• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : الراسخون في العلم .

الراسخون في العلم

سماحة الشيخ عبدالحسن إبراهيم

قال الله العلي العظيم في كتابه الكريم (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ محّْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فىِ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فىِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كلٌ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَ مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ).

سبب النزول :

عن طريق الشيعة:

جاء في تفسير نور الثقلين نقلا عن كتاب معاني الأخبار باسناده إلى محمد بن قيس قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث أن حييا وأبا ياسر ابني أخطب ونفرا من يهود أهل نجران اتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : أليس فيما تذكر فيما انزل الله عليك (ألم) ؟ قال : بلى ، قالوا ، أتاك بها جبرئيل من عند الله ؟ قال : نعم ، قالوا ، لقد بعث أنبياء قبلك وما نعلم نبيا منهم أخبرنا ما مدة ملكه ، وما أجل أمته غيرك ، قال : فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه فقال لهم : الألف واحد . واللام ثلثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ،فعجب ممن يدخل في دين مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ، قال : ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا محمد هل مع هذا غيره ؟ قال : نعم ، قال هاته قال ، المص ، قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحد واللام ثلثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة واحدى وستون سنة ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله : فهل مع هذا غيره ؟ قال ، نعم قال ، هاته ، قال : الر ، قال ، هذه أثقل وأطول ، والألف واحد ، واللام ثلثون ، والراء مائتان ، فهل مع هذا غيره ؟ قال ، نعم قال ، هاته قال : المر قال ، هذه أثقل وأطول ، الألف واحد . واللام ثلثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، ثم قال له ، هل مع هذا غيره ؟ قال ، نعم قالوا ، قد التبس علينا امرك فما ندري ما أعطيت ، ثم قاموا عنه ثم قال أبو ياسر لحيي أخيه ، ما يدريك لعل محمدا قد جمع له هذا كله و أكثر منه ؟ قال : فذكر أبو جعفر عليه السلام أن هذه الآيات أنزلت فيهم منه ( آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات ) قال : وهي تجرى في وجه آخر على غير تأويل حيي وأبى ياسر وأصحابهما . أي أن خصوص المورد لا يخصص الوارد، فهي تنطبق على كل من يتبع المتشابهات من الآيات ويذر المحكمات بغية الفتنة والإضلال، فتشمل المنافقين.

عن طريق العامة:

أخرج البخاري في التاريخ و ابن جرير من طريق ابن اسحق عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله ابن رباب قال: مر أبو ياسر بن أخطب فجاء رجل من اليهود لرسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يتلو فاتحة سورة البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ، فاتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: أتعلمون؟ والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما انزل عليه الم ذلِكَ الْكِتابُ، فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم، فمشى حتى وافى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الم تقل انك تتلو فيما أنزل عليك الم ذلِكَ الْكِتابُ، فقال: بلى، فقالوا: لقد بعث بذلك أنبياء ما نعلمه بُين لنبي منهم ما مدة ملكه و ما أجل أمته غيرك، الالف واحدة و اللام ثلاثون و الميم أربعون فهذه احدى و سبعون سنة. ثم قال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المص، قال: هذه أثقل و أطول الالف واحدة و اللام ثلاثون و الميم أربعون و الصاد تسعون فهذه احدى و ثلاثون ومائة، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم الر، قال: هذه أثقل و أطول الالف واحدة و اللام ثلاثون و الراء مائتان هذه احدى و ثلاثون و مائتا سنة. هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المر، قال: هذه أثقل و أطول هذه احدى و سبعون و مائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه و من معه: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد احدى و سبعون و احدى و ثلاثون و مائة و احدى و ثلاثون و مائتان و احدى و سبعون و مائتان فذلك سبعمائة و أربع سنين. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره.

فيزعمون ان هذه الآيات نزلت فيهم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ‏).

وأخرج يونس بن بكير في المغازي عن ابن إسحاق عن محمد بن أبى محمد عن عكرمة عن سعد بن جبير عن ابن عباس و جابر بن رباب ان أبا ياسر بن أخطب مر بالنبي صلى الله عليه و سلم و هو يقرأ فاتحة الكتاب و الم ذلِكَ الْكِتابُ فذكر القصة .

وجاء في ظلال القرآن أن نصارى نجران قالوا للرسول (صلى اللّه عليه و سلم) ألست تقول عن المسيح: إنه كلمة اللّه و روحه؟ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى(عليه السلام) و أنه ليس من البشر، إنما هو روح اللّه- على ما يفهمون هم من هذا التعبير- بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية اللّه المطلقة، و تنفي عنه الشريك و الولد في كل صورة من الصور .. فنزلت فيهم هذه الآية، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة، و ترك النصوص التجريدية القاطعة .

اللغة :

المحكم مأخوذ من قولك أحكمت الشي‏ء إذا أتقنته، و أم الكتاب أصله، والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضا فيغمض، أخذ من الشبه لأنه يشتبه به المراد، والزيغ الميل و إزاغة إمالة و التزايغ التمايل في الأسنان، والابتغاء الطلب، والفتنة أصلها الإختبار من قولهم فتنت الذهب بالنار أي اختبرته، والتأويل التفسير، وأصله المرجع و المصير من قولهم آل أمره إلى كذا يؤول أولا، إذا صار إليه وأولته تأويلا إذا صيرته إليه، والراسخون الثابتون يقال رسخ رسوخا إذا ثبت في موضعه و أرسخه غيره .

المعنى :

لما تقدم بيان إنزال القرآن عقبه بيان كيفية إنزاله فقال (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) أي القرآن (مِنْهُ) أي من الكتاب (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل الكتاب (وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) قيل في المحكم و المتشابه أقوال:

(أحدها) أن المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) و (لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) ونحو ذلك مما لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل. والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه، وهذا قول مجاهد. نحو قوله (ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ) يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره و أن يكون بمعنى القهر و الاستيلاء و الوجه الأول لا يجوز عليه سبحانه، بخلاف الثاني.حيث إن الله سبحانه وتعالى( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) ، وهي من الآيات المحكمات، فلابد حينئذ من رد المتشابه إلى المحكم.

(و ثانيها) أن المحكم الناسخ و المتشابه المنسوخ، وهذا القول عن ابن عباس.

(و ثالثها) إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا و المتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا، وهذا القول عن محمد بن جعفر بن الزبير و أبي علي الجبائي.

(و رابعها) إن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه و المتشابه ما تكرر ألفاظه كقصة موسى و غير ذلك، وهذا القول عن ابن زيد.

(و خامسها) إن المحكم ما يعلم تعيين تأويله و المتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله كقيام الساعة، وهذا القول عن جابر بن عبد الله .

و إنما وحد أم الكتاب و لم يقل هن أمهات الكتاب لوجهين:

(أحدهما) أنه على وجه الجواب كأنه قيل ما أم الكتاب فقال هن أم الكتاب كما يقال من نظير زيد فيقال نحن نظيره.

(و الثاني) إن الآيات بمجموعها أصل الكتاب و ليست كل آية محكمة أم الكتاب و أصله لأنها جرت مجرى شي‏ء واحد في البيان و الحكمة و مثله قوله (وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ) آية و لم يقل آيتين لأن شأنهما واحد في أنها جاءت به من غير ذكر فلم تكن الآية لها إلا به و لا له إلا بها ولو أراد أن كل واحد منهما آية على التفصيل لقال آيتين.

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق و إنما يحصل الزيغ بشك أو جهل.

(فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي يحتجون به على باطلهم (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي لطلب الضلال و الإضلال و إفساد الدين على الناس، و قيل لطلب التلبيس على ضعفاء الخلق عن مجاهد، و قيل لطلب الشرف و المال كما سمى الله المال فتنة في مواضع من كتابه، و قيل‏ المراد بالفتنة هاهنا الكفر و هو المروي عن أبي عبد الله‏ وقول الربيع و السدي.

(وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ولطلب تأويله على خلاف الحق، وقيل لطلب مدة أُكل محمد – أي رزقه وحظه من الدنيا– على حساب الجمل وابتغاء معاقبته.

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) قيل عني به وفد نجران لما حاجوا النبي (صلى الله عليه وآله) في أمر عيسى (عليه السلام)، عن الربيع، وقيل هم اليهود طلبوا علم أُكل هذه الأمة و استخرجه بحساب الجمل عن الكلبي، وقيل هم المنافقون عن ابن جريح، وقيل بل كل من احتج بالمتشابه لباطله فالآية فيه عامة عن قتادة.

(وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون في العلم الضابطون له المتقنون فيه (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) معناه المحكم و المتشابه جميعا من عند ربنا.

(وَ ما يَذَّكَّرُ) أي وما يتفكر في آيات الله و لا يرد المتشابه إلى المحكم (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول .

الراسخون في العلم

اختلف في إعراب ( الراسخون ) وفي نظمه وحكمه من حيث الوقف، ومن ثم في مدلول ذيل الآية المباركة (وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) على قولين :

(الأول) أن الواو في قوله (وَالرَّاسِخُونَ) واو استئنافيّة و (الراسخون) مبتدأ، خبره جملة يقولون آمنّا .

فعلى هذا القول يكون العلم بتأويل المتشابه منحصر في الله سبحانه تعالى، والوقف عند قوله (وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) و يبتدي (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) فيكون مبتدأ و خبرا، وهذا قول عائشة و عروة بن الزبير و الحسن و مالك و اختيار الكسائي والفراء والجبائي وقالوا إن الراسخين لا يعلمون تأويله و لكنهم يؤمنون به، فالآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدة أُكل هذه الأمة ووقت قيام الساعة و فناء الدنيا ووقت طلوع الشمس من مغربها و نزول عيسى و خروج الدجال و نحو ذلك مما استأثر الله بعلمه .

فيُخرج حينئذ (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) عن فضيلة العلم بالتأويل، ويُحطوا عن رتبة استحقوها ونوّه عليها القرآن الكريم في هذا السياق المشرق إذ وصفهم بالرسوخ في العلم‏.

ويمكن أن يحتج لهذا القول بعدة روايات جمعت في الدر المنثور :

منها: عن ابن عباس قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه الا اللّه.

ومنها: ما ورد عنه ايضا في بيان وجوه القرآن: وتفسير يعلمه العلماء، و تفسير تعرفه العرب بلغتها، و تفسير لا يعلم تأويله الا اللّه و من ادعى علمه فهو كاذب. و في رواية اخرى و تفسير تفسره العلماء و متشابه لا يعلم تأويله الا اللّه و من ادعى علمه سوى اللّه فهو كاذب.

ومن طريق طاوس عن ابن عباس ايضا كان يقرأها و ما يعلم تأويله الا اللّه و يقول الراسخون في العلم آمنا.

وعن الأعمش قال في قراءة عبد اللّه وان حقيقة تأويله الا عند اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا.

وذكر في الدر المنثور رواية هذا القول ايضا عن رأي عائشة وأبي الشعثاء وعروة وعمرو بن عبد العزيز ومالك وذكر ايضا أحاديث تحذر من المجادلة في كتاب اللّه واتباع المتشابه، منها ما أخرجه عبد الرزاق وسعيد وعبد بن حميد والجوامع الستة وغيرهم عن عائشة عن رسول اللّه (ص) انه قرأ الآيات وقال: ( فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عناهم اللّه فاحذروهم). و في لفظ البخاري (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذرهم) .

و يرد عليه بعد غض النظر عن الأسانيد وما فيها:

أولا: ان يوم القيامة الذي ذكر في حديث ابن عباس خارج عن محل الخلاف و سوق الآية وموضوعها من التأويل، حيث إن محل الخلاف هو ما عناه بقوله: وتفسير تعلمه العلماء، أو تفسره، وقوله في حديث آخر: ظهره التلاوة وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء.

ثانيا: أما ما روي من طريق طاوس عن ابن عباس انه كان يقرأها و ما يعلم تأويله الا اللّه و يقول الراسخون في العلم آمنا. فيرد عليها تواتر غيرها، واجماع المسلمين على عدم الاعتناء بها.

ثالثا: أما الآراء التي ذكرنا روايتها، فهو اجتهاد في محل النزاع بلا دليل.

رابعا: أما التحذير ممن يجادل و يتبع المتشابه فإنما هو تحذير من الضالين المضلين الذين في قلوبهم مرض، لا الراسخين في العلم‏ .

( الثاني ) أن (الراسخون) معطوف على الله سبحانه وتعالى بالواو، على معنى أن تأويل المتشابه (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فإنهم يعلمونه و (يَقُولُونَ) على هذا في موضع النصب على الحال و تقديره قائلين (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) .

فحينئذ يُعطف (الراسخون) على لفظ الجلالة من حيث القراءة ولا يوقف على لفظ الجلالة، ويكون المعنى أن اللّه جلت آلاؤه فتح للراسخين في العلم باب العلم بالتأويل بلطفه، و كرّمهم بهذه الرتبة بتعليمه .

يمكن أن يحتج على القول الثاني بأمور:

و اما القول الثاني فحجته دلالة العقل و النقل الصحيح من الفريقين و سياق القرآن الكريم،

الأول: دلالة العقل، فإن المتشابه الذي أشرنا اليه و الى وجوه تشابهه و الذي يتبعه و يطلبه الزائغون عن الحق ابتغاء الفتنة في امر الدين و نظام الملة و احكام الشريعة هو في القرآن كثير جدا. و مما لا يصح في العقل انه مع هذه الكثرة يحرم اللّه من تأويله و العلم به رسوله الهادي الكريم و أمناءه على الوحي، و علماء الأمة. فيكون القسم الكبير من القرآن الكريم لا فائدة في تنزيله للبشر مطلقا حتى الرسول الأكرم و لا أثر له إلا صدى ألفاظه و سواد حروفه .

الثاني: النقل الصحيح من الفريقين:

أولا: ما ورد من طريقنا:

ففي تفسير القمي في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) قال: ان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما انزل في القرآن من التنزيل و التأويل و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله و أوصياءه من بعده يعلمونه كله . وعن العياشي مثله. و في الكافي عن أحدهما عليهم السلام مثله.

و في الكافي في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) نحن الراسخون في العلم و نحن نعلم تأويله . و نحوه عن تفسير العياشي.

و في نهج البلاغة وغيره قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) و لقد جئتهم بالكتاب مشتملا على التنزيل والتأويل .

ثانيا: ما ورد من طرق العامة:

ما في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن الانباري من طريق مجاهد عن ابن عباس قوله انا ممن يعرف تأويله.

واخرج احمد و الطبراني و ابو نعيم في الحلية عن ابن عباس ان رسول اللّه قال: اللهم أعط ابن عباس الحكمة و علمه التأويل‏.

واخرج الحاكم في مستدركه وابن أبي شيبة اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.

واخرج الحاكم ايضا اللهم علمه تأويل القرآن.

وأخرج ابن ماجه و ابن سعد و الطبراني اللهم علمه الحكمة و تأويل الكتاب.

فلو كان علم التأويل منحصرا باللّه و لم يعلمه رسوله و الراسخين في العلم، لما دعا به رسول اللّه (ص) لابن عباس. و ما هو معنى الدعاء بما لا يرجى وقوعه.

واخرج الحاكم في الصحيح على شرط البخاري و مسلم كما هي عادته في المستدرك عن معقل بن يسار عن رسول اللّه (ص) اعملوا بكتاب اللّه فما اشتبه عليكم فاسألوا عنه اهل العلم يخبروكم. والذي يشتبه عليهم هو المتشابه.

واخرج احمد و ابو يعلى في مسنديهما و البيهقي في شعبه و الحاكم في مستدركه و ابو نعيم في الحلية و سعيد بن منصور في سننه و ابن السكن عن الأخضر الانصاري. والديلمي عن أبي ذر جميعا عن رسول اللّه (ص) ان عليا (ع) يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو (ص) على تنزيله.

ومفاد الحديث ان أمير المؤمنين (ع) كان عالما بتأويل القرآن على حقيقته فهو يقاتل دفاعا عنه و تثبيتا لحقائقه في الدين و اساسياته كما قاتل رسول اللّه (ص) دفاعا عن تنزيله .

الثالث: دلالة سياق القرآن، فإن تمجيد الراسخين في العلم بهذا التمجيد السامي و الصفة الفائقة انما يناسب عطفهم في مقام العلم بالتأويل ورسوخهم فيه ومجدهم في الايمان بمؤداه على بصيرة من أمرهم، وأما قولهم آمنا، فلو أريد به الإيمان بنزول لفظه من دون علم بمعناه ولا عمل به، لكان المناسب له وصفهم بتصلبهم في الايمان و التسليم لرسول اللّه في التنزيل .

ومما يؤيده هذا القول أن الصحابة و التابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن و لم نرهم توقفوا على شي‏ء منه و لم يفسروه بأن قالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله و كان ابن عباس يقول في هذه الآية أنا من الراسخين في العلم .

السر في وجود المتشابه

قد يقال: إن القرآن كتاب هداية لعموم البشر، ووجود المتشابهات فيه – وهي كثيرة – يلزم منه نقض الغرض، بحيث يتنافى مع كونه كتاب هداية.

وقد أجاب صاحب تفسير الأمثل بعدة نقاط:

أوّلا: إنّ الألفاظ و الكلمات التي يستعملها الإنسان للحوار هي لرفع حاجته اليومية في التفاهم. و لكن ما إن نخرج عن نطاق حياتنا الماديّة و حدودها، كأن نتحدّث عن الخالق الذي لا يحدّه أيّ لون من الحدود، نجد بوضوح أنّ ألفاظنا تلك لا تستوعب هذه المعاني، فنضطر إلى استخدام ألفاظ أخرى وإن تكن قاصرة لا تفي بالغرض تماما من مختلف الجهات. و هذا القصور في الألفاظ هو منشأ الكثير من متشابهات القرآن.

ثانيا: كثير من الحقائق تختصّ بالعالم الآخر، أو بعالم ما وراء الطبيعة ممّا هو بعيد عن أفق تفكيرنا، و إنّنا- بحكم وجودنا ضمن حدود سجن الزمان و المكان، غير قادرين على إدراك كنهها العميق. قصور أفق تفكيرنا من جهة، و سمّو تلك المعاني من جهة أخرى، سبب آخر من أسباب التشابه في بعض الآيات، كالتي تتعلّق بيوم القيامة مثلا.

وهذا أشبه بالذي يريد أن يشرح لجنين في بطن أمّه مسائل هذا العالم الذي لم يره بعد، فهو إذا لم يقل شيئا يكون مقصّرا، و إذا قال كان لا بدّ له أن يتحدّث بأسلوب يتناسب مع إدراكه.

ثالثا: من أسرار وجود المتشابهات في القرآن إثارة الحركة في الأفكار و العقول و إيجاد نهضة فكرية بين الناس. و هذا أشبه بالمسائل الفكرية المعقّدة التي يعالجها العلماء لتقوية أفكارهم و لتعميق دقّتهم في المسائل.

رابعا: النقطة الأخرى التي ترد بشأن وجود المتشابهات في القرآن، و تؤيّدها أخبار أهل البيت عليهم السّلام، هي أنّ وجود هذه الآيات في القرآن يصعّد حاجة الناس إلى القادة الإلهيّين والنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الأوصياء، فتكون سببا يدعو الناس إلى البحث عن هؤلاء و اعتراف بقيادتهم عمليا و الاستفادة من علومهم الاخرى أيضا. و هذا أشبه ببعض الكتب المدرسية التي أنيط فيها شرح بعض المواضيع إلى المدرّس نفسه، لكي لا تنقطع علاقة التلاميذ بأستاذهم، و لكي يستمرّوا ـ بسبب حاجتهم هذه ـ في التزوّد منه على مختلف الأصعدة.

و هذا أيضا مصداق وصيّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم حين‏ قال: (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و أهل بيتي و أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) .


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=921
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 01 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24