• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : تفسير سورة الحجرات .

تفسير سورة الحجرات

السيد محمّد علي السيد عبد الرؤوف

إن لسورة الحجرات.. أهميةً خاصة.. تعطيها موقعاً جليلاً، بين السور القرآنية.. فهي على قِصَرِها ـ إذ لم تتجاوز الثماني عشرة آية ـ تُبرِزُ العديد من الحقائق الكبيرة.. مبدئياً وتشريعياً.. والكثير من الأسس الثابتة لبناء الحياة في مجالاتها الخلقية والاجتماعية..

إنها واحدة من السور القرآنية الجليلة التي نزلت ـ كالكثير من السور المدنية ـ لرسم صورة النظام الاجتماعي المتكامل.. ولإِلقاء الضوء على الأسلوب الأخلاقي الذي على المجتمع البشري أن يسير عليه.. ويتعامل معه.. ذلك أن الإِسلام.. كمبدأ وعقيدة وكتشريع.. يمثل نظاماً شاملاً.. يتعامل بدقة مع كل قضايا الإنسان، محدداً لها الضوابط والحدود.. ومركزاً لها القواعد والأسس التي يقوم عليها البناء.. ومخططاً لها كل الأشكال الهندسية التي تحفظها وتحفظ توازنها واستقامتها.

ولعل أهمية السورة.. تكمن في رسمها للعديد من الحدود التي يقررها الإِسلام لساحة المسلم فرداً وجماعة ـ وهو يعيش عليها.

فهي تحاول القضاء على أسباب التصدع والاهتزاز في بناء الحياة.. عندما لا تُعالَج بطريقة تحديد الإِطار السليم، النظيف من كل ما قد يدخله وعندما لا تحاول الغاء عوامل الضياع والتفتت والانفلات فتحاول أولاً: تقنين طريقة التعامل مع القيادة الصالحة المتوازنة عندما يتعايش معها الفرد المسلم.. ويتحرك في إطارها.. لتخلق الرابط الوثيق مع تلك القيادة.. المتمثلة بخالق الحياة.. وبسفيره الرسول المعيَّن لها.. فتحدد آداب التعامل معها.. بالشكل الذي يحفظ لها قداستها.. ليحفظ لها ـ من خلال ذلك ـ قوة التأثير والفاعلية..

وتحاول ثانياً: تحديد العديد من الأساليب التي تحمل في داخلها الكثير من المفاهيم الرسالية..

التي تحفظ سلامة الحياة الاجتماعية.. فتحدد بعض النقاط الحساسة.. ـ في المجال السلوكي الاجتماعي ـ وفي مجال العلاقات القائمة بين الأفراد والمجتمعات.. عندما تتعايش.

وتحاول ثالثاً: إعطاء صورة الفرد المسلم الحق.. بالتمييز بين الإسلام والإِيمان وأن الرسالة انطلقت بالدرجة الأولى لخلق الإِنسان المؤمن.. الذي ينطلق في خطه من القناعة الإِيمانية الصادق.. وذلك برسم معالم الإِيمان الذي يرتفع كثيراً بالإِنسان عن مرتبة الإِسلام *** بمعناه اللغوي الصرف *** الذي يمثل مجرد التسليم للأمر الوارد.. فعن الإِمام الصادق (عليه السلام) (الإِيمان إقرار وعمل والإِسلام إقرار بلا عمل)(1) وعنه (عليه السلام) (الإِسلام يُحقن به الدم وتؤدّى به الأمانة وتستحل به الفروج والثواب على الإِيمان)(2) مما يوحي بأن الهدف هو الإِيمان والقناعة الباعثة على العمل لا مجرد التسليم ولو بدون إِقرار نفسي داخلي.

وتحاول رابعاً: رسم الصورة السليمة للمؤمن.. برسم أسس الإيمان ومعالمه وتحديد النقاط العاملة في تكوين شخصيته الإِسلامية الإِيمانية.

وتحاول أخيراً: بيان الفضل والإِنعام الإِلهي.. على الإِنسان.. بهدايته لايصاله إلى خط الإِيمان.. حين كان الله سبحانه يعطي المثل الحقيقي.. للعالِم المطلق.. والمالك للرؤية الدقيقة، الشاملة لكل واقع الإِنسان.

من هنا تكمن أهمية هذه السورة التي اخترناها، والتي نحاول أن نتعرّف على مفاهيمها ومعانيها ومقاصدها.

(بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ ـ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَى‏ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنّهُمْ صَبَرُوا حَتّى‏ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ...

يستهلّ سبحانه هذه السورة بالنداء المحبب المعبِّر عن انعدام المسافة الكبيرة الفاصلة بين المخاطَب وبين الله.. النداء الموحي بالقرب الكبير بين المؤمن وربّه.. الذي يعطي صورة الحب الذي يحمله الإِنسان لله سبحانه.. والتكريم الذي يوحي به الإِله لعبده حين يناديه بهذه الصفة (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا).

أسلوب التعامل مع القيادة

ثم يتوجه الخطاب الإِلهي للمؤمنين.. بالحديث عن الصورة التي تطبع العلاقة التعاملية مع القيادة التي يرتبط بها المؤمن.. قيادة الله سبحانه ـ وقيادة رسوله (صلّى الله عليه وآله).. وبالنتيجة كل قيادة تمثل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتخلفه في أوساط المؤمنين تمثيلاً حقيقياًٍ.. صورة الالتزام الكامل بالسير في ظل القيادة.. ووراءها.. انطلاقاً من القناعة بحكمة تلك القيادة.. وتوجهها لتحقيق ما فيه خيره وصالحه.. إنها تعطيهم صورة الأدب التعاملي مع القيادة.. (لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) إذ توحي للمؤمنين.. ان لا يتقدموا على هذه القيادة.. التي افترضوا صلاحها وعلمها.. وحكمتها ورحمتها.. لا يتقدمون عليها بقول أو فعل فيما يخص ذات الإنسان أو الحياة من حوله.. ولا يسبقونها باقتراح في قضية..

وقد أفاض المفسرون في بيان المراد بالتقديم.. كما ورد في تفسير ابن كثير ومجمع البيان وتفسير الرازي.. وغيرها.. وقد ذكر ابن كثير عدة احتمالات منها: لا تسرعوا بالأشياء بين يديه ـ أي قبله ـ بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور، حتى يدخل أنه في عموم الأدب الشرعي.. حديث معاذ حيث قال له النبي (صلّى الله عليه وآله) حين بعثه إلى اليمن.. بم تحكم..؟.. قال: بكتاب الله تعالى.. قال (صلّى الله عليه وآله): فإن لم تجد..؟.. قال: بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).. قال: فإن لم تجد..؟ قال: اجتهد رأيي.. فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ الله لما يرضي رسول الله..، لكن من الطبيعي أن يكون الاجتهاد بالرأي على أساس المقاييس الشرعية.. التي يقررها القرآن وتضعها السنة النبوية.. والتي لا تتنافى مع الأحكام العقلية الثابتة ومنها ما ورد عن ابن عباس.. لا تقدموا خلاف الكتاب والسنة ـ ومنها لا تتكلموا بين يديه.. ومنها لا تفتئتوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بشيء حتى يقضيه الله تعالى على لسانه.. ومنها.. لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم.. ومنها.. لا تدعوا قبل الإِمام.. ومنها.. لا تفترضوا عليه.. حيث أن أناساً كانوا يقولون.. لو أنزل في كذا كذا.. لو صح كذا.. فكره الله تعالى ذلك(3).

وذكر في مجمع البيان.. ما يقرب منه.. وان معناه لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله ولا تعجلوا به.. أو لا تقدموا أعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر الله ورسولُه به.. أولا تتكلموا قبل كلامه.. فلا تسبقوه بالجواب عندما يُسأل.. إذا كنتم في مجلسه.. أو لا تسبقوه بقول ولا فعل حتى يأمركم به(4)...

وقد ذكر كل قولٍ منسوباً إلى قائلٍ أو جماعة.. ولكن الذي توحي به الآية من خلال الأسلوب والنهج القرآني.. هو شمولية النهي لكل ما يمثل مخالفةً لله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) أو تقدماً عليه.. ولكل ما يمثل تصرفاً في قباله.. وبحضرته.. بما هو وجود مادي أو معنوي.. فإنه ممنوع.. لتنافيه مع لزوم التسليم لله سبحانه بكل ما يصدر عنه من قول أو فعل.. من خلال رسوله (صلّى الله عليه وآله).. قال في مجمع البيان (والأولى حمل الآية على الجميع فإن كل شيء كان خلافاً لله ورسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي الله ورسوله وذلك ممنوع)(5).

والذي يظهر من الآية أن معنى (بين يدي الله ورسوله) هو.. أمامهما أي بحضرتهما.. لأن ما بحضرة الإنسان هو بين يديه.. وهي تعبّر عن الحضور.. مع علوّ مرتبة أحد الحاضرَين عن الآخر.. كحضور العبد بين يدي سيده..

ويستمر التوجيه القرآني.. في مجال التركيز على الأدب مع القيادة.. بربط الموضوع بالله.. والتحذير من تجاوز هذا الأسلوب.. في التعامل مع القيادة.. في مجال الرسالة.. فيقول: (واتقوا الله..) أي في تعاملكم مع قيادتكم.. التي يفترض التزام توجهاتها.. وعدم التقدم عليها قولاً وفعلاً.. لا سيما حين تمثل العصمة عن الخطأ.. ليكون موقفاً لا مجال لتجاوزه.. مما يجعل تركه ذنباً ومعصية..

صُوَرُ القيادة

إن واقع الحياة يفرض فكرة القيادة. وهذه تتمثل في ثلاثة نماذج..

الأول: القيادة المعصومة عن الخطأ.. كقيادة الأنبياء والأوصياء.. ولابد من التعامل معها ـ كما ذكرنا ـ بالتزامها وعدم تجاوزها.. بأي شكل من أشكال التجاوز.

الثاني: القيادة الصالحة.. فكراً ومسلكاً.. مع كونها ممن يخطئ ويصيب ـ وهنا لابد من الالتزام بخطها حين تصيب في مجال الأحكام الشرعية.. أما حين العلم بخطئها فلابد من التنبيه والمناقشة.. وكذا في حالات احتمال الخطأ.. إلاّ إذا كان الاحتمال مبرّراً شرعاً.. كما في رأي المجتهد.. الذي إن أخطأ فله أجر.. وإن أصاب فله أجران.. فيجب التزام المقلِّد رأيَ المجتهد الذي يرجع إليه في أحكام الإِسلام والشريعة.. رغم تحقق احتمال الخطأ فيه.. لفرض معذورية المكلّف في التزامه برأيه.. عندما ينحصر طريقه للتكليف بهذا الرأي.. نظراً لضرورة التزام الجاهل برأي العالم.. كما جاء عن الإِمام الصادق (عليه السلام) في موضوع المتخاصمين.. (ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا***أي حديث أوصياء النبي (صلّى الله عليه وآله) عن النبي (صلّى الله عليه وآله) *** ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا.. فليرضوا به حكماً.. فإني قد جعلته عليكم حاكماً..)(6).

أما في غير الأحكام الشرعية.. كالقضايا العرفية.. والأمور الموضوعية الخارجية.. والتجريبية.. فلابد من المناقشة.. والتعرف على الواقع والحق.. لتحديد المسار..

الثالث: القيادة المنحرفة.. أياً كان شكل الانحراف.. وهنا لابد من التعامل معها بأسلوب الرفض.. صراحةً إن أمكن بدون نتائج سلبية للرفض، أو قلبياً وداخلياً.. إن لم يكن الرفض الصريح.. فإنّ رفض قيادات الضلال والانحراف الفكري والعملي ـ أساس لبناء المجتمع السليم.. والأمة الواعية.. وهذا هو ما يدعو إليه القرآن حين ينهى عن التحاكم إلى الطاغوت (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُروا بِهِ)(7) وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) (من تحاكم إليهم ـ أي السلطان والقضاة المنحرفين ـ في حقٍ أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت.. وما يحكم له فإنما يأخذه سحتاً.. وإن كان حقاً ثابتاً.. لأنه أخذه بحكم الطاغوت..)(8).

إن تقوى الله.. تفرض الالتزام بالله ورسوله.. وعدم تجاوز قولهما وخطهما.. ولا مجال للنفاق والكذب معهما.. فـ (إنّ الله سميع عليم) يسمع كل ما يصدر عن الإنسان من قول ويعلم ما تخفيه نفسه.. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(9).

رفع الصوت أمام النبي (صلّى الله عليه وآله)

وتستمر السورة بآياتها.. في تحديد النهج السلوكي الأدبي مع القيادة.. فتثير نقطةً أخرى.. حين تمنع عن واحد من سلبيات التخاطب بين الناس، فضلاً عن سلبيته إذا كان تخاطباً مع القيادة.. فكيف إذا تمثلت القيادة بالرسول (صلّى الله عليه وآله) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).

وهنا تكرر الآية النداء.. من خلال إثارة النزعة الإيمانية.. التي يحملها المسلم في داخله لتوحي له بضرورة التزامه بمستلزمات الإِيمان.. التي من ضروراتها حسن التعامل مع القيادة.. والتخاطب معها بالأسلوب المهذّب الهادئ.. بل التخاطب مع الناس بشكل عام.. إذ أن القرآن يشدد في بعض المواضع.. على التزام الأسلوب الهادئ في التعامل والتخاطب.. لأن رفع الصوت.. من تأثيرات حالة العنف التي يعيشها المتكلم غالباً.. وهي حالة يرفضها الإِسلام.. كخُلق وطريقة حياة.. حتى عندما يواجه الإِنسان أخطاء الآخرين معه.. وإساءتهم له.. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)(10)، فالإِسلام أراد للإِنسان أن يكون موضوعياً في تفكيره.. وفي معالجته للقضايا مع الآخرين.. انطلاقاً من أن هدوء الأسلوب.. أقرب لإِقناع الخصم.. بالرأي المطلوب إيصاله.. والفكرة المطلوب تبنّيها والدفاع عنها.. ثم إن العنف في أكثر الأحيان.. يثير العنف المقابل لدى الآخرين. وفضلاً عن كونه أسلوباً مؤذياً.. وانطلاقاً من هذا.. نهى القرآن عن رفع الصوت.. وأعطاه الصورة المقيتة، حين ذكر على لسان لقمان ما يعظ به ولده.. (واغضض مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(11).

.. إن خفض الصوت من آثار حالة الرفق التي يدعو إليها الإِسلام.. كما جاء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن طريق الإِمام الباقر (عليه السلام) ((أن الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانَه ولا نُزع عن شيء إلاّ شانه)) و((إنه لو كان الرفق خلقاً يُرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه))(12).

ولعل النهي عن رفع الصوت عند النبي (صلّى الله عليه وآله) ينطلق من تنافيه مع الحشمة والاحترام لمقامه ومن هنا نددت به الآية ومنعت عنه.

والذي يرويه البخاري عن عبد الله بن الزبير ـ كما ورد في تفسير ابن كثير(13) ـ أنها نزلت في الشيخين (رضي الله عنه) حين (قدم ركب من بني تميم إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال أبوبكر (رضي الله عنه) ـ مخاطباً النبي (صلّى الله عليه وآله) ـ أمِّر القعقاع ابن معبد.. وقال عمر (رضي الله عنه) أمِّر الأقرع بن حابس.. فقال أبوبكر.. ما أردت الاّ خلافي.. فقال عمر.. ما أردت خلافك.. فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت الآية).

المهم.. أن الآية تشير على جانب آخر من حالات الأدب مع الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومع القيادة الإِسلامية الشرعية فتفرض التعامل بأسلوب الاحترام والأدب إذ لابد من حفظ حرمة القيادة.. ليكون لها تأثيرها في الوسط الشخصي والاجتماعي.. فلا يتم التعامل معها.. بأسلوب التعالي عليها ولو من خلال رفع الصوت.. بالطريقة التي يتعامل بها الإنسان مع أمثاله ونظرائه من حيث الموقع الاجتماعي أو العلمي.. (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ).

كما أن الأسلوب الخارجي للتعامل.. يعكس حالة التأثّر النفسي بالقضية أو بصاحب القضية فإن من مؤشرات التقديس والتعظيم والاحترام للشخص.. غضّ الصوت والتزام جانب الهدوء واللياقة في حضرته.. ثم إنّه من الطبيعي.. أنّ تقديس الرسالة.. ينعكس عفوياً.. تقديساً للرسول، وتقديسه النفسي لابد أن ينطبع على السلوك والتعامل الخارجي معه..

ثم تشير الآية إلى نقطة أخرى..حين تحذّر من إهدار قيمة العمل الذي قدّمه الإِنسان بسوء التعامل مع القيادة المتمثلة بالرسول (صلّى الله عليه وآله).. وبعدم التزام هذا الجانب الأدبي وحين تحذّر من إحباط وإبطال الأجر والحسنات التي اكتسبها الفرد من خلال عمله الإِيماني المتقدّم فتقول (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي كراهة أن تحبط، لكي لا تحبط، والحبوط هو البطلان والإِسقاط الذي قد يحصل دون شعور من الإِنسان مما يعني تضييع الأجر والحسنات التي يحتاجها عندما يواجه حساب الله سبحانه.

ونتوقف قليلاً.. لنتساءل..

ما الذي يُحبط العمل الذي يقدّمه الإِنسان..؟

وما هو الرابط بين رفع الصوت.. وبين إحباط أيّ عمل يعمله الإِنسان لدى الله سبحانه؟

لكننا عندما نواجه المسألة.. نلحظ ـ كما أشرنا قبل قليل ـ أن رفعنا للصوت يمثّل مؤشراً يعكس الحالة النفسية التي نعيشها تجاه صاحب الفكرة وبالتالي تجاه الفكرة ذاتها.. ومن الطبيعي أنه عندما يكون صاحب الطرح رسولاً لله سبحانه.. يكون تقديس الفكرة تقديساً لصاحبها ـ أي الله ـ فعدم تقديسه.. ولو بعدم تقديس رسوله.. يعني عدم إعطاء الأهمية للفكرة.. وهذا يُحبط اجر الإِنسان.. إذ بمقدار ما يكون إخلاصه في داخل نفسه للشيء.. بمقدار ما يكون أجره وتقديره عليه.. بل إن النية هي التي تقوّم العمل.. هذا من جانب، ومن جانب آخر، قد يقوم الفرد بجهد يحصل من خلاله على نتائج معينة ولكنه يعود ليتصرف بأسلوب يؤدي إلى إسقاط كل تلك النتائج، ومن هنا ورد أن الابقاء على العمل، أشقّ من العمل ذاته.

فقد يقدّم المؤمن جهداً في طاعة ربه فتأتيه فترة أخرى ينهار فيها وينجرف مع التيار المنحرف ـ أويكفر.. فيلغي كل نتاج جهوده الإِيمانية التي قدمها أولاً فيُعامل لدى ربّه بعد ذلك معاملة الكفر أو الفسق والانحراف..

من هنا قد يقوم الفرد بالعمل مخلصاً فيه ثم يدخل الشيطان إلى نفسه من خلال تسريب حالة العُجْب أو إدخال عامل الرياء إلى نفسه.. فيُبطل ذلك العملَ وأجره وعلى هذا الأساس.. كان إغفال الجانب الأدبي مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مثل رفع الصوت بحضرته.. عاملاً في الاحباط..

نماذج يقدمها القرآن

وهنا تستمر الآيات في إعطاء صورة ـ كل فريق من الناس ـ حين يتعايشون مع القيادة وفي أجواء الرسالة والرسول (صلّى الله عليه وآله) بتقييم واقعهم وحالهم.. من خلال طريقة تعاملهم من القيادة ـ ذلك التعامل الذي يصنفهم.. ويحدد مواقعهم عند الله عزّ وجل.. فيعطي أولاً صورة المسلمين المتأدّبين مع القيادة.. (إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَى‏ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

لقد كان مظهر الأدب مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بغضّ الصوت.. معبِّراً عن حالة التقوى التي تعمر قلوبهم.. بل معبراً عن الفوز بالامتحان لدى الله ـ لأنه سبحانه عندما يتعامل مع الإنسان.. فهو يقيّمه من خلال نقطتين أساسيتين.. الأولى.. نقطة المظهر.. والعمل المطلوب تنفيذه.. ورسمه على الأرض.. (الثانية) نقطة (الداخل) أي القلب والنية والدافع الحقيقي.. لأنه هو الذي يُعطي العمل صورته الواقعية.. ومن هنا جاء في محكم الكتاب (أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ)(16).

ثم يُعطي ثانياً صورة المتجاوزين.. للخط الأدبي المطلوب مع قيادة الرسول (صلّى الله عليه وآله): (إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنّهُمْ صَبَرُوا حَتّى‏ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

إنه سبحانه يشير إلى أولئك الأعراب الذين مثّلوا حالة الجفاء والغلظة.. حين يدخلون المسجد فينادون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يعيش حياته العائلية.. في غرف بيته وحجراته.. أن اخرج إلينا يا محمد.. إنهم قوم من بني تميم جاؤوا إليه في العام التاسع للهجرة.. في جملة وفود كثيرة.. كانت تأتيه بعد فتح مكة ـ للدخول في الإِسلام.. فكانوا في أسلوبهم أعراباً جفاة.. فنادوا من وراء الحجرات.. المطلّة على المسجد باسلوبهم الخشن طالبين منه الخروج إليهم.. فكره النبي (صلّى الله عليه وآله) ذلك لما فيه من إزعاج وجفاء.. فنزلت الآية.. ناهيةً عن هذا التعامل مع القيادة الصالحة ـ ومع أهل الفضل والعلم والورع بشكل عام.. ومصرّحةً.. بضرورة الصبر احتراماً لحرمة القيادة.. موضحةً أن ذلك هو الأفضل والأسلم لهم في مجالَي الدنيا والآخرة.. وأنّه سبحانه سيغفر لهم ما بدر منهم في هذا المجال.. عندما يقفون أمام حدود اللياقة والأدب وعندما يعودون إلى تفكيرهم وعقولهم..

والحمد لله رب العالمين

ـــــــــ

1 و 2 ـ أصول الكافي، ج2، ص24.

3 ـ تفسير ابن كثير، ج4، ص205، وما بعدها.. بتصرف.

4 ـ مجمع البيان مجلد 5، ص 130 بتصرف ـ طبع صيدا.

5 ـ مجمع البيان، مجلد 5، ص 130.

6 ـ أصول الكافي، ج1، ص67.

7 ـ سورة النساء (60).

8 ـ أصول الكافي، ج1، ص67.

9 ـ سورة ق (16).

10 ـ سورة المؤمنون (96).

11 ـ سورة لقمان (19).

12 ـ أصول الكافي، ج2، ص119.

13 ـ تفسير ابن كثير، ج4، ص206.

14 ـ سورة الكهف (110).

15 ـ سورة الاسراء (93).

16 ـ سورة العنكبوت (2).

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=854
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 12 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24