كيف نتصوّر الوحي الرسالي في حال عدم وجود علاقة بين العالم العلوي والعالم السفلي ولا واسطة بينهما؟! وما علاقة ذلك بالفكرة المادية التي كانت سائدة في الغرب؟

السؤال :

كيف نتصوّر الوحي الرسالي في حال عدم وجود علاقة بين العالم العلوي والعالم السفلي ولا واسطة بينهما؟! وما علاقة ذلك بالفكرة المادية التي كانت سائدة في الغرب؟



الجواب :

هذه شبهة مَن يرى من عالم الدنيا عالماً مادّياً محضاً، لا تناسُب بينه وبين عالَم الملَكوت الأعلى. لكن إذا ما عرفنا من هذا الإنسان وجوداً برزخياً ذا جانبين - هو من أحدهما جسمانيّ كثيف، وفيه خصائص المادَّة السفلى، ومن جانبه الآخر روحاني لطيف، وهو ملَكوتي رفيع - لم يكن موقع لهذه الشبهة رأساً.
الإنسان وراء شخصيَّته هذه الظاهرة شخصيَّة أخرى باطنة، هي التي تؤهِّله - أحياناً - للارتباط مع عالم روحاني أعلى، إذ كان مبدأه منه، وإليه منتهاه: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [سورة البقرة: 156]، هذا هو واقع الإنسان الحقيقي ذو التركيب المزدوج من روح وجسم، ومن ثَمَّ فهو برزخ بين عالَمي المادّة وما وراء المادَّة، فمن جهة هو مرتبط بالسماء، ومن أخرى مستوثق بالأرض، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً}، إلى هنا تكتمل خِلقة الإنسان الماديّة، ثمَّ يقول: {ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون: 12 - 14].
وهذا الخلْق الآخر هو وجود الإنسان الروحي، وهو وجوده الأصيل الذي أشارت إليه آية أخرى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِن مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ} [سورة السجدة: 7 - 9].
قال الإمام الصادق (عليه السلام): >إنّ الله خلقَ خلْقاً وخلَق روحاً، ثمَّ أمر مَلكاً فنفخ فيه...< [بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج61، ص32].
فهذا هو الإنسان، مخلوق متركّب من جسم هو مادّي، وروح هو لا مادّي، فبوجوده المادّي خَلْق، وبوجوده اللامادّي خَلقٌ آخر، وبوجوده هذا الآخَر يستأهل الاتّصال بالملأ الأعلى، لا بوجوده ذاك المادّي الكثيف.
نعم، جاءت فكرة إنكار الوحي نتيجةً للنظرة المادّية البحتة إلى هذا الإنسان، وهي نظرة قاصرة بشأن الإنسان، سادت أوروبا في عصر نشوء الفكرة الماديّة عن الحياة، والتي جعلت تتقدَّم وتتوسَّع كلَّما تقدَّمت العلوم الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأخذت المقاييس المعنويَّة في الحياة تتدهور تراجعاً إلى الوراء.
قال الأستاذ وجدي: كان الغربيّون - إلى القرن السادس عشر - كجميع الأمم المتديّنة يقولون بالوحي، وكانت كتُبهم مشحونة بأخبار الأنبياء، فلمَّا جاء العلم الجديد بشكوكه وماديّاته، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي هي من بقايا الخرافات القديمة، وتغالَت حتّى أنكرت الخالق والروح معاً، وعلَّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه: إمّا اختلاق من المتنبّئة أنفسهم لجذْب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم، وإمّا هذَيان مَرَضي يعتري بعض العصبيين، فيُخيَّل إليهم يرون أشباحاً تكلّمهم، وهُم لا يرون في الواقع شيئاً.
راج هذا التعليل في العالم الغربي، حتّى صار مذهب العِلم الرسمي.
فلمّا ظهرت آية الروح في أمريكا سنة 1846م، وسرَت منها إلى أوروبا كلّها، وأثبت الناس بدليل محسوس وجود عالَم روحاني آهِل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة، تغيّر وجه النظر في المسائل الروحانية، وحيِيَت مسألة الوحي بعد أن كانت في عِداد الأضاليل القديمة، وأعاد العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبيّ المقرَّر، لا على أسلوب التقليد الديني، ولا من طريق الضرب في مهامّ الخيالات، فتأدَّوا إلى نتائج، وإن كانت غير ما قرّره علماء الدين الإسلامي، إلاّ أنّها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد أُحيل إلى عالَم الأمور الخرافية [دائرة معارف القرن العشرين لمحمّد فريد وجدي: ج10، ص713].
خلاصة الكلام: إنَّ الإنسان يملك في وجوده جانبَين: هو من أحدهما جسماني، ومن الآخر روحاني، فلا غَروَ أن يتَّصل أحياناً بعالَم وراء المادَّة، ويكون هذا الاتّصال مرتبطاً بجانبه الروحي الباطن، وهو اتّصال خفيّ، الأمر الذي يشكّل ظاهرة الوحي.
والوحي ظاهرة روحيَّة قد توجد في آحاد من الناس، يمتازون بخصائص روحيَّة تؤهّلهم للاتّصال بالمَلأ الأعلى، إمّا مكاشفةً في باطن النفس أو قرْعاً على مسامع، يحسّ به الموحى إليه إحساساً مفاجئاً يأتيه من خارج وجوده، وليس منبعثاً من داخل الضمير، ومن ثمَّ لا يكون الوحي ظاهرة فكرية تقوم بها نفوس العباقرة - كما يزعمه ناكروا الوحي - كلاّ، بل إلقاء روحانّي صادر من محلٍّ أرفع إلى مهبطٍ صالحٍ أمين.
قال تعالى: {أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى‏ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ} [سورة يونس: 2].
نعم، شيء واحد لا نستطيع إدراكه، وإن كنّا نعتبره واقعاً حقّاً، ونؤمن به إيماناً صادقاً، وهو: كيف يقع هذا الاتّصال الروحي؟ هذا شيء يخفى علينا إذا كنّا نحاول إدراكه بأحاسيسنا المادّية، أو نريد التعبير عنه بمقاييسنا اللفظية الكلامية، إنَّها ألفاظ وُضِعت لمفاهيم لا تعدو الحسّ أو لا تكاد، وكلّ ما باستطاعتنا إنَّما هو التعبير عنه على نحو التشبيه والاستعارة، أو المجاز والكناية لا أكثر، فهو ممّا يُدرك ولا يوصف.
فالوحي ظاهرة روحية يدركها مَن يصلُح لها، ولا يستطيع غيره أن يصِفها وصفاً بالكُنه، ما عدا التعبير عنها بالآثار والعوارض هذا فحسب. [تلخيص التمهيد، ج1، ص15-18، بتصرّف]


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/question/index.php?id=849