• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : مناهج وأساليب القصص القرآني .
                    • الموضوع : أثر القصة القرآنية في الهداية .

أثر القصة القرآنية في الهداية

                                                                      الشيخ سعد الغري

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين : الغرض من إنزال الكتب السماوية وتوجيه الخطاب إلى الناس هو إنتشالهم من مستنقع الضلال وبراثن الانحراف العقائدي والخلقي ، وهدايتهم إلى الحق وإرشادهم إلى الخير ، قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:52(

(وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) (الاسراء:2)

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ...) (المائدة:44)

(... وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (المائدة:46)

(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2)

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ...) (البقرة:185)

ومن الأساليب التي استخدمتها الكتب السماوية ـ في صدد الهداية والإرشاد ـ الأسلوب القصصي ، وقد تميز القرآن الكريم ـ بسبب بلاغته الإعجازية ـ عن بقية الكتب السماوية بالسرد الشيق والبليغ للقصة مع التركيز على الهدفية بشكل دقيق ، حتى قال تعالى :

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ...}  سورة يوسف .

وإنما اعتمد الحق تعالى القصة كأحد الأساليب والطرق للهداية  لما فيها من جذب للقارئ وأثر كبير على النفوس ، فالقارئ للقصة ـ بطبيعة الحال ـ بعد تأثره بالقصة التي قرأها ؛ يحاكي شخصياتها البارزة  لا شعوريا ؛ مما ينعكس هذا على مجمل حركته وسلوكياته الفردية والاجتماعية ، وبالتالي قد تتبدل هذه المحاكاة إلى طبيعة سلوكية تشكل جزء أساسي في شخصيته .

ثم أن الجانب المميز في القصة القرآنية أنها أخبار لا تداخلها الأسطورة ، وليست مخترعة من نسج الخيال كما هو الحال في بقية القصص ، بل هي تحكي وقائع وأحداث تأريخية محددة ، وتشتمل على عناصر أهمها المبادئ والأهداف السامية التي يحملها أبطال تلك القصص ، والسلوكيات التي تفتح لنا آفاقا على عالم الغيب والملكوت . من هنا ذكر سبحانه وتعالى أن مائز ما يقصه من القصص أنها أنباء بالحق :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف:13)

(وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود:120)

فلنتدبر في آية من آيات الله وقصة من قصص الحقة ، لنعيش في أجوائها ؛ علنا نستلهم منها العبر ونتلمس من خلالها طريق الهداية والرشاد .

قال تعالى :{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (87-88) سورة الأنبياء

هذه أحدى القصص القرآنية التي ذكرها الله تعالى بإيجاز بليغ ، وهي تحكي لنا جانبا من حياة نبي الله يونس (عليه السلام) ومسيرته التبليغية ، ولنوضح بعض مفاصل هذه القصة ، ثم نذكر القصة بنحو من التفصيل : 

أولا : من هو  ذا النون ؟

(النون) ـ في اللغة ـ السمكة العظيمة و بتعبير آخر الحوت ،و (ذا) بمعنى صاحب ، و (ذا النون) معناها صاحب الحوت، وصاحب الحوت إشارة إلى نبي الله يونس (عليه السلام) . وقد اختارـ سبحانه وتعالى ـ هذا الاسم ليونس بسبب الحادثة التي سنشير إليها في ضمن القصة .

ثانيا : ما هي الظلمات ؟

الظلمة ـ لغة ـ شدة الظلام (1) ، يقول صاحب تفسير الأمثل : (من الممكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى ظلمة البحر في أعماق الماء ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل) .

 ثالثا : ما الذي عمله يونس (عليه السلام) فتركه واستغفر الله عليه ؟

لا شك أن تعبير " مغاضبا " إشارة إلى غضب يونس على قومه الكافرين ، و هذا الغضب في مثل هذه الظروف أمر طبيعي ، إذ تحمل هذا النبي المشفق المشقة والتعب سنين طويلة من أجل هداية القوم الضالين ، إلا أنهم لم يلبوا دعوته الخيرة من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن يونس لما علم أن العذاب الإلهي سينزل بهم سريعا ، فإن ترك تلك المدينة لم يكن معصية ، ولكن كان الأولى به كنبي عظيم أن لا يتركها حتى اللحظة الأخيرة - اللحظة التي سيعقبها العذاب الإلهي - ولذلك آخذه الله على هذه العجلة ، واعتبر عمله تركا للأولى ، فلم يكن ما فعله الله تعالى بنبيه عقوبة على فعله ، بل كان درسا وتأديبا إلهيا لعبد من عباده المخلصين يترتب عليه تساميه في مدارج الكمال والقرب الألهي  .

 رابعا : ماذا نستفيد من قصة نبي الله يونس عليه السلام ؟

كما ذكرنا سابقا أن القصص القرآنية ليست للترف والتسلية بقدر ما هي للعبرة والهداية ، وعليه ما الذي يمكن استفادته من قصة يونس (عليه السلام) ؟

 وردت في الآية المباركة حكمة وهي شاملة لكل المؤمنين ولا تختص بنبي الله يونس عليه السلام (وكذلك ننجي المؤمنين).

فالناس كثيرا ما يذنبون والله غفور رحيم وكم من شهوة قصيرة أوردت ندما كثيرا ،فهل هناك سبيل إلى التوبة هل هناك طريق يؤوب إليه الخطاءون ؟ إن كثيرا من الحوادث المؤلمة والابتلاءات الشديدة والمصائب المحزنة تكون نتيجة طبيعية لذنوبنا ومعاصينا ، وهي سياط لتنبيه الأرواح الغافلة ، أو هي مواقد لتصفية معادن أرواح الآدميين فمتى ما تنبه الإنسان إلى ثلاثة أمور [ التي انتبه إليها يونس في مثل هذا الظرف ] فإنه سينجو حتما :

 1 - التوجه إلى حقيقة التوحيد ، وأنه لا معبود ولا سند إلا الله ، مناديا في الظلمات (أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ)

 2 - تنزيه الله عن كل عيب ونقص وظلم وجور ، وتجنب كل سوء ظن بذاته المقدسة ، بقوله : (سُبْحَانَكَ).

3 - الاعتراف بذنبه وتقصيره (إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

وعلى هذه الأمور الثلاثة ترتبت النتيجة الحتمية من الباري تعالى (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) وجعل هذه هي المنجية لجميع المؤمنين : (وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)

روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : " اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى " فقال رجل : يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال : " هي ليونس خاصة وللمؤمنين إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله وكذلك ننجي المؤمنين ؟ فهو شرط من الله لمن دعاه".

وكما هو واضح أن المراد ليس قراءة الألفاظ والكلمات فقط ، بل جريان حقيقتها في أعماق روح الإنسان ، أي أن ينسجم كل وجوده مع معنى تلك الألفاظ حين قراءتها، فيكون دعائه صادرا من قلبه ومن كل جوارحه.

يقول صاحب تفسير الأمثل معقبا على ما جاء في الآية المذكورة: ( يلزم التذكير بهذه المسألة ، وهي أن العقوبات الإلهية على نحوين : أحدهما : عذاب الاستئصال ، أي العقوبة النهائية التي تحل لمحو الأفراد الذين لا يمكن إصلاحهم ، إذ لا ينفعهم أي دعاء حينئذ ، لأن أعمالهم ذاتها ستكرر بعد هدوء عاصفة البلاء . والآخر : عذاب التنبيه ، والذي له صفة تربوية ، ويرتفع مباشرة بمجرد أن يؤثر أثره ويتنبه المخطئ ويثوب إلى رشده . ومن هنا يتضح أن إحدى غايات الآفات والابتلاءات والحوادث المرة هي التوعية والتربية . إن حادثة يونس (عليه السلام) تحذر بصورة ضمنية جميع قادة الحق والمرشدين إليه بأن لا يتصوروا انتهاء مهمتهم مطلقا ، ولا يستصغروا أي جهد وسعي في هذا الطريق ، لأن مسؤولياتهم ثقيلة جدا).

 قصة يونس (عليه السلام) :

كما نقلها في تفسير الأمثل :  إن " يونس " كان لسنين طوال مشتغلا بالدعوة والتبليغ بين قومه في أرض نينوى بالعراق ، ولكن رغم كل ما بذله من جهود ومساع فإن إرشاداته وتوجيهاته لم تؤثر في قلوبهم ، فغضب وهجر تلك الأرض ، وذهب باتجاه البحر وركب السفينة ، وأثناء الطريق هاج البحر ، فكاد كل ركاب السفينة أن يغرقوا . وهنا قال ربان السفينة : إني أظن أن بينكم عبدا هاربا يجب أن يلقى في البحر - أو إنه قال : إن السفينة ثقيلة جدا ويجب أن نلقي فردا منا تخرجه القرعة - فاقترعوا عدة مرات ، وكان اسم يونس (عليه السلام) يخرج في كل مرة ! فعلم أن في هذا الأمر سرا خفيا ، فسلم للحوادث ، وعندما ألقوه في البحر ابتلعه حوت عظيم وأبقاه الله في بطنه حيا . وأخيرا انتبه إلى أنه قد ترك الأولى ، فتوجه إلى الله واعترف بتقصيره ، فاستجاب الله دعوته وأنجاه من ذلك المكان الضيق.

من الممكن أن يتصور استحالة هذا الحادث من الناحية العلمية ، ولكن لا شك أن هذا الأمر خارق للعادة ، إلا أنه ليس بمحال عقلي ، كإحياء الموتى فإنه يعد أمرا خارقا للعادة وليس محالا.

 اما القصة التفصيلية فنوردها من التفسير الصافي للفيض الكاشاني (ج 2 - ص 420 – 427):

في الجوامع : وكان يونس قد بعث إلى نينوى  من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا وبكوا فصرف الله عنهم العذاب ، وكان قد نزل وقرب منهم .

والعياشي : عن الباقر عليه السلام قال : كتب أمير المؤمنين عليه السلام قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل حدثه أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى قومه وهو ابن ثلاثين سنة وكان رجلا تعتريه الحدة وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم ، عاجزا عما حمل من ثقل حمل أوقار النبوة وأعلامها وانه تفسخ تحتها كما يتفسخ الجذع تحت حمله وأنه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان بالله والتصديق به وإتباعه ثلاثا وثلاثين سنة ، فلم يؤمن به ولم يتبعه من قومه إلا رجلان اسم أحدهما روبيل ، واسم الآخر تنوخا ، وكان روبيل من أهل بيت العلم والنبوة والحكمة ، وكان قديم الصحبة ليونس بن متى عليه السلام من قبل أن يبعثه الله بالنبوة ، وكان تنوخا رجلا مستضعفا عابدا زاهدا منهمكا في العبادة ، وليس له علم ولا حكم ، وكان روبيل صاحب غنم يرعاها ويتقوت منها ، وكان تنوخا رجلا حطابا يحتطب على رأسه ويأكل من كسبه ، وكان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا لعلم روبيل وحكمته ، وقديم صحبته ، فلما رأى يونس أن قومه لا يجيبونه ولا يؤمنون ضجر وعرف من نفسه قلة الصبر فشكا ذلك إلى ربه وكان فيما شكا أن قال : يا رب إنك بعثتني إلى قومي ولي ثلاثون سنة ، فلبثت فيهم أدعوهم إلى الايمان بك ، والتصديق برسالتي ، وأخوفهم من عذابك ونقمتك ثلاثا وثلاثين سنة ، فكذبوني ولم يؤمنوا بي ، وجحدوا نبوتي واستخفوا برسالتي ، وقد توعدوني وخفت أن يقتلوني ، فأنزل عليهم عذابك فإنهم قوم لا يؤمنون ، قال : فأوحى الله إلى يونس أن فيهم الحمل والجنين والطفل ، والشيخ الكبير ، والمرأة الضعيفة ، والمستضعف المهين ، وأنا الحكم العدل ، سبقت رحمتي غضبي ، لا أعذب الصغار بذنوب الكبار من قومك ، وهم يا يونس عبادي وخلقي وبريتي في بلادي ، وفي عيلتي أحب أن أتأناهم وأرفق بهم وأنتظر توبتهم ، وإنما بعثتك إلى قومك لتكون حفيظا عليهم تعطف عليهم بسجال الرحمة الماسة عنهم ، وتأناهم برأفة النبوة ، وتصبر معهم بأحلام الرسالة ، وتكون لهم كهيئة الطبيب المداوي العالم بمداواة الدواء ، فخرجت بهم ولم تستعمل قلوبهم بالرفق ولم تسسهم بسياسة المرسلين ، ثم سألتني عن سوء نظرك العذاب لهم عند قلة الصبر منك ، وعبدي نوح كان أصبر منك على قومه ، وأحسن صحبة وأشد تأنيا في الصبر عندي ، وأبلغ في العذر ، فغضبت له حين غضب لي ، وأجبته حين دعاني ، فقال يونس : يا رب إنما غضبت عليهم فيك ، وإنما دعوت عليهم حين عصوك ، فوعزتك لا أتعطف عليهم برأفة أبدا ولا أنظر إليهم بنصيحة شفيق بعد كفرهم وتكذيبهم إياي وجحدهم نبوتي فأنزل عليهم عذابك فإنهم لا يؤمنون أبدا ، فقال الله تعالى : يا يونس إنهم مأة ألف أو يزيدون من خلقي يعمرون بلادي ويلدون عبادي ومحبتي إن أتأناهم للذي سبق من علمي فيهم وفيك ، وتقديري وتدبيري غير علمك وتقديرك وأنت المرسل ، وأنا الرب الحكيم ، وعلمي فيهم يا يونس باطن في الغيب عندي لا يعلم ما منتهاه وعلمك فيهم ظاهر لا باطن له ، يا يونس قد أجبتك إلى ما سألت من إنزال العذاب عليهم وما ذلك يا يونس بأوفر لحظك من عندي ولا أحمد لشأنك وسيأتيهم عذاب في شوال يوم الأربعاء وسط الشهر بعد طلوع الشمس فأعلمهم ذلك ، قال : فسر ذلك يونس ولم يسؤه ولم يدر ما عاقبته فانطلق يونس إلى تنوخا العابد وأخبره بما أوحى الله إليه من نزول العذاب على قومه في ذلك اليوم ، وقال له : انطلق حتى أعلمهم بما أوحى الله إلي من نزول العذاب ، فقال تنوخا : فدعهم في غمرتهم ومعصيتهم حتى يعذبهم الله ، فقال له يونس : بل نلقى روبيل فنشاوره فإنه رجل عالم حكيم من أهل بيت النبوة فانطلقا إلى روبيل فأخبره يونس بما أوحى الله إليه من نزول العذاب على قومه في شوال يوم الأربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشمس ، فقال له : ما ترى ؟ انطلق بنا حتى أعلمهم بذلك ، فقال له روبيل : ارجع إلى ربك رجعة نبي حكيم ، ورسول كريم ، واسأله أن يصرف عنهم العذاب فإنه غني عن عذابهم ، وهو يحب الرفق بعباده وما ذلك بإصر لك عنده ، ولا أسرى لمنزلتك لديه ، ولعل قومك بعد ما سمعت ورأيت من كفرهم وجحودهم يؤمنون يوما فصابرهم وتأناهم ، فقال له تنوخا : ويحك يا روبيل ما أشرت على يونس وأمرته به بعد كفرهم بالله وجحدهم لنبيه وتكذيبهم إياه وإخراجهم إياه من مساكنه وما هموا به من رجمه، فقال روبيل لتنوخا : اسكت فإنك رجل عابد لا علم لك ، ثم أقبل على يونس فقال : أرأيت يا يونس إذا أنزل الله العذاب على قومك أنزله فيهلكهم جميعا أو يهلك بعضا ويبقي بعضا ، فقال له يونس : بل يهلكهم جميعا وكذلك سألته ما دخلتني لهم رحمة تعطف فأراجع الله فيهم وأسأله أن يصرف عنهم ، فقال له روبيل : أتدري يا يونس لعل الله إذا أنزل عليهم العذاب فأحسوا به أن يتوبوا إليه ويستغفروا فيرحمهم فإنه أرحم الراحمين، ويكشف عنهم العذاب من بعد ما أخبرتهم عن الله تعالى أنه ينزل عليهم العذاب يوم الأربعاء فتكون بذلك عندهم كذابا ، فقال له تنوخا : ويحك يا روبيل لقد قلت عظيما يخبرك النبي المرسل أن الله أوحى إليه أن العذاب ينزل عليهم ، فترد قول الله تعالى وتشك فيه ، وفي قول رسوله اذهب فقد حبط عملك ، فقال روبيل لتنوخا : لقد فسد رأيك ثم أقبل على يونس فقال : أنزل الوحي والامر من الله فيهم على ما أنزل عليك فيهم من إنزال العذاب عليهم ، وقوله الحق أرأيت إذا كان ذلك فهلك قومك كلهم وخربت قريتهم أليس يمحو الله اسمك من النبوة وتبطل رسالتك وتكون كبعض ضعفاء الناس ، ويهلك على يدك مأة ألف من الناس ؟ فأبى يونس أن يقبل وصيته فانطلق ومعه تنوخا إلى قومه فأخبرهم أن الله أوحى إليه أنه منزل العذاب عليهم يوم الأربعاء في شوال وسط الشهر بعد طلوع الشمس فردوا عليه قوله وكذبوه وأخرجوه من قريتهم إخراجا عنيفا . فخرج يونس ومعه تنوخا من القرية وتنحيا عنهم غير بعيد ، وأقاما ينتظران العذاب وأقام روبيل مع قومه في قريتهم حتى إذا دخل عليه شوال صرخ روبيل بأعلى صوته في رأس الجبل إلى القوم أنا روبيل الشفيق عليكم الرحيم بكم إلى ربه قد أنكرتم عذاب الله هذا شوال قد دخل عليكم وقد أخبركم يونس نبيكم ورسول ربكم أن الله أوحى إليه أن العذاب ينزل عليكم في شوال في وسط الشهر يوم الأربعاء بعد طلوع الشمس ، ولن يخلف الله وعده رسله . فانظروا ماذا أنتم صانعون ؟ فأفزعهم كلامه فوقع في قلوبهم تحقيق نزول العذاب فأجفلوا نحو روبيل ، وقالوا له : ماذا أنت مشير به علينا يا روبيل ؟ فإنك رجل عالم حكيم لم نزل نعرفك بالرقة علينا والرحمة لنا ، وقد بلغنا ما أشرت به على يونس فمرنا بأمرك وأشر علينا برأيك ، فقال لهم روبيل : فإني أرى لكم وأشير عليكم أن تنظروا وتعمدوا إذا طلع الفجر يوم الأربعاء في وسط الشهر أن تعزلوا الأطفال عن الأمهات في أسفل الجبل في طريق الأودية ، وتقفوا النساء في سفح الجبل ، ويكون هذا كله قبل طلوع الشمس فعجوا عجيج الكبير منكم والصغير بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله والتوبة إليه والاستغفار له ، وارفعوا رؤوسكم إلى السماء ، وقولوا : ربنا ظلمنا وكذبنا نبيك وتبنا إليك من ذنوبنا وإن لا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين المعذبين ، فاقبل توبتنا وارحمنا يا أرحم الراحمين ، ثم لا تملوا من البكاء والصراخ والتضرع إلى الله ، والتوبة إليه حتى توارى الشمس بالحجاب أو يكشف الله عنكم العذاب قبل ذلك ، فأجمع رأي القوم جميعا على أن يفعلوا ما أشار به عليهم روبيل ، فلما كان يوم الأربعاء الذي توقعوا العذاب تنحى روبيل عن القرية حيث يسمع صراخهم ويرى العذاب إذا أنزل ، فلما طلع الفجر يوم الأربعاء فعل قوم يونس ما أمرهم روبيل به فلما بزغت الشمس أقبلت ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير وحفيف فلما رأوها عجوا جميعا بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله وتابوا إليه واستغفروه ، وصرخت الأطفال بأصواتها تطلب أمهاتها ، وعجت سخال البهائم تطلب الثدي ، وسعت الانعام تطلب الرعا فلم يزالوا بذلك ، ويونس وتنوخا يسمعان صيحتهم وصراخهم ويدعوان الله بتغليظ العذاب عليهم ، وروبيل في موضعه يسمع صراخهم وعجيجهم ويرى ما نزل وهو يدعو الله بكشف العذاب عنهم ، فلما أن زالت الشمس وفتحت أبواب السماء وسكن غضب الرب تعالى رحمهم الرحمن ، فاستجاب دعاءهم ، وقبل توبتهم ، وأقالهم عثرتهم ، وأوحى إلى إسرافيل أن اهبط إلى قوم يونس فإنهم قد عجوا إلى بالبكاء والتضرع وتابوا إلي واستغفروني فرحمتهم وتبت عليهم وأنا الله التواب الرحيم ، أسرع إلى قبول توبة عبدي التائب من الذنب ، وقد كان عبدي يونس ورسولي سألني نزول العذاب على قومه وقد أنزلته عليهم وأنا الله أحق من وفى بعده وقد أنزلته عليهم ولم يكن اشترط يونس حين سألني أن أنزل عليهم العذاب أن أهلكهم فاهبط إليهم فاصرف عنهم ما قد نزل بهم من عذابي فقال إسرافيل : يا رب إن عذابك قد بلغ أكنافهم وكاد أن يهلكهم وما أراه إلا وقد نزل بساحتهم فإلى أين أصرفه فقال الله كلا إني قد أمرت ملائكتي أن يصرفوه ولا ينزلوه عليهم حتى يأتيهم أمري فيهم ، وعزيمتي فاهبط يا إسرافيل عليهم واصرف عنهم ، واصرف به إلى الجبال وناحية مفاض العيون ، ومجاري السيول في الجبال العاتية العادية المستطيلة على الجبال فأذلها به ولينها حتى تصير ملتئمة حديدا جامدا فهبط إسرافيل ونشر أجنحته فاستاق بها ذلك العذاب حتى ضرب بها تلك الجبال التي أوحى الله إليه أن يصرفه إليها ، قال أبو جعفر عليه السلام : وهي الجبال التي بناحية الموصل اليوم فصارت حديدا إلى يوم القيامة ، فلما رآى قوم يونس أن العذاب قد صرف عنهم هبطوا إلى منازلهم من رؤوس الجبال وضموا إليهم نساءهم ، وأولادهم وأموالهم وحمدوا الله على ما صرف عنهم ، وأصبح يونس وتنوخا يوم الخميس في موضعهما الذي كانا فيه لا يشكان أن العذاب قد نزل بهم وأهلكهم جميعا لما خفيت أصواتهم عنهما ، فأقبلا  ناحية القرية يوم الخميس مع طلوع الشمس ينظران إلى ما صار إليه القوم ، فلما دنوا من القوم واستقبلهم الحطابون والحمارة والرعاة بأعناقهم ونظروا إلى أهل القرية مطمئنين ، قال يونس لتنوخا : يا تنوخا كذبني الوحي وكذبت وعدي لقومي لا وعزة ربي لا يرون لي وجها أبدا بعد ما كذبني الوحي فانطلق يونس هاربا على وجهه مغاضبا لربه ناحية بحر أيلة متنكرا فرارا من أن يراه أحد من قومه فيقول له : يا كذاب فلذلك قال الله : (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ) ، الآية ورجع تنوخا إلى القرية فلقى روبيل ، فقال له : يا تنوخا أي الرأيين كان أصوب وأحق أرأيي أو رأيك ؟ فقال له تنوخا : بل رأيك كان أصوب ولقد كنت أشرت برأي العلماء والحكماء ، وقال له تنوخا : أما إني لم أزل أرى إني أفضل منك لزهدي وفضل عبادتي حتى استبان فضلك لفضل علمك ، وما أعطاك ربك من الحكمة مع التقوى أفضل من الزهد والعبادة بلا علم ، فاصطحبا فلم يزالا مقيمين مع قومهما ، ومضى يونس على وجهه مغاضبا لربه فكان من قصته ما أخبره الله به في كتابه فآمنوا فمتعناهم إلى حين ، قال أبو عبيدة : قلت لأبي جعفر عليه السلام : كم كان غاب يونس عن قومه حتى رجع إليهم بالنبوة والرسالة فآمنوا به وصدقوه ؟ قال : أربعة أسابيع سبعا منها في ذهابه إلى البحر ، وسبعا في بطن الحوت ، وسبعا تحت الشجرة بالعراء ، وسبعا منها في رجوعه إلى قومه ، فقلت له : وما هذه الأسابيع شهورا أو أيام أو ساعات ؟ فقال : يا أبا عبيدة إن العذاب أتاهم يوم الأربعاء في النصف من شوال وصرف عنهم من يومهم ذلك فانطلق يونس مغاضبا فمضى يوم الخميس سبعة أيام في مسيره إلى البحر ، وسبعة أيام في بطن الحوت ، وسبعة أيام تحت الشجرة بالعراء ، وسبعة أيام في رجوعه إلى قومه ، فكان ذهابه ورجوعه ثمانية وعشرين يوما ، ثم أتاهم فآمنوا به وصدقوه واتبعوه فلذلك قال الله : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) .

وعنه عليه السلام : إن يونس لما أذاه قومه دعا الله عليهم فأصبحوا أول يوم ووجوههم صفر ، وأصبحوا اليوم الثاني ووجوههم سود ، قال : وكان الله واعدهم أن يأتيهم العذاب حتى نالوه برماحهم ففرقوا بين النساء وأولادهن ، والبقر ، وأولادها ، ولبسوا المسوح والصوف ، ووضعوا الحبال في أعناقهم والرماد على رؤوسهم وضجوا ضجة واحدة إلى ربهم ، وقالوا : آمنا بإله يونس فصرف الله عنهم العذاب ، وأصبح يونس وهو يظن أنه هلكوا فوجدهم في عافية .

وفي العلل : عن الصادق عليه السلام أنه سئل لأي علة صرف الله العذاب عن قوم يونس وقد أظلهم ولم يفعل كذلك بغيرهم من الأمم ؟ قال : لأنه كان في علم الله أنه سيصرفه عنهم لتوبتهم ، وإنما ترك أخبار يونس بذلك لأنه عز وجل أراد أن يفرغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه وكرامته .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ 

1 - لسان العرب 12 : 378

 

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=901
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 12 / 31
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24