المراد من المحكم والمتشابه

السؤال :

قال تعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران: 7]، ما هو المراد من المحكم والمتشابه وما هي الأقوال فيه؟



الجواب :

وقع خلاف في تصوير ذلك، وسنذكر أهمَّ ما ورد في ذلك:
التصوير الأول: إنَّ الفاصلة بين المُحكم والمُتشابه تكمن في تحقق الفهم وعدمه، فما فُهِم مرادُه فهو مُحكم، وما لم يُفهم مرادُه فهو مُتشابه، مما يعني أنَّ المُحكم والمُتشابه سيكونان كذلك بلحاظ القارئ لا بلحاظ أنفسهما.
التصوير الثاني: إنَّ الفهم حاصل في كلا الأمرين، ولكن هنالك فهم مُحكم غير حمَّال وجوه، وهناك فهم مُتشابه حمَّال وجوه.
التصوير الثالث: إنَّ المُحكم هو ما كان مُختصّاً بآيات الأحكام بشكل مُطلق، وبالفرائض بصورة خاصّة، وأما المُتشابه فهو ما تعلَّق بغير ذلك من قبيل القصص القرآني.
التصوير الرابع: إنَّ المُحكم هو تعبير آخر عن الآيات الناسخة، والمُتشابه هو تعبير آخر عن المنسوخ، وعليه فالمُتشابه لا يُوجِد مُشكلةً حقيقية، لأنَّ آياته مُعطلة الأحكام بسبب نسخها.
التصوير الخامس: إنَّ المُحكم ما كان نصَّاً في معناه أو ظاهراً فيه بلا حاجة إلى قرينة، والمُتشابه ما لم يكن نصَّاً في معناه أو ظاهراً فيه، أي: كان مُشتركاً أو مُجملاً أو مؤوَّلاً.
التصوير السادس: المُحكم هو البيِّن الذي اكتفى قارئه به عن الحاجة لتفسيره أو تأويله، والمُتشابه ما لم يُكتفَ به، فاحتاج فهمُه إلى تفسير أو تأويل، وقد نُسب ذلك للإمام أحمد بن حنبل [انظر: الميزان في تفسير القرآن، 3: 41].
وهو قول مردود، فإنّ آيات الأحكام محكمات قطعاً، وهي مع ذلك محتاجة إلى بيان النبي (صلّى الله عليه وآله)، كما أنَّ الآيات المنسوخة متشابهات، وهي لا تحتاج إلى بيان، فوقع النقض من الجهتين.
التصوير السابع: المُحكم ما اكتفى قارئه بتفسيره، والمُتشابه ما احتاج قارئه إلى تأويله، وهو وجه وجيه يُمكن القبول به ابتداءً.
التصوير الثامن: المُحكم هو ما نتج تأويله وجهاً واحداً لا غير، ولا يحتمل غيره، والمُتشابه ما احتمل تأويلُه وجوهاً عدّة [انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن].
وهو قول يُفسر التأويل بمعنى التفسير، وهو قول باطل، فلو كان التأويل تفسيراً لم يكن لاختصاص علمه بالله أو بالله والراسخين في العلم وجه.
التصوير التاسع: المُحكم ما انحصر مصداقه بعينة بيِّنة واحدة، والمُتشابه ما تكثـَّرت مصاديقه، فالتقسيم بلحاظ المصداق الخارجي وليس بلحاظ الألفاظ نفسها.
التصوير العاشر: إنَّ كُلاً من المُحكم والمُتشابه له مصداق خارجي واحد، ولكن ما وقع الترديد في تحديده فهو مُتشابه، وما لم يقع الترديد في تحديده خارجاً فهو المُحكم.
التصوير الحادي عشر: إنَّ المُحكم هو ما يُمثل جهة الثابت في الشريعة، والمُتشابه ما يُمثل جهة المتغير، فقول المُعاصرين بوجود ثابت ومُتغيَّر في الشريعة يعنون به وجود المُحكم والمُتشابه.
التصوير الثاني عشر: إنَّ المُحكم هو ما يُؤمن به ويُعمل به أيضاً، والمُتشابه ما يُؤمن به ولكن لا يُعمل به، كما يُفهم ذلك من بعض الراويات، من قبيل ما رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (فأما المحكم فتؤمن به وتعمل به وتدين به، وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به) [بحار الأنوار، 66: 93].
والظاهر أنَّ المراد هو عدم صحّة العمل بالمُتشابه قبل مُراجعة المُحكم.
التصوير الثالث عشر: إنَّ المُحكم هو خصوص الحروف المُقطّعة، أو فواتح الكتاب، وما عدا ذلك فهو من المُتشابه [تفسير القرآن العظيم، للحافظ أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الرازي 2: 593، ح 3172، ح 3173]، فالإحكام هنا يعني أنَّه من الخفاء والأسرار التي تنضوي تحت الفواتح، وهو وجه غريب جداً، لأنَّ مفاده أنَّ العامل بتلك التفاصيل يكون في قلبه زيغ، وأنَّ مردّ المُتشابه للمحكم لا جدوى منه!!
التصوير الرابع عشر: إنَّ الجُمل القرآنية ـ تبعاً للجُمل العربية التامة ـ تنقسم إلى جُمل إنشائية يُراد منها إيقاع النسبة في الخارج، وأُخرى خبرية، يُراد منها حكاية الواقع؛ فما كان إنشاءً فهو المُحكم، وما كان إخباراً فهو المُتشابه، وهو ما استظهره صاحب (المنار) من كلمات ابن تيمية [انظر: تفسير القرآن العظيم (تفسير المنار)، من دروس الشيخ محمد عبده، تأليف الشيخ محمد رشيد رضا 3: 143 ـ 145].
التصوير الخامس عشر: إنّ المحكم ما للعقل إليه سبيل، والمتشابه بخلافه، وهو قول ضعيف جداً، فآيات الأحكام مُحكمات وهي مع ذلك لا سبيل للعقل إليها.
التصوير السادس عشر: المُحكم هو الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ، والمُتشابه الخفي الذي لا يُدرك معناه عقلاً ولا نقلاً، وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه، كقيام الساعة والحروف المقطَّعة في أوائل السور [انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي 3: 110].
الصحيح في المقام:
إنَّ الوجه المُختار يعتمد على ملاحظة زوايا أربع، وهي:
الزاوية الأُولى: خصوصية اللفظ؛ ونعني بها دوران الإحكام والتشابه حول دائرة اللفظ، من قبيل كلمة: (اليد) في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فإنَّ المراد من اليد متشابه فاحتاج الأمر إلى القرينة الصارفة التي تُؤدّي دور المُحكم، فيُقال: المراد قطع الأصابع من منبتها، لقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، فالراحة والإبهام من المساجد السبعة فلا يُعتدى عليها.
الزاوية الثانية: خصوصية المعنى؛ قد يكون اللفظ ظاهراً في معناه، ولكن القرائن الحافة بالنصّ تصرفه عن معناه، كما في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، حيث يُصرف معنى اليد إلى الأمر والقدرة.
الزاوية الثالثة: خصوصية التفسير؛ بمعنى أن اللفظ ظاهر في معناه، بل هو نصّ فيه، ولكن لشخصية المُفسر مدخلية في صرف اللفظ عن معناه، إما لقصور في الصنعة، أو لقصدية سابقة على طلب المراد من النصّ، وهو ما نسميه بالاتجاه.
إذن فشخصية المفسر وقبلياته وعقائده ومقاصده قد تغيّر من مسار النصّ، فإن قيل بأنَّ ذلك خروج عن مفاد النصّ، قيل لنا بأنَّ الآية من المتشابهات، وهي حمّالة وجوه، والصحيح هو أنَّ المُفسّر حمَّال وجوه، لا النصّ بعينه.
الزاوية الرابعة: خصوصية التأويل.
والخلاصة: فمن خلال هذه الخصائص الأربع يمكن لنا الخروج بعدة نتائج أولية، أهمّها هو أنَّ توسعة دائرة المُتشابه مردّه القارئ لا النصّ القرآني، وأنَّ المُتشابه في دائرة اللفظ والمعنى محدود جداً بالقياس للتشابه في دائرتي التفسير والتأويل. [المصدر: دروس في علوم القرآن وفهمه، الدكتور الشيخ طلال الحسن، ص117-121؛ منطق فهم القرآن، بتصرّف]

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/question/index.php?id=869