هناك شبهة مطروحة بأن القرآن الكريم إذا أثبت الهداية لله تعالى، كما في الآية {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} والآية {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، فكيف يمك

السؤال :

هناك شبهة مطروحة بأن القرآن الكريم إذا أثبت الهداية لله تعالى، كما في الآية {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} والآية {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، فكيف يمكن أن نقول بإمكان وقوعها من غيره أيضاً؟



الجواب :

نلاحظ أن الآيات الكريمة تحصر أمر الهداية الى الحق على نحو الأصالة بالله تبارك وتعالى، ثم تثبتها للهادين بأمره على نحو التبعية، يقول عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس : 35].

تلخّص الآية الكريمة وبلغة احتجاجية الرؤية القرآنية لموضوع الهداية الى الحق التي فصلتها العديد من الآيات الكريمة، وهي حصر الهداية الى الحق بالله تبارك وتعالى على نحو الإطلاق: «قل الله يهدي للحق».

ثم قرّرت الآية الكريمة أن الذي يجب اتباعه من الخلق ليس الذي لا يستطيع أن يهدي إلاّ أن يهتدي بغيره من البشر، بل الذي يكون مهتدياً بنفسه دون الحاجة الى غيره من البشر، فإن الكلام في الآية ـ كما يقول العلامة الطباطبائي(رحمه الله) في تفسيرها: «قد قوبل فيه قوله: (يهدي الى الحق) بقوله (مَن لا يهدِّي) مع أن الهداية الى الحق يقابلها عدم الهداية الى الحق، وعدم الاهتداء الى الحق يقابله الاهتداء الى الحق، فلازمُ هذه المقابلة الملازمةُ بين الاهتداء بالغير وعدم الهداية الى الحق، وكذا الملازمة بين الهداية الى الحق والاهتداء بالذات فالذي يهدي الى الحق يجب أن يكون مهتدياً بنفسه لا بهداية غيره والذي يهتدي بغيره ليس يهدي الى الحق أبداً.

هذا ما تدل عليه الآية بحسب ظاهرها الذي لا ريب فيه وهو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التي نبني عليها ونتداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية الى الحق الى كل مَن تكلّم بكلمة حق ودعا إليها وإن لم يعتقد بها أو اعتقد ولم يعمل بها أو عمل ولم يتحقق بمعناها، وسواءٌ اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.

بل الهداية الى الحق ـ التي هي الإيصال الى صريح الحق ومتن الواقع ـ ليس إلاّ لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه وبينه، فاهتدى بالله وهدى غيره بأمر الله سبحانه...

وقد تبيّن بما قدّمناه في معنى الآية أمور:

أحدها: أن المراد بالهداية الى الحق ما هو بمعنى الإيصال الى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتمي الى الحق فإن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى الى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد.

وثانيها: أن المراد بقوله: (من لا يهدِّي إلاّ أن يهدى) هو من لا يهتدي بنفسه، وهذا أعم من أن يكون ممّن يهتدي بغيره أو يكون ممن لا يهتدي أصلاً لا بنفسه ولا بغيره...

وثالثها: أن الهداية الى الحق ـ بمعنى الإيصال إليه ـ إنما هي شأن مَن يهتدي بنفسه: أي لا واسطة بينه وبين الله سبحانه في أمر الهداية إما من بادئ أمره أو بعناية خاصة من الله سبحانه كالأنبياء والأوصياء من الأئمة. وأما الهداية بمعنى إراءة الطريق ووصف السبيل فلا يختص به تعالى ولا بالأئمة من الأنبياء والأوصياء، كما يحكيه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر : 38].

وأما قوله تعالى خطاباً للنبي(صلى الله عليه وآله) وهو إمام: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص : 56] وغيرها من الآيات فهي مسوقة لبيان الأصالة والتبع كما في آيات التوفي وعلم الغيب ونحو ذلك مما سبقت لبيان أن الله سبحانه هو المالك لها بالذات والحقيقة، وغيره يملكها بتمليك الله ملكاً تبعياً أو عرضياً ويكون سبباً لها بإذن الله، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة : 24]، وفي الأحاديث اشارة الى ذلك وأن الهداية الى الحق شأن النبي وأهل بيته ـ صلوات الله عليهم أجمعين. انتهى قول العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله) في تفسير الآية ملخصاً وقد عرض الأقوال الاُخرى الواردة في تفسير الآية وبيّن عدم انسجامها مع منطوق الآية نفسها [تفسير الميزان: 10/ 56 ـ 61].

والمتحصّل من التدبر فيها هو حصر الهداية الى الحق بمعنى الايصال الى صريحه بالله تبارك وتعالى بالأصالة وبالتبع بمن كان مهدياً بنفسه من قبل الله تبارك وتعالى إذ يتحلّى بدرجة عالية من الاستعداد الذاتي لتلقي المنح الخاصة بالهداية من الله تبارك وتعالى سواء عن طريق الوحي إذا كان نبيّاً أو عن طريق الإلهام الإلهي الخاص إذا لم يكن نبيّاً; وكذلك للحصول على «أمر الله» للقيام بمهمة الهداية اليه عزّ وجلّ، ومراجعة الآيات التي تتحدث عن «أمر الله» تقودنا ـ وبوضوح ـ الى معرفة أنه يشمل الولاية التكوينية والتصرّف الخاص إذ لا تجد آية في القرآن الكريم تذكر «أمر الله» دون أن يقتصر معناه على ولايته التكوينية أو يشملها الى جانب الولاية التشريعية «فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم» [تفسير الميزان: 1/272].

وبهذه الولاية التكوينية يستطيع الهادي الى الله بأمره أن يتصرّف بالأسباب ويصل الى حقائق وبواطن العباد فيعطيهم من حقائق الهداية ما يناسبهم، وهذا التصرّف هو الذي ساقنا إليه التدبر في الآيات الناصة على وجود شهيد في كل زمان على أهل عصره.

(* موقع مركز الأبحاث العقائدية، بتصرّف)


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/question/index.php?id=827