السؤال : صنّف أحدهم كتاباً تحدث فيه بإسهاب عن نظرية النشوء والتطور (مذهب التحول والتكامل) محاولاً إثبات صحتها من خلال تطبيقها على بعض الآيات القرآنية ، زاعماً أن القرآن الكريم يدعم هذه النظرية . وعلى هذا الأساس استدلّ بالآيتين التاليتين :
1- قوله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (مريم:67).
حيث استنبط المؤلف من عبارة "من قبل" وكذلك "ولم يك شيئاً" أن الانسان قبل بلوغه مرحلة الكمال كان شيئاً ما ؛ فكان يعيش بصور مختلفة متدرجاً من الحيوان وحيد الخلية الى القرد ، ولم يكن متصفاً بأيّ من الكمالات الانسانية ، لا من الناحية الجسدية ولا المعنوية !
2- قوله تعالى : (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (الانسان:1).
وقد عوّل الكاتب في هذه الآية على قوله تعالى :"لم يكن شيئاً مذكوراً" ليستنبط منه أن الانسان كان يمثل شيئاً ما قبل اكتسابه القابلية على ذكر اسمه في الكتب الالهية ؛ غاية الأمر أنه نتيجة لعدم حيازته الكمال الانساني وانخراطه في زمرة الحيوانات لم يكن ليستحق ذكر اسمه والتحدث عنه في الكتب السماوية (صحف إبراهيم ، والتوراة ، والانجيل والقرآن) .
أتدلّ الآيات المذكورة حقاً على التحول والتكامل التدريجي للانسان ؟ وإن لم تكن ذات صلة بنظرية النشوء والتطور فما المقصود منها ؟
الجواب : نحن نعتقد أنه لا صلة للآيات المذكورة آنفاً بنظرية النشوء والتطور أو مذهب التحول والتكامل التدريجي للموجودات ، بل لهذه الآيات معانٍ أخرى نذكرها فيما يلي :
تفسر الآية الأولى :
من جملة الأشياء التي يصعب على الانسان التصديق بها ويتعسر عليه إقناع نفسه بالايمان بها بسهولة هي موضوع المعاد ؛ أي إحياء الناس في عالم الآخرة بعد فنائهم في عالم الدنيا .
لذا نزلت آيات قرآنية عديدة تبين أحوال منكري المعاد وتبطل ظنونهم بشأن استبعاد وقوعه ، منها الآيات 66- 68 من سورة مريم .
في هذه الآيات ، يبين الله تعالى أحوال منكري يوم القيامة ويردّ عليهم بقوله : (وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ...) (مريم: 66- 68).
تلاحظون أن مصنف الكتاب استدل بقوله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) ، وهي في مقام الردّ على القائلين : كيف يمكن إحياء الانسان مرة أخرى وإرجاعه الى حالته الأولى بعد موته وتبدد ذرات بدنه ؟ أنسي الانسان بداية خلقه ؟ ألا يعلم أننا خلقناه من العدم (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) وأدخلناه حيّز الوجود ؟
فمع أخذ قدرة الخلق من العدم بنظر الاعتبار ، أنّى لأولئك إنكار بعث الأموات وهم يعلمون أن موادهم الأولية –إن صحّ التعبير- لا تفنى طبقاً لقانون "بقاء المادة والطاقة" ؟ أو لا يستطيع الله القادر على الاخراج من العدم والادخال في حيز الوجود أن يجمع أجزاء بدن الانسان المتفرقة وأوصاله المتبددة ؟
بناء على هذا ، فالآية الآنفة ليست بصدد بيان أن الانسان قبل أن يبلغ مرحلة الكمال الفعلية كان عبارة عن موجودات حية أخرى تدرّجت في سلّم الكمال حتى وصلت هذه المرحلة ، بل نزلت بهدف إثبات القيامة والمعاد ووردت في مقام الردّ على المنكرين ، شأنها في ذلك شأن كثير من الآيات الأخرى .
تفسير الآية الثانية :
لو انفصل الطفل حديث الولادة عن والديه في أعقاب حادثةٍ ما ، وبقي في جوّ بارد جداًَ ، فمما لا شك فيه أنه لن يمضي عليه أمد طويل حتى يتجرع مرارة الموت . أما لو عثر عليه أحد المحسنين وأخذه الى بيته وحنا عليه حنوّ الأب العطوف ، ولم يبخل عليه بأنواع المحبة والمودة ، وترعرع في كنفه متنعماً بما يغدق عليه من النعيم ؛ فلا غرو أن الطفل اليتيم بالأمس يجد نفسه اليوم متمتعاً بكل مستلزمات الحياة وغنياً عن الآخرين .
وربما أخذ منه الغرور والكبر مأخذاً فجعله ينسى فضائل ذلك الشخص المحسن ، وقد يقع أحياناً أنه ينازعه ويخاصمه ويجحد نعمه عليه انطلاقاً من مصالحه الخاصة .
وهنا يحقّ للشخص المحسن أن يذكّر صاحبه بمرحلة العجز واليتم ، ويوبخه على كفران النعمة . وهذا هو ما فعله الله سبحانه وتعالى مع الانسان ، فجاء ليذكّره به في أوائل سورة الانسان من أجل كبح جماح الطغاة وإيقاظ الغافلين الذين تناسوا أو نسوا بدء الخلقة وسلكوا سبيل الجحود . فقال تعالى : (هل أتى ...) أي أما آن للانسان الذي انتهج طريق الكفر أن يفكر فيما قبل أن تتعلق إرادة الله تعالى بوجوده ، وأنه لم يكن إذ ذاك شيئاً مذكوراً ، فأخرجه تعالى من العدم الى الوجود ، وألبسه لباس الانسانية ؟ أإنه نسي هذه النعم والمواهب الجليلة فسلك سبيل الكفر والطغيان ؟
بناء على هذا ، فالآية المذكورة لا صلة لها بنظرية النشوء والتطور أو التحول والتكامل التدريجي للمخلوقات الحية
|