• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : في رحاب سورة التوحيد .

في رحاب سورة التوحيد

الاستاذ عز الدين سليم

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصّمَد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

تمهيد:

هذه السورة المباركة سميت سورة التوحيد لانطوائها على عقيدة التوحيد لله عزّوجلّ دون غيرها من مبادئ الإسلام الحنيف، ودعيت بسورة الإخلاص لأن المتمسك بالحقائق الكبرى التي حملتها عن يقين واعتقاد يكون مؤمناً مخلصاً في إيمانه، وأنها سبيل الله إلى النجاة والخلاص في الآخرة لمن يتمسك بها عن يقين وصدق.

وتدعى هذه السورة الكريمة (نسبة الرب) أو (نسب الرب ونعته)، حيث روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: ((لكل شيء نسبة، ونسبة الرب سورة الإخلاص)).

فإن بعضاً من اليهود أو مشركي مكة جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسألوه أن ينعت لهم الله جلّ وعلا، ويصفه فقالوا: انسب لنا ربك، فلبث ثلاثاً لا يجيبهم، فأنزل الله عزّوجلّ: (قُل هُو الله أحد).

وفي هذا المعنى روايات كثيرة عند مختلف فرق المسلمين، وجماعاتهم.

هذا وتدعى هذه السورة أيضاً بـ (قل هو الله أحد) اعتماداً على ابتدائها بهذه الكلمات الأربع، الطافحة باليقين.

وحيث أن سورة الإخلاص تحمل نسبة الرب جلّ وعلا، فإنّ الأحاديث الشريفة قد تواترت عن المعصوم عليه الصلاة والسلام بأهميتها، ومكانتها العالية في ميزان الإسلام، والهدى، والعرفان..

وقد ورد الحث الأكيد على قراءتها، وتعاهد أمرها ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً، وهذه مصاديق من الأحاديث الشريفة حول ذلك:

فعن أبي الدرداء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:((أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟)) قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)).

وروي عن عائشة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم بـ (قل هو الله أحد)، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: ((سلوه لأي شيءٍ صنع ذلك)) فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((اخبروه أن الله يحبه)).

وورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) عن آبائه عليهم الصلاة والسلام: أن النبي (صلى الله عليه وآله) صلى على سعد بن معاذ، فقال: ((لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه سبعون ألف ملك، وفيهم جبرئيل، يصلون عليه، فقلت: يا جبرئيل بم أستحق صلاتكم عليه؟ قال بقراءة قل هو الله أحد، قائماً، وقاعداً، وراكباً، وماشياً، وذاهباً، وجائياً)).

وقد انطوت كتب التفسير، والسنن، وفضائل القرآن الكريم على أحاديث غاية في الأهمية تؤكد أهمية هذه السورة المباركة، ومكانتها، وعلو شأنها.

لماذا نزلت هذه السورة المباركة؟

ترتبط عملية نزول الآيات الكريمة بأحد عاملين: فأما أن تنزل الآيات المباركة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كبرنامج للهداية والتوجيه وتنوير العباد على شكل مبادرة دون أن تنتظر وقوع حوادث أو مشاكل تتطلب نزول الآيات، كما في حالة دعوة الناس لتوحيد الله عزّوجلّ وإثارة انتباههم إلى ما بثه الله عزّوجلّ من نعم، وآثار في هذا الوجود الرحيب، أو في حالة الحديث عن الآخرة، والجنة، والنار، ومهام الرسول، والرسالة، وأمثال ذلك. والعامل الثاني، لنزول الآيات الكريمة: هو وقع حوادث، أو مشاكل، أو استفسارات، أو تحديات للرسالة، والرسول (صلى الله عليه وآله)، والأمة، مما يتطلب أن تتنزل كلمات الله عزّوجلّ لمعالجة المواقف، والأحداث، والمشاكل، والتساؤلات.

وهذه الحالة التي تستدعي نزول الآيات من رب العالمين على رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تسمى أسباب النزول في مصطلح المسلمين.

فأسباب النزول ـ بناء على ذلك ـ قضايا وقعت في عصر البعثة الزاهر، فاستدعت نزول الآيات القرآنية لمعالجتها وإنارة الطريق بشأنها، وإزالة الملابسات إذا كانت هناك ملابسات حولها.

وسورة الإخلاص، صحيح أنها انطوت على أعظم مقومات الرسالة وهو (التوحيد) و(نسبة الرب)، وصفاته العليا، والمعاني التي صدعت بها، وأشرقت بها حروفها المباركة والتي هي حاجة، مركزية للرسالة، وأتباعها الذين لابد لهم من التشبع بروحها، ومواجهة المشركين بمضامينها العظيمة، إلاّ أن نزولها ـ كما يفيد تاريخ القرآن ـ قد تزامن مع تساؤلات الكفار والمشركين، من أنماط مختلفة، وعلى شكل جماعات أو أفراد.

ونشير إلى بعض تلك التساؤلات التي سبقت نزول سورة الإخلاص، كما حكاها تاريخ نزول القرآن الكريم:

ـ عن أُبي بن كعب، وجابر بن عبد الله الأنصاري: أن المشركين، قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): انسب لنا ربك، فنزلت السورة.

ـ وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام): ((أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا: انسب لنا ربك، فلبث ثلاثاً لا يجيبهم، ثم نزلت هذه السورة)).

ـ وفي رواية عن قتادة، والضحاك، أن أحباراً من اليهود سألوا النبي(صلى الله عليه وآله) ذلك.

ـ وعلى قول: إنّ عبد الله بن سلام سأل النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك.

ـ وقيل: أنّ السائل كان عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة وهناك روايات أخر.

ويبدو أن الاختلاف في زمان نزول السورة ومكانها هو الذي تسبب في اختلاف أقوال المفسرين بشأن هذا النزول ومكانه، حيث قال بعض: إنّها مكية، وقال بعض آخر: إنّها مدنية اعتماداً لكل من الرأيين على بعض الآثار دون بعض... فمنهم من يميل إلى أن الّذين سألوا النبي (صلى الله عليه وآله)عن نسبة الرب كانوا نفراً من قريش ـ كما هو رأي ابن عباس (رضي الله عنه) وآخرين، فذهبوا إلى أن السورة نزلت في مكة.

ومنهم من قال إلى أن الّذين جادلوا النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا فريقاً من اليهود، فوجدوا ذلك أمارة على أن السورة (مدنية) وتجدر الإشارة إلى أن بعضاً ممن روى أن السائل كان عبد الله بن سلام ذكر أيضاً أنّه سأل النبي (صلى الله عليه وآله) في مكة ، فأسلم بعد نزول السورة، إلاّ انه كتم إسلامه فأظهره بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة.

وقفة أمام المضامين:

إنّ أهم أمر حرصت "سورة الإخلاص" المباركة على إرساء قواعده في فكر الإنسان المسلم، وعقله وضميره، هو أحدية الله عزّوجلّ في وجوده، فليس هناك حقيقة إلاّ حقيقته، وكل موجود إنّما يستمد وجوده منه، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة العظمى الأحدية الصمدية، فلا يشاركه أحد في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله تعالى الله علواً كبيراً، وما يملكه أحد من خلقه من شيء إنّما هو مستمد من الله عزّوجلّ، يفيض من فضله على من يشاء بما يشاء.

ثم إنّ أحدية الله عزّوجلّ، ليست في إطار ذاته ووجوده عزّوجلّ فحسب، وإنّما أحدية الفاعلية كذلك، فليس أحد سواه فاعلاً لشيء في هذا الوجود أو فاعلاً فيه دون أن يفيض عليه الله عزّوجلّ من فضله، سواء أكان ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو غيرهما.

إن استعمال القرآن الكريم للفظة (أحد) فيها كلّ تلك الدلالات المباركة المذكورة دون لفظة (واحد).

(أحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد غير أن الأحد إنّما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً ولذلك لا يقبل العد، ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد فأن كلّ واحد له ثان وثالث و...أما خارجاً وأما ذهناً بتوهم، أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيراً، وأما الأحد فكل ما فرض له ثانياً كان هو هو لم يزد عليه شيء).

(وإنّما قال (أحد) ولم يقل واحد لأن الواحد يدخل في الحساب ويضم إليه أخر وأما الأحد فهو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته، ولا في معنى صفاته، ويجوز أن يجعل للواحد ثانٍ ولا يجوز أن يجعل لأحد ثانياً لأن الأحد يستوعب جنسه بخلاف الواحد ألا ترى انك لو قلت فلان لا يقاومه واحد جاز أن يقاومه اثنان، ولما قلت لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان، ولا أكثر فهو أبلغ).

وإذا كان الله عزّوجلّ هو الموجد لكل موجود، فكل ذي وجود محتاج إليه ومتوجه إليه، وسائر نحوه، الأمر الذي تفيده لفظة (الصمد)، وما أجمل هذه اللفظة، وما أدقها، وأعلاها شأناً فلكي تنسجم في عطائها مع (الأحدية) المطلقة لله عزّوجلّ كانت (صمد) محلاة بالألف واللام لينحصر كلّ عطاء به جلّ وعلا، وينحصر احتياج الخلق إليه دون سواه.

ومن أجل ذلك، فأن مدلول "الصمد" لغة، القصد مع الاعتماد، ومهما تكاثرت معاني (الصمد) إلاّ أنها تنتهي إلى منبع واحد، ومآل واحد.

فالصمد هو السيد المصمود إليه، المقصود في الحوائج كلها. وهكذا فإن كلّ شيء قائم بالله مستند إليه، ومستلهم منه وجوده وحاجته، مفتقر في وجوده إليه: (ألا له الخلق والأمر) ( وان إلى ربك المنتهى) (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كلّ شيء قدير) وقد ورد عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من التوحيد، فقال: ((أن الله تباركت أسماؤه التي يدعى بها وتعالى في علو كنهه واحد، توحد بالتوحيد في علو توحيده، ثم أجراه على خلقه. فهو واحد، صمد، قدوس، يعبده كلّ شيء ويصمد إليه كلّ شيء، ووسع كلّ شيء علما)).

وعن داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) وهو أبو جعفر الجواد: جعلت فداك ما الصمد؟ قال:((السيد المصمود إليه في القليل والكثير)).

وبعد أن أثبتت السورة المباركة حقيقة الوحدانية لله عزّوجلّ في آيتين منها، نفت في نصفها الآخر ما لا ينسجم مع الوحدانية، ويضادها.

فإذا كان من مقتضيات وحدانية الله عزّوجلّ: الأحدية والصمدية كمقومات أساسية لمعنى التوحيد، فإن من الأمور التي تكون منفية بشكل مطلق أن الله سبحانه وتعالى لم يلد أحداً، ولم يلده أحد.

فهو جل وعلا لا يكون متولداً من شيء أو مشتقاً منه بأي صفة من صفات التولد، أو الاشتقاق، كما اعتاد المشركون عبر التاريخ أن يظنوا، كأن يتصوروا لله أبناء أو بنات مثلاً.

كما أن من خصائص هذه الوحدانية أن الله عزّوجلّ ليس له شريك في ملكه، في الخلق أو التدبير، كما ليس له مضاد في الملك، ولا منازع في الأمر، لا شبيه يشاكله، ولا ظهير يعاضده.

ولم يكن له كفواَ أحد?، فهو تعالى مستقل في الخلق وتدبير أمور خلقه، مستغن عمن سواه من خلقه، كفاءة في الذات والصفات والأفعال، لا يشاركه أحد في شيء من ذلك ولا يناظره، ولا يشبهه ((تعالى أن يكون له كفؤ، فيشبه به)).

وما أحسن وأوضح ما أدلى به سبط النبي الإمام أبو عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام في رسالة وجهها إلى أهل البصرة حين كاتبوه يسألونه عن ماهية الصمد، فقد حدث الإمام محمّد بن علي بن الحسين عن أبيه:((أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (عليه السلام) يسألونه عن الصمد فكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، وأن الله سبحانه قد فسر الصمد فقال: (الله أحد، الله الصمد) ثم فسره فقال: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) لم يخرج منه شيء كالوله وسائر الأشياء القذرة التي تخرج من المخلوقين، ولاشيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البدوات كالسنة، والنوم والخطرة والهم والحزن، والبهجة، والضحك، والبكاء، والخوف، والرجاء، والرغبة، والسآمة، والجوع، والشبع، تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولد منه شيء كثيف، أو لطيف.

ولم يولد؟ لم يتولد من شيء ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم.

والكلام من اللسان، والمعرفة، والتمييز من القلب. وكالنار من الحجر، لا بل هو الله الصمد الذي لا من شيء، ولا في شيء، ولا على شيء، مبدع الأشياء، وخالقها، ومنشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه فذلكم الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، ولم يكن له كفوا أحد)).

وهكذا، فالله جل وعلا "لم يوجد له مماثل أو مكافئ، لا في حقيقة الوجود، ولا في حقيقة الفاعلية، ولا في أية صفة من الصفات الذاتية. "لا يناظره شيء، ولا يشبهه، فذاته تعالى بذاته، ولذاته من غير استناد إلى غيره، واحتياج إلى سواه)).


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=807
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 11 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28