• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : مناهج وأساليب القصص القرآني .
                    • الموضوع : النموذج القرآني في قصّة طالوت .

النموذج القرآني في قصّة طالوت

في البداية نذكّر إنّ منهجنا في التفسير يعتمد على الروايات التي وردت في ذيل الآيات مفسّرة لها، والتي يصنّف قسم كبير منها في حقل التأويل، والآخر لمعالجة الظهور الابتدائي. وبما أنّ التأويل له صلة بمنصّة الظهور وقد أَلفتَتَ الكثير من الروايات إلى كيفية ذلك ـ صرنا في صدد التعرّف على الظهور الثاني بتوسّط الظهور الأوّل ببركة الروايات.

وهناك رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تلفت إلى أنّ قصّة طالوت التي قصّها القرآن هي لضرب المثل للإمامة، وأنّها فيمن ولمن وممّن تكون.

ونبدأ الحديث بعرض سردي لقصّة طالوت وتجميع مفرداتها ثمّ ننتقل إلى دراستها محورياً.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَـلاِ..}، الملأ لغة: وجوه القوم وأعيانهم، فإنّه بهم تملأ العين، أو مجلس البلد وندوته.

{مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى..}، في الروايات بعده خمسمائة سنة.

{نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..}، جالوت القبطي كما في الروايات وما يأتي في الآيات، حيث كان مستعمِراً لبعض أراضي بيت المقدس، ويبدو من الآية أنّهم كانوا يفتقدون الملك القوي المدبّر.

{لِنَبِيّ لَهُمُ..} ظاهر في أنّه رسول; حيث يفترق النبيّ عن الرسول فيما إذا كان قد نبّأ لنفسه أو لأهله، وأمّا إذا كان مبعوثاً لأُمّة فهو رسول، هكذا ورد في الروايات، ومثله في الآيات: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}(1)، نعم ليس شرطاً في الرسول أن يكون صاحب شريعة; إذ يمكن أن يكون تابعاً لشريعة رسول قبله، والاصطلاح القرآني في جملة من استعمالاته في القرية والمدينة ليس بالعمران والحضارة المادّية وإنّما المدنية والتحضّر بالمعرفة الأديانية.

{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا..}، ظاهره في أنّه مغاير للنبوّة، حيث طلبوه من النبيّ، وأنّه غير انتخابي، وإنّما مجعول من الله تعالى، وأنّه أرفع منزلة من ذلك النبيّ; وإلاّ لما أمكن أن يحكم المفضول الفاضل.

ثمّ إنّنا نؤكّد مرّة أُخرى على أنّ الإمامة وإن كانت تستبطن الإيصال وأنّ لطف الله تعالى بالبشر ونعمته عليهم يتمّ بها فهي ضرورة، إلاّ أنّها ليست بالإلجاء الإعجازي التكويني، ومن ثمّ كان على المجتمع - كما ذكرنا في قصّة ذي القرنين - أن يبادر ويتحرّك تحت راية الإمام من أجل تحقيق الأغراض الإلهية المرتبطة بعموم المجتمع.

{إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا..}، فهذا الملك عهد إلهي خاصّ، وعبّر عنه القرآن الكريم ببعثة إلهية، فالإمامة بعثة إلهية أيضاً; لما تشمل من مقام غيبي لدني، والمبعوث من الله تعالى إماماً بالتالي يكون سفيراً وله سفارة إلهية تغاير سفارة النبوّة والرسالة.

فكون الإمامة سفارة إلهية وبعثة أصل قرآني، وليس بالانتخاب والتعيين من البشر، وطالوت من سلالة بنيامين أخ يوسف (عليه السلام) ومن ثمّ كان محور اعتراضهم; حيث كانوا يرون أنّ الملك منحصر فيهم وهم أبناء لاوا الأخ الأكبر ليوسف، وقد صاغ القرآن اعتراضهم: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}، وكان جواب النبيّ لهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ..} فالأمر بيده تعالى، لا أنّه يخضع للمقاييس العادية التي يتصوّرونها هم، وإنّما هو نصب إلهي لا ملك دنيوي، ومن ثمّ ستذكر الآيات اللاحقة معجزة هذا الملك، والآية والمعجز دليل على أنّ النصب تشريعي إلهي، فلابدّ أن يستجيب له البشر باختيارهم; وإلاّ حقّ عليهم العذاب.

{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}، يدلّ على أنّ المشيئة التكوينية أيضاً اقتضت أن يكون طالوت ملكاً، وكلتا المشيئتين مرتبطتان بالهداية الإيصالية، والتدبير الإلهي للأُمور الإجتماعية العامّة.

{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ..}، إخبار السماء لنبيّنا (صلى الله عليه وآله) باعتراض اليهود على نصب السماء شخصاً فكيف بنصب شخص ليس منهم، لبيان واحدة من أسرار عداء اليهود للإسلام، كما في الرواية عن الإمام عليّ (عليه السلام).

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ...}، تبين الآية المباركة ضرورة المعجزة في الإمامة - مع الالتفات إلى أنّ القرآن لم يعبّر عن المعجز إلاّ بالآية والبينة ونحوهما، والتعبير بالعجز اصطلاح كلامي - وأنّ النصّ لا يكون وحده في السنّة الإلهية، بل مع المعجزة والآية. وعندما نطالع تاريخ الشيعة مع أئمّتهم نلحظ أنّهم كانوا يتحرّون عن المعجز العلمي والعملي كشيء إضافي للنصّ.

{سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ..}، في الروايات: ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان، أو روح مخلوق من الله يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء كلّمهم وأخبرهم.

{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، يدلّ على أنّ الإمام وارث من سبقه، والتركة وإن كانت مادّية إلاّ أنّ لها سنخ ارتباط بالغيب، كعصى موسى وخاتم سليمان وقميص إبراهيم ويوسف، كما أنّ الآية تشير إلى أنّ الوراثة في بيوت الأنبياء، وأنّها ليست وراثة كسروية ترابية بل وراثة اصطفائية كما في قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض..}.

{تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ}، الحفظ الغيبي يدلّ على خطورة وعظم هذا المقام وعظم وخطورة مواريث الأنبياء، والتي هي الآن جميعها عند أهل بيت النبوّة عند خاتمهم المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

{إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ..}، فلا إلجاء جبري تكويني، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}، فارق طالوت وجنوده المكان.

{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَر}، يكشف عن علمه اللدني وإبلاغه إرادات الله التفصيلية لا بتوسّط النبيّ، فيدلّ على إمامته وأنّ الإمام يحيط علماً بالمشيئة والإرادة الإلهية التفصيلية، لا سيما وأنّ الإرادة منسوبة إلى الباري صرفاً، كما يكشف عن أنّ التدبير يُباشر من قبل الله تعالى، فالحاكم الأوّل هو تعالى، بل في جملة من مواقع حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) يسند إليه تعالى الحكم التفصيلي ولا يسند إلى الرسول، أي وإن كان بتوسّط الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما ألفتنا إلى ذلك مراراً -.

{فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}، ظاهر في أنّ الغاية من هذا الامتحان هو التولّي وعدمه، واستعراض القرآن له للإلفات إلى أنّ التولّي لصيق بالاعتقاد بالإمامة، بل هو في درجاته الأُولى، والوجه الآخر للإذعان والإيمان بالإمامة كما أوضحناه.

فالأُمّة الواحدة وحدتها على أساس التولّي وعدمه، فالملأ كانوا على شريعة موسى، إلاّ أنه لم يكف ذلك حتّى صُنّفوا إلى صنفين، من اتّبع الإمامة، ومن لم يتّبعها.

ولا يخفى أنّنا لحدّ الآن لاحظنا جملة من مقوّمات الإمامة وأبرز معالمها، وليكن تجميعها وضبطها بالشكل التالي:

أ - إنّ الإمامة بالنصب والبعثة الإلهية: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ}.

ب - إنّها اصطفاء: {اصْطَفَاهُ}.

ج - ذو علم متميز لدني: {بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ}.

د - التكامل الجسدي والقدرة اللدنيان: {وَالْجِسْمِ}.

هـ - من شأنه المعجزة: {آيَةَ مُلْكِهِ}.

و - وارث من سبقه: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ}.

ز - التولّي هو الوظيفة المطلوبة من الأُمّة بالنسبة لإمامها: {فَإِنَّهُ مِنِّي}.

{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً}، هو المتولّي، وبقانون لتركبنّ طبقاً عن طبق تعرف النتيجة في عالمنا الإسلامي، كذا ذكر القرآن الذي هو معجزة الإسلام، قرينة على أنّ ما حصل آنذاك سيحصل بعد.

{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، عرف المتولّي لطالوت بالذين آمنوا، وهذا هو الذي يدّعيه الشيعة من أنّ قضية الإمامة من أُصول الدين الإيمانية.

خاصّة مع الإلفات إلى أنّ الشرائع متطابقة فيما بينها على مستوى المعارف، بل هذا ليس محلّ للنسخ; لأنّه من أجزاء الدين الواحد للأنبياء لا من الشريعة التي يعرضها النسخ، نعم تتفاوت بينها بالإجمال والتفصيل.

{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}، المقام الذي كان لطالوت أُعطي لداود، ولم تبين هذه الآية نبوّته، وإنّما اقتصرت على: {آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}، ويظهر من الآية أن شجاعة وبأس داود في الله أهّلته لهذا المنصب، فإنّ ذكر الأوصاف قبل المنصب يدلّ على الأقلّ على التناسب بين الأمرين.

{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ}، سنّة إلهية أن يُدفع غيّ البعض بالبعض، وله مراتب أقصاها القتل، وقد طبّقت لدفع طالوت وجنوده لجالوت، وهو يعني أنّ صلاح الأرض يتحقّق بالإمامة، وبعبارة أدقّ: إنّ بالإمامة التي هي خلافة الله تعالى في الأرض ـ صلاح الأرض وتطهيرها من الغي والشرّ.

ثمّ يلحظ من مجموع الآيات المرتبطة بطالوت أنّ الإمامة لم تُعرَف إلاّ بالملك، (ملك التصرّف في الأُمور العامّة) كذا في آية: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمـًا}(2).

وعندما نراجع الروايات نراها تلفت إلى أنّ إبراهيم أحد الأربعة الذين بُعثوا بالسيف، إلاّ أنّه لم يعهد منه الإمارة، كذا بعض من جاء ذكرهم في الآية، ومن ثمّ كان التعبير: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمـًا} مورداً للتساؤل، وجوابه: أنّ الملك باصطلاح القرآن ذو جنبتين:

الأوّلى: تكوينية كالاصطفاء والعلم الخاصّ والسكينة وفصل الخطاب والمواريث، وهذه متوفّرة مكّن من الملك الظاهر في العلن أو لم يُمكّن، لكنه متمكّن من التصرّف في النظام الاجتماعي البشري بصور خفية متستّرة.

الثانية: التشريعية وهو الأخذ بزمام الأُمور، وهذا البعد قد أُلقي تنفيذه على عاتق الأُمّة، بأن تمارس دورها بإقدار الإمام وإيصاله سدّة الحكم الظاهر في العلن.

وقد عبّر عن الملك الذي مُنح لداود في آية أُخرى بالخلافة في الأرض: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ}(3).

وقد جاء في آية أُخرى أنّ الخلافة في الأرض سنّة إلهية ما دامت البشرية، كما نلحظ ذلك في آية من آيات سورة البقرة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً}، والذي طُبّق على آدم. وبالتالي سنخرج بنتيجة، هي أنّ الإمامة قانون تكويني إلهي وضعه الله للبشرية ما دامت في هذا العالم.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعد الرسل، ممّا يدلّ على وجود سنّة إلهية، وهي سنّة الاقتتال بين أتباع الرسول بعضهم مع البعض الآخر، ومن ثمّ استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب الجمل بهذه الآية.

{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}، تبين سرّ الاقتتال وخلفيته، وهو أيضاً {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، ومن هنا نعرف أنّ الاختلاف الحادث لا ينسجم مع اجتهاد كلّ من الفريقين وإصابته; وإلاّ لا معنى لتصنيف أحدهما فريق الإيمان والآخر فريق الكفر.

وبالإضافة إلى أنّه اختلاف مع البينة، فلا معنى للتأويل والاجتهاد.

ــــــــــــــــــــــــ

1- سورة يس 36: 13.

2- سورة النساء 4: 54.

3- سورة ص 38: 26.

المصدر : منقول من مركز الابحاث العقائدية

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=853
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 12 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29