00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاعراف من ( آية 60 ـ 89) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الرابع)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: قال الملأ من قومه إنا لنريك في ضلال مبين(60)

آية بلاخلاف.

(قال) أصله (قول) فانقلبت الواو الفا لحركتها وانفتاح ماقبلها.

أخبر الله تعالى عن الملا من قوم نوح. وقيل في معنى الملا قولان: أحدهما - أنهم الجماعة من الرجال سموا بذلك لانهم يملؤن المحافل. والثاني - أنهم الاشراف، وقيل: الرؤساء، لانهم يملؤن الصدر بعظم شأنهم، ومنه قوله صلى الله عليه وآله أولئك الملا من قريش.

والقوم يقال لمن يقوم بالامر، ولانسوة فيهم - على قول الفراء - وهو مأخوذ من القيام. وإنما سموا بالمصدر، كماقال بعض العرب اذا أكلت طعاما أحببت نوما وابغضت قوما أي قياما.

وقوله " إنا لنراك " قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - انه من رؤية القلب الذي هوالعلم.

الثاني - من رؤية العين، كأنهم قالوا نراك بأبصارنا على هذه الحال.

الثالث - أنه من الرأي الذي هو غالب الظن وكأنه قال: إنالنظنك.

وقوله " في ضلال مبين " أرادوا بالضلال ههنا العدول عن الصواب إلى الخطأ فيما زعموا مخالفتهم إياه فيما دعاهم اليه من اخلاص العبادة لله تعالى. و " مبين " أي بين ظاهر.

قوله تعالى: قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين(61)

آية بلاخلاف.

[437]

في هذه الاية إخبار عما أجابهم به نوح (ع) وقال لهم " ليس بي ضلالة " أي ليس بي عدول عن الحق، ويقال،: به ضلالة لان فيه معنى عرض به كما يقال به جنة، ولايجوز أن يقال: به معرفة، لانها ليست مما تعرض بصاحبها، ولكن يصح أن يقال: به جوع، وبه عطش، لانه عارض به.

قوله " ياقوم " أصله ياقومي، فحذفت ياء الاضافة لقوة الندآء على التغيير، حتى يحذف للترخيم، فلماجاز أن يحذف في غيره للاجتزاء بالكسرة منها، لزم أن يحذف فيه لاجتماع السببين فيه.

وقوله " ولكني رسول من رب العالمين " معنى (لكن) والاستدراك الخفيفة يستدرك بها معنى المفرد. والمشددة يستدرك بها معنى الجملة، فلذلك صارت من أخوات (إن).

" ولكني " أصله (ولكنني) وحذفت النون لاجتماع النونات، ويجوز الاتمام، لانه الاصل، وكذلك (اني، وكأني) فأما (ليتني) فلايجوز فيه الا اثبات النون، لانه لم يعرض فيه علة الحذف. واما (لعلي) فيجوز فيه الوجهان، لان اللام قريبة من النون.

ومعنى (من) - ههنا - لابتداء الغاية، ومعناه أن الله تعالى هو الذي ابتدأني بالرسالة، وكل مبتدئ بفعل فذلك الفعل منه. وأصل (من) موضع ابتداء الغاية كقولك: خرجت من بغداد إلى الكوفة أي ابتداء خروجي من بغداد.

قوله تعالى: أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون(62)

آية بلاخلاف.

قرأ أبوعمرو وحده " أبلغكم " مخففة اللام. الباقون بتشديدها.

و (بلغ) فعل يتعدى إلى مفعول واحد تقول: بلغني خبركم، وبلغت أرضكم، فاذا نقلته تعدى إلى مفعولين. والنقل يكون تارة بالهمزة وأخرى

[438]

بتضعيف العين، وقد ورد بهما التنزيل، قال الله تعالى " فان تولوا فقد أبلغتكم "(1) فنقل بالهمزة، وقال " ياأيها الرسول بلغ "(2) فنقل بتضعيف العين، فعلى هذين الوجهين اختلفوا في القراء‌ة.

وفي الاية حكاية عن قول نوح (ع) لقومه أنه قال لهم بعد ماأنكر عليهم أنه ليس به ضلالة، وانه رسول من عندالله، وأنه بلغهم ماحمله الله من رسالات ربه. والابلاغ إيصال مافيه بيان وافهام، ومنه البلاغة، وهي إيصال المعنى إلى النفس بأحسن صورة من اللفظ. والبليغ الذي ينشئ البلاغة، لا الذي يأتي بها على وجه الحكاية.

والفرق بين الابلاغ والاداء أن الاداء لما يسمع، وحسن الاداء للقراء‌ة.

والرسالات جمع رسالة، وهي جملة من البيان يحملها القائم بها ليؤديها إلى غيره.

وانما جمع - ههنا - (رسالات) وفي موضع آخر " رسالة "(3) على التوحيد، لانه يشعر تارة بالجملة وتارة بالتفصيل، فلما دعاالى عبادة الله وطاعته واجتناب محارمه والعمل بشريعته، كان هذا تفصيل رسالات الله تعالى.

ورسالات الله حكم: من ترغيب، وتحذير، ووعد، ووعيد، ومواعظ، ومزاجر، وحجج، وبراهين وأحكام يعمل بها، وحدود ينتهى اليها.

وقوله " وانصح لكم " فالنصيحة اخلاص النية من شائب الفساد في المعاملة. و (النصح) خلاف الغش في العمل، ولايكون الغش إلا بسوء النية.

وقوله " وأعلم من الله مالا تعلمون " فيه حث لهم على طلب العلم من جهته، وتحذير من مخالفته، لما يعلم من العاقبة، فكأنه قال: أنا أعلم بحلول العقاب بمخالفتكم وترك القبول مني " مالاتعلمون " أنتم، ويجوز أن يريد " وأعلم من " توحيد الله وصفاته وحكمته " ما لا تعلمونه ". وفي ذلك بطلان مذهب القائلين بأن معرفة الله ضرورة - وأن من لم يعرفه ضرورة فليس

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 57.

(2) سورة 5 المائدة آية 70.

(3) سورة 7 الاعراف آية 78.

[439]

بمكلف - لان نوحا (ع) بين أنه خاف عليهم مع أنه يعلم مالا يعلمونه.

قوله تعالى: أوَعجبتم أن جاء‌كم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون(63)

آية.

في هذه الاية تقريع من نوح (ع) لقومه على صورة الاستفهام بأنهم عجبوا أن جاء‌هم ذكر من ربهم. وإنما دخل الاستفهام معنى التقريع، لان المجيب لايأتي الا بما يسوء من القبيح، فهو إنكار وتقريع، وقد يدخل معنى التمني، لانه بمنزلته في انه طلب، لان يكون أمر، وإنما فتحت الواو في قوله " أوعجبتم " لانها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام، فالكلام مستأنف من وجه، متصل من وجه، كما أن المبتدأ في خبر الاول بهذه الصفة. والتعجب تغير النفس بماخفي سببه، وخرج عن العادة مثله، لانه لامثل له في العادة.

والذكر حضور المعنى للنفس، والذكر على وجهين: ذكر البيان وذكر البرهان، فذكر البيان احضار المعنى للنفس، وذكر البرهان الشهادة بالمعنى في النفس، وكلا الوجهين يحتمل في الاية.

وقوله " على رجل منكم " فالرجل هو إنسان خارج عن حد الصبي من الذكران، وكل رجل انسان، وليس كل انسان رجلا، لان المرأة انسان.

وقيل في دخول (على) في قوله " على رجل منكم " قولان: أحدهما - أنه بمعنى مع رجل منكم، قال الفراء: كماتقول: جاء‌ني الخير على وجهك ومع وجهك. الثاني - لان فيه معنى منزل " على رجل منكم ".

وقوله " لينذركم " فالانذار هوالاعلام بموضع المخافة، والتحذرير هوالزجر عن موضع المخافة.

وقوله " ولتتقوا ولعلكم ترحمون " معناه إن الله تعالى أرسل هذا الرسول مع هذا الذكر، وأراد انذاركم، وغرضه أن تتقوا معاصيه لكي يرحمكم ويدخلكم الجنة ونعيم الابد.

[440]

وفي ذلك دلالة على بطلان مذهب المجبرة: أن الله تعالى لم يرد منهم أن يتقوا ولاأن يؤمنوا.

قوله تعالى: فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين(64)

آية بلاخلاف.

هذا اخبار من الله تعالى عن قوم نوح أنه لم ينفع فيهم ذلك التخويف ولاالوعظ والزجر، وأنهم كذبوه يعني نوحا. ومعناه أنهم نسبوا خبره إلى الكذب، لان التكذيب نسبة الخبر إلى الكذب، والتصديق نسبة الخبر إلى الصدق، وهذا مما يختلف فيه معنى (فعل، وفعل).

وقوله " فأنجيناه " إخبار من الله تعالى انه أنجا نوحا، والانجاء هو التخليص من الهلكة، والاهلاك الايقاع فيها وهي المضرة الفادحة.

" ومن معه " يعني وأنجا من معه من المؤمنين به " في الفلك " وهي السفن ويقع على الواحد والجمع بلفظ واحد، وأصله الدور مشتق من قولهم: فلك ثدي الجارية، إذا استدار، ومنه الفلكة والفلك من هذا، لانه يدور على الماء كيف أداره صاحبه.

وقوله " وأغرقنا الذين كذبوا " والاغراق هوالغوص المتلف في الماء، وأصله الغوص في الشئ، فمنه اغرق في النزع، ولاتغرق في هذا الامر.

وقوله " إنهم كانوا قوما عمين " فيه بيان أنه إنما أغرقهم وأهلكهم، لانهم كانوا عمين. والعمى الضلال عن طريق الهدى، فهم كالعمي في أنهم لا يبصرون طريق الرشد، فهم عمي عن الحق.

[441]

قوله تعالى: وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون(65)

آية بلاخلاف.

انتصب قوله " أخاهم هودا " بقوله " أرسلنا " في أول الكلام وإن تطاول مابينهما، لان تفصيل القصص يقتضي ذلك، والتقدير وأرسلنا " إلى عاد أخاهم هودا " ويجوز في مثله الرفع وتقديره، والى عاد أخوهم هود مرسل.

و (الاخ) أحد الولدين لواحد. وإنما قال لهود (ع) أنه أخوهم، لانه كان من قبيلهم، وجاز ذلك على غير الاخوة في الدين، لانه احتج عليهم أن يكون رجلا منهم، لانهم عنه أفهم واليه أسكن. وصرف (هود) لخفته، كما صرفت جمل لخفتها، وهو أحق بالصرف، لانه أكثر في الاستعمال.

في هذه الاية إخبار من الله تعالى انه أرسل إلى قوم عاد هودا، وأنه قال لهم " ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره " وقد فسرنا معنى ذلك أجمع وبينا أيضا حقيقة العبادة، وأنه لا يستحقها غير الله، لانها على أصول النعم، والشكر قد يستحقه غير الله، لانه يستحق بالنعمة وان قلت، وكذلك الطاعة قد تجب لغير الله، فعلى هذا تكون عبادة اثنين شركا، ولايكون طاعة اثنين شركا، كماأن الشكر على النعمة لاثنين لايكون كذلك اذا لم يكن واقعا على وجه العبادة.

وقوله " أفلا تتقون " معناه، فهلا تتقون، وهو بصورة الاستفهام والمراد به حضهم على تقوى الله واتقاء معاصيه.

[442]

قوله تعالى: قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنريك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين(66)

آية بلاخلاف.

في هذه الاية إخبار عما قالت الجماعة الكافرة من قوم هود له " انا لنراك في سفاهة " والسفاهة خفة الحلم، كما قال الشاعر: مبذرا وعاتب سيعى...(1) أي سفيه، وثوب سفيه اذاكان خفيفا (وقال) المؤرج: السفاهة الجنون بلغة حمير، وقوله " في سفاهة " معناه منغمس في السفاهة، فالسفاهة بمعنى أنت سفيه، أقيم المصدر مقام اسم الفاعل، ولايجوز قياسا على ذلك أن يقال في إرادة بمعنى مريد، وكسرت (إن) لانها وقعت بعد القول حكاية، والحكاية تقتضي استئناف المحكي و (إن) اذا شددت عملت، ولاتعمل اذا خففت، لانها مشددة تشبه (كان) فلما خففت قل الشبه الا ان يحمل على كان محذوفة، وليس قوة حملها عليها تامة كقوة حملها محذوفة، وحذفت الهمزة في مضارع رأيت دون ماضيه، لاجتماع ثلاثة أشياء: الزيادة في أوله، وكثرة الاستعمال لها، ولان فيما بقي دليل عليها، ولم يلزم في نأيت تنأى مثل ذلك.

وقوله " وإنا لنضنك " ولم يقولوا نعلمك لامرين: احدهما - قال الحسن: لان تكذيبهم كان على الظن دون اليقين.

وقال الرماني: معناه انك تجري مجرى من أخبر عن غائب لايعلم ممن هو منهم.

الثاني - انهم أرادوا بالظن العلم كما قال الشاعر:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المشدد(2)

معناه أيقنوا.

وفائدة الاية أن أمة هود جرت على طريقة أمة نوح في الكفر بنبيها كأنهم قد تواصوا بالتكذيب بالحق ومعاندة أهله والرد لما أوتوا به

___________________________________

(1) هكذا في الاصل والكلامات غير منقطة، فلم اعرف له وجها.

(2) مر هذا البيت في 1 / 205 و 2 / 296.

[443]

قوله تعالى: قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين(67)

آية بلاخلاف.

هذه الاية فيها إخبار عما قال هود (ع) لقومه مجيبا لهم حين قالوا له: " إنا لنراك في سفاهة " وأنه قال " ليس بي سفاهة " وموضع (قوم) نصب، لانه نداء مضاف فلو وصفته لماجاز في صفته الا النصب، وانما حذفت بالاضافة، لان النداء أحق بالحذف الذي يكون في غيره لقوة اليقين فيه.

وقوله " ولكني رسول من رب العالمين " استدراك ب‍ (لكن) لان فيه معنى مادعاني إلى امركم السفه، ولكن دعاني اليه أني رسول من رب العالمين. وقد بيناأن (من) ههنا بمعنى ابتداء الغاية، والتقدى المبتدئ بالرسالة رب العالمين والمنتهى اليه الرسالة لامته، لانه ارسل اليهم.

قوله تعالى: أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين(68)

آية قدبينا معنى الابلاغ، وهو احضار الشئ غيره على وجه الانتهاء، ومنه قوله " ثم ابلغه مأمنه "(1) وقد يكون احضارا لنفس البيان للافهام والابلاغ أشد اقتضاء للمنتهى اليه من الايصال، لانه يقتضي بلوغ فهمه وعقله كالبلاغه التي تصل إلى سويداء قلبه. ولايجوز بدل " رسالات ربي " نبوات ربي، لان النبوة تكليف القيام بالرسالة، فانما يبلغ الرسالة ولايبلغ التكليف.

وقوله " وأنا لكم ناصح أمين " معناه اني ناصح لكم فيما أدعوكم اليه من طاعة الله واخلاص عبادته.

وقيل: ان معناه اني كنت فيكم أمينا قبل النبوة

___________________________________

(1) سورة التوبة آية 7

[444]

والنصح إخلاص المعاملة من شائب الفساد في النية. والامين المأمون من أن يكون منه تغيير له أو تبديل. وفى الاية دلالة على أنه يجوز للانسان أن يزكي نفسه عند الحاجة اليه.

قوله تعالى: أوَ عجبتم أن جاء‌كم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون(69)

آية

قد بينا معنى قوله " أو عجبتم أن جاء‌كم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " فلا معنى لاعادته. وانما أنكر العجب مع أنه خفي بسببه، وخرج عن العادة لظهور الدلائل فيه وقيام البراهين عليه من الارسال اليهم من تنبيههم على مااغفلوه وتعريفهم ماجهلوه. والفرق بين العجب والعجب، أن العجب - بضم العين - عقد النفس على فضيلة لاينبغي ان يعجب منها السبب لها، وليس كذلك العجب - بفتح العين والجيم - لانه قد يكون حسنا.

وقد قيل في المثل (لاخير فيمن لايتعجب من العجب وأرذل منه المتعجب من غير عجب).

وقوله " فاذكروا اذ جعلكم خلفاء فخلفاء جمع خليفة، وهوالكائن بدل غيره ليقوم بالامر مقامه في تدبيره. وخلفاء جمعه على التذكير مثل ظريف وظرفاء، ولو جمعه على اللفظ لقال: خلائف نحو كريمة وكرائم، وورد ذلك في القرآن، قال الله تعالى " هوالذي جعلكم خلائف "(1).

وقوله " من بعد قوم نوح " امتنان عليهم بمامكنهم في الارض وجعلهم بدل قوم نوح حين أهلكهم الله.

وقوله " وزادكم في الخلق بسطة " قرئ

___________________________________

(1) سورة 35 فاطر آية 39

[445]

بالسين والصاد وقيل في معناه قولان: احدهما - قال ابن زيد: زادهم قوة.

وقال غيره: أراد به المرة من بسط اليدين اذا فتحت على أبعد أقطارها.

وقال الزجاج والرماني: كان أقصرهم طوله سبعين ذراعا وأطولهم مئة ذراع.

وقال قوم: كان أقصرهم اثني عشر ذرا عا.

وقال ابوجعفر (ع): كانوا كأنهم النخل الطوال، وكان الرجل منهم ينحت الجبل بيده فيهدم منه قطعة.

وقوله " فاذكروا الاء الله " قال الحسن وغيره: الالاء النعم في واحدها لغات: (ألا) مثل (معا) و (الا) مثل " قفا " و " الي " مثل " حسي " و " إلى " مثل " دمى " قال الشاعر:

أبيض لايرهب الهزال ولا *** يقطع رحما ولايخون إلا(2)

إلا وألا رويا جميعا.

وقوله " لعلكم تفلحون " معناه اذكروا نعم الله واشكروه عليها لكي تفوزوا بثواب الجنة والنعيم الدائم الابدي.

قوله تعالى: قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين(70)

آية بلاخلاف.

قيل في الفرق بين " قالوا " وتكلموا، أن القول مضمن بالحكاية من حيث هو على صفة القول، وليس كذلك من حيث هو على صفة الكلام. وفى الاية حكاية ماقال قوم هود، وهم قبيلة عاد لهود (ع) " أجئتنا " ومعناه أتيتنا " لنعبدالله وحده " وتريد منا أن نوجه عبادتنا إلى الله وحده. والمجئ والاتيان والاقبال واحد، وقال قوم المجئ إتيان من أي جهة كان، والاتيان إقبال من قبل الوجه.

وقوله " ونذر " ومعناه ونترك، ولم تستعمل فيه (وذرنا) استغناء بتركنا، ولايلزم أن يستغنى بنترك عن نذر، لان نذر خفيفة، لان الواو حذفت منه.

___________________________________

(2) قائله الاعشى ديوانه: 157 ولسان العرب . (الا)

[446]

" ماكان يعبد آباؤنا " تمام الحكاية عن الكفار أنهم قالوا: كيف نترك ماكان يعبد آباؤنا؟ ! وأنهم قالوا " فأتنا بما تعدنا " من العذاب " ان كنت صادقا " " من " جملة " الصادقين " وانما لم يجب اتباع الاباء، وان كانوا عقلاء ووجب اتباع العقلاء، لانه انما يجب اتباع العقلاء فيما علموه بعقولهم ضرورة، فأما ماطريقه الدليل فانه يجوز أن يغلطوا فيه فلا يجوز حينئذ اتباعهم وان كانوا أباء‌ا.

قوله تعالى: قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلوننى في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مانزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين(71)

آية بلاخلاف.

في هذه الاية حكاية عما قال هود لقومه جوابا عما قالوه في الاية الاولى: أنه " قد وقع عليكم رجس وغضب " فالوقوع والسقوط والنزول نظائر. والوقوع وجودالشئ نازلا بالحدوث، فقد يكون بحدوثه، وقد يكون بحدوث غيره، كوقوع الحائط ونحوه. والرجس العذاب.

وقيل: الرجس والرجز واحد فقلبت الزاي سينا، كما قلبت السين تاء في قول الشاعر:

ألا لحى الله بني السعلات *** عمرو بن يربوع لئام النات

ليسوا باعفاف ولاأكيات(1) يريد الناس، وبريد أكياس.

وقال رؤبة:

كم قد رأينا من عديد ميزي *** حتى أقمنا كيده بالرجز(2)

حكى ذلك عن أبي عمروبن العلا.

وقال ابن عباس: الرجس السخط،

___________________________________

(1) تفسير الطبري 12: 522، ونوادر أبي زيد: 104، 147.

(2) ديوانه: 64 وتفسير الطبري 12: 522.

[447]

والغضب معنى يدعو إلى الانتقام دعاء الانتقاص الطباع لشدة الانكار، ونقيضه الرضا، وهو معنى يدعو إلى الانعام دعاء ميل الطباع. ومثل الغضب السخط، هذا قول الرماني.

وقال غيره: الغضب هو ارادة العقاب بمستحقيه، ومثله السخط.

والرضا هو الارادة إلا أنها لاتوصف بذلك إلا اذا وقع مرادها ولم يتعقبها كراهة، ولهذا جاز إطلاق ذلك على الله، ولو كان الامر على ما قاله الرماني لماجاز أن يقال: إن الله غضب على الكفار، ولاأنه سخط عليهم.

وقوله " أتجاد لونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان " يعني ماأنزل الله بها من برهان، ولا نصب عليها حجة. والمعنى أتنا زعونني في أسماء سميتموها يعني تسميتهم مايعبدون من دون الله آلهة، ماأنزل الله عليكم بذلك حجة بما عبدتم، فالبينة عليكم بما ادعيتم وسميتم، وليس علي ان آتيكم بالبينة على ماتعبدون من دون الله بل ذلك عليكم، وعلي أن آتيكم بسلطان مبين أن الله تعالى هو المعبود وحده دون من سواه وأني رسوله.

وقوله " فانتظروا اني معكم من المنتظرين " قال الحسن: معناه انتظروا عذاب الله فانه نازل بكم، فاني معكم من المنتظرين لنزوله بكم، وهو قول الجبائي وغيره من المفسرين.

قوله تعالى: فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وماكانوا مؤمنين(72)

آية بلاخلاف.

في هذه الاية إخبار من الله تعالى أنه أنجى هودا والذين آمنوا معه برحمة منه، والانجاء التخليص من الهلاك، وأصله من النجوة وهي الارتفاع من الارض والنجاء السرعة في السير، لانه ارتفاع فيه بالاسراع وإنماجاز أن يقول: برحمة منا مع أن النجاة هي الرحمة، لانه عقد معنى النجاة بالرحمة، فصار كأنه يعمل بالقدرة.

[448]

وقوله " وقطعنا " فالقطع هوافراد الشئ عن غيره مماكان على تقدير الاتصال به، فلما أفردوا بالهلاك عما كان على تقدير التبع لهم من نسلهم وآثارهم من بعدهم كان قد قطع دابرهم.

وقال الحسن: معناه قطعنا أصل الذين كذبوا بديننا وماكانوا مؤمنين.

وقال ابن زيد: قطعنا دابرهم معناه: استأصلناهم عن آخرهم. والدابر الكائن خلف الشئ. ونقيضه القابل، ويكون القابل الاخذ للشئ من قبل وجهه.

وقوله " وماكانوا مؤمنين " انما أخبر بذلك عن حالهم مع أنه معلوم منهم ذلك لبيان أن هذه الصفة لاتجوز أن تلحق المكذب بآيات الله الجاحد لها وإن في نفيها عن المكلف ذما له.

قوله تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولاتمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم(73)

آية بلاخلاف.

هذه الاية عطف على ماتقدم، والتقدير وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا. وثمود اسم قبيلة، وقد جاء‌مصروفا وغير مصروف، فمن صرفه، فعلى أنه اسم لحي مذكر، ومن ترك صرفه، فعلى أنه اسم القبيلة، كماقال تعالى " ألا إن ثمود كفروا ربهم الا بعدا لثمود "(1) صرف الاول ولم يصرف الثاني. واختير ترك الصرف في موضع الجر، لانه أخف.

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 68.

[449]

ويجوز في قوله " مالكم من إله غيره " ثلاثة أوجه من العربية: الجر على اللفظ، والرفع على الموضع، وقد قرئ بهما، وقد بيناه فيما مضى، والنصب على الاستثناء والحال، ولم يقرأ به.

ويجوز عند الفراء الفتح على البناء، لانه أجاز ماجاء‌ني غيرك، ومنع منه الزجاج.

وقال: إنما يجوز ذلك اذا أضيف إلى غير متمكن إضافة غير حقيقية، كماقال الشاعر:

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت *** حمامة في غصون ذات أو قال(2)

وقوله " أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره " قد بيناه فيما مضى.

وقوله " قد جاء‌تكم بينة من ربكم " فالبينة العلامة التي تفصل الحق من الباطل من جهة شهادتها به. والبيان هو إظهار المعنى للنفس الذي يفصله من غيره حتى يدركه على مايقويه كما يظهر نقيضه، فهذا فرق بين البينة والبيان.

وقوله " هذه ناقة الله لكم آية " فالناقة الانثى من الجمال والاصل فيها التوطئة والتذليل من قولهم بعير منوق أي موطأ مذلل، وتنوق في العمل أي جوده كالموطأ المذلل. والناق الحز بين ألية الابهام وطرفها، لانه وطأبه لقبض الكف وبسطها. وانما قال " ناقة الله " لانه لم يكن لها مالك سواه تعالى.

ونصب " آية " على الحال.

والاية هي البينة العجيبة بظهور الشهادة ولطف المنزلة.

والاية والعبرة والدلالة والعلامة نظائر.

والاية التي كانت في الناقة خروجها من صخرة ملساء تمخضت بها كما تتمخض المرأة ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها، وكان لها شرب يوم تشرب فيه ماء الوادي كله وتسقيهم اللبن بدله، ولهم شرب يوم يخصهم لاتقرب فيه ماء‌هم، في قول أبي الطفيل، والسدي وابن اسحاق.

وقوله " فذروها " أي اتركوها " تأكل في أرض الله ولاتمسوها بسوء " يعني بعقر أو نحر " فيأخذكم عذاب أليم " أي ينالكم عذاب مؤلم.

___________________________________

(2) اللسان . (وقل) وأو قال: جمع وقل، وهو ثمار شجر المقل.

[450]

قوله تعالى: واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولاتعثوا في الارض مفسدين(74)

آية بلاخلاف.

في هذه الاية حكاية لقول صالح (ع) لقومه بعد أن أمرهم بعبادة الله وحده لاشريك له، ونهيه إياهم أن يمسوا الناقة بسوء، وحذرهم من المخالفة التي يستحق بها العذاب المؤلم فقال - عاطفا على ذلك - و " اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعدعاد " أي تفكروا فيما أنعم الله عليكم حيث جعلكم بدل قوم عاد بعد أن أهلكهم وأورثكم ديارهم " وبوأكم في الارض " أي مكنكم من منازل تأوون اليها، يقال بوأته منزلا اذا مكنته منه ليأوى اليه. وأصله من الرجوع من قوله " فباء‌وا بغضب على غضب "(1) وقوله " وباء‌وا بغضب من الله "(2) أي رجعوا، قال الشاعر:

وبوأت في صميم معشرها *** فتم في قومها مبوأها(3)

أي انزلت ومكنت من الكرم في صميم النسب.

وقوله " تتخذون من سهولها " فالسهل ماليس فيه مشقة على النفس من عمل أو أرض، يقال: السهل والجبل، وأرض سهلة.

وقوله " قصورا " جمع قصر، وهو الدار الكبيرة بسور تكون به مقصورة. وأصله القصر الذي هو الجعل على منزلة دون منزلة، فمنه القصير، لانه قصر به على مقدار دون ماهو أطول منه، والقصر الغاية، يقال: قصره الموت لانه قصر عليه، واقصر عن الامر أي كف عنه. والقصر العشي، ومنه القصار لانه يقصر

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 90.

(2) سورة 2 البقرة آية 61 وسورة 3 آل عمران آية 112.

(3) اللسان . (بوأ).

[451]

الثوب على النقاء دون ماهو عليه. والقصرة أصل العنق.

وقوله " وتنحتون الجبال بيوتا " فالجبل جسم عظيم بعيد الاقطار عال في السماء، ويقال: جبل الانسان على كذا أي طبع عليه، لانه يثبت عليه لصوق الجبل، والمعنى انهم كانوا ينحتون في الجبال سقوفا كالابنية، فلا ينهدم، ولايخرب، " فاذكروا آلاء الله " معناه تفكروا في نعمه المختلفة كيف مكنكم من الانتفاع بالسهل والجبل " ولاتعثوا في الارض مفسدين " معناه لاتضطربوا في الارض مفسدين يقال: عاث يعيث عيثا، وعثى يعثي بمعنى واحد. ومفسدين نصب على الحال.

ومعنى الاية التذكير بنعم الله من التمكين في الارض والتسخير حتى تبوأوا القصور وشيدوا المنازل والدور مع طول الامال وتبليغ الاجال.

قوله تعالى: قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون(75)

آية بلاخلاف.

قرأ ابن عامر " وقال الملا " بزيادة واو، وكذلك في مصاحف أهل الشام الباقون بلاواو.

في هذه الاية حكاية عما قال الملا من قوم صالح، وهم جماعة من أشراف قومه ورؤساء أمته " الذين استكبروا " أي طلبوا الكبرفوق القدر، لان الاستكبار هو طلب الكبر فوق القدر، حتى يؤدي صاحبه إلى إنكار مادعي اليه من الحق، أنفة من اتباع الداعي إلى الحق " للذين استضعفوا " فالاستضعاف طلب الضعف بالاحوال التي تقعد صاحبها عماكان يمكن غيره من القيام بالامر، والاصل في باب (استفعل) الطلب منه.

[452]

وقوله " لمن آمن منهم " موضعه من الاعراب نصب على البدل من اللام الاولى وهو بدل البعض من الكل إلا أنه أعيد فيه حرف الجر، كقولك مررت بأخوتك بعضهم. وانما فعل ذلك لئلا يظن انهم كانوا مستضعفين غير مؤمنين، لانه قد يكون المستضعف مستضعفا في دينه، فلايكون مؤمنا. فأزال هذه الشبهة.

وقوله " أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه " حقيقة ويقينا ام لا تعلمون ذلك؟ وغرضهم بذلك الاستبعاد، لان يكون صالح نبيا مرسلا من قبل الله.

وقوله " إنا بماارسل به مؤمنون " جواب من هؤلاء المستضعفين لهم انهم مؤمنون بالذي أرسل به صالح مصدقون. وقد بينا أن حد العلم هو مااقتضى سكون النفس.

وحد الرماني - ههنا - العلم بأنه اعتقاد للشئ على ماهو به عن ثقة من جهة ضرورة أو حجة، قال: والعالم هو المبين للشئ بعلم أو ذات تنبئ عن العلم.

قوله تعالى: قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون(76)

آية

هذه الاية عماقال المستكبرون للذين آمنوا منهم حين سمعوا منهم الايمان به والاعتراف بنبوته والتصديق لقوله " انا بالذي آمنتم به " يعني صدقتم به " كافرون " أي جاحدون.

والقول هو الكلام، ومنه المقول، وهو اللسان، لان صاحبه يقول به.

وتقول بمعنى كذب وقال الكذب.

والمقيال المخبر إلى نفسه بالقول امرا من خير أو شر.

والقيل ملك دون الملك الاعظم بلغة حمير، وجمعه أقيال، لانه يقول عنه كالوزير.

قوله تعالى: فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين(77)

آية بلاخلاف.

[453]

في هذه الاية إخبار من الله تعالى عما فعل المستكبرون من قوم صالح وأنهم عقروا الناقة التي هي آية الله في الارض، والعقر الجرح الذي يأتي على أصل النفس، وهو من عقر الحوض وهو أصله، قال الشاعر: بازاء الحوض أو عقره(1) ومنه العقار، لانه اعتقار أصل ماله، لان ثبوته كثبوت الاصل. ومنه العاقر، لانها قد حدث ماعقر الحال التي يجئ منها الولد فأبطل الاصل، والمعاقرة على الشراب منه، لانه كالاصل في الثبوت على تلك الحال.

وقوله " وعتوا عن أمرربهم " أي تجاوزوا الحد في الفساد.

وقيل: العتو الغلو في الباطل - في قول مجاهد - ومنه جبار عات، والعاتي في الكبر ومنه " وقد بلغت من الكبر عتيا "(2) أي بلغت حال العاتي كبرا، والعتو عن الامر هو المخالفة إلا أن في العتو مخالفة على وجه التهاون به والاستكبار عن قبوله.

وقوله " ياصالح ائتنا " إن وصلته همزته، وان ابتدأته لم تهمز بل تقول: (إيتنا) وانما كان كذلك، لان أصله (إئتنا) بهمزتين، فكره ذلك فقلبوا الثانية ياء على ماقبلها، فاذا وصل سقطت ألف الوصل وظهرت همزة الاصل.

وقوله " بماتعدنا " فالوعد الخبر بخير أو شر بقرينة في الشر.

وقوله " إئتنا بما تعدنا " أي من الشر، لانا قد علمنا ماتوعدتنا عليه فأت الان بالعذاب الذي خوفتنا منه، ومتى تجرد عن قرينة، فهو بالخير أحق للفصل بين الوعد والوعيد.

___________________________________

(1) اللسان .

(عقر) وتمامه:

فرماها في فرائصها *** بأزاء الحوض أو عقره

.

(2) سورة 19 مريم آية 7.

[454]

قوله تعالى: فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين(78) فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين(79)

آيتان بلاخلاف.

أخبر الله تعالى في هذه الاية بما حل بثمود من العذاب، فقال " فأخذتهم الرجفة " وهي حركة القرار المزعجة لشدة الزعزعة تقول: رجف بهم السقف رجوفا اذا اضطرب من فوقهم، وقال المجاهد والسدي: الرجفة الصيحة.

وقال آخرون: هي زلزلة أهلكوا بها، قال الاخطل:

اما تريني حناني الشيب من كبر *** كالنشر أرجف والانسان مهدود(1)

وقوله " فأصبحوا في دارهم جاثمين " إنما قال دراهم على التوحيد لامرين: أحدهما - إن المعنى في بلدهم، وهو واحد. والاخر - أن معناه في دورهم، وإنما وحد كما توحد أسماء الاجناس كقوله " إن الانسان لفي خسر "(2) والاخذ نقل الشئ عن حاله إلى جهة الناقل له، وضده الترك كأخذ الدينار وترك الدرهم.

ومعنى " جاثمين " باركين على ركبهم موتى، جثم يجثم جثوما اذا برك على ركبتيه.

وقيل: صاروا رمادا كالرماد الجاثم، لان الصاعقة أحرقتم، وقال جرير:

عرفت المنتأى وعرفت منها *** مطايا القدر كالجدء الجثوم(2)

وقوله " فتولى عنهم " يعني أن صالحا تولى عن قومه، والتولي الذهاب عن الشئ وهو الاعراض عنه، وانما تولى، لانه أقبل عليهم بالدعاء إلى توحيد الله وطاعته، فلما خالفوا ونزل بهم العذاب تولى عنهم لليأس منهم وتولاه بمعنى أولاه نصرته ومعونته، ومنه قولهم (تولاك الله بحفظه) وقوله

___________________________________

(1) ديوانه: 146 وتفسير الطبري 12 / 544.

(2) سورة 103 العصر آية 2.

(3) ديوانه: 507 ومجاز القرآن 1 / 218 وتفسير الطبري 12 / 546.

[455]

" ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا "(1) فهو مثل قوله " إن تنصروا الله ينصركم "(2) أي إن تنصروا دين الله، وتولى عنه بمعنى أعرض عنه.

وقوله " وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة بي " انما جاز أن يناديهم مع كونهم جاثمين موتى لما في تذكر ماأصارهم إلى تلك الحال العظيمة التي صاروا بها نكالا لكل من اعتبر بها وفكرفيها من الحكمة والموعظة الحسنة.

وقوله " ونصحت لكم " يقال: نصحته ونصحت له مثل شكرته وشكرت له، ومعناه وكنت نصحت لكم " ولكن لاتحبون الناصحين " فمحبة الشئ إرادة الحال الجليلة له عندالمريد، فمن أحب الناصح قبل منه، لنهيه لهم عن ركوب أهوائهم واتباع شهواتهم، وقدروي أنه لم يعذب أمة نبي قط ونبيها فيها، فلذلك خرج، فأما اذا أهلك المؤمنون فيما بينهم، فان الله سيعوضهم على مايصيبهم من الالام والغموم.

___________________________________

(1) سورة 5 المائدة آية 59.

(2) سورة 47 محمد آية 7.

الآية: 80 - 99

قوله تعالى: ولوطا إذ قال لقومه أتاتون الفاحشة ماسبقكم بها من أحد من العالمين(80)

آية.

العامل في قوله " ولوطا " يحتمل أن يكون أحد أمرين: أحدهما - أن يكون عطفا على مامضى، فيكون تقديره وأرسلنا لوطا. والثاني - أن يكون على تقدير واذكر لوطا إذ قال لقومه - في قول الاخفش - ولايجوز في قصة عادوثمود إلا (وأرسلنا)، لان فيهاذكر إلى.

و (لوط) مصروف لخفته، لانه على ثلاث أحرف ساكن الاوسط، ولا ينصرف يعقوب، لانه أعجمي معرفة. واختلفوا في اشتقاق (لوط) فقال بعض أهل اللغة: إنه مشتق من لطت الحوض اذا الزقت عليه الطين وملسته به، ويقال: هذا (ألوط) بقلبي

 [456]

أي ألصق، والليطة القشر للصوقه بما اتصل به، وقال الزجاج: هو اسم غير مشتق، لان العجمي لايشتق من العربي، وانماقال ذلك لانه لم يوجد علما إلا في أسماء الانبياء.

وقوله " أتأتون الفاحشة "؟ ! فالفاحشة هي السيئة العظيمة القبح.

وقوله " ماسبقكم بها من أحد " فالسبق وجود الشئ قبل غيه.

وقيل: ماذكر على ذكر قبل قوم لوط، ذكره عمرو بن دينار، فلذلك قال " ماسبقكم بها من أحد من العالمين " وبه قال أكثر المفسرين، قال البلخي: يحتمل أن يكون أراد " ماسبقكم بها من أحد العالمين " يريد عالمي زمانهم، كما قال " واني فضلتكم على العالمين "(1) قال: ويحتمل أن يكون ماسبقكم إلى ذلك أحد على وجه القهر والمجاهرة به على ماكانوا يفعلونه.

وقال بعضهم: العقل كان يبيح ذلك وانما منع منه السمع.

قال البلخي: هذا خطأ، لانه يؤدي إلى انقطاع النسل، ولان الطباع مبنية على الاستنكاف من ذلك وان يكون الانسان مفعولا به، ولوكان الفاعل لذلك غير مقبح لمالحق المفعول به من ذلك وصمة، كما أن المرأة المنكوحة بالعقد الصحيح لا يلحقها بذلك وصمة ولاعيب بلاخلاف.

قال: ومن حمل نفسه على استحسان ذلك وانه يجوز أن يكون مفعولا به كان ماجنا ملوما عند جميع العقلاء.

قوله تعالى: إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون(81)

آية.

قرأ أهل المدينة وحفص ههنا " إنكم " على الخبر، وكذلك مذهبه في قراء‌ته ان يكتفي بالاستفهام الاول من الثاني في كل القرآن، وهو مذهب الكسائي إلا في قصة لوط. الباقون بهمزتين الثانية مكسورة، وخففها ابن

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 47، 122.

[457]

عامر وأهل الكوفة إلا حفصا، والحلواني عن هشام يفصل بينهما بالالف، وابن كثير وأبوعمرو وورش تحقق الاولى وتلين الثانية، وفصل بينهما بألف أبوعمرو. . وقال أبوعلي: قوله " أتأتون الفاحشة... إنكم لتأتون الرجال " كل واحد من الاستفهامين كلام مستقل بنفسه لاحاجة لو احد منهما إلى الاخر، فاذاكان كذلك، فمن قرأ (أإنكم) على الاستفهام جعل ذلك تفسيرا للفاحشة، كما أن قوله " للذكر مثل حظ الانثيين "(1) تفسير للوصية.

ومن قرأ على الخبر استأنف، ومن أراد أن يلين همزة (إنكم) فانه يجعلها بين بين، لان ألف الاستفهام بمنزلة المنفصل، ولولا ذلك لوجب أن يقلب الثانية على ما قبله ثم يحذف لالتقاء الساكنين.

ومعنى قوله " إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " قال الحسن: إن قوم لوط كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم ولاينكحون إلا الغرباء ولا ينكح بعضهم بعضا.

وقوله " شهوة من دون النساء " فالشهوة مطالبة النفس بفعل مافيه اللذة، وليست كالارادة، لانها قد تدعو إلى الفعل من جهة الحكمة. والشهوة من فعل الله ضرورة فينا، والارادة من فعلنا، تقول شهيت أشهي شهوة، قال الشاعر:

واشعث يشهى النوم قلت له ارتحل *** اذا ما النجوم اعرضت واسبكرت

فقام يجر البرد لو أن نفسه *** يقال له خذها بكفيك خرت(2)

وقوله " بل أنتم قوم مسرفون " معناه الاضراب عن الاول إلى جميع المعايب من عبادة الاوثان وإتيان الذكران وترك ماقام به البرهان، وتقديره

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 10.

(2) اللسان .

(شهى) وتفسير الطبري 12: 548 .

(يشهى النوم) بمعنى يشتهى. و . (اسبكرت) امتدت واستقامت وأسرعت في مسبحها ورواية الطبرى . (واسبطرت) بدل . (واسبكرت).

[458]

إنكم مستوفون لجميع المعائب إتيان الذكران وغيره، ويحتمل أن يكون بل لاسرافكم لاتفلحون. والاسراف الخروج عن حد الحق إلى الفساد.

قوله تعالى: وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون(82)

آية بلاخلاف.

الوجه في قوله " جواب قومه " بالنصب أنه وقع الاسم بعد (إلا) موقع الايجاب، وذلك أن ماقبلها اذاكان إيجابا كان مابعدها نفيا، واذا كان ما قبلها نفيا كان مابعدها ايجابا، والجواب خبر يقتضيه أول الكلام، والغالب عليه جواب النداء والسؤال، ويكون على وجوه كجواب الجزاء وجواب القسم وجواب (لو).

أخبر الله في هذه الاية بما أجاب به قوم لوط (ع) حين قال لهم " إنكم لتأتون الفاحشة ماسبقكم بهامن أحد من العالمين " كأنهم قالوا: بعضهم لبعض " اخرجوهم " يعنون لوطا وأهله الذين آمنوا به. والاخراج نقل الشئ عن محيط إلى غيره، كما أن الادخال النقل إلى محيط عن غيره.

وقال الزجاج والفراء: أرادوا اخرجوا لوطا وابنتيه.

وقوله " من قريتكم " فالقرية هي المدينة، كما قال أبوعمروبن العلاء: مارأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني رجلين من أهل المدن إلا أنه صار بالعرف عبارة عن مجتمع الناس في منازل متجاوزة بقرب ضيعة يأوى اليها للاكراء.

وقوله " إنهم أناس يتطهرون " قيل فيه قولان: أحدهما - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني يتطهرون عن اتيان الرجال في الادبار فعابوهم بما يجب أن يمدحوا به. الثاني - أنه أراد يتطهرون يتنزهون عن أفعالكم وطرائقكم.

[459]

قوله تعالى: فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين(83) وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين(84)

آيتان.

أخبر الله تعالى أنه أنجى لوطا ومن معه بمعنى أنه خلصه من الهلاك " وأهله " يعني المختصين به. والاهل هو المختص بالشئ اختصاص القرابة، ولذلك قيل: أهل البلد لانهم بلزومهم سكناه قد صاروا على مثل لزوم القرابة.

وقوله " إلا امرأته " استثنى من جملة من أنجاه مع لوط من أهله امرأته، لان امرأته أراد به زوجته ولايقال: مرؤها بمعنى زوجها، لانه صار بمنزلة المالك لها. وليست بمنزلة المالكة له. وإنما تجري هذه الاضافة التي بمعنى اللام على طريقة الملك.

وقوله " كانت من الغابرين " يعني من الباقين في عذاب الله - في قول الحسن وقتادة.

فان قيل: فعلى هذا يجب أن تكون امرأته ممن نجى لانه تعالى قال " كانت من الغابرين " أي الباقين.

قلنا: المعنى إنها من الباقين في عذاب الله، على ماحكيناه عن الحسن وقتادة.

وقال قوم: معناه إنها من الباقين قبل الهلاك والمعمرين الذين قد أتى عليهم دهر طويل حتى هرمت فيمن هرم من الناس، وكانت ممن غبر الدهر عليه قبل هلاك القوم. ثم هلكت فيمن هلك من قوم لوط.

وقيل: أراد بذلك من الباقين في عذاب الله، ذكر ذلك قتادة.

وانما قلنا: إنها كانت من الهالكين، لقوله في سورة هود " إنه مصيبها ماأصابهم "(1) ذكر ذلك البلخي والطبري، فالغابر الباقي.

ويقال: غبر يغبر غبورا وغبرا اذا بقي قال الاعشى:

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 81.

[460]

عض بما أبقى المواسي له *** من أمه في الزمن الغابر(1)

وقال آخر:

وأبي الذي فتح البلاد بسيفه *** فأذلها لبني أبان الغابر(2)

وقال الزجاج " من الغابرين " عن النجاة.

ومنه الغبرة بقية أثر البياض بعد الامتزاج بغيره من الالوان.

وقال الرماني: هذا استثناء متصل، لانه يجوز أن يدخل الزوجة في الاهل على التغليب في الجملة دون التفصيل كما قال " يانوح إنه ليس من أهلك "(3) ومن أجل التغليب قال " من الغابرين " ولم يقل من الغابرات. ويقوي في نفسي أنه استثناء منقطع، لان الزوجة لاتدخل تحت قولنا: الاهل حقيقة، وقد بينا ذلك في سورة البقرة مستوفا.

وقوله " وأمطرنا عليهم مطرا " وأمطرها الله إمطارا.

وقيل: أمطر عليهم حجارة من سجيل، وهذا اخبار من الله تعالى عما أنزله الله بقوم لوط من العذاب.

وقوله " فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " أمر للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين بأن يتفكروا في ذلك ويعلموا كيف كان عاقبة المجرمين، يعني إلى ماصار اليه عاقبة هؤلاء العاصين. و (كيف) سؤال عن حال إلا أنها تقع في التسوية، لان فيها ادعاء.

واذا قال القائل: كيف هو، معناه قد علمت مايطلبه الطالب كيف هو من حاله.

والعاقبة آخر ماتؤدي اليه التأدية، وأصله كون الشئ في أثر الشئ ومنه العقاب، لانه يستحق عقيب الذنب.

ومنه العقاب لانه يعقب على صيده لشدته، والعقب، لانه عقب به بشدة شيئا بعد شئ.

والاجرام اقتراف السيئة، أجرم إجراما اذا أذنب والجرم

___________________________________

(1) ديوانه: 106 ومجاز القرآن 1 / 219 وتفسير الطبري 12 / 551 واللسان . (غير).

(2) قائله يزيد بن الحكم بن أبي العاص خزانة الادب 1 / 55 وتفسير الطبرى 12 / 552.

(3) سورة 11 هود آية 46.

[461]

الذنب وأصله القطع فالمجرم منقطع عن الحسنة إلى السيئة، وفائدة الاية الاخبار عن سوء عاقبة المجرمين بما أنزل عليهم عاجلا من عذاب الاستئصال قبل عذاب الاخرة بالنيران.

قوله تعالى: وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاء‌تكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولاتبخسوا الناس أشياء‌هم ولاتفسدوا في الارض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين(85)

آية بلاخلاف.

هذه الاية عطف على ماتقدم والتقدير فيها فأرسلنا " إلى مدين " وهي قبيلة، قال أبواسحاق: أصله (مديان) وهو مديان بن ابراهيم وهؤلاء ولده. و (مدين) لاينصرف، لانه معرب في حال تعريفه. والعلة المانعة من الصرف هي العجمة والتعريف وقال الزجاج: لانه اسم قبيلة وهومعرفة وجائز أن يكون أعجميا.

وقوله " أخاهم شعيبا " نسب اليهم بالاخوة في النسب دون غيره.

وقال لهم " قدجاء‌تكم بينة من ربكم " يعني أتتكم حجة من الله تعالى ومعجزة دالة على صدق قولي، وأخبر انه أمرهم بأن يوفوا الكيل والميزان.

والايفاء إتمام الشئ إلى حد الحق فيه، ومنه إيفاء العهد وهو اتمامه بالعمل به.

والكيل تقدير الشئ بالمكيال حتى يظهر مقداره منه.

والوزن تقدير الشئ بالميزان، والمساحة تقدير الشئ بالذراع أو مازاد عليه أو نقص.

" ولا تبخسوا الناس أشياء‌هم " نهي من شعيب إياهم عن بخس الحقوق وتنقيصها في الكيل والميزان وغيرهما، والبخس النقص عن الحد الذي يوجبه الحق تقول: بخس يبخس بخسا فهو باخس.

والبخص بالصاد فقا العين.

[462]

وقال قتادة والسدي: البخس الظلم، ومنه المثل (تحسبها حمقاء وهي باخسة).

وقوله " ولاتفسدوا في الارض بعد إصلاحها " يعني بعد أن أصلحها الله بالامر والنهي وبعثة الانبياء وتعريف الخلق مصالحهم. والافساد اخراج الشئ إلى حد لاينتفع به بدلا عن حال ينتفع بها، وضده الاصلاح، والمعنى لاتخرجوا إلى العمل في الارض بالقبائح بعد أن أصلحها الله بالمحاسن.

وقوله " ذلكم " إشارة لقومه إلى ماأمرهم به ونهاهم عنه بأن امتثاله والانتهاء اليه خير لهم وأعود عليهم إن كانوا مؤمنين مصدقين بالله، وانما علق خيريته بالايمان وإن كان هو خيرا على كل حال من حيث أن من لايكون مؤمنا بالله، وعارفا بنبيه لم يمكنه أن يعلم أن ذلك خير له، وكأنه قال لهم: كونوا مؤمنين لتعلموا أن ذلك خير لكم. ويحتمل أن يكون المراد لا ينفعكم ايفاء الكيل والميزان إلا بعد أن تكوا مؤمنين.

قال الفراء: لم يكن لشعيب آية على النبوة.

قال الزجاج وغيره: هذا غلط، لانه قال " قد جاء‌تكم بينة من ربكم فأوفوا " فجاء بالفاء جوابا للجزاء، فكيف يقول " قد جاء‌تكم بينة " ولم يكن له آية على النبوة، فان كان مع النبوة آية فقد جاء‌هم بها لانه لو ادعى النبوة من غير آية لم يقبل منه. وآيات شعيب وإن لم يذكرها الله في القرآن لايجب أن يقال: لاآية له، لان نبينا صلى الله عليه وآله لم يذكر الله آياته كلها في القرآن ولاأكثرها وإن كانت له آيات كثيرة، ولم يوجب ذلك نفيها.

قوله تعالى: ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدّون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين(86)

آية بلاخلاف.

[463]

قيل في معنى قوله " ولاتقعدوا " بكل صراط توعدون قولان: أحدهما - قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد: إنهم كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيبا للايمان به فيخوفونه بالقتل.

وقال أبوهريرة: إنما نهاهم عن قطع الطريق.

وقوله " بكل صراط توعدون " يجوز فيه تعاقب حروف الاضافة بأن يقول: على كل صراط، وفي كل صراط، لان معاني هذه الحروف اجتمعت فيه - ههنا - كما تقول: قعد له بكل مكان، وعلى كل مكان، وفى كل مكان، لان الباء للالصاق وهو قد لاصق المكان، و (على) للاستعلاء، وهو قد علا المكان، و (في) للمحل وهو قد حل المكان.

ويقال: قعد عن الامر بمعنى ترك العمل به كائنا ماكان، وقام به إذا عمل به كالقعود عن الواجب ونحوه.

ومعنى الايعاد الاخبار بالعذاب على صفة من الصفات، وهوالوعيد والتهديد، فاذا ذكر المتعلق من الخير أو الشر قلت: وعدته كذا، كما قال تعالى " النار وعدها الله الذين كفروا "(1) واذا لم يذكر قيل في الخير وعدته، وفى الشر أوعدته. وتقول: وعدته خيرا بلاباء وأوعدته بالشر باثبات الباء.

وقوله " وتصدون عن سبيل الله " فالصد هو الصرف عن الفعل بالاغواء فيه، كما يصد الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة. تقول: صده عن الامر يصده صدا، وهو كالمنع.

وقوله " من آمن به " (من) في موضع نصب، لانه مفعول به، وتقديره وتصدون المؤمنين بالله عن اتباع دينه، وهو سبيل الله.

وقوله " وتبغونها عوجا فالهاء راجعة إلى السبيل، ومعنى " تبغون " تطلبون، والبغية الطلبة: بغاه يبغيه بغية.

والمعنى - ههنا - وتبغون السبيل عوجا عن الحق، وهو أن يقولوا: هذا كذب وباطل وماأشبه ذلك، وهو قول قتادة.

والعوج - بكسر العين - في الدين وكل مالا يرى - وبفتح العين - في العود وكل مايرى كالحائط وغيره.

___________________________________

(1) سورة 22 الحج آية 72.

[464]

وقوله " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " قال الزجاج: يحتمل أشياء: أحدها - اذكروا نعمة الله عليكم إذ كثر عددكم.

وثانيها - انه كثركم بالغنى بعد الفقر.

وثالثها - كثركم بالقدرة بعد الضعف، ووجهه أنهم كانوا فقراء وضعفاء، فهم بمنزلة القليل في قلة الغناء.

وقوله " فانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " معناه فكروا فيما مضى من إهلاك من تقدم بأنواع العذاب وانزال العقوبات بهم واستئصال شأفتهم ومافعل الله بالمفسدين، وكيف كان عاقبتهم في ذلك وماحل - بهم من البوار.

قوله تعالى: وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين(87)

آية بلاخلاف.

الطائفة الجماعة من الناس، وهومن الطوف صفة غالبة أقيمت مقام الموصوف مأخوذة من أنها تجتمع على الطواف، وقد يكون جماعة الكتب والدور ونحو ذلك.

وقوله " وطائفة لم يؤمنوا " إنما جاز أن يخبر عمن لم يؤمن بأنهم طائفة وإن كانوا هم الاكثر لتقابل قوله " طائفة منكم آمنوا " ولان من حق الضد أن يأتي على حد ضده، كما تقول: ضربت زيدا وماضربت زيدا، وإنما ذكر طائفة، لانه راجع إلى الرجال، وان كان اللفظ مؤنثا فغلب فيه المعنى في هذا الموضع ليدل على معنى التذكير، والمعنى إن شعيبا قال لقومه: وإن انقسمتم قسمين، ففرقة آمنت وفرقة كفرت، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا، على وجه التهديد لهم والانكا؟؟ لى من خالف منهم، والصبر حبس النفس عما تنازع اليه من الجزع وأصله الحبس، ومنه قوله (ع): (اقتلوا القاتل واصبروا الصابر) ومنه قيل للسئ: صبر، لانه يحبس النفس عن لفظه ليداويه.

[465]

والحكم المنع من الخروج عن الحق بدعاء الحكمة اليه من جهة معروفة أوحجة، وأصله المنع قال الشاعر:

أبني حنيفة احكموا سفهاء‌كم *** إني أخاف عليكم أن أغضبا(1)

وقوله " وهوخير الحاكمين " لانه لايجوز عليه الجور، ولا المحاباة في الحكم، وإنما علق جواب الجزاء بالصبر، وهو لازم على كل حال، لان المعنى فسيقع جزاء كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب، كأنه قال: فأنتم مصبورون على حكم الله بذلك.

قال البلخي: أمرهم في هذه الاية بالكف عما كانوا يفعلون من الصد عن الدين والتوعد عليه، والكف عن ذلك خير ورشد، ولم يأمرهم بالمقام على كفرهم والصبر. وفي ذلك دلالة على أنه ليس كل أفعال الكافرين كفرا ومعصية، كما يذهب اليه بعض أهل النظر.

قوله تعالى: قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا قال أوَلو كنا كارهين(88)

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى في هذه الاية عن الملا، وهم الجماعة الاشراف والرؤساء من قوم شعيب الذين استكبروا، ومعناه امتنعوا من اتباع الحق أنفة عن الداعي اليه أن يتبعوه فيه، وتكبروا عليه جهلا منهم بمنزلة الحق ومنزلة الداعي اليه، إذ أنهم قالوا لشعيب وأقسموا " لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " وقيل في معنى (لتعودن) قولان: أحدهما - على توهمهم أنه كان فيهاعلى دين قومه. الثاني - أن الذين اتبعوا شعيبا قدكانوا فيها.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1 / 142 و 2 / 188 وسيأتي في 5 / 512.

[466]

وقال الزجاج: وجائز أن يقال: قدعاد علي من فلان مكروه وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك أي لحقني منه مكروه، ووجه هذا أنه قد كان قبل ذلك في قصده لي كأنه قد أتى مرة بعد مرة.

وقال الشاعر:

لئن كانت الايام أحسن مرة *** الي فقد عادت لهن ذنوب(1)

والعود هو الرجوع، وهو مصير الشئ إلى الحال التي كان عليها قبل، ومنه إعادة الخلق، وقوله تعالى " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه "(2) وتستعمل لفظة الاعادة في الفعل مرة ثانية حقيقة، وفى فعل مثله مجازا، وكلاهما يسمى اعادة، لكن لماكان مثله كأنه هو في أنه يقوم مقامه جرت عليه الصفة كقولك: أعدت الكتابة والقراء‌ة ومعناه فعلت مثله.

وقوله " أولو كنا كارهين " حكاية لما قال شعيب لامته من أنه لايعود في ملتهم إلا أن يكون على وجه الاكراه منهم لذلك وأنهم يريدون أن يردوا المؤمنين إلى مثل ماهم عليه من المعاصي مع كراهتهم لذلك ويقينهم لبطلانه، فبين بهذا أنا مع كراهتنا لذلك مع ماعرفناه من بطلانه لانرجع، وتقديره أتعيدوننا في ملتكم وإن كرهناها؟ ! فأدخل ألف الاستفهام على (لو).

قوله تعالى: قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجينا الله منها ومايكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين(89)

آية بلاخلاف.

___________________________________

(1) مرتخريجه في 2 / 315.

(2) سورة 6 الانعام آية 28.

[467]

في هذه الاية اخبار من الله عما قال شعيب لقومه من أنه قد افترى هو ومن آمن به على الله كذبا إن عاد في ملتهم بأن يحللوا مايحللونه ويحرموا مايحرمونه وينسبونه إلى الله بعد إذ نجاهم الله منها.

والافتراء الكذب، ومنه الافتعال، والاختلاق وهوالقطع بخبر مخبره لا على ماهو به، مشتقا من فري الاديم تقول فريت الاديم أفريه فريا. والملة الديانة التي تجتمع على العمل بها فرقة عظيمة.

والاصل فيه تكرر الامر من قولهم طريق مليل اذا تكرر سلوكه حتى توطأ، ومنه الملل وهو تكرر الشئ على النفس حتى تضجر.

والملة الرماد الحار يدفن فيه الخبز حتى ينضج لتكرر الحمي عليها، ومنه المليلة من الحمى.

والملة لتكرر العمل فيها على ماتأتي به الشريعة.

وقوله " بعد إذ نجانا الله منها " باقامة الدليل والحجج على بطلانها، وعلمنا بذلك وانتهائنا عنها.

وقوله " ربنا افتح " قال ابن عباس: ماكنت أدري معنى قوله " ربنا إفتح " حتى سعمت بنت سيف بن ذي يزن تقول: تعال حتى أفاتحك يعني أقاضيك.

وقوله " ومايكون لنا أن نعوذ فيها إلا أن يشاء الله ربنا " إخبارعن قول شعيب لهم أنه ليس له أن يعود في ملتهم، ويرجع فيها إلا بعد مشيئة الله ذلك.

وقيل في معنى هذه المشيئة مع حصول العلم بأنه لايشاء تعالى عبادة الاصنام والاوثان ثلاثة أقوال: أحدها - أن في ملتهم أشياء كان يجوز أن يتعبدالله بها، فلو شاء‌ها منهم لوجب عليهم الرجوع فيها.

الثاني - أنه اذا فعل ماشاء الله كان ذلك طاعة لله تعالى.

الثالث - أنه علق مالا يكون بما علم أنه لايكون على وجه التبعيد كما قال الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب(1)

___________________________________

(1) مر في 4 / 430.

[468]

وكما قال تعالى " حتى يلج الجمل في سم الخياط "(2) وجه ذلك - ههنا - أنه كما لايشاء الله عبادة الاصنام والقبائح - لان ذلك لايليق بحكمته - فكذلك لا أعود في ملتكم.

وقال قوم: فيه وجه رابع، وهو أن الهاء في قوله " فيها " راجعة إلى القرية، وكأنه قال: ومايكون لنا أن نعود في قريتكم غانمين لكم ظاهرين عليكم بعد اذ نجانا الله منها بخروجنا منها سالمين إلا أن يشاء الله أن ينصرنا عليكم ويشاء منا الرجوع فيها.

وقوله " وسع ربنا كل شئ علما " نصب (علما) على التمييز.

وقيل في وجه اتصال ذلك بما قبله قولان: أحدهما - أن الملة إنما يتعبد بها على حسب مافي معلومه من مصلحة العباد بها، فهو تعالى لايخفى عليه ذلك. والثاني - أنه عالم بما يكون منا من عود أو ترك دوننا.

ثم حكى عن شعيب أنه قال لهم " على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق " سؤال من شعيب ورغبة منه اليه تعالى أن يحكم بينه وبين قومه بالحق، والفتح القضاء. ومعنى افتح إقض - في قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي - والحاكم الفاتح والفتاح، وفاتحته في كذا قاضيته. وإنما قيل ذلك، لانه يفتح باب العلم الذي انغلق على غيره.

وقوله " بالحق " فيه وجهان: أحدهما - سؤال الله مايجوز عليه، كما قال في موضع آخر " رب احكم بالحق "(3). والاخر - ماينكشف به لمخالفينا أنا على الحق من انزال العذاب عليهم، وقال الفراء: اهل عمان يسمون الحاكم الفتاح، قال الشاعر:

___________________________________

(2) آية 39 من هذه السورة.

(3) سورة 21 الانبياء آية 112.

[469]

ألا أبلغ بني عصم رسولا *** فأني عن فتاحتكم غني(2)

أي قضائكم وحكمكم، وقال الجبائي: معنى " افتح بيننا وبين قومنا " انزل بهم مايستحقون من العقوبة لكفرهم بالله وظلمهم المؤمنين.

وفي الاية دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لانه قال " ومايكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله " فعلم أن لهم الرجوع فيها اذا شاء الله، فاذا لم يشأ لم يكن ذلك، فيجب على هذا إن كان الله يريد الكفر أن يكون للكافر الرجوع في الكفر، وهذا لايقوله أحد، فبطل ماقالوه.

على أن الظاهر من معنى الملة هو مايعلم بالشرع، وذلك يجوز أن ينسخه الله فيريد منهم الرجوع فيه، وليس لاحد أن يقول إن قوله " بعد اذنجانا الله منها " لايليق بماقلتم وانما يليق بما قالوه، وذلك أن قوله " بعد إذ نجانا الله منها " معناه على هذا القول أزاله عنا ونسخه عنا، فان شاء أن يعيدنا ثانيا جاز لنا الرجوع فيها.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21401079

  • التاريخ : 19/04/2024 - 04:30

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net