبدون غير الله.

وقال غيره: معناه كلما أنعمنا عليهم بغوا للدين وأهله الغوائل.

[363]

قوله تعالى: إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازّيّنت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتيها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الايات لقوم يتفكرون(24)

آية.

المثل قول سائر يشبه به حال الثاني بالاول.

وقيل " مثل الحياة الدنيا " صفة الحياة الدنيا.

وقيل في المشبه والمشبه به في الاية ثلاثة اقوال: احدها - قال الجبائي: إنه تعالى شبه الحياة الدنيا بالنبات على ما وصفه الله تعالى في الاغترار به والمصير إلى الزوال كالنبات الذي يصير إلى مثل ذلك.

الثاني - انه شبه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثم الانقطاع.

الثالث - انه شبه الحياة الدنيا بحياة مقدرة على هذه الاوصاف، لما يقتضيه " وظن أهلها أنهم قادرون عليها " أي علموا الانتفاع بها.

وقوله " فاختلط به نبات الارض " فالاختلاط تداخل الاشياء بعضها في بعض فربما كان على صفة مدح، وربما كان على صفة ذم.

وقوله " حتى اذا أخذت الارض زخرفها " فالزخرف حسن الالوان كالزهر الذي يروق البصر، ومنه قيل زخرفت الجنة لاهلها وقوله " وظن أهلها انهم قادرون عليها " معناه ظنوا أنهم قادرون على استصحاب تلك الحال منها - جعلها على غير شئ منها، لان القادر عليهم وعليها أهلكها.

وقوله " وازينت " أصله تزينت فأدغمت التاء في الزاي واجلبت الهمزة لامكان النطق بها. وقرأ الاعرج وغيره " وازينت " على وزن

[364]

(افعلت) والاول أجود لان عليه القراء.

وقوله " كأن لم تغن بالامس " معناه كأن لم تقم على تلك الصفة فيما قبل، يقال: غني بالمكان إذا أقام به والمغاني المنازل، قال النابغة:

غنيت بذلك إذهم لك جيرة *** منها بعطف رسالة وتودد

وقوله " كذلك نفصل الايات لقوم يتفكرون " معناه مثل ذلك نميز الايات ونبينها لقوم يفكرون فيها ويعتبزون بها، لان من لايفكر فيها ولا يعتبر بها كأنها لم تفصل له، فلذك خصصهم بالذكر.

قوله تعالى: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(25)

آية.

أخبر الله تعالى بأنه الذي يدعو عباده إلى دار السلام. والدعاء طلب الفعل بما يقع لاجله، والداعي إلى الفعل خلاف الصارف عنه. وقد يدعو اليه باستحقاق المدح عليه.

والفرق بين الدعاء والامر أن في الامر ترغيبا في الفعل، وزجرا عن تركه، وله صيغة تنبئ عنه، وليس كذلك الدعاء، وكلاهما طلب. وايضا الامر يقتضي أن يكون المأمور دون الامر في الرتبة. والدعاء يقتضي أن يكون فوقه.

وفي معنى دار السلام قولان: احدهما - قال الحسن: السلام هو الله. وداره الجنة. وبه قال قتادة.

الثاني - قال الجبائي والزجاج: معناه دار السلامة.

وقوله " ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " قيل في الهداية ههنا ثلاثة اقوال: احدها - يفعل الالطاف التي تدعوهم إلى طريق الحق لمن كان المعلوم أن له لطفا.

الثاني - الاخد بهم في الاخرة إلى طريق الجنة.

الثالث - قال ابوعلي: يريد به نصب الادلة لجميع المكلفين دون الاطفال والمجانين.

[365]

والاستقامة المرور في جهة تؤدي إلى البغية، فالادلة طرق إلى العلم على الاستقامة لانها تؤدي اليه.

قوله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون(26)

آية.

أخبر الله تعالى بأن للذين يفعلون الحسن من الطاعات التي أمرهم الله بها جزاء على ذلك " الحسنى " وهي الجنة ولذاتها.

وقيل: جامعة المحاسن من السرور واللذات على أفضل ما يكون وهي تأنيث الاحسن.

وقوله " وزيادة " معناه إن لهم زيادة التفضل على قدر المستحق على طاعاتهم من الثواب، وهي المضاعفة المذكورة في قوله " فله عشر أمثالها "(1) ذهب اليه ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعلقمة ابن قيس.

وقال ابوجعفر عليه السلام " وزيادة " معناه ما أعطاهم الله في الدنيا لايحاسبهم به في الاخرة.

وقوله " ولا يرهق وجوههم قترولا ذلة " فالرهق لحاق الامر، ومنه راهق الغلام إذا لحق حال الرجال، ورهقه في الحرب إذا أدركه. و (الرهاق) الاعجال. و (القتر) الغبار. والقترة الغبرة.

ومنه الاقتار في النفقة لقلته، قال الشاعر:

متوج برداء الملك يتبعه *** موج ترى فوقه الرايات والقترا(2)

والذلة صغر النفس بالاهانه.

والذلة نقيض العزة.

وقد يكون صغر النفس بضيق المقدرة.

وقوله " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " اخبار منه تعالى بأن الذين وصفهم الملازمون للجنة على وجه الخلود والنعيم فيها ولا زوال لذلك عنهم.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 160.

(2) قائله الفرزدق ديوانه 290 وتفسير الطبري 11 / 69 وتفسير القرطبي 8 / 311 واللسان " قتر ".

ورواية الديوان " معتصب " بدل " متوج "

[366]

قوله تعالى: والذين كسبوا السيّئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة مالهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(27)

آية.

لما وصف الله تعالى المطيعين، ومالهم من الثواب الجزيل في الجنة والخلود فيها، ذكر حكم العصاة الذين يرتكبون السيئات ويكسبونها وأن لهم جزاء كل سيئة مثلها يعني قدر ما يستحق عليها من غير زيادة، لان الزيادة على قدر المستحق من العقاب ظلم، وليس كذلك الزيادة على قدر المستحق من الثواب، لان ذلك تفضل يحسن فعله ابتداء. فالمثل - في الاية - المراد به مقدار المستحق من غير زيادة ولانقصان. والكسب فعل يجتلب به نفع او يدفع به ضرر، وقد يكتسب الانسان الحسنة والسيئة، ولهذا لايوصف الله تعالى بالكسب.

وقوله " وترهقهم ذلة " اي يلحقهم هو ان في أنفسهم.

" وما لهم من الله من عاصم " أي مالهم مانع من عقاب الله.

وفي رفع (جزاء) في الاية وجهان: احدهما - ان تقديره فلهم جزاء سيئة بمثلها ليشاكل " للذين أحسنوا ".

والاخرة - ان يكون الخبر بمثلها والباء زيادة كزيادتها في قولك ليس زيد بقائم.

وقوله " كأنما اغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما " شبه سواد وجوههم بقطع من الليل المظلم وانما ذكر ووحد مظلم لاحد أمرين: احدهما - ان يكون حالا من الليل.

والثاني - على قول الشاعر:

لو أن مدحة تنشرن أحدا *** أحيا أبا كن ياليلى الاماديح

و (القطع) قرأه بتسكين الطاء ابن كثير والكسائي.

الباقون بالتحريك، وهما لغتان.

[367]

وقوله " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " اخبار منه تعالى بأن من وصفهم ملازمون للنار خالدون فيها غير زائل عنهم عذابها.

قال ابوعبيدة " قطعا من الليل " وهو بعض الليل تقول اتيته لقطع من الليل اي ساعة من الليل، وقطع واقطاع.

وقال ابوعلي: القطع الجزء من الليل الذي فيه ظلمة.

فأما قوله " مظلما " اذا اجريته على (قطع) فيحتمل نصبه وجهين: احدهما - ان يكون صفة من القطع وهو احسن، لانه على قياس قوله " وهذا كتاب أنزلناه مبارك "(1) وصف الكتاب بالمفرد بعد ما وصفه بالجملة واجراه على النكرة. والثاني - يجوز أن يكون حالا من الذكر الذي في الظرف.

ومن قرأ " قطعا " لم يكن مظلما صفة ل‍ (قطع) ولا حالا من الذكر الذي في قوله " من الليل " ولكن يكون حالا من الليل المظلم فلما حذف الالف واللام نصب على ا لحال.

قوله تعالى: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون(28)

آية

اخبر تعالى في هذه الاية أنه يوم يحشر الخلائق أجمعين.

والحشر هو الجمع من كل أوب إلى الموقف، وإنما يقومون من قبورهم إلى ارض الموقف " ثم نقول للذين أشركوا " يعني من اشرك مع الله في عبادته غيره، والمشرك بالاطلاق لايقال إلا فيمن في العبادة، لانها صفة ذم مثل كافر وظالم وقوله " مكانكم " معناه انتظروا مكانكم.

" جمعيا " نصب على الحال و (مكانكم) نصب على الامر كأنه قال انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 92، 155

[368]

ويقول المتوعد لغيره: مكانك فانتظر، يستعمل ذلك في الوعيد.

وقوله " انتم وشركاؤكم " يعني انتظروا انتم مع شركائكم الذين عبدتموهم من دون الله.

وقوله " فزيلنا بينهم " مأخوذ من قولهم زلت الشئ عن مكانه ازيله - وزيلنا للكثرة من هذا - اذا نحيته عن مكانه وزايلت فلانا إذا فارقته.

وقال القتيبي: وهو مأخوذ من زال يزول، وهو غلط وخلاف لقول جميع المفسرين وأهل اللغة. والتزييل التفريق. والمعنى فرقنا بين المشركين بالله وما أشركوا به.

وقوله " وقال شركاؤهم ما كنتم ايانا تعبدون " قيل في معناه قولان: احدهما - قال مجاهد: انه ينطق الاوثان يوم القيامة فيقولوا: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون. والثاني - ان ذلك قول من كانوا يعبدونهم من الشياطين.

وفي كيفية جحدهم لذلك قولان: احدهما - انهم يقولون ذلك على وجه الاهانة بالرد عليهم. والمعنى ما اعتذرنا بذلك لكم. والاخر - انه في حال دهش ككذب الصبي.

وقال الجبائي: يريد انكم لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا ولم يرد انهم لم يعبدوها أصلا، لان ذلك كذب وهو لا يقع في الاخرة لكونهم ملجئين إلى ترك القبيح.

وهذه الاية نظيرة قوله " اذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا "(1) وكان مجاهد يقول: الحشر ههنا هو الموت.

والاول اولى.

قوله تعالى: فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين(29)

آية.

هذا اخبار من الله تعالى عن شركاء المشركين من الالهة والاوثان يوم القيامة حين قال المشركون إنا إنما إياكم كنا نعبد، وأنهم يجحدون ذلك ويقولون:

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 166

[369]

حسبنا الله شاهدا بيننا وبينكم أيها المشركون بأنه تعالى عالم أنا ما علمنا ما تقولون، وأنا كنا عن عبادتكم إيانا غافلين، لانشعر به ولانعلمه.

وإنما قال " شهيدا بيننا " ولم يقل علينا، لانه إذا قال بيننا فمعناه لنا وعلينا، فهو أعم وأحسن. ونصب (شهيدا) على التمييز، وتقديره وكفى بالله من الشهداء.

وقال الزجاج: نصب على الحال وتقديره كفى بالله في حال الشهادة.

وقوله " إن كنا " فهذه (إن) المخففة عن الثقيلة بدلالة دخول اللام في الخبر للفرق بين (إن) الجحد و (إن) المؤكدة.

وقال الزجاج: هي بمعنى (ما) ومعناه ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين.

قوله تعالى: هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله موليهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون(30)

آية.

قرأ اهل الكوفة الا عاصما (تتلوا) بالتاء من التلاوة. الباقون بالياء.

من قرأ بالباء فمعناه تختبر من قوله " وبلوناهم بالحسنات والسيئات "(1) اي اختبرناهم، ومنه قولهم البلاء ثم الثناء أي الاختبار للثناء عليه ينبغي أن يكون قبل الثناء ليكون عن علم بما يوجبه.

ومعنى اختبار النفس ما اسلفت إن قدم خيرا أو شرا جزي عليه. كما قال " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره "(2) وغير ذلك.

ومن قرأ بالتاء فمن التلاوة.

ويقوي ذلك قوله " فأولئك يقرؤن كتابهم "(3) وقوله " اقرأ كتابك "(4) وقوله " ورسلنا لديهم يكتبون "(5) ويكون (تتلو) بمعنى تتبع ويكون المعنى هنالك تتبع كل نفس ما أسلفت من

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 167.

(2) سورة 99 الزلزال آية 7 - 8.

(3) سورة 17 الاسرى آية 71.

(4) سورة 17 الاسرى آية 14.

(5) سورة 43 الزخرف آية 80

[370]

حسنة وسيئة، فمن أحسن جوزي بالحسنات ومن أساء جوزي به، فعلى هذا يكون المعنى مثل قراء‌ة من قرأ بالباء.

وقال ابن زيد: معنى " تتلو " تعاين.

وقال الفراء: معناه تقرأ، وقال غيره تتبع.

وقال ابن عباس معنى (تتلو) تخبر قال الشاعر:

قد جعلت دلوي تستتليني *** ولا أحب تبع القرين

اي تتبعني من ثقلها، ومعنى " هنالك " في ذلك المكان، وهو ظرف ف‍ (هنا) للقريب و (هنالك) للبعيدو (هناك) لما بينهما قال زهير:

هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا *** وإن يسألوا يعطوا وإن ييسيروا يغلوا(1)

والاسلاف تقديم امر لما بعده، فمن أسلف الطاعة لله جزي بالثواب. ومن أسلف المعصية جزي بالعقاب.

وقوله " وردوا إلى الله " فالرد هو الذهاب إلى الشئ بعد الذهاب عنه، فهؤلاء ذهبوا عن أمر الله فأعيدوا اليه.

والرد والرجع نظائر، ويجوز أن يكون الرد بمعنى النشأة الثانية، وهو الاليق ههنا.

وقوله " مولاهم الحق " فالمولى المالك للعبيد، ومعناه مالكهم لانه يملك أمرهم، وهو أملك بهم من أنفسهم.

وقوله " وضل عنهم ما كانوا يفترون " يعني ما كانوا يدعونهم - بافترائهم من الشركاء - مع الله يضلون عنهم يوم القيامة ويبطلون.

قوله تعالى: قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون(31)

آية

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله أن يقول لهؤلاء الكفار وغيرهم من خلقه " من يرزقكم " من السماء " بانزال المطر والغيث، ومن الارض باخراج النبات وانواع الثمار.

___________________________________

(1) ديوانه 112 واللسان (خبل) وفيه اختلاف في الرواية.

[371]

والرزق العطاء الجاري يقال: رزق السلطان الجند، الا ان كل رزق، فالله رازق به، لانه لو لم يطلقه على يد الانسان لم يجئ منه شئ. والواحد منا يرزق غيره إلا أنه لايطلق اسم رازق إلا على الله، كما لايقال: (رب) بالاطلاق إلا في الله وفي غيره يقيد، فيقال رب الدار ورب الفرس. ويطلق فيه، لانه يملك الجميع غير مملك، وكذلك هو تعالى رازق الجميع غير مرزوق، ولا يجوز أن يخلق الله حيوانا يريد تبقيته إلا ويرزقه، لانه إذا أراد بقاء‌ه فلا بدله من الغذاء، فان لم يرد تبقيته كالذي يولد ميتا فانه لا رزق له في الدنيا.

وقوله " أم من يملك السمع والابصار " يعني من الذي له التصرف فيها بلا مانع يمنعه منها وان شاء اصحها وان شاء امرضها.

و " من يخرج الحي من الميت " معناه من الذي يخلق الحيوان ويخرجه من امه حيا سويا اذا ماتت أمه " ويخرج الميت من الحي " يعني من يخرجه غير تام ولا بالغ حد الكمال.

وقيل: معناه انه يخرج الحي من النطفة، وهي ميتة ويخرج النطفة من الحي.

وقيل: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. و " من يدبر الامر " اي ومن الذي يدبر جميع الامور في السما والارض؟ وليس جواب ذلك لمن انصف ولم يكابر الا ان يقول: الله الفاعل لجميع ذلك.

واذا قالوا ذلك واعترفوا به قيل لهم " أفلا تتقون " ومعناه فهلا تتقون خلافه وتحذرون معاصيه؟ وفي الاية دلالة على التوحيد، لان ما ذكره في الاية يوجب أن المدبر واحد ولا يجوز أن يقع ذلك إتفاقا، لاحالة العقل ذلك، ولايجوز أن يقع بالطبيعة، لانها في حكم الموات لو كانت معقولة، فلم يبق بعد ذلك إلا ان الفاعل لذلك قادر عالم يدبره على ما يشاء، وهو الله تعالى، مع ان الطبيعة مدبرة - مفعولة - فكيف تكون هي المدبرة.

وإنما دخلت (أم) على (من) لان (من) ليست أصل الاستفهام بل أصله الالف، فلذلك جاز الجمع بينهما.

[372]

قوله تعالى: فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فانى تصرفون(32)

آية.

" ذلك " إشارة إلى اسم الله الذي ذكره في الاية الاولى، ووصفه بأنه الذي يخرج الحي من الميت من الحي ويرزق الخلق من السماء والارض.

و (الكاف والميم) للمخاطبين، وإنما جمع لانه أراد جميع الخلق، فأخبر الله تعالى ان الذي وصفه في الاية الاولى هو " الله ربكم " الذي خلقكم ويملك تصرفكم.

وإنما وصفه بأنه " الحق " لانه له معنى الالهية دون غيره من الاوثان والاصنام، وهو الرب تعالى وحده.

وقوله " فماذا بعد الحق إلا الضلال " صورته صورة الاستفهام والمراد به التقرير على موضع الحجة، لانه لايجد المجيب محيدا عن الاقرار به إلا بذكر ما لا يلتفت اليه، وكلما تدعو اليه الحكمة على اختلافه فهو حق، والمراد انه ليس بعد الاقرار بالحق والانقياد له إلا الضلال والعدول عنه.

وقوله " فأنى تصرفون " أي كيف تصرفون وتعدلون عبادته مع وضوح الدلالة على أنه لا معبود سواه والصرف هو الذهاب عن الشئ، فالصرف عن الحق ذهاب إلى الباطل، وقد أنكر الله ذلك. وفيه دلالة على أنه من فعل غيره من الغواة لانه لو كان من فعله لما انكره كما لم ينكر شيئا من أفعال نفسه.

قوله تعالى: كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون(33)

آية

[373]

قرأ أهل المدينة وابن عامر (كلمات) ههنا وفي آخرها، وفي المؤمن على الجمع. الباقون على التوحيد.

قال ابوعلي: من قرأ على التوحيد احتمل في ذلك وجهين: أحدهما - ان يكون جعل ما أوعد به الفاسقين كلمة وإن كانت في الحقيقة كلمات، لانهم قد يسمون القصيدة والخطبة كلمة، فكذلك ما ذكرناه. والثاني - ان يريد بذلك الجنس وقد اوقع على بعض الجنس كما أوقع اسم الجنس على بعضه في قوله " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل "(1) ومن جمع فانه جعل الكلمات التي يوعدون بها كل واحدة منها كلمة ثم جمع، فقال: كلمات.

وأما قوله " كلة الله هي العليا "(2) فيجوز ان يكون عنى بها قوله " كتب الله لاغلبن انا ورسلي "(3) كما فسر قوله " وألزمهم كلة التقوى "(4) انه لا إلهة الا الله، ذكره مجاهد.

والكاف في قوله كذلك في موضع نصب والتقدير مثل أفعالهم جازاهم ربك. وقيل في المشبه به " كذلك حقت كلمة ربك " قولان: احدهما - المعنى في انه ليس بعد الحق الا الضلال فشبه به كلمة الحق بأنهم لا يؤمنون في الصحة. الثاني - ما تقدم من العصيان شبه به الجزاء بكلمة العذاب في الوقوع على المقدار. وانما اطلق في الذين فسقوا أنهم لايؤمنون، لانه أريد به الذين تمردوا في كفرهم.

و (انهم) في موضع نصب على قول الفراء والتقدير بأنهم أولانهم لايؤمنون فقوله " انهم لايؤمنون " بدل من كلمة ربك.

فأعلم الله أنهم باعمالهم قد منعوا من الايمان، وجائز ان تكون الكلمة ماوعدوا به من العقاب. والفسق في الشرع هو الخروج في المعصية إلى الكبيرة فان كانت كفرا فالخروج إلى أكبره وكذلك ان كانت منع حق. وفائدة الاية الابانة عن الحال التي لايفلح صاحبها ليحذر من

___________________________________

(1) سورة 27 الصافات آية 137.

(2) سورة 9 التوبة آية 41.

(3) سورة 58 المجادلة آية 21.

(4) سورة 48 الفتح آية 26

[374]

مثلها، لانه قد يكون في المعلوم أنه من بلغ ذلك الحد لم يفلح، قال: وأصل المعنى حقت كلمة ربك ان الفساق والكفار ما داموا كفارا فساقا فلا يكونون مؤمنين.

وقال الجبائي: معناه وجدانكم إياهم على الكفر والاصرار عليه دليل على ان ما أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لايؤمنون حق وصدق.

قوله تعالى: قل هل من شركائكم من يبدؤ الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون(34)

آية.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله أن يقول لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا مع الله آلهة يعبدونها " هل من شركائكم من يبدؤ الخلق " بأن ينشئهم ويخترعهم. ثم اذا أماتهم يعيدهم ويحييهم، لينبئهم بذلك على انه لايقدر على ذلك الا الله القادر لنفسه الذي لا يعجزه شئ.

وقيل في معنى (شركائكم) قولان: احدهما - انهم الذين جعلوهم شركاء في العبادة. الثاني - الذين جعلوهم شركاء في اموالهم من اوثانهم، كما قال " فقالوا هذالله بزعمهم وهذا لشر كائنا "(1) والاعاذه ايجاد الشئ ثانيا، وقال لنبيه قل لهم: الله تعالى القادر لنفسه هو الذي يبدؤ الخلق فينشئهم ثم يميتهم ثم يعيدهم لايعجزه شئ عن ذلك.

وقوله " فانى تؤفكون " معناه انى تصرفون عن الحق وتقلبون عنه، ومنه الافك، والكذب، لانه قلب المعنى عن جهته.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 136

[375]

قوله تعالى: قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لايهِدّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون(35)

آية

قرأ أهل الكوفة الا عاصما " يهدي " بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال.

وقرأه أهل المدينة إلا ورشا بفتح الياء، وسكون الهاء، وتشديد الدال.

وقرأه ابن كثير وابن عامر وابوعمرو وورش بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، الا أن السوسي من طريق ابن جيش لايشبع فتحة الهاء، وكذلك روى الحماني عن شجاع وقرأه يعقوب وحفص والاعشى والبرجمي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ورواه ابوبكر الا الاعشى والبرجمي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال.

قال ابو علي: من قرأ " يهدي " بفتح الياء والهاء وتشديد الدال فقد نسبهم إلى غاية الذهاب عن الحق في معادلتهم الالهة بالله تعالى، ألا ترى ان المعنى أفمن يهدي غيره إلى طريق التوحيد والحق أحق ان يتبع أم من لايهتدي هو إلا أن يهدى، والتقدير أفمن يهدي غيره فحذف المفعول الثاني: فان قيل: هذه التي اتخذوها آلهة لاتهتدي وإن هديت لانها موات من حجارة وأوثان ونحو ذلك !؟ قيل: تقدير الكلام على أنها إن هديت اهتدت وإن لم تكن في الحقيقة كذلك لانهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عن الذي يجب له العبادة، كما قال " ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون(1) وقال " ان تدعوهم لايسمعوا دعاء‌كم ولو سمعوا ما استجابوا لكم "(2) فاجرى عليه اللفظ كما يجري على من يعلم، كأنه قال أم من لايهدي الا ان يهدى أي أم من لا يعلم حتى يعلم، ومن لا يستدل على شئ حتى يدل، وإن كان لو دل أو أعلم لم يعلم ولم يستدل. واراد الله بذلك تعجيبهم من أنفسهم وتبيين جهلهم وقلة تمييزهم في تسويتهم من لا يعلم ولايقدر بالله القادر العالم.

وقرأ حمزة والكسائي " أم من لا يهدي " معناه أم من لايهدي غيره، ولكن يهدى أي لايعلم شيئا ولايعرفه، ولكن

___________________________________

(1) سورة 16 النحل آية 73.

(2) سورة 35 فاطر آية 14

[376]

يهدى أي لا هداية له، ولو هدي أيضا لم يهتد، غير أن اللفظ جرى عليه كما قلناه فيما تقدم.

ومن شدد، فلان أصله يهتدي فأدغم التاء في الدال.

ومن حرك الهاء القى حركة الحرف المدغم على الهاء لانها من كلمة واحدة.

ومن كسر الهاء لم يلق الحركة تشبيها بالمنفصل، وكسر الهاء لالتقاء الساكنين.

ومن سكن الهاء جمع بين الساكنين.

من أشم فلان الاشمام في حكم التحريك.

ومن كسر الياء اتبع الياء ما بعدها من الكسر لان أصله يفتعل.

وقال قوم: معنى " أم من لايهدي إلا أن يهدى " لا يتحرك حتى يحرك. أمر الله تعالى نبيه أن يقول أيضا لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا مع الله شركاء في العبادة " هل من شركائكم " الذين تعبدونهم من دون الله أو تشركون بينهما في العبادة من يهدي غيره إلى الحق والى طريق الرشاد، ثم قال: قل يا محمد " الله يهدي للحق " وأفعال الخير، ثم قال " أفمن يهدي غيره إلى الحق " والى الصراط المستقيم أولى " أن يتبع " ويقبل قوله، " أم من لايهدي إلا أن يهدى " أي إلا بعد أن يهدى وحكي عن البلخي أنه قال: هدى واهتدى بمعنى واحد.

وقوله " فمالكم كيف تحكمون " أي بما تدعونه من عبادة - من دون الله - فالهداية المعرفة بطريق الرشاد من الغي، فكل هداية قائدة إلى سلوك طريق النجاة بدلا من طريق الهلاك.

وقال الزجاج " ما لكم " كلام تام، كأنه قال أي شئ لكم في عبادة الاوثان ثم قال لهم " كيف تحكمون؟ ! " على أي حال، فموضع (كيف) نصب ب‍ (تحكمون) ويقال هديته للحق والى الحق بمعنى واحد.

قوله تعالى: وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لايغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون(36)

آية.

[377]

أخبر الله تعالى أنه ليس يتبع أكثر هؤلاء الكفار إلا الظن الذي لايجزي شيئا، من تقليد آبائهم رؤسائهم.

ثم قال تعالى " إن الظن لايغني من الحق شيئا " لان الحق إنما ينتفع به من عرفه وعلمه حقا، لان الظن حقيقة ما قوي كون المظنون عند الظان على ما ظنه مع تجويز أن يكون على غيره، فاذا كان معه تجويز كون المظنون على خلاف ما ظنه، فلا يكون مثل العلم. وقد يكون للظن حكم إذا قام على ذلك دليل إما عقلي أو شرعي، ويكون صادرا عن إمارات معروفة بالعادة والخبر أورده إلى نظيره عند من قال بالقياس، وكل ذلك إذا اقترن به دليل يوجب العمل به، وكل موضع يمكن أن يقوم عليه دليل ويعلم صحته من فساده فلا يجوز أن يعمل فيه على الظن، لان بمنزلة من ترك العلم وعمل على ظن غيره.

وقوله " ان الظن لا يغني من الحق شيئا " معناه انه لايقوم العلم مع وجوده أو امكان وجوده، وانما يعبد الله في الشرع في مواضع بالرجوع إلى الظن مع أنه كان يمكنه أن ينصب عليه دليلا يوجب العلم لما في ذلك من المصلحة.

وقوله " إن الله عليم بما يفعلون " فيه ضرب من التهديد، لانه أخبر أنه تعالى يعلم ما يفعلونه ولايخفى عليه منه شئ فيجازيهم على جميعه: على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب.

قوله تعالى: وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين(37)

آية.

نفى الله تعالى في هذه الاية أن يكون هذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه واله مفترى من دون الله والافتراء الاخبار على القطع بالكذب، وهو مأخوذ من فري الاديم، وهو قطعه بعد تقديره. والقرآن عبارة عن هذا الكلام

[378]

الذي هو في أعلى طبقات البلاغة مع حسن النظم والجزالة، وكل شئ منه فيه فائدة وكل فصل منه فيه فائدة أخرى.

وقوله " ولكن تصديق الذي بين يديه " شهادة من الله له بأنه صدق وبأنه شاهد لما تقدم من التوراة والانجيل والزبور بأنها حق، وشاهد ايضا من حيث انه مصدق لها اذ جاء على ما تقدمت البشارة به فيها. وقبل مصدق لما بين يديه من البعث والنشور والجزاء والحساب.

وقوله " وتفصيل الكتاب " أي تبيين الفصل من المعاني الملتبسة حتى يظهر كل معنى على حقيقته. والتفصيل والتمييز والتقسيم نظائر، وضده التلبيس والتخليط.

وقوله " لاريب فيه " أي لا شك فيه " من رب العالمين " اي نازل من عند مالك العالمين.

وقيل: إن معنى " تفصيل الكتاب " أي تفصيل الفروض الشرعية. والكتاب - ههنا - المفروض.

وقال الفراء: معنى " وما كان هذا القرآن ان يفترى " اي لاينبغي ان يكون افتراء، كما قال تعالى: " وما كان لنبي أن يغل "(1) أي لا ينبغي له.

وقال غيره: تقديره وما كان هذا القرآن مفترى.

قوله تعالى: أم يقولون افتريه فأتوا بسورة مثله وادعوا من أستطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(38)

آية

معنى " أم " ههنا تقرير على موضع الحجة بعد مضي حجة أخرى، وتقديره بل أتقولون افتراه، فالزموا على هذا الاصل الفاسد امكان أن يأتوا بمثله.

وقوله " فاتوا بسورة مثله " صورته صورة الامر، والمراد به التحدي باتيان سورة، وهو الزام لهم على أصلهم اذ أصلهم فاسد يوجب عليهم أن يأتوا بسورة مثله، فالتحدي يطلب ما يوجبه أصلهم عليهم.

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 161

[379]

وقوله " فأتوا بسورة مثله " معناه سورة منه.

وقيل في معناه قولان: أحدهما - أن فيه حذفا وتقديره فاتوا بسورة مثل سورته ذكره بعض البصريين. والاخر - ائتوا بسورة مثله في البلاغة، وهو أحسن الوجهين.

والسورة منزلة محيطة بآيات الله كاحاطة سور البناء من أجل الفاتحة والخاتمة، وكل منزلة من سورة البناء محيطة بما فيها.

وقوله " وادعوا من استطعتم من دون الله " معناه ادعوهم إلى الموازنة على المعارضة بسورة مثله أي استعينوا بكل من قدرتم عليه. والاستطاعة حالة للحي تنطاع بها الجوارح للفعل وهي مأخوذ من الطوع. والقدرة مأخوذة من القدر، فهي معنى يمكن أن يوجد به الفعل وان لا يوجد لتقصير قدره عن ذلك المعنى.

وقوله " ان كنتم صادقين " معناه ان كنتم صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون الله فأنتم تقدرون على معارضته، فحيث لاتقدرون على ذلك علم أن الامر بخلاف ما تذكرونه لقدرتم على معارضته لمشاركتكم إياه في النشوء والفصاحة.

قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين(39)

آية

أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين حكى عنهم أنهم قالوا إن محمد صلى الله عليه واله افترى هذا القرآن ولم ينزله الله عليه بأنهم " كذبوا " بما لم يحيطوا بعلمه " ومعناه بما لم يعلموه من كل وجوهه، لان في القرآن ما يعلم المراد منه بدليل، ويحتاج إلى الفكر فيه والرجوع إلى الرسول في معرفة مراده وذلك مثل المتشابه، فالكفار لما لم يعرفوا المراد بظاهره كذبوا به، وقالوا انه افترى على الله كذبا، ومعنى

[380]

كذبوا انهم شهدوا بان الدعاة إلى الله والدعاة إلى الحق من المؤمنين كاذبون جهلا منهم وتوهما لاحقيقة لهم ولاحجة معهم به.

وقوله " ولما يأتهم تأويله " معناه ما يؤول أمره اليه وهو عاقبته. ومعناه متأوله من الثواب والعقاب. ثم حكى الله أنه مثل ذلك كذب الذين من قبلهم أنبياء الله ورسله فأهلكهم الله ودمرهم ثم قال لنبيه " فانظر كيف كان عاقبة الظالمين " يعني ما أدى إلى إهلاكهم بعذاب الاستئصال على ما تقدم من ظلمهم لانفسهم وغيرهم في كذبهم.

وقيل في موضع " كيف كان " نصب بأنه خبر كان.

ولايكون معمول (انظر) لان ما قبل الاستفهام لايعمل في الاستفهام.

الآية: 40 - 59

قوله تعالى: ومنهم من يؤمن به ومنهم من لايؤمن به وربك أعلم بالمفسدين(40)

آية

أخبر الله تعالى ان من جملة هؤلاء الكفار الذين كذبوا بالقرآن ونسبوه إلى الافتراء من سيؤمن به أي بالقرآن في المستقبل، ومنهم من لايؤمن بل يموت على كفره.

وقوله " وربك أعلم بالمفسدين " معناه من يدوم على الفساد ممن يتوب، وإنما بقاهم الله لما في معلومه انه يتوب منهم. وإنما جاز ان يقول " أعلم " وان لم يكن هناك كثرة علوم لاحد أمرين: احدهما - ان الذات تغني عن كل علم. والثاني - انه يراد كثرة المعلوم.

قوله تعالى: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون(41)

آية.

[381]

خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله فقال " وان كذبوك " هؤلاء الكفار ولم يصدقوك وردوا عليك بذلك ونسبوك إلى الكذب " فقل لي عملي " أي إن كنت كاذبا فوباله علي " ولكم عملكم " أي ان كنتم غير محقين فيما تردونه علي وتكذبوني، فلكم جزاء عملكم، فانتم تبرؤن مما أعمل وأنا ابرأ من أعمالكم. وفائدة ذلك الاخبار بأنه لايجازى احد الا على عمله، ولا يؤخذ أحد بجرم غيره كما قال تعالى " ولا تزر وازرة وزر اخرى "(1) والبراء‌ة قطع العلقة التي توجب رفع المطالبة وذلك كالبراء‌ة من الدين، والبراء‌ة من العيب في البيع، ولم يقل النبي صلى الله عليه واله هذا القول شكا منه فيما يجازي الله الكفار والمؤمنين به من الثواب والعقاب.

وانما قال على وجه التلطف لخصمه وحسن العشرة، وأن لايستقبلهم بما يكرهونه من الخطاب فربما كان داعيا لهم ذلك إلى الانقياد والنظر في قوله.

وقال ابن زيد: هذه الاية منسوخة بآية الجهاد، وعلى ما قلناه لايحتاج إلى ذلك.

قوله تعالى: ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لايعقلون(42)

آية.

اخبر الله تعالى ان من جملة هؤلاء الكفار " من يستمع اليك " يا محمد. والاستماع طلب السمع، فهم كانوا يطلبون السمع للرد لاللفهم، فلذلك لزمهم الذم، فهم اذا سمعوه على هذا الوجه كأنهم صم لم يسمعوه حيث لم ينتفعوا به.

وقوله " أفأنت تسمع الصم " خطاب للنبي صلى الله عليه واله بأنه لايقدر على اسماع الصم الذين لايسمعون، وبهم صمم، وهم الذين ولدوا صما، والاصم المفسد السمع بما يمنع من ادراك الصوت، وقد صم يصم صمما، والسمع إدراك الشئ بما به يكون مسموعا. وتسمى الاذن السليمة سمعا، لانه يسمع بها.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 164 وسورة 17 الاسرى آية 15 وسورة 35 فاطر آية 18 وسورة 39 الزمر آية 7

[382]

وقوله " ولو كانوا لا يعقلون " تشبيه من الله تعالى لهؤلاء الكفار في ترك إصغائهم إلى النبي صلى الله عليه واله واستماع كلامه طلبا للفائدة بالذين لايسمعون أصلا، وان النبي صلى الله عليه واله ولايقدر على اسماعهم على وجه ينتفعون به اذا لم يستمعوا بنفوسهم، للفكر فيه، كما لايقدر على اسماع الصم.

وقوله " من " يقع على الجمع كما يقع على الواحد، فلذلك أخبر عنه بلفظ الجمع بقوله " يستمعون اليك " و (لو) في اكثر الامر يكون ما بعدها أقل مما قبلها تقول: أعطني دابة ولو حمارا، وقد يجئ ما بعدها اكثر مما قبلها، كما يقول الرجل:: انا أقاتل الاسد فيستعظم ذلك منه، فيقال: أنت تقاتل الاسد ولو كان ضاريا، وعلى هذا مخرج الاية.

قال الزجاج: والمعنى ولو كانوا جهالا كما قال الشاعر: اصم عما ساء‌ه سميع(1)

قوله تعالى: ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لايبصرون(43)

آية.

اخبر الله تعالى بأن من جملة الكفار " من ينظر اليك " يا محمد صلى الله عليه واله، فلم يخبر بلفظ الجمع لانه حمله على اللفظ، واللفظ لفظ الواحد. والنظر المذكور في الاية معناه تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته.

وقيل: معناه من ينظر إلى أدلتك.

والنظر يكون بمعنى الاعتبار والفكر، وهو الموازنة بين الامور حتى يظهر الرجحان او المساواة، وذلك الجمع بين الشيئين في التقدير بما يظهر به شهادة أحدهما بالاخر، ثم قال " أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لايبصرون "

___________________________________

(1) مر في 2 / 80 و 4 / 125

[383]

اي نظرهم اليك لاعلى وجه الاستفادة بمنزلة نظر الاعمى الذي لايبصر، فكما لايقدر ان يهدي الاعمى. وفكذلك هؤلاء لاينتفعون بنظرهم اليك، فكأنهم لايبصرون.

والعمى آفة تمنع من الرؤية، وهو على وجهين: عمى العين، وعمى القلب. وكلاهما يصلح له هذا الحد.

والابصار إدراك المبصر بما يكون به مبصرا، كما أن السمع إدراك المسموع بما به يكون مسموعا.

قوله تعالى: إن الله لايظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون(44)

آية

اخبر الله تعالى في هذه الاية على وجه التمدح به بأنه لايظلم أحدا شيئا وانما الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بارتكاب ما نهى الله عنه من القبائح فيستحقون بها عقابا، فكأنهم الذين أدخلوا عليها ضررا فلذلك كانوا ظالمين لنفوسهم.

والمعنى - ههنا - ان الله لايمنع احدا الانتفاع بما كلفهم الانتفاع به من القرآن وأدلته، ولكنهم يظلمون انفسهم بترك النظر فيه والاستدلال به، وتفويتهم انفسهم الثواب وإدخالهم عليها العقاب.

ففي الاية دلالة على انه لايفعل الظلم، لان فاعل الظلم ظالم، كما أن فاعل الكسب كاسب، وليس لهم أن يقولوا يفعل الظلم ولا يكون ظالما به، كما يفعل العلم ولا يكون به عالما.

وذلك أن معنى قولنا: ظالم أنه فعل الظلم، كقولنا: ضارب، أنه يفيد انه فعل الضرب. وكذلك يكون ظالما بما يفعله من الظلم في غيره، وليس كذلك العالم، لانه يفيد انه على صفة مخصوصة ولذلك قد يكون عالما بما يفعل فيه من العلم، ولايكون ظالما بما يفعل فيه من الظلم ولا يكون عالما بما يفعل في غيره من العلم وليس كذلك الظلم، فبان الفرق بينهما.

[384]

وليس لاحد ان يقول: ان الانتفاء من الظلم كالانتفاء من السنة والنوم، في انه ليس بنفي الفعل، وذلك أن الظلم مقدور قبل العدل، وليس كذلك النوم واليقظة لانهما يستحيلان عليه.

و (لكن) اذا كانت مشددة عملت عمل (إن) واذا خففت لم تعمل لان المخففة تدخل على المفرد كما يدخل حرف العطف، والثقيلة تدخل على الجملة فتزيل الابتداء.

قوله تعالى: ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين(45)

آية.

قرأ حفص " يحشرهم " بالياء. الباقون بالنون.

قال أبوعلي الفارسي: قوله " كأن لم يلبثوا " يحتمل ثلاثة أوجه: احدها - أن يكون صفة اليوم.

والاخر - أن يكون صفة للمقدر المحذوف.

والثالث - أن يكون حالا من الضمير في " يحشرهم " فاذا جعلته صفة لليوم احتمل أن يكون التقدير " كأن لم يلبثوا " قبله " إلا ساعة " كما قال " فاذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف "(1) أي امسكوهن قبله، وكذلك قوله " فان فاء‌وا فان الله "(2) معناه فان فاء واقبل انقضاء الاربعة أشهر.

ويحتمل أن يكون المعنى " كأن لم يلبثوا " قبله، فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه، ثم حذفت الهاء من الصفة.

ومثله " وترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم "(3) والتقدير وجزاؤه واقع بهم. وإن جعلته صفة للمصدر كان على هذا التقدير الذي وصفيناه، ومثله " كأن لم يلبثوا " قبله

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 231 وسورة 65 الطلاق آية 2.

(2) سورة 2 البقرة آية 226.

(3) سورة 42 الشورى آية 22

[385]

فحذف وأقام المضاف اليه مقام المضاف، ثم حذف العائد من الصفة، كما يحذف من الصلة في نحو قوله " أهذا الذي بعث الله رسولا "(1) وإن جعلته حالا من الضمير المنصوب لم يحتج إلى حذف شئ في اللفظ، لان الذكر من الحال قد عاد إلى ذي الحال.

والمعنى يحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم يلبث الا ساعة.

ويحتمل أن يكون معمولا بما دل عليه قوله " كأن لم يلبثوا " فاذا جعلته معمولا ل‍ (يتعارفون) انتصب (يوم) على وجهين: احدهما - أن يكون ظرفا والاخر - ان يكون مفعولا على السعة، على يا سارق الليلة أهل الدار.

ومعنى " يتعارفون " يحتمل امرين: احدهما - ان يكون المعنى يتعارفون مدة إماتتهم التي وقع حشرهم بعدها وحذف المفعول للدلالة عليه، أو يكون أعمل الفعل الذي دل عليه " يتعارفون " ألا ترى انه قد دل على سيعلمون إذ يتعارفون، فعلى هذا يكون قوله " ويوم يحشرهم " معمول " يتعارفون ".

والاخر - أن يكون " يوم يحشرهم " معمول ما دل عليه قوله " كأن لم يلبثوا " لان المعنى تشابه أحوالهم أحوال من لم يلبث، فعمل في الظرف هذا المعنى ولا يمنع المعنى من أن يعمل في الظرف وان تقدم الظرف عليه كقولهم: أكل يوم لك ثوب؟ واذا جعلت " يتعارفون " العامل في " يحشرهم " لم يجز أن يكون صفة اليوم، على أنك كأنك وصفت اليوم بقوله كأن لم يلبثوا ويتعارفون، فوصفت يوم يحشرهم بجملتين لم يجز أن يكون معمولا لقوله " يتعارفون " لان الصفة لا تعمل في الموصوف، وجاز وصف اليوم بالجمل وان أضيف، لان الاضافة ليست محضة، فلم تعرفه.

ومن قرأ بالنون فلقوله " وحشرناهم فلم نغادر "(2) وقوله " فجمعناهم جمعا "(3) وقوله " ونحشره يوم القيامة أعمى "(4).

___________________________________

(1) سورة 25 الفرقان آية 41.

(2) سورة 18 الكهف آية 48.

(3) سورة 18 الكهف آية 100.

(4) سورة 20 طه آية 124

[386]

ومن قرأ بالياء فلقوله " ليجمعنكم إلى يوم القيامة "(1) والنون والياء متعارفان في مثل هذا بدلالة قوله " وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه "(2) فعلم من هذا ان كل واحد منهما يجري مجرى الاخر.

يقول الله تعالى في هذه الاية أنه يوم يحشر الخلق إلى المحشر والموقف " كأن لم يلبثوا الا ساعة من النهار " عند أنفسهم، لقلة بقائهم فيها وسرعة تصرمها عنهم مع طول وقوفهم يوم القيامة ومع علمهم بدوام بقائهم في الاخرة، شبه قرب الوقت إلى ذلك الحين بساعة من النهار لان كل ما هوآت قريب، كما قال " اقتربت الساعة "(3) ودل بذلك على أنه لاينبغي لاحد أن يغتر بطول ما يأمله من البقاء في الدنيا إذ كان عاقبة ذلك إلى الزوال.

وقوله " يتعارفون بينهم " اخبار منه تعالى أن الخلق يعرف بعضهم بعضا في ذلك الوقت خسرانهم ويتذاكرونه.

وقوله " قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله " اخبار منه تعالى بأن الذين كذبوا بالبعث والنشور ولقاء ثواب الله ولقاء عقابه يخسرون نفوسهم. والخسران ذهاب رأس المال، فالنفس أكبر من رأس المال.

وقوله " وما كانوا مهتدين " معناه لا يكونون مهتدين إلى طريق الجنة لكونهم مستحقين للعقاب.

وقال الزجاج: معنى الاية قرب ما بين موتهم كما قالوا " لبثنا يوما أو بعض يوم "(4) و " يتعارفون بينهم " أي يعرف بعضهم بعضا، وفي ذلك توبيخ لم وإثبات الحجة عليهم.

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 86 وسورة 6 الانعام آية 12.

(2) سورة 20 طه آية 127.

(3) سورة 54 القمر آية 1.

(4) سورة 23 المؤمنون آية 114، وسورة 18 الكهف آية 19

[387]

قوله تعالى: وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون(46)

آية.

نون التأكيد في الجزاء لاتجوز الا مع (ما) كما لايجوز الجزاء ب‍ (اذ، وحيث) الا مع (ما) يخرجونها عن اخواتها، فدخلت (ما) لتقريبها منها، فالنون تدخل في الامر والنهي والاستفهام والعرض، وكله طلب، وكله غير واجب. وليس في الجزاء طلب إلا أنه يشبه غير الواجب.

وقوله " نرينك " من رؤية العين لانها لو كانت من رؤية الاعلام لتعدى إلى مفعولين والبعض شئ يفصل من الكل، والبعض والقسم والجزء نظائر. والتوفي القبض على الاستيفاء بالامانة، لان الروح تخرج من البدن على تمام وكمال من غير نقصان. ومعنى الاية إن أريناك يا محمد بعض ما نعد هؤلاء الكفار من العذاب عاجلا بأن ننزل عليهم ذلك في حياتك، وإن أخرنا ذلك عنهم إلى بعد وفاتك ووفاتهم، فان ذلك لايفوتم، لانه الينا مرجعهم، والله شاهد بأعمالهم، وعالم بها، وحافظ لها، فهو يوفيهم عقاب معاصيهم.

وقال مقاتل: المعنى إما نرينك بعض الذي نعد المؤمنين من النصر والاعلاء، وهو يوم بدر.

وقوله " ثم الله " عطف في قول الفراء، وقال غيره: (ثم) بمعنى الواو.

قوله تعالى: ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون(47)

آية.

أخبر الله تعالى في هذه الاية أن لكل جماعة على دين واحد وطريقة واحدة كأمة محمد وأمة موسى وعيسى عليهم السلام رسولا بعثه الله اليهم وحمله الرسالة التي يؤديها اليهم ليقوم بأدائها.

وقوله " فاذا جاء رسولهم " يعني يوم القيامة - في قول مجاهد - وقال الحسن: في الدنيا، بما أذن الله تعالى من الدعاء عليهم.

[388]

وقوله " قضي بينهم " معناه فصل بينهم الامر على الحتم. والله تعالى يقضي بين الخصوم أي يفصل بينهم فصلا لايرد " بالقسط " يعني بالعدل. والمقسط العادل.

والقاسط الجائر، ومنه قوله " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا "(1) والاصل واحد، والمقسط العادل إلى الحق والقاسط العادل عن الحق.

وقوله " وهم لايظلمون " إنما نفى عنهم الظلم بعد أن وصف أنه يقضي بينم بالعدل ليكون العدل في جميع الاحوال من الابتداء إلى الانتهاء، لانه كان يمكن ان يكون العدل في أوله والظلم في آخره، فنفي بذلك نفيا عاما ليخلص العدل في كل أحوالهم.

قوله تعالى: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين(48)

آية

حكى الله تعالى عن الكفار والذين تقدم وصفهم أنهم " يقولون متى هذا الوعد " الذي تعدوننا به من البعث والنشور والثواب والعقاب " إن كنتم صادقين " في كون ذلك. والقول كلام مضمن في ذكره بالحكاية، وقد يكون كلام لايعبر عنه، فلا يكون له ذكر متضمن بالحكاية، فلا يكون قولا، لانه إنما يكون قولا من أجل تضمين ذكره بالحكاية.

و " متى " سؤال عن الزمان. و (أين) سؤال عن المكان، وهما ظرفان يتصلان بالفعل من غير حرف إضافة تقول: متى يكون هذا، ولا يجوز أن تقول: ما يكون هذا على معنى الظرف. ولكن في ما يكون هذا. والوعد خبر ما يعطى من الخير.

والوعيد خبر ما يعطى من الشر، هذا اذا فصل فان اجمل وقع الوعد على الجميع.

والصدق الاخبار عن الشئ على ما هوبه.

___________________________________

(1) سورة 72 الجن آية 15

[389]

قوله تعالى: قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون(49)

آية

لما حكى الله تعالى عن الكفار استبطاء‌هم ما وعد الله وقولهم " متى هذا الوعد " امر الله نبيه صلى الله عليه واله أن يقول لهم على وجه الانكار عليهم إني " لا املك لنفسي ضرا ولا نفعا " من الثواب والعقاب بل ذلك إلى الله، ولا أملك إلا ما ملكني الله، فكيف أملك لكم.

والملك هو القدرة على التصرف في الشئ على وجه ليس لاحد منعه منه، فالانسان لايملك إلا ما ملكه الله، لان له تعالى منعه منه. وقد يملك الطفل ومن لاعقل له من المجانين بالحكم.

والنفع هو اللذة أو السرور أو ما أدى إليهما او إلى واحد منهما.

والضرر الالم نفسه أو الغم او ما أدى اليهما او إلى واحد منهما.

وقوله " إلا ما شاء الله " أن يملكني إياه من نفع او ضر، فيمكنه مما جعل له أخذه او اوجب عليه تركه. والاجل هو الوقت المضروب لوقوع امر، كأجل الدين وأجل البيع واجل الانسان واجل المسافر فاخبر تعالى انه إذا اتى اجل الموت الذي وقته الله لكل حي بحياة، لايتأخر ذلك ساعة ولايتقدم على ما قدره الله تعالى.

قوله تعالى: قل أرأيتم إن أتيكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون(50)

آية

امر الله تعالى نبيه بهذه الاية ان يقول لهؤلاء الكفار الذين استبطأوا وعد الله " ارأيتم " اي اعلمتم؟ لانها من رؤية القلب، لانها دخلت على الجملة من الاستفهام " ان اتاكم عذابه " يعني عذاب الله. والعذاب الالم المستمر واصله الاسمترار.

[390]

ومنه العذوبة لاستمرارها في الحلق " بياتا " وهو إتيان الشئ ليلا يقال بيته تبييتا وبياتا وبات بيتوتة، وفلان لايستبيت إذا لم يكن له ما يبيت به وجواب " إن " محذوف، وتقدير الكلام ارايتم ماذا يستعجل المجرمون من العذاب إن أتاكم عذابه بياتا او نهارا، ووقع " إن أتاكم " في وسط الكلام موقع الاعتراض.

ومعنى (ما) في قوله " ماذا " للانكار لان يكون في العذاب شئ يستعجل به، وجاء على صيغة الاستفهام، لانه لاجواب لصاحبه يصح له.

وقال ابوجعفر عليه السلام هو عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة. نعوذ بالله منه.

وقال الزجاج: موضع (ماذا) رفع من وجهين: احدهما - ان يكون (ذا) بمعنى (الذي) والتقدير ما الذي يستعجل منه المجرمون. ويجوز أن يكون (ماذا) إسما واحدا، والمعنى اي شئ يستعجل منه.

والهاء في قوله " منه " عائدة على العذاب ويجوز ان تكون عائدة على الاستعجال.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21400705

  • التاريخ : 19/04/2024 - 01:03

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net