• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : منهج القرآن في الافادة والبيان .

منهج القرآن في الافادة والبيان

آية الله الشيخ محمد هادي معرفة

ان للقرآن في افادة معانيه منهجا يخصه، لا هو في مرونة اساليب كلام العامة، ولا هو في صعوبة تعابير الخاصة، جمع بين السهو لة والامتناع، وسطا بين المسلكين، سهلا في التعبير والادا، بحيث يفهمه كل قريب وبعيد، ويستسيغه كل وضيع ورفيع، وهو في نفس الوقت ممتنع في الافادة بمبانيه الشامخة، والادلا بمراميه الشاسعة، ذلك انه جمع بين دلالة الظاهر وخفا الباطن، في ظاهر انيق وباطن عميق.

قال رسول اللّه (ع): (وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة) (1).

(فما من آية الا ولها ظهر وبطن)، كما في حديث آخر مستفيض (2)، فهناك عبارات لائحة يستجيد فهمهاالعامة فهما كانت لهم فيه قناعة نفسية كاملة، ولكنها إلى جنب اشارات غامضة كانت للخاصة، فيحلوا من عقدها، ويكشفوا من معضلها، حسبما أوتوا من مهارة علمية فائقة.

وبذلك قد وفق القرآن في استعمالاته للجمع بين معان ظاهرة واخرى باطنة، لتفيد كل لفظة معنيين أومعاني متراصة، وربما مترامية حسب ترامي الاجيال والازمان، الأمر الذي كان قد امتنع حسب المتعارف العام، فيماقال الاصوليون: من امتناع استعمال لفظة واحدة وارادة معان مستقلة لكن القرآن رغم هذا الامتناع نراه قداستسهله، واصبح منهجا له في الاستعمال.

كان ممن سلف من الاصوليين من يرى امتناع استعمال اللفظ وارادة معنيين امتناعا عقليا، نظرا إلى ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى، بل جعله وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كانه الملقى، ولذا يسري اليه قبحه وحسنه وعليه فلايمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد، ضرورة ان لحاظه كذلك لايكاد يمكن الا بتبع لحاظ المعنى، فانيا فيه فنا الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه كيف يمكن ارادة معنى آخر كذلك في استعمال واحد، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه الأول في نفس الوقت هكذاجا في تقرير كلام العلامة الاصولي الكبير المحقق الخراساني (3).

وجا الخلف ليجعلوا من هذا الامتناع العقلي ممكنا في ذاته، وممتنعا في العادة، حيث لم يتعارف ذلك ولم يعهد استعمال لفظة وارادة معنيين مستقلين في المتعارف العام، فالاستعمال كذلك كان خلاف المتعارف حتى ولوكان ممكنا في ذاته، نظرا لان الاستعمال (استعمال اللفظة وارادة المعنى) انما هو بمثابة جعل العلامة من قبيل الاشارات والعلائم الاخطارية، فلا مانع عقلا من استعمال علامة لغرض الاخطارالى معنيين أواكثر، إذا كان اللفظ صالحا له بالذات، فيما إذا كان قد وضع لكلا المعنيين مشتركا لفظيا، أوامكن انتزاع مفهو م عام نعم لم يعهد ذلك في الاستعمالات المتعارفة.

الأمر الذي استسهله القرآن وخرج على المتعارف، وجعله جائزا وواقعا في استعمالاته (4) فقد استعمل اللفظة واراد معناها الظاهري، حسب دلالته الأولى، لكنه في نفس الوقت صاغ منه مفهو ما عاما وشاملا ثانيا، يشمل موارد اخر ليكون هذا المفهو م العام الثانوي هو الاصل المقصود بالبيان، والضامن لبقا المفاهيم القرآنية عامة وشاملة عبر الايام، وليست بالمقتصرة على موارد النزول الخاصة.

وكان المفهو م البدائي للاية، والذي كان حسب مورد نزولها الخاص، هو معناهاالظاهر، ويسمى ب (التنزيل) اما المفهو م العام المنتزع من الاية الصالح للانطباق على الموارد المشابهة، فهو معناها الباطن، المعبر عنه ب (التأويل)، وهذا المفهو م الثانوي العام للاية هو الذي ضمن لها البقا عبر الايام.

سئل الإمام أبوجعفر محمد بن علي الباقر(ع) عن الحديث المتواتر عن رسول اللّه (ع): (ما من آية الا ولهاظهر وبطن)، فقال: (ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يجئ، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلما جا شي منه وقع) (5).

وقال: (ظهرالقرآن: الذين نزل فيهم، وبطنه: الذين عملوا بمثل اعمالهم) (6).

واضاف (ع): (ولوان الاية إذا نزلت في قوم، ثم مات أولئك القوم، ماتت الاية، لما بقي من القرآن شي، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السمأوات والارض، ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أوشر) (7).

نعم كان العلم بباطن الاية، اي القدرة على انتزاع مفهو م عام صالح للانطباق على موارد مشابهة، خاصا بالراسخين في العلم، وليس يفهمه كل احد حسب دلالة الاية في ظاهرها البدائي.

والخلاصة: ان لتعابير القرآن دلالتين: دلالة بالتنزيل، وهو ما يستفاد من ظاهر التعبير، ودلالة اخرى بالتأويل، وهو المستفاد من باطن فحواها، وذلك بانتزاع مفهو م عام صالح للانطباق على الموارد المشابهة عبرالايام اذن اصبح القرآن ذا دلالتين: ظاهرة وباطنة، الأمر الذي امتاز به على سائر الكلام.

مثلا آية الانفاق في سبيل اللّه، نزلت بشان الدفاع عن حريم الاسلام، فكان واجبا على المسلمين القيام بهذاالواجب الديني، لياخذوا باهبة الأمر ويعدوا له عدته، ومنها بذل الاموال فضلا عن بذل النفوس هذا شي كان واجبا على عامة المكلفين انفسهم كل حسب امكانه، هذا ما يفهم من ظاهر الاية البدائي.

اما الفقيه النابه فيستفيد من الاية شيئا أوسع، يشمل كل ضرورات الدولة القائمة على اساس العدل، واحيا كلمة اللّه في الارض، فيجب بذل المال في سبيل تثبيت دعائم الحكم العادل والتشييد من مبانيه، فيجب دفع الضرائب المالية حسبما يقرره النظام، مستفادا من الاية الكريمة في باطن فحواها، اخذا بالتأويل حسب المصطلح.

وهكذا المستفاد من آية خمس الغنائم، وجوب دفع الخمس في مطلق الفوائد وارباح المكاسب، حسبما فهمه الإمام الصادق (ع) من الاية، اخذا بعموم الموصول، واطلاق الغنيمة على مطلق الفائدة.

وفي القرآن من هذا القبيل الشي الكثير، الأمر الذي ضمن للقرآن بقاه مع الخلود.

وجهة اخرى: ان للقرآن لغته الخاصة به، شان كل صاحب اصطلاح، فللقرآن اصطلاحه الخاص، يستعمل الفاظا وتعابير في معان ارادها بالذات، من غير ان يكون في اللغة أوفي سائر الاعراف دليل يدل عليه، لانه من اصطلاحه الخاص ولا يعرف الا من قبله ومن ثم كان القرآن ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كماجا في كلام الإمام امير المؤمنين (ع) (8).

ان في القرآن تعابير كثيرة لاتكاد تدرك معانيها الا إذا سبرت القرآن سبرا وفحصته فحصا، لتعرف مفاهيمها التي اصطلح عليها القرآن من القرآن ذاته، وليس من غيره اطلاقا.

هكذا ذهب سيدنا العلامة الطباطبائي (قدس سره) إلى ان الدلالة على مفاهيم القرآن، انما هي من ذات القرآن، وليس من خارجه ابدا، لانه تبيان لكل شي، وحاشاه ان لا يكون تبيانا لنفسه، فان القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا هو اصل التفسير المعتمد، وقد بنى تفسيره في الميزان على هذا الاساس (9).

مثلا: لفظة (الاذن) في الاستعمال القرآني، جا بمعنى: امكان التدأوم في التاثيرالحاصل وفق مشيئة اللّه وارادته الخاصة، اي تدأوم الافاضة من قبله تعالى، حيث التاثير في عالم التكوين، موقوف على اذنه تعالى، بان يفيض على عامل التاثير خاصيته التاثيرية، حالة التاثير، اي يديمها ولا يقطع افاضته عليه حينذاك، والا لما امكن لعامل التاثير ان يؤثر شيئا (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(10) تلك ارادته تعالى الحادثة، هي التي امكنت للاشيا تاثيرها وتاثرها في عالم الطبيعة، ولولاها لماامكن لعامل طبيعي ان يؤثر شيئا في عالم الوجود، وهذا هو المراد من تدأوم افاضته تعالى في عالم التكوين.

قال تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)(11) فلولا اذنه تعالى، اي تدأوم افاضة امكان التاثير من قبله تعالى - لما امكن لسحرهم ان يؤثر شيئا.

وذلك نظرا لان عوامل التاثير في عالم الوجود، انما هي متاثرة - في امكان تاثيرها - بتاثيره تعالى، إذ لا مؤثرفي الوجود الا اللّه، حيث الممكنات باسرها فقيرات في ذوات انفسها، فكما انها بذاتها محتاجة إلى افاضة الوجود عليها، كذلك اثرها في عالم الطبيعة امر ممكن، ومحتاج لافاضة الوجود عليه ففور ارادة التاثير يجب تدأوم افاضة امكان التاثير عليه حتى يتمكن من التاثير (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (12) اي بامكان التاثير الحاصل من قبله تعالى.

وهذا هو معنى (الاذن) في التكوين، حسب المصطلح القرآني، مستفادا من قوله تعالى: (وما تشاؤون الا ان يشا اللّه) (13).

وقد داب القرآن على اسناد الافعال الصادرة في عالم الوجود كلها إلى اللّه، سوا اكان فاعلها فاعلا ارادياكالانسان والحيوان، ام غير ارادي كالشمس والقمر، وليس ذلك الا من جهة انه المؤثر في تحقق الافعال مهماكانت، اختيارية ام غير اختيارية انه تعالى هو الذي اقدر الاشيا على فعل الافعال، وامدهم بالقوى، وافاض عليهم الاقدار بصورة مستديمة.

قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (14) اي انقلبت اهو اؤهم وابصارهم، وهم الذين أوجبوا هذا القلب.

وهكذا قوله: - (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) (15) بدليل قوله تعالى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) (16).

قال تعالى: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) (17) اي تتقلب اجسادهم ذات اليمين وذات الشمال، غير ان هذا التقلب كان باذنه تعالى، فصح اسناد الفعل اليه.

ولفظة (القلب) في القرآن الكريم، يعني: شخصيه الانسان الباطنة، ورا شخصيته هذه الظاهرة، وهي التي كانت منبعث ادراكاته النبيلة، واحاسيسه الكبرى الرفيعة، المتناسبة مع شخصيته الانسانية الكريمة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (18).

(يا ايها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان اللّه يحول بين المر وقلبه وانه اليه تحشرون) (19).

المراد ب (القلب) في هذه الاية، هي شخصية الانسان الكريمة إذا ما تمرد الانسان على قوانين الشريعة، فانه يصبح بهيمة لايعرف من الانسانية شيئا (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (20).

ولفظة (المشيئة) في القرآن، مصطلح خاص يراد بها الارادة الحادثة المنبعثة عن مقام حكمته تعالى، وليست مطلق الارادة.

فقوله تعالى: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(21).

كان المقصود: المشيئة وفق الحكمة، فيؤتى الملك من اقتضت حكمته تعالى، وينزع الملك ممن اقتضت حكمته.

وهكذا (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) (22)، اي من تقتضيه حكمتنا ان نرفعه، اي من كانت المقتضيات متوفرة في ذات نفسه، فالاقتضاء انما هو في ذاته، فهو محل صالح لهذه العناية الربانية، وليس اعتباطا أوترجيحا من غير مرجح، حيث الحكمة هي وضع الاشيا في مواضعها.

والدليل على ذلك، تذييل الاية بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فالحكيم لا يشا شيئا الا ما كان وفق حكمته، وليس مطلق المشيئة.

والتعابير من هذا القبيل كثيرة في القرآن، وانما هي مصطلحات قرآنية، لا تعرف الامن قبله، ليكون القرآن هو الذي يفس ر بعضه بعضا.

ومن المصطلح المتعارف في القرآن، اعتماده المعهو د من قرائن حالية، ليصدر احكاما في صورة قضاياخارجية - اشارة إلى المعهو د الحاضر حال الخطاب - وليست بقضايا حقيقية، حتى تكون الاحكام مترتبة على الموضوعات، متى وجدت واين وجدت هذه الظاهرة كثيرة الدور في القرآن الكريم، وربما زعم زاعم انهاقضايا حقيقية دائمة، وليست كذلك.

مثلا قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (23).

ليس المراد مطلق اليهو د، سوا من عاصر نبي الاسلام ام غيرهم، ولا مطلق من اشرك، ولا مطلق النصارى بل يهو د يثرب ممن عاصر نبي الاسلام، ومشركوقريش، ونصارى نجران، وقيل: وفد النجاشي ذلك العهد، لانها حكاية عن امة ماضية اسلم من اسلم منهم، وعاند من عاند.

فقد جا تعقيب الاية بقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (24).

وهذا نظير قوله تعالى عن المخلفين من الاعراب: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) (25) اشارة إلى خصوص من قعد عن الحرب ايام الرسول (ع).

وكذا (الناس) في قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) (26) حيث المراد بالناس الأول: هم المنافقون المرجفون من اهل المدينة، والناس الثاني: هم مشركوقريش رهطابي سفيان، بعد هزيمتهم من احد.

وهكذا قوله تعالى: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (27) المراد من عاصروا النبي من اهل الجفا والنفاق، كما في قوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) (28) وغيرذلك مما وقع هذا التعبير في مواضع من سورة براة (الايات: 90/97/98/99/101) حيث المقصود من الجميع: اعراب المدينة ومن حولها.

وجهة ثالثة: ايفاؤه بالوفرة الوفيرة من المطالب ومختلف المسائل، في اقصر تعابير وايسر كلمات، ربمايكون حجم المطالب اضعاف حجم الكلمات والتعابير والقرآن ملؤه ذلك، وهو من اختصاصه، ان يدلي بأوفرالمعاني في أوجز الالفاظ.

هذه سورة الحجرات على قصرها، وهي ثماني عشرة آية، تحتوي على اكثر من عشرين مسالة من امهات المسائل الإسلامية العريقة، نزلت بالمدينة، لتنظيم الحياة الاجتماعية العادلة وقد تعرض لها المفسرون ولا سيما المتاخرين بتفصيل، وتعرضنا لاكثرها في تفسيرناللسورة.

ومما جا فيها التعرض لقاعدة (اللطف) التي هي اساس الشرائع، ومسالة (الحب في اللّه والبغض في اللّه)التي هي اساس الايمان، في اقصر عبارة: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (29) فمن لطفه تعالى وعنايته بعباده ان مهد لهم اسباب الطاعة وقربها اليهم، ليتمكنوا من طاعة اللّه ويجتنبوا الفسوق والعصيان، وذلك بان زين الايمان والطاعة في قلوبهم، اي ابدى لهم زينة الايمان، بان رفع عن اعينهم غشا التعامي، كما انه تعالى كره اليهم العصيان بان اظهرقبحه في اعينهم فكرهو ه في ذات انفسهم فالمؤمن انما يطيع اللّه وهو محبب له الطاعة، ومن ثم فانه يقدم على الطاعة في وداعة وطمانينة ويسر، كما انه يجتنب المعاصي في يسر، لانه عن نفرة لها في نفسه.

وهذه هي قاعدة اللطف تمهيد ما يوجب قرب العباد إلى الطاعة وبعدهم عن المعصية، مستفادة من الاية الكريمة.

وشي آخر: مسالة (الحب في اللّه والبغض في اللّه) وهي اساس الايمان وصلب العقيدة، والباعث على الجد في العمل، ومن ثم قال الإمام الصادق (ع): (وهل الايمان الا الحب والبغض، ثم تلا الاية الكريمة) (30) وقد قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ) (31).

وامر ثالث مستفاد من الاية الكريمة: ان هدايته للناس كانت فضلا من اللّه ورحمة، ناشئة عن مقام فيضه القدوسي، وليس عن حق عليه سبحانه (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (32)، (وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (33).

فالانسان بذاته لا يستحق شيئا على ربه، وانما اللّه هو الذي تفضل على الانسان برحمته (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (34)، ومن ثم عقب سبحانه الاية بقوله: (فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (35).

وفي السورة اشارة إلى مسالة التعأون في الحياة الاجتماعية، جات في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (36).

وفيها الاشارة إلى مسالة (المسأواة) وان لا شعوبية في الاسلام، ولا عنصرية، ولا قومية، وان لا فضل لاحدعلى غيره اطلاقا، لا حسبا ولا نسبا، الا بفضيلة التقوى، وهو التعهد في ذات اللّه.

كما فيها الاشارة ايضا إلى مسالة (الاخوة الإسلامية) المتطلبة للايثار والتضحية، فوق قانون العدل والانصاف.

وفي القرآن كثير من عبارات يسيرة انطوت على مفاهيم ذات احجام كبيرة،.

كقوله تعالى في سورة الانفال: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (37) اشارة إلى مسالة (الأمربين الأمرين) وان لا جبر ولا تفويض، وهي من المسائل المذيلة ذات تفصيل طويل.

وكقوله تعالى في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (38) اشارة إلى مسالة (الاستطاعة) وان لا استقلال للعباد فيما يتصرفون من افعالهم الاختيارية.

والامثلة على ذلك كثيرة ومنبثة في القرآن الكريم، غير خفية على الناقد البصير.

وجهة رابعة: قد سلك القرآن في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكا، ينتفع به الجمهو ر، ويخضع له العلما، ومن ثم جا بتعابير يفهمها كل من الصنفين: الجمهو ر ياخذون بظاهر الكلام ويتصورون له من المعاني ما الفت بها اذهانهم في الامور المحسوسة، ويحسبون فيما ورا محسوسهم ما يشاكل المحسوس، ويقتنعون بذلك، ويستريح بالهم.

والعلما يعرفون حقيقة الحال التي جات في طي المقال، وياخذون بلطائف الاشارات وظرائف الكنايات التي مثلت لهم الحقيقة في واقع الأمر، بما يخضعهم له ويطمئنون اليه.

خذ لذلك مثلا قوله تعالى - تعبيرا عن ذاته المقدسة في عالم الكون: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) لما كان ارفع الموجودات في الحس هو النور، ضرب اللّه به المثال، وبهذا النحومن التصور امكن للجمهو ر ان يفهموا من الذات المقدسة موجودا اجلى واظهر فيما ورا الحس، يشبه ان يكون مثل النور في المحسوس شبهاما، ويقتنعون بذلك.

اما العلما فيرون من هذا التشبيه اقرب ما يكون تصورا من ذاته المقدسة، فليس في عالم المحسوس ما يكون على مثاله، وفي اخص أوصافه تعالى كالنور الذي هو ظاهر في نفسه، ومظهر لغيره، وليس شي في عالم المحسوس (المبصرات) الا ويكون ظهو ره بالنور، اما النور فهو ظاهر بنفسه وليس بغيره.

وكذا لا يكون - في عالم المحسوس - شي اكثر ظهو را وفي نفس الوقت اشد خفامن النور، ظاهر بثاره، خفي بكنهه وحقيقته.

وهذه هي نفس صفاته تعالى إذا ما لاحظنا حقيقة وجوده، القائم بذاته، المظهرلغيره، الذي خفيت حقيقته وظهرت آثاره، وهو اللّه جل جلاله، وعظمت كبرياؤه.

وهكذا نجد القرآن، في استدلالاته، قد جمع بين اسلوبين يختلفان في شرائطهما، هما: اسلوب الخطابة، واسلوب البرهان، ذاك اقناع للجمهو ر بما يتسالمون به من مقبولات القضايا ومظنوناتها، وهذا اخضاع للعلمابما يتصادقون عليه من أوليات ويقينيات ومن الممتنع في العادة ان يقوم المتكلم باجابة ملتمس كلا الفريقين، ليجمع بين المظنون والمتيقن، في خطاب واحد، الأمر الذي حققه القرآن بعجيب بيانه وغريب اسلوبه.

وقد بحثنا عن ذلك واتينا بامثلة عليه في مباحثنا عن الاعجاز البياني للقرآن (39).

وجهة خامسة: قد اكثر القرآن من انواع الاستعارة واجاد في فنونها، وكان لا بد منه وهو آخذ في توسع المعاني توسع الافاق، في حين تضايقت الالفاظ عن الايفا بمقاصد القرآن، لوقيدت بمعانيها الموضوعة لهاالمحدودة النطاق.

جا القرآن بمعان جديدة على العرب لم تكن تعهدها، وما وضعت الفاظها الا لمعان قريبة، حسب حاجاتها في الحياة البسيطة البدائية القصيرة المدى اما التعرض لشؤون الحياة العليا المترامية الابعاد، فكان غريبا على العرب الأوائل المتوغلة في الجاهلية الأولى.

ومن ثم لجا القرآن في افادة معانيه والاشادة بمبانيه إلى احضان الاستعارة والكناية والمجاز، ذوات النطاق الواسع، حسب ابداع المتكلم في تصرفه بها، والقدرة على الاحاطة في تصريف المباني والافادة بما يرومه من المعاني وقد ابدع القرآن في الاستفادة بها وتصريفها حيثما شا من المقاصد والاهداف، ولم يعهد له نظير في مثل هذه القدرة ومثل هذه الاحاطة، على مثل هذا التصرف الواسع الاكناف، الأمر الذي ابهر واعجب واتى بالاعجاز.

ولعل هذا هو السبب ايضا في عروض التشابه في لفيف من آيات الخلق والتكوين، نظرا لقصور الالفاظ عن الايفا بتلك المعارف الجليلة الواسعة الاكناف.

وبذلك اصبحت لغة القرآن - من هذه الجهة - ذات طابع خاص، حيث وفرة الاستعارة من النم ط الراقي، وعروض بعض التشابه بسبب هذا الشموخ والتعالي.

المصادر :

ـــــــــــــــــــــ

1- الكافي الشريف، ج2، ص 599.

2 ـ  رواه الفريقان راجع: تفسير العياشي، ج1، ص 11 وبحارالانوار، ج89 (ط بيروت)،ص 88  95.

3 ـ  هو المولى محمد كاظم الخراساني صاحب كفاية الاصول (راجع: حقائق الاصول للامام الحكيم، ج 1، ص 89  90).

4 - وذلك نظرا لاحاطته تعالى وشمول عنايته لجميع عباده ولايخفى ان المفهو م العام المنتزع من الاية، هو بنفسه معنى آخر مقصود مستقلا ورا ارادة المعنى الظاهري الأولي،فكل من المعنيين الظاهر والباطن مقصود بذاته، وليس مندرجا تحت الاخر، فهو من موضوع البحث وليس خارجا عنه، كما زعم.

5- بحارالانوار، ج89 (ط بيروت)، ص 94، رقم 47 و46.

6- المصدر نفسه،ص 97،رقم 64.

7- تفسير العياشي، ج1، ص 10 رقم 7.

8- نهج البلاغة الخطبة رقم 133.

9- راجع: مقدمة التفسير، ج1، ص 9.

10- التكوير/ 29.

11- البقرة / 102.

12- الاعراف / 58.

13- الانسان / 30.

14- الانعام / 110.

15- البقرة / 7.

16- البقرة / 88.

17- الكهف / 18.

18- ق / 37.

19- الانفال / 24.

20- الحشر/ 19.

21- آل عمران / 26.

22- الانعام / 83.

23- المائدة / 82.

24- المائدة / 83  86.

25- الفتح / 11.

26- آل عمران / 173.

27- التوبة /97.

28- التوبة / 101.

29- الحجرات / 7.

30- الكافي، ج2، ص 125 رقم 5.

31- آل عمران / 31.

32- البقرة / 64.

33- القصص / 86.

34- الاعراف / 43.

35- الحجرات / 8.

36- الحجرات / 13.

37- الانفال / 17.

38- الواقعة / 63.

39- راجع: التمهيد، ج5، ص 499 فصل (الاستدلال في القرآن).

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=892
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 12 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24