• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : رسالة المسجد وأثره في المجتمع الإسلامي .

رسالة المسجد وأثره في المجتمع الإسلامي

محمد الساعدي

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

ليست المساجد أماكن لإقامة صلاة الجماعة والجمعة فحسب، بل هي مركز المجتمع المسلم، ومركز الأمة الديني والسياسي، ففيه تقام الصلوات، وفيه تناقش مشاكل الأمة الإسلامية، وتنظّم قضاياها الحربية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

ومن هنا تبرز علّة أن أول عمل قام به الرسول(ص)  في المدينة المنورة هو بناء المسجد، فهو عمل له دلالاته وأهمّيته. فلقد كان المجتمع الإسلامي آنذاك مكوّناً من فئتين، وهما: المهاجرون، والأنصار، ولا ريب في أن الفئتين تختلف إحداهما عن الأخرى من عدة زوايا، كالوضع النفسي، والوضع المعنوي، والوضع المعيشي، وغير ذلك، بل المهاجرون أنفسهم يختلفون بعضهم عن بعض من حيث المستوى الفكري والاجتماعي والمادي والمعنوي، وكذلك تختلف توجهاتهم وطموحاتهم وتطلّعاتهم ومشاعرهم. وقد أراد الدين الإسلامي أن ينصهر الجميع في بوتقة الإسلام؛ ليصبحوا كالجسم الواحد في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم، ولتتوحد جهودهم وحركتهم وأهدافهم ومواقفهم، الأمر الذي يؤكّد على الحاجة إلى إعداد وتربية خلقية ونفسية وفكرية لهاتين الفئتين، بحيث تتعايش مع بعضها البعض، وتكون كلّ واحدة منهما في مستوى المسؤولية التي تؤهلها لعملية بناء المجتمع الواحد المتضامن والمتكافل الذي هو نواة الأمة الواحدة التي يربطها ربّ واحد ومصير واحد وهدف واحد، وبحيث يصبح هذا المجتمع قادراً على تحمّل مسؤولية حماية الرسالة المحمدية والدفاع عنها وإعلاء كلمة الإسلام، وعليه لابدّ من صهر كلّ الطاقات والقدرات الفكرية والمادّية والمعنوية لهذا المجتمع لتصبّ في خدمة الرسالة.

والمسجد هو المحلّ الذي يتحقّق فيه كلّ ما مرّ، إذ ليس هو محلاً للعبادة فقط، بل هو وسيلة فضلى للتثقيف الفكري والحضاري ولوحدة الثقافة والرأي والفكر، حتى يستطيع المجتمع تجنب مختلف الصراعات الفكرية الناشئة عن عدم وجود وحدة موضوعية للثقافة التي يتلقّاها أفراده كل على حدّة، فتتخالف المفاهيم والأفكار والمستويات، وتزيد الفجوات اتّساعاً باستمرار، فيظهر نتيجة ذلك عدم الانسجام في المشاعر وفي وضوح الهدف وفي الاندفاع نحوه، ممّا يؤثر سلباً على مسيرة الوصول إليه وتحصيله.

فالمدرسة التي لا تعطي غير المفاهيم الجافّة والأفكار البعيدة عن واقع الإنسان والتي لا تنسجم مع تكوينه النفسي والفكري ولا مع احتياجاته والخالية من شعور العبودية والحاجة إلى الارتباط بالسماء، فإنّ هكذا مدرسة لن تكون هي الغاية المنشودة، بل يكون المسجد هو الأفضل والأمثل في المقام. والعمل الاجتماعي علاقات المؤمنين بعضهم ببعض، والمسجد هو أجلى وأفضل موضع تتجلى فيه هذه العبادات، كما أنه أحسن الوسائل للتثقيف والتربية الخلقية والنفسية والعقائدية.

وليس كالمسجد مكان يمكن أن تتوفر فيه الأجواء الطيّبة التي تفوح منها نسائم التقارب والتعاطف دونما مقابل ومن غير ما حساب أو بحث عن الكسب المادّي، فهو المكان المبارك الطاهر الذي ينسى فيه الإنسان دنياه وما فيها من إغراءات ومظاهر اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد ومعطيات الجاه وسعة السمعة وسموّها، ويتّجه بكلّيته نحو خالقه ومالك أنفاسه بخضوع وذلّة وضراعة؛ ليفوز برضاه وعفوه. ومثل هذه الحالة عندما يصل إليها الإنسان يكون قد أحرز وصفاً ووضعاً فيه الكثير من الصفاء والنقاء ونبل الطوية وخلوص النفس، ويكون قد سما إلى مستوى روحي رفيع لا يتيسّر له الوصول إليه في الأماكن الدنيوية الأُخرى.

وشتّان ما بين اللقاء الإنساني الذي يتمّ في المسجد بين الجموع البشرية واللقاءات الأُخرى التي تتم في النوادي والقاعات العامّة والبرلمانات ومجالس الشورى وغيرها! فذاك لقاء أحاطت به بركات السماء، وشحنت في نفوس أفراده من داخل كلّ واحد منهم أحاسيس ومشاعر هي على غير مثال تلك التي تكون في هذه الأماكن الدنيوية، ذلك لأنّ المسجد في الأصل مرتبط بمفهوم العبادة التي يفرض فيها الإخلاص لله تعالى والانعتاق من علائق المادّة والمصالح الجسدية والدنيوية والتطلّع إلى ما بعد الحياة في تبتّل وحذر للآخرة ورجاء لرحمة الله، وهو من هذا المفهوم يعكس على نفوس كلّ الذين يحتويهم ويضمّهم الكثير من هذه المعاني والصفات التي فيها كلّ التمجيد للإنسان وكلّ الدفع لعمل الخير وبذل العطاء في صالح المجموع.

كما أنّ المسجد وسيلة لشيوع الصداقات وتلاقح الأفكار، حيث يجتمع فيه المؤمنون عدّة مرات يومياً في جوّ من الشعور عملاً بالمساواة والعدل وبتساقط كلّ فوارق المال والجاه، فحينها يبتعد شبح الغرور والأنانية والنرجسية عن أُفق الإنسان، فتترسّخ حينها أواصر التآخي والمحبّة بين أفراد المجتمع.

والمسجد إحدى العوامل المساعدة على تبسيط العلاقات بين أفراد المجتمع، وتقليل مشاكل التعامل الرسمي والتكلّفات البغيضة التي توحي يوجود فوارق ومميّزات تفصل هذا عن ذاك.

فتأسيس المسجد في الإسلام إنّما جاء ليكون بمثابة مركز القيادة والريادة، فقد كان رسول الله (ص) يستقبل فيه الوفود، ويبتّ في أُمور الحرب والسلم، ويفصل الخصومات، وفيه كان يتمّ البحث عن كلّ ما يهمّ الدولة وشؤونها والناس ومعاملاتهم وارتباطاتهم، وفيه كان يجد الضعيف قوّته والمهموم المغموم سلوته والمحروم من العطف والحنان بغيته.

والخلاصة: أنّ المسجد ملتقى الأبرار من عباد الرحمن، ومجتمع الأخيار من بني الإنسان، يفوح فيه عطر الإيمان، وينتشر منه عبير الصلاح والتقوى، ويؤصّل العبادة في كيان الجماعة وهيكل المجتمع ووحدة الأُمّة. وهو مع هذا كلّه مركز التوجيه والتعليم والتزكية، وملتقى أفراد المجتمع لتبادل الرأي ولتقوية وسائل التعاون فيما بينهم.

وقد جاءت روايات كثيرة في فضل المساجد من طرق الفريقين، وسأذكر بعضها تيمّناً:

1ـ (إن في التوراة مكتوباً: إن بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لمن تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي...).

2ـ (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة؛ لأنّ الجنّة فيها رضا نفسي، والجامع فيه رضا ربّي).

3ـ (المساجد بيوت الله في الأرض...).

4ـ (أحبّ البلاد إلى الله مساجدها...).

5ـ (السياحة في أُمّتي لزوم المساجد).

6ـ (... إنّ المؤمن مجلسه مسجده...).

7ـ (والله، ما من مسلم يتوضّأ، فيحسن الوضوء، ثمّ يأتي المسجد، فيصلّي فيه ركعتين، ثمّ يستغفر الله، إلا غفر الله له).

هذا، ولم يقتصر دور المسجد على ما تقدّم ذكره، بل كان له أثر في نشأة الفنون الإسلامية كذلك، ومن المعروف أنه ما إن دخل رسول الله (ص)  المدينة عقب الهجرة حتى شرع في بناء المسجد، وأُقيم المسجد النبوي الشريف كأوّل عمل معماري مهمّ في الإسلام آنذاك، وحين كان النبي(ص) وأصحابه يضعون حجر الأساس في بنائهم للمسجد كانوا في الوقت نفسه يضعون أساس فنّ العمارة والزخرفة الإسلامية؛ إذ تطوّرت عمارة المسجد النبوي الشريف بعد ذلك على أساس التصميم الذي بدأه النبي (ص) ، وظلّ مسجده نموذجاً يحتذى في تشييد المساجد في الأقطار الإسلامية طوال القرون الأربعة الأُولى من الهجرة، كمسجد البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان، كما صار طرازه المعماري أهمّ الطرز المعمارية لبناء المساجد في العصور المختلفة، وكان الدافع وراء ذلك الحرص على الاقتداء بالسنّة النبويّة الشريفة. وقد تطوّرت أساليب التخطيط والتصميم في مباني المساجد، بالإضافة إلى العناصر المعمارية التي انتقلت إلى سائر أنواع المباني الغسلامية، وعن طريق الرغبة في تجميل أثاث المساجد والعناية بها ازدهرت الفنون الزخرفية والتطبيقية الإسلامية؛ إذ تطوّرت فنون المعادن مثلاً بفضل العناية بالأثاث المعدني في المساجد، كالأباريق والثريات والطسوت والشمعدانات، بالإضافة إلى النوافذ والأبواب المصفّحة بالحديد (المصبّعات)، وتطوّرت كذلك الصناعات الخشبية بمختلف أنواعها تبعاً للاهتمام بالأثاث الخشبي من منابر وكراسي وحوامل المصاحف، وأيضاً تطوّرت كذلك الصناعات الخشبية بمختلف أنواعها تبعاً للاهتمام بالأثاث الخشبي من منابر وكراسي وحوامل المصاحف، وأيضاً تطوّرت فنون الزجاج بفضل الاهتمام بمصابيح الإضاءة والمشكاوات وزجاج النوافذ، وارتقت فنون السجاد حتى لقد نبغ فيها المسلمون وكادت أن تخصّهم دون غيرهم.

وكان للمساجد أكبر الأثر في تطور أساليب الزخرفة والخط العري؛ إذ ظلّت عادة زخرفة العمائر الدينية بالخط متّبعة في جميع العصور الإسلامية، حتى أنّ العمارة الإسلامية قد تكون حقلاً مناسباً لدراسة الخطّ وتطوّره وأنواعه المختلفة.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=706
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 10 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24