• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : مقالات المنتسبين والأعضاء .
                    • الموضوع : الادراكات الحسية والفسلجية في القرآن الكريم .

الادراكات الحسية والفسلجية في القرآن الكريم

سماحة السيد حكمت أسد الموسوي

 لفظ (الحسُّ) كما جاء في لسان العرب هو: (بكسر الحاء من أَحْسَسْتُ بالشيء حسَّ بالشيء يَحُسُّ حَسّاً وحِسّاً وحَسِيساً وأَحَسَّ به وأَحَسَّه شعر به... ويقال أَحْسَسْتُ الخبَرَ وأَحَسْتُه وحَسَيتُ وحَسْتُ إِذا عرفت منه طَرَفاً).

وقال في تاج العروس: (والحَوَاسُّ هي مَشاعرُ الإنسانِ الخمس : السمعُ والبصَرُ والشمُّ والذَّوْقُ واللمس جمعُ حاسَّةٍ وهي الظاهرة).

أما الادراك فقد جاء في اللغة: (الدَّرَكُ اللحَاق وقد أَدركه ورجل دَرَّاك مُدْرِك كثير الإدْراك وقلما يجئ فَعَّال من أَفْعَلَ يُفْعِل إلا أَنهم قد قالوا حَسَّاس دَرّاك).

عملية الإدراك الحسي :

الإِدْرَاك هو العملية التي نقوم من خلالها باستقبال وتفسير المعلومات في العالم حولنا، وتحتوي على أنواع ومستويات عديدة من الطاقات الجسمانية. وتأتي معرفتنا بالعالم عبر أعضاء الحس التي تستجيب لمؤثرات تلك الطاقات. هناك موجات معينة للإشعاع الكهرومغنطيسي تؤثر على عيوننا. وكذلك تحس آذاننا بأنواع معينة من الاهتزازات الميكانيكية في الهواء. وتُعتبر أنوفنا وألسنتنا حسّاسةً لمؤثرات كيميائية معينة، وأعضاء الحس في جلودنا تستجيب للضغط ولتغيرات درجة الحرارة بالإضافة إلى مؤثرات الألم العديدة. وأعضاء الحس في المفاصل والأوتار والعضلات حسَّاسَة لحركة الجسم ووضعه.

تقوم أعضاء الحس بتغيير الطاقات البيئية إلى شحنات عصبيَّة تتجه إلى الدماغ.

ومن خلال الطريقة النفسية للإدراك تصير أنماط هذه الطاقات معروفة على شكل أجسام وأحداث، وبقية مظاهر العالم الأخرى.

وعملية الإدراك الحسي لا تكشف الأحداث والأجسام المُدْرَكَةَ بالحواس للعالم. فنحن نرى الضوء واللون، بَيْدَ أنه لا يوجد ضوء أو لون فى الموجات الكهرومغنطيسية التي تُنبّه عيوننا. وبنفس الطريقة، لا يوجد صوت أو موسيقى في الاهتزازات التي تُنبِّه الأذن، إذ يقوم الدماغ بتنظيم وتفسير الشحنات العصبية الواردة من العين كضوء ولون، وتلك الواردة من الأذن كصوت. وتقوم أعضاء الحس والدماغ بتحويل الطاقة الجسمانية من منبِّهات بيئية إلى معلومات حول الأحداث من حولنا.

وعندما تنظر إلى الرسم على هذه الصفحة ربما ترى للوهلة الأولى نموذجًاً معقدًاً لمساحات مظلمة ومضيئة سوداء وبيضاء. وحين تتمعن في الرسم ربما تقوم بتغيير الإدراك الحسي الأول، أو إدراك النظرة الأولى خاصة إذا أخبرك أحد أن هناك رجلاً مُلْتَحِيًا بالصورة. وإذا رأيت الرجل بعد ذلك يكون مستحيلاً ألا تراه عندما تنظر إلى الصورة ثانية.

تؤكد هذه الصورة أمرين مهمين بشأن الإدراك، وهما:

أولاً: تنبيه أعضاء الحس فقط لا يُحدد طبيعة ما تم إدراكه.

ثانياً: الإدراك عملية حركية للعمل حول بيانات حسيّة ً وصولاً للأشياء والأحداث المدركة حسِّياً، ويشتمل العمل على عوامل جسمانية فِسْيُولوجِيّة ونفسيّة عديدة.

العوامل التي تؤثر على الإدراك :

هناك عوامل عديدة تؤثر على ما ندركه وكيفية إدراكه، وإدراكنا الحسي يتأثر بطريقة بنية أجسامنا لاستقبال ومعالجة المُنبًّهات البيئية. ويبرز إدراكنا الحسي أيضًا انفعالاتنا، واحتياجاتنا وتوقعاتنا وتَعَلُّمنَا.

المُسْتَقْبِلاَت:

إن كل جهاز حسي، مثل: البصر أو السمع أو اللمس، له أجزاء متخصصة فى الجسم تسمى المُستقبِلات، تقوم بتحويل الطاقات الآتية من البيئة إلى شحنات عصبية. فعين الإنسان مثلاً لها نوعان رئيسيان من المستقبِلات في الشَبَكِيَّة (الجزء الأكثر حساسية للضوء في العين) هما العصيات والمخاريط. وتستجيب العُصَيَّات لكثافة الضوء لا لترددات الضوء المختلفة (الألوان المختلفة)، بينما تستجيب المخاريط لترددات الضوء المختلفة وتُسمى مستقبِلات اللون. ولا تسمح العُصَيَّات لنا بالرؤية في الضوء المعتم، أما المخاريط فهي تمكننا من رؤية الألوان والتفاصيل الواضحة في الضوء الساطع، وبناء على ذلك فإن الطرق المعينة التي كونت وتعمل بها المستقبلات تساعد في تحديد آثار الإدراك الحسي المرتبطة بها.

الدماغ :

تحدد سمات وظيفية وعضوية معينة للدماغ بعض مظاهر الإدراك الحسّي. ويحمل ذلك الجزء من الدماغ الذي يخدم البصر أنواعاً مختلفة من الخلايا التي تستجيب فقط ـ في ظروف معينة ـ للمنبِّهات. وبعض هذه الخلايا تستجيب فقط عندما يختفي الضوء، وبعضها الآخر يستجيب عندما يظهر الضوء ولكنها تتوقف عن الاستجابة إذا استمر الضوء. وتترتب مثل هذه الخلايا أيضاً بطرق خاصة في الدماغ، وهذه الحقيقة تتصل بكيفية الإدراك الحسي. على سبيل المثال، تنتظم بعض الخلايا على شكل أعمدة أو عناقيد. وهذه الترتيبات تتعلق بكيفية إدراك الأطراف والحدود والأشكال، وتشير التجارب إلى أن بعض الخلايا في الدماغ تمكننا من إدراك الحركة. وبناء على ما سبق، فإن بنية الدماغ تعتبر عنصراً مهمًا في عملية الإدراك.

التَعَلّم والانفِعَال والدافع:

تَخْلُصُ أدلة وبراهين كثيرة إلى أن الخبرات السابقة والتعلُّم، والانفعالات والدوافع تعتبر مهمة في تعريف ما ندركه وكيفية إدراكه. ويأتي جزء من هذا الدليل التراكمي من التجارب التي تقارن كيفية إدراك الناس للأشياء بثقافاتهم المختلفة. وربما يختلف الإدراك الحسي للأشياء كاللون والشكل والألم واللمس من ثقافة لأخرى اعتمادًاً على الأعرَاف والعادات وتوجيه الأطفال.

ترتبط بعض الصور الخادعة بالتَعَلُّم والخبرة السابقة. إنَّ الصورة الخادعة ليست إدراكاً زائفًا كما يعتقد العديد من الناس، ولكنها غير مُتَسِقة أو مُتَنَاغِمَة مع إدراك حسي آخر.

وبما أنَّ الإدراك الحسي لا يكشف البيئة من الناحية الموضوعية، فليس هناك جهاز حسّ قريب إلى الحقيقة أكثر من أي جهاز آخر. إننا نرمي إلى فحص الخداع البصري عن طريق اللمس، ولكن اللمس يمكن أن يحتوي على تأثيرات خادعة أيضاً.

الانفعالات والدوافع:

يمكن أن يكون لها تأثير مهم على الإدراك الحسي. وفي بعض الأحيان يمكن للاضطراب العاطفي أو الانفعالي منع الإدراك كليَّاً، فعندما يصاب أحد الأفراد بصدمة عاطفية فإنه يمكن أن يفقد السمع مؤقتًاً، ومن المرجح أن ندرك تلك المظاهر البيئية التي ترتبط بدوافعنا. على سبيل المثال يمكن للدوافع أن تؤثر على الخصائص المدركة حسيًا للأشياء. بالنسبة للجَوْعَى فإن الطعام يبدو أكبر أو غَنِيًا بالألوان على غير العادة.

أنواع الإدراك :

للإدراك الحسي مفهوم ذو ثلاثة مستويات: 1- الكشف 2- التَعُّرف 3- التمييز.

الكشف يشير إلى ما إذا كان الناس قادرين على الإحساس بأنهم قد تأثروا بشكل من أشكال الطاقة. على سبيل المثال، ربما يكون الضوء معتمًا بحيث يكونون قادرين على كشف ظهوره بصعوبة. التعرف يعني القدرة على تعريف وكشف نمط معين من المنبهات. والتمييز يعني القدرة على إدراك نمط أو مُنبه واحد مختلف عن الآخر. على سبيل المثال، ربما يسمع الشخص اختلافات طفيفة بين نغمتين موسيقيتين متشابهتين.

ويقوم علماء النفس التَّجريبِيُّون بفحص العلاقات بين الخصائص الطبيعية لنماذج وأنماط المُنبِّه والتأثيرات المدركة للمُنبِّه. على سبيل المثال، ربما يقومون بدراسة العلاقة بين تردد الصوت ودرجة النغم للصوت الذي يتم إدراكه.

قواعد الإدراك :

هناك عدد من القواعد العامة تساعدنا في فهم طبيعة الإدراك الحسي. أحد المبادئ أو القواعد الأكثر أهمية هو مبدأ الإغلاق الذي يؤكد أن لدينا ميلاً أو نَزْعة عامة لإدراك الأشياء كاملة وموحدة. ونرمي إلى إضافة الأجزاء المفقودة أو تلك الأجزاء التي تتسق وتنسجم مع الانطباع العام.

توضح قاعدة الثَّبـَات، أنه برغم التغييرات التي تحدث في المنبِّه فإننا نحظى برغبة قوية لإدراك الأشياء في صورة ثابتة في حجمها وشكلها ولونها وخصائصها الأخرى. على سبيل المثال يتم إدراك البرتقال بلونه المميز تحت أنواع مختلفة من الضوء.

إن النقيض لمبدأ أو قاعدة الثبات يعتبر مهمًا أيضًا، إذ أنه في بعض الأحيان يبقى الشيء أو نمط المنبه ثابتاً ولكن الأثر المدرك حسيًا يختلف.

وقاعدة أخرى مهمة تتعلق بالبيئة الإدراكية. هي أن الإدراك الحسي للأشياء أو الأحداث يعتمد جزئيًا على البيئة المحيطة.

المعرفة والادراك في علم النفس والدين

ادراك الإنسان

إنّ موضوع ادراك الإنسان بشكل عام، هو من الموضوعات التي حظيت بالقبول في نظر الدين وفي نظر علم النفس السيكولوجي.

ففي الخلقة والتشريع، فإنّ الله سبحانه وتعالى قد هيّأ كافة الإمكانيات الإدراكية والمعرفية اللازمة لحياة الإنسان، حتى اعتُبرت هذه الإمكانيات جزء لا يتجزّأ من الحاجات الضرورية في الحياة.

إدراك الإنسان في القرآن الكريم

قال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا}.

وقال في إدامتها: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

حيث إنّ تعامل الإنسان مع الأشياء المجهولة والغير معروفة، يحدث فيه تغييرات ويترك فيه أثراً، ويمكنه أن يتقبلها. هذا هو أساس المعرفة.

الآيات في القرآن الكريم ذكرت الحس على نوعين: حاسة النظر، وحاسة السمع.

أمّا استعمالها لهاتين الحاستين فهو على نوعين أيضاً:

الأول: بمعنى الجهاز الحسي والعضوي، مثل: السَمْع و البَصَر.

الثاني: فعل هذا الجهاز: مثل: يَسْمعُ، يُبْصِرُ.

ولا نستطتيع القول إنّ القرآن الكريم لا يقبل ولا يعترف بالإدراكات الحسية.

أمّا بالنسبة لبقية الحواس مثل الحاسة اللامسة والشامة والذائقة، فقد ذكرت بشكل غير مباشر، كما في قصة يوسف (عليه السلام) في قوله تعالى:

{قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}

فإن شم الرائحة لم يأت بعنوان العضو الحسي لحاسة الشم، بل أتي على نحو فعل الشم.

وبالنسبة للسمع والبصر، فقد ذُكرا صريحاً على نحو العضو الحسي لهاتين الحاستين، قال تعالى:

{وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

أمّا استفادة المفسرين لذلك فهو على أنحاء:

1- المعرفة.

2- قناة الوصول للحقائق.

3- التمييز بين الحق والباطل.

لذا، فإنّ القرآن الكريم يعتبر الحواس بشكلها العامّ قناةً وطريقاً للمعرفة والعلم، ونرى ذلك واضحاً في قوله تعالى: {لا تَعْلَمُونَ} الذي جاء قبل قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ}.

وكذلك نرى ذلك في غيرها من الآيات الكريمة، وكمثال على ذلك قوله تعالى:

{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}.

{ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}.

{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}.

السمع والبصر في الآيات الكريمة

في القرآن الكريم نرى بوضوح تقديمه للسمع على البصر، كما مرّ علينا في الآيات السابقة أعلاه.

ويمكن أن نوجه سبب ذلك بتوجيهات عدّة ـ والله أعلم ـ ، منها:

1- أغلب علم البشر يأتي عن طريق حاسة السمع.

2- الأُذن لا يمكنها أن تقبل البديل ولا يمكننا الاستع عنها بشيء، بخلاف العين، حيث يمكن لفاقد حاسة البصر الاستعاضة عنها ـ وبشكل لا بأس به ـ بحاسة اللمس والقراءة باللمس لتلقي العلوم.

وذلك بالإضافة إلى أن الشخص الذي فقد حاسة السمع يصاب ـ أيضاً ـ بفقدان القدرة على الكلام ويصاب بالخرس.

3- توجد علاقة وارتباط قريب بين الأُذن وبقية الأعضاء الأخرى.

قال تعالى:

{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.

حيث إنّ السمع هنا ـ والله أعلم ـ هو بمنزلة التعقل.

واستخدم السمع في الروايات الشريفة أيضاً بمعنى إيصال الخطاب إلى أذن المخاطب.

وقريب منه قوله تعالى:

{رَّبَّنَا إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}.

{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}.

وأما في قوله تعالى:

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}.

والظاهر أنّ الطبع على القلوب في هذه الآية الكريمة ـ والله أعلم ـ يمكن تفسيره بالخطأ الإدراكي الذي يصيب الإنسان، فإنه يسمع ولكنه لا يسمع الحقيقية وما هو واقعي، بل يسمع غير الحقيقة وشيئاً مُحرفاً.

قال تعالى أيضاً:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

وأيضاً تطرقت الآيات الكريمة لموضوع تأثير الدوافع الباطنية على السمع والبصر، قال تعالى:

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}.

{إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} .

خصائص حاسة السمع وحاسة البصر :

يمكننا القول إنّ حاسة السمع لا يمكن أن نرى فيها وقفة أو استراحة مطلقاً، حتى في النوم.

في حال أنه في حاسة النظر، يمكننا أن نرى فيها عدداً من الأمور منها:

1- يقع فيها التوقف والاستراحة.

2- لها عدد من الشروط يجب توفرها فيها، حيث إنه لأجل كفاءة حاسة النظر يجب أن تكون العين في مقابل الشيء الذي نريد أن نشاهده وفي مركز حيز الرؤية، وإلا فلا تحصل الرؤية حينئذٍ.

ولكن حاسة السمع فهي بالخلاف من ذلك، فلا يوجد فيها شرط من ذلك القبيل ليتحقق السمع.

ومن مميزات حاسة السمع التي ميزتها عن حاسة النظر هي:

1- حاسة السمع لا يتطرّق إليها التوقف مطلقاً، حتى في حالة النوم.

2- لا يشترط في حاسة السمع شروط اختصاصية لكي يتحقق السمع، ولكنها تقتصر على شروط عامة فقط، بخلاف حاسة النظر فهي تحتاج إلى حصول شروط اختصاصية.

3- حاسة السمع تبدأ بالعمل بعد الولادة مباشرة، بخلاف حاسة النظر.

حيث إننا نرى أنه في حاسة النظر بعد الولادة، يجب فيها أن تشكل عضلات وخلايا العين أولاً، ثم بعد أن يتم تشكيل العضلات والخلايا لا تكون العين مستعدة لرؤية الألوان، وتحتاج العين ليتحقق ذلك إلى وقت.

ذلك بالإضافة إلى أنه الجنين في بطن أمه يصدر ردود فعل تجاه الأصوات الموجهة إليه، ويمكن أن يكون ذلك مؤيداً لحصول حاسة السمع لدى الجنين في بطن أمه، ممّا يؤيد ما ذهبنا إليه من تفضيل حاسة السمع على البصر.

4- وردت لفظة (الأذن) في القرآن الكريم والروايات الشريفة بصيغة مفردة على الأغلب، أما (العين) فقد وردت بصيغة الجمع على الأكثر.

وذهب عدد من المفسرين على أن الأذن إذا كانت واحدة في الإنسان فإن حاسة السمع فيه ستصاب بالضعف الشديد وعدم الكفاءة في السمع، أما العين فهي بالخلاف من ذلك، حيث لا تتأثر ذلك التأثر الذي كان في الأذن، بل تبقى بعمل بصورة طبيعية.

5- الآذان تعمل بشكل متناسق في تلقيها للمحركات السمعية، أما العين فلا.

حيث إن الصورة المنعكسة على شبكية العين اليمنى تختلف عن الصورة المنعكسة على العين اليسرى، كما ثبت ذلك علمياً.

الأخطاء الإدراكية للحس:

إنّ الأخطاء الإدراكية هي من الأمور التي وردت في الآيات والروايات، التي لها أسباب كثيرة، منها:

1- التعصبات الفكرية: مثل الحب والبغض.

حيث إن الحب والبغض قد يجعل الإنسان يخطئ في حواسه ويرى الأشياء بخلاف واقعها، وذلك تماشياً مع ما يراه من الدوافع الباطنية التي في نفسه.

قال تعالى:

{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} .

والأمور التي حدثت عناداً من الكفار والمشركين عندما شاهدوا معجزات النبي ولم يؤمنوا به كما جاء ذلك في أمر محاججته (ص) مع أبي جهل وجماعة من المشركين وإظهار المعجزات العظيمة لهم وبقائهم على عنادهم ، هي أيضاً من هذا القبيل.

يمكننا ـ بعد ذلك ـ أن نعرف (الخطأ الإدراكي) بأنه: (الواقعية الخارجية المحسوسة التي تُدرك بشكل مخالف لها).

مثل: أن نشاهد خطي سكة الحديد يقتربان من بعضهما كلما ابتعدا عنّا.

عوامل الأخطاء الإدراكية

يمكننا أن نُجمل عدداً من عوامل وأسباب تلك الأخطاء الادراكية التي تجعل الإنسان يرى الأشياء بخلاف ما هي عليه في الواقع، وهي:

1- الدوافع الدنيوية.

2- التمايلات الإنسانية.

3- التعصبات.

موقع الحواس من معرفة الله سبحانه

الحواس الخمس التي يمتلكها الإنسان هي بمثابة النوافذ الطبيعية بينه وبين العالم الخارجي فالعين ترى الموجودات لتميز الألوان والأشكال وتكشف النور عن الظلام أما الأذن فهي تميز الأصوات لتعرف صوت الصديق عن غيره ولتميز أيضاً بين أصوات الطبيعية كخرير الماء وحَفيف الشجر وأصوات الحيوانات كصهيل الخيل وزئير الأسد وفحيح الأفعى وزقزقة العصافير وكذلك تميز بين أصوات المكائن والآلات الميكانيكية وبين أصوات الطائرات الحربية عن الطائرات المدنية وبين أزير الرصاص وصوت القذائف وهكذا.. وأما الأنف فيشم الروائح المتنوعة فيميز العطور الجميلة عن الروائح الكريهة أيّاً كان المصدر بل ويميز العطور الجميلة ذاتها في درجة التركيز أو الخفة حسب المصادر.. وأما اللسان فيتذوق الأمور ليكتشف لنا الطعم الحلو عن المر والحار عن البارد، إضافة لكونه الناطق الرسمي عن أفكار وأحاسيس الإنسان الداخلية.. وأما حاسة اللمس فتكشف لنا عن الملمس الخشن لتميزه عن الناعم وهكذا فالحواس إذن هي النوافذ الطبيعية التي تربط الوجود الخارجي بذهنية الإنسان. وسبحانه الخالق الكريم الذي قال:

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.

ونحن في دراستنا عن الحواس ندرك بأن هذه الحواس لها مدىً محدود لا تستطيع أن تتجاوزه والواقع العملي أثبت هذه المسألة.

والسؤال المطروح أن هذه الحواس المحدودة ماذا نريد منها؟ أنريدها أن ترى كل شيء في الوجود بما في ذلك الخالق المدبر مثلاً وأنّى لها ذلك وكيف يكون لها ذلك؟

ممّا تقدم نفهم أن الحواس التي نمتلكها هي نوافذ المعرفة للإنسان بالفعل ولكنها قاصرة ومحدودة لا تستطيع أن تستوعب كل الأحداث وتميزها إضافة إلى أن الحواس هذه قد تخطئ كما في الحالات السرابيّة بالنسبة للعين فهي ترى السراب وتتصوره حقيقة ولكن حينما تقترب منه لا ترى شيئاً وينتقل السراب الخادع لمكان آخر.. وعليه نحن لا نستطيع أن نجزم أن كل الوجودات في الكون لابد أن تمرّ عبر حواسنا مباشرةً حتى نؤمن بها كحقيقة قائمة وإنما قد نصل لمعرفتها عبر معرفة الحقائق اليقينية بصورة غير مباشرة أي من خلال آثارها، فإذن لا تستطيع حواسنا استيعاب كل الوجود كي تؤمن به وإنما نستطيع أن نؤمن بنوع من الوجودات التي نتحسسها وندركها عن طريق آثارها حتى لو لم تخضع لإحدى حواسنا مباشرة، مثال ذلك المغناطيسية في الحديد والقوة الكهربائية والجاذبية الأرضية وغيرها فنحن نؤمن بوجودها قطعاً من دون أن نراها أو نشمها... وبمعنى آخر لا تخضع لهذه الحواس التي بحوزتنا وإنما نؤمن بها من آثارها... فنحن بتجاربنا ندرك أن الذي يصعد إلى قمة الجبل أصعب وأشق من الذي ينزل من القمة إلى الوادي وكما في تجربة نيوتن والتفاحة كيف أنه رآها حينما تنضجع تسقط إلى الأرض ولا تصعد إلى السماء... فمن ذلك توصلنا إلى الإيمان بوجود جاذبية في الأرض تجذب إليها الأجسام والهواء.. وكذلك المغناطيسية في الحديد فنحن لا نستطيع أن نميز بين قطعتين من الحديد إحداهما ممغنطة والأخرى غير ممغنطة إلاَّ بعد أن نرى الآثار فنجزم بوجود المغناطيسية بالرغم من أننا لا نستطيع أن نسمع أو نرى أو نشم أو نلمس أو نتذوق المغناطيسية والجاذبية... وحتى الأشعة غير المرئية فلو استعملنا المنشور المضلع في مختبر الفيزياء مثلاً فإننا سنلاحظ فرز سبعة ألوان هي الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي فقط والعلماء يؤكدون على وجود ألوان أخرى غير مرئية فيسمونها بالأشعة تحت الحمراء وما وراء البنفسجية فلا نراها ولا نشمها ولا نتذوقها لكننا نؤمن بها.

وكذلك القوة الكهربائية فهي قوة لا تخضع للحواس الخمسة وإنما يميّزها العقل من خلال الآثار فمن الصعوبة بمكان أن نشير لسلك كهربائي فيه قوة أو خالٍ من القوة الكهربائية حيث لا فرق بين السلكين إلاَّ بالآثار.

وحتى بعض المسائل الوجدانية كالحب والبغض والألم واللذة لا يمكن أن تخضع للحواس الخمس يقال أن بهلولاً صادف إنساناً ينكر وجود الله بحجة إنه لم يره فضربه بحجر أصاب رأسه فتألم وصرخ متوجعاً فالتفت إليه بهلول متسائلاً: إني لا أرى للألم لوناً ولا شكلاً ولا طعماً ولا رائحة فاتعظ المنكر.

وفي نقاش الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام)  مع أحد الزنادقة في عصره جاء إليه محتجاً وهو يقول: أوجَدَني كيف هو؟ وأين هو؟ فقال (عليه السلام) : ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط هو أيّن الأين بلا أين (أي إنه أبدع الكون وأوجد المخلوقات في مواقعها) وكيّف الكيف بلا كيف فلا يعرف بالكيفوفية ولا بالأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء. فقال الزنديق: فإذن إنه لا شيء إذ لم يدرك بحاسةٍ من الحواس. فقال الإمام (عليه السلام): (ويلك لمّا عجزتْ حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزتْ حواسنا عن إدراكه أيقنا أنّه ربنا بخلاف شيءٍ من الأشياء). قال الرجل: فأخبرني متى كان؟

فقال (عليه السلام) : أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان.

قال الرجل: فما الدليل عليه؟

فقال (عليه السلام) : (إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكنّي فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمتُ أنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء الحساب تصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات علمت أنّ لهذا مقدراً ومنشئاً).

هذا وفي بعض حالات الخوف والفزع بل وفي ذروة الخوف حيث لا يُتوقع الإنقاذ من قوة اعتيادية يتصل الإنسان بوجدانه وضميره وفطرته بالخالق المدبر حيث إن هذا الهاجس المرعب يضغط على الحواس فيقلصها إلى أن تعلن إفلاسها أمام الحدث لتبرز الفطرة وتحكم بما وراء الحواس قوةً حقيقية للإنقاذ. يروى أن رجلاً جاء للإمام الصادق (عليه السلام) وسأله: عرفني ربّي فقال له الإمام (عليه السلام): هل ركبت البحر؟ قال: نعم قال: هل كُسرت بك السفينة؟ قال: نعم قال (عليه السلام): هل تعلق قلبك بشيءٍ حيث لا سفينة تنجيك ولا أحد يغنيك؟ قال: نعم. قال الإمام: (ذلك هو ربك).

ففي أحلك الساعات وأحرجها تنطق الفطرة بالحق هامسةً بصوت عال متوجهةً بصدق وإخلاص مباشرة فهي تحطم كل الحواجر التي صنعتها الحواس والماديات والدنيا لتتعلق ببراءة وصدق بالمصدر الأزلي الدائم.

فإذن ليس كل ما لم يخضع للحواس فهو غير موجود وكل ما يخضع للحواس فهو موجود بل قد تكون هنالك أمور واضحة للعقول ولكن الحواس قاصرة عن إدراكها، بل الآثار تدل عليها يقول سبحانه وتعالى:

{ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}.

وكذلك يمكن العكس حيث أن الحواس تخدع الإنسان بوجود شيءٍ خيالي كسراب الماء مثلاً فيتصوره حقيقة وإذا به خيالاً.

ويصور لنا القرآن الكريم هذه الصورة الوهمية ويعتبر أعمال الكافرين هي كالسراب الخادع للعين بوجوده، لكنّه أمرٌ وهميٌ لا حقيقة له، فيقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

 الاحساس والإدراك ـ Sensation and Perception ـ  في اللغة :


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=797
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 11 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24