هل تتفضلون علينا بذكر بعض الأمثلة من تفسير القرآن بالقرآن؟

السؤال : هل تتفضلون علينا بذكر بعض الأمثلة من تفسير القرآن بالقرآن؟

الجواب :

إليكم بعض النماذج من تفسير القرآن بالقرآن للعلامة الطباطبائي (ره):

1- قوله تعالى : {هدى للمتقين الذين يؤمنون} الخ ، المتقون هم المؤمنون ، وليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم أعني : لمرتبة من مراتب الايمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الاحسان والاخبات والخلوص ، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الايمان إذا تلبس الايمان بلباس التحقق ، والدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والذي اخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها حال المؤمنين والكفار والمنافقين ، خمس صفات ، وهي الايمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، والانفاق مما رزق الله سبحانه ، والايمان بما أنزله على أنبيائه ، والايقان بالآخرة ، وقد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه ، فهم انما صاروا متقين اولي هذه الصفات بهداية منه تعالى ، ثم وصف الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) فعلمنا بذلك : ان الهداية غير الهداية ، وان هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين ، هداية أولى بها صاروا متقين ، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين ، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين ، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق ، وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول ، ويتصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) البقرة - 7 ، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم ، وكما يقوله في حق المنافقين : ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ) البقرة - 10 فنسب المرض الأول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين ) البقرة - 26 ، وقوله تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) الصف - 5 .

2- قوله سبحانه : {وبالآخرة هم يوقنون} ، العدول في خصوص الاذعان بالآخرة عن الايمان إلى الايقان ، كأنه للإشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالآخرة الذي لا يجامع نسيانها ، دون الايمان المجرد ، فان الانسان ربما يؤمن بشئ ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه ، لكنه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من أعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة قال تعالى : ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ص - 26 . فبين تعالى : ان الضلال عن سبيل الله انما هو بنسيان يوم الحساب ، فذكره واليقين به ينتج التقوى .

3- قوله تعالى : {أولئك على هدى من ربهم} ، الهداية كلها من الله سبحانه ، لا ينسب إلى غيره البتة الا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله ، ولما وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها : ( فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره ) : الانعام - 125 ، وشرح الصدر سعته وهذا الشرح ، يدفع عنه كل ضيق وشح ، وقد قال تعالى : ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) الحشر - 9 ، عقب سبحانه ههنا أيضا قوله : أولئك على هدى من ربهم ، بقوله : وأولئك هم المفلحون الآية .

4- وقوله تعالى : {إلا الفاسقين} ، الفسق كما قيل من الألفاظ التي أبدع القرآن إستعمالها في معناها المعروف ، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها ولذلك فسر بعده بقوله تعالى : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) الآية ، والنقض إنما يكون عن إبرام ، ولذلك أيضا وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين والانسان إنما يخسر فيما ملكه بوجه ، قال تعالى : ( إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ) الشورى - 45 ، وإياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء مثل المقربين والمخلصين والمخبتين

والصالحين والمطهرين وغيرهم ، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالين وأمثالها أوصافا مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد ، وتأخذها هجائا عاميا وحديثا ساذجا سوقيا بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية ومقامات معنوية في صراطي السعادة والشقاوة ، كل واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصة ومنشأ لاحكام مخصوصة معينة ، كما أن مراتب السن وخصوصيات القوى وأوضاع الخلقة في الانسان كل منها منشأ لاحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشأه ومحتده ، ولئن تدبرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما ادعيناه .

5- قوله تعالى : {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} ، إلى قوله : {ونقدس لك} . مشعر بأنهم انما فهموا وقوع الافساد وسفك الدماء من قوله سبحانه : {اني جاعل في الأرض خليفة} ، حيث أن الموجود الأرضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية ، والدار دار التزاحم ، محدودة الجهات ، وافرة المزاحمات ، مركباتها في معرض الانحلال ، وانتظاماتها واصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان ، لا تتم الحياة فيها الا بالحياة النوعية ، ولا يكمل البقاء فيها الا بالاجتماع والتعاون ، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء ، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الأرض الا بكثرة من الافراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالآخرة إلى الفساد والسفك و ، الخلافة وهي قيام شئ مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شؤنه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف ، والله سبحانه في وجوده مسمى بالأسماء الحسنى متصف بالصفات العليا ، من أوصاف الجمال والجلال ، منزه في نفسه عن النقص ومقدس في فعله عن الشر والفساد جلت عظمته ، والخليفة الأرضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص وشين الوجود الإلهي المقدس المنزه عن جميع النقائص وكل الاعدام ، فأين التراب ورب الأرباب ، وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة ، وليس من الاعتراض والخصومة في شئ والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم : انك أنت العليم الحكيم حيث صدر الجملة بأن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم ، فملخص قولهم يعود إلى أن جعل الخلافة انما هو لأجل ان يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده ، والأرضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد والشر ، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك ، فنحن

خلفائك أو فاجعلنا خلفاء لك ، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك ؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله : أني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها . وهذا السياق : يشعر اولا : بأن الخلافة المذكورة انما كانت خلافة الله تعالى ، لا خلافة نوع من الموجود الأرضي كانوا في الأرض قبل الانسان وانقرضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالانسان كما احتمله بعض المفسرين ، وذلك لان الجواب الذي أجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الأسماء لا يناسب ذلك ، وعلى هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم عليه السلام بل بنوه يشاركونه فيها من غير إختصاص ، ويكون معنى تعليم الأسماء إيداع هذا العلم في الانسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل ، ويؤيد عموم الخلافة قوله تعالى ( إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) الأعراف - 69 ، وقوله تعالى ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض ) يونس - 14 ، وقوله تعالى ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) النحل - 62 . وثانيا : إنه سبحانه لم ينف عن خليفة الأرض الفساد وسفك الدماء ، ولا كذب الملائكة في دعواهم التسبيح والتقديس ، وقررهم على ما ادعوا ، بل انما أبدا شيئا آخر وهو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله ولا تتحمله ويتحمله هذا الخليفة الأرضي فإنه يحكي عن الله سبحانه أمرا ويتحمل منه سرا ليس في وسع الملائكة ، ولا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد وسفك الدماء ، وقد بدل سبحانه قوله : قال إني أعلم مالا تعلمون ثانيا بقوله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض ، والمراد بهذا الغيب هو الأسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لا يعلمونها ، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك ويجهلون من آدم أنه يعلمها ، وإلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الأسماء وجه وهو ظاهر بل كان حق المقام أن يقتصر بقوله : قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسئل الملائكة عن ذلك ، فإن هذا السياق يعطي أنهم ادعوا الخلافة وأذعنوا بانتفائها عن آدم وكان اللازم أن يعلم الخليفة بالأسماء فسئلهم عن الأسماء فجهلوها وعلمها آدم ، فثبت بذلك لياقته لها وانتفائها عنهم ، وقد ذيل سبحانه السؤال بقوله : إن كنتم صادقين ، وهو مشعر بأنهم كانوا ادعوا شيئا كان لازمه العلم بالأسماء .

6- قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزى . الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه ، وقواه المقننة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحياة وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية ، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم والجناية عندهم يستتبع العقاب ، وربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كان يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق ، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا وبدلا إذا كانت حاجة

الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذلك المجرم ، أو يستنصر قومه فينصروه فيتخلص بذلك عن تبعة العقاب ونحو ذلك . تلك سنة جارية وعادة حياة دنيوية يطرد فيها قانون الأسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي الطبيعي ، فيقدمون إلى آلهتم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم ، أو يستشفعون بها ، أو يفدون بشئ عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى أنهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة ، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم ، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم ، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها ، ومن الابطال من يستنصر به الميت ، وتوجد اليوم في المتاحف بين آثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل ، ويوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الاسلامية على اختلاف السنتهم وألوانهم ، بقيت بينهم بالتوارث ، ربما تلونت لونا بعد لون ، جيلا بعد جيل ، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية ، والأقاويل الكاذبة ، فقد قال عز من قائل : ( والامر يومئذ لله ، الانفطار - 19 ، وقال : ( ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) البقرة - 166 ، وقال : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء ، لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) الانعام - 94 ، وقال : ( هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون ) يونس - 30 ، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها : أن الموطن خال عن الأسباب الدنيوية ، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية ، وهذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل والأوهام على طريق الاجمال ، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) البقرة - 48 ، وقال :

( يوم لا بيع فيه ، ولا خلة ، ولا شفاعة ) البقرة - 254 ، وقال : ( يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ) الدخان - 41 ، وقال ( يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ) المؤمن - 33 ، وقال : ( ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ) الصافات - 26 ، وقال : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعائنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) يونس - 18 ، وقال : ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) المؤمن - 18 ، وقال : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) الشعراء - 101 ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة هذا .

7- قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين الآية ، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر والصلاة في تفسير قوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) البقرة - 45 ، والصبر : من أعظم الملكات والأحوال التي يمدحها القرآن ، ويكرر الامر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه : ( إن ذلك من عزم الأمور ) لقمان - 17 ، وقيل : ( وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم ) فصلت - 35 ، وقيل : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) الزمر - 10 .

والصلاة : من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) العنكبوت - 45 ، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلاة رأسها وأولها . ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر ، وإنما لم يصف الصلاة ، كما في قوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة الآية ، لان المقام في هذه الآيات ، مقام ملاقاة الأهوال ومقارعة الابطال ، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة ، فلذلك قيل : إن الله مع الصابرين ، وهذه المعية غير المعية التي يدل عليه قوله تعالى : ( وهو معكم أينما كنتم ) الحديد - 4 ، فإنها معية الإحاطة والقيمومة ، بخلاف المعية مع الصابرين ، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج .

8- قوله تعالى : {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} اه ، الكتابة معروفة المعنى ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) المجادلة - 21 ، وقوله تعالى : ( ونكتب ما قدموا وآثارهم ) يس - 12 ، وقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) المائدة - 45 ، والصيام والصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل : كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك ، وربما يقال : انه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن أمور مخصوصة ، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية ، والمراد بالذين من قبلكم الأمم الماضية ممن سبق ظهور الاسلام من أمم الأنبياء كأمه موسى وعيسى وغيرهم ، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما أطلقت ، وليس قوله : كما كتب على الذين من قبلكم ، في مقام الاطلاق من حيث الاشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع أمم الأنبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف ، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث أصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته .

9- قوله تعالى : {لعلكم تتقون} ، كان أهل الأوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نائرة غضبها إذا أجرموا جرما أو عصوا معصية ، وإذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد ، وإن الله سبحانه أمنع جانبا من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذي ، وبالجملة هو سبحانه برئ من كل نقص ، فما تعطيه العبادات من الأثر الجميل ، أي عبادة كانت وأي أثر كان ، إنما يرجع إلى العبد دون الرب تعالى وتقدس ، كما أن المعاصي أيضا كذلك ، قال تعالى : ( ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها ) الإسراء - 7 ، هذا هو الذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي إلى الانسان الذي لا شأن له إلا الفقر والحاجة ، قال تعالى : ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني : ) الفاطر - 15 ، ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله : لعلكم تتقون ، وكون التقوي مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة ، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس عن الاخلاد إلى الأرض ، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات ، وأقرب من ذلك وأمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة ان يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها ، وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه ، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع .

10- قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى ، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان وشوال ولم يذكر اسم شئ من الشهور في القرآن الا شهر رمضان . والنزول هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين الانزال والتنزيل أن الانزال دفعي والتنزيل تدريجي ، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى ( انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) : الزخرف ، - 3 ، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى أبعاضه . والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان ، وقد قال تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ، ) : الاسراء - 106 ، وهو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدة الدعوة وهي ثلث وعشرون سنة تقريبا ، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك ، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين .


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/question/index.php?id=751