• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : دروس قرآنية تخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن .
                    • الموضوع : دروس من القرآن الكريم ـ معرفة القرآن بالقرآن ـ 1 ـ .

دروس من القرآن الكريم ـ معرفة القرآن بالقرآن ـ 1 ـ

( لسماحة العلامة الحجة الشيخ جعفر النمر )  بقلم : سماحة الشيخ عبدالمحسن البقشي

الايمان بضرورة التعرف على القرآن الكريم :

ان تدبر كتاب الله موقوف على معرفته ، لان طلب كل شيء موقوف على تصوره وتصور فائدته والايمان بذلك ، فقبل التدبر لابد من معرفة حقيقة القرآن .

وسيتضح ان غاية ما ينكشف بالتدبر في القرآن الكريم هو العجز عن ادراك حقائقه، الا ان الجهل تارة يكون مطبقاً أي يجهل أنه جاهل وهو أسوء أنحاء الجهل وأخرى يكون مقترناً مع التفات الإنسان إلى أنه جاهل وفي هذه الصورة نحاول معالجة هذا الجهل بالرجوع الى العالم بالكتاب الكريم.

معرفة القرآن الكريم بالقرآن :

المرحلة الاولى من التعرف على الكتاب العزيز هي التعرف على حقيقته من خلال آياته والمرحلة الثانية هي التعرف على القرآن بالرجوع إلى اهل البيت (عليهم السلام) فيقع الكلام حول المرحلة الاولى، فلا بد ان نتعرف على القرآن بالقرآن ثم ننظر هل القرآن الكريم يدلنا على أهل البيت (عليهم السلام) أم لا؟

فقد ورد في الرويات كما عن الامام الصادق (عليه السلام) ((من لم يعرف الحق من القرآن لم يتنكب الفتن)) (1) بمعنى ان من لم يؤسس معرفته على اساس الكتاب العزيز فلا تنفعه تلك المعرفة عند وقوع الفتن.

المراد بلفظ القرآن الكريم :

ان المراد بالقرآن الكلمات والحروف المسطورة ما بين الدفتين ويطلق عليها كتاب الله وكلام الله، والفرق بين الاطلاقين هو ان عنوان الكلام يصدق بلحاظ صدوره من المتلكم، فيقال هذه الايات كلام الله أي صادره منه تعالى، وكتاب الله فيطلق على القرآن بلحاظ المحل الذي اثرت فيه أي الفعل الذي استقر في هذا المحل، فالكلمة كلمة باعبار صدورها، والكتاب كتاب باعتبار حلوله، فهما واحد ذاتاً مختلفاً اعتباراً كالأبحاد والوجود فكل كلام كتاب وكل كتاب كلام هذا اصح ما يقال في الفرق بين الكلام والكتاب (2).

ثبوت مرتبة اخرى للقرآن الكريم :

هل لهذه الكلمات المسطورة بين الدفتين أمر آخر؟ أي هل وراء هذا الظاهر حقيقة باطنة اعمق ؟ لكي نسعى وراءها ونطلبها أم لا؟

ورد في الروايات عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : ((كتاب الله عزَّ وجلَّ على أربعة أشياء : على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء)) (3).

والعبارة تطلق على الكلمة باعتبار انه يعبر بها إلى المعنى،، والاشارة تطلق على الكلمة باعتبار دلالتها على ما يلازم معناها، واللطائف تطلق على الكلمة باعتبار دلالتها على ذلك المعنى الذي يدرك ولا يكتنه، والحقائق تطلق على الكلمة باعتبار دلالتها على باطن المعنى وهو المراد من قول الرسول (صل الله عليه وآله) : ((ما انزل الله عزَّوجلَّ آية الا ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف الأدلة حد ومطلع))(4).

فتدل هاتان الروايتان ونحوها على ان للقرآن مراتب فليس القرآن مجرد هذه لكلمات المسطورة، بل هي مرتبة من مراتبه، بل أن للقرآن مرتبة لا يصل إليها إلا الأوحدي من الناس قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

ونحن نريد الاشارة إلى (هذه) الحقيقة القرآنية التي (هي) ارفع ما في الكون واعلى ما في الوجود واسمى ما صدر عن رب العزة والجلال.

الله تعالى يعدد النعم في سورة الرحمن ثم بعد كل نعمة يقول { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} حتى انه امتنى بذكر النار في هذه السورة لانها لا تخلو من لطف لكونها زجر عن المعصية فقال { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ولكن اول ما بدأ به هذه السورة الكريمة والامتنان قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } فأول نعمة امتنى الله بها هي القرآن الكريم، والتقديم لايخلو من دلالة على الاهتمام والرعاية، وهذه النعمة قبل ايجاد الخلق بمقتضى ترتيب الاية { عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ }.

فكيف يكون القرآن منة ونعمة لمن وجد قبل نبينا محمد (صل الله عليه وآله) ؟

فاذا عرفنا حقيقة القرآن عرفنا كيف يكون نعمة على جميع البشر بل على جميع الموجودات ؟

اطلاق الكتاب على القرآن :

لقد وردت آيات كثيرة تطلق الكتاب على القران الكريم ومن هذه الايات على سبيل المثال قوله تعالى { قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } (5) وقوله تعالى { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } (6) وقوله { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } (7) وقوله تعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ...}(8) وقوله تعالى { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }(9) وقوله تعالى { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }(10) وقوله تعالى { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ }(11) وقوله تعالى { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا }(12) وقوله تعالى { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ }(13) وقوله تعالى { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ }(14).

المستفاد من هذه الآيات :

تتحدث هذه الايات عن حقيقة وهي ان كل ما يحدث في العالم دفعياً كان او تدريجياً، مادياً كان أو مجرداً، مرتبطاً بالانسان أو بغيره، عرضاً كان أو جوهراً، فكل شيء يحدث في الكون فهو في الكتاب { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }(15) هذا السبق ليس بمعنى التدوين لانه فعل، وليس المراد بالكتابة ما ينسبق إلى الذهن لان الكتابة المعروفة فرع وجود الانسان لأنها من الاعراض والافعال (16) فالمراد بالكتابة هو ان كل ما في الكون ثابت في درجة سابقة على هذا الوجود وهذا الثبوت هو معنى كتابته من قبل الله تعالى، ونجد هذا المعنى في قوله تعالى { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }(17) وهذا القدر مسبوق باثبات الحادث في خزائن الله تعالى، ولما كانت الخزائن موصوفة بأنها عند الله وما عند الله باقٍ وكان البقاء في مقابل النفاد لا الزوال علمنا أن الشعيون في الخزائن ينافي التقدير فخاصية الحادث النفوذ { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ }(18) فما في خزائن الله لا يتصف بصفات الحادث فلا يكون من الامور التي لها زوال وتغير ولا تعرض عليه الحركة ونحوها بل هو بسيط جامع على الكمالات، ولا يراد من الخزائن التعدد والكثرة في الماهية (19) بل كل فرد موجود في خزائن الله وهو كثير في تلك المرتبة كثرة لا تنافي الوحدة ولم يخصص الله شيء من الموجودات بل قال { وَإِن مِّن شَيْءٍ...}.

اذن هناك ثبوت في خزائن الله تعالى ومن هذا الثبوت ما عبر عنه بالكتابة في الايات السابقة وقوله { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }(20) قوله { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}(21)، اما الثبوت في هذا الكون فهو تقرر آخر له حدود ومقتضي التحديد الزوال والنفوذ لان المحدود لا يتجاوز حده فيعرض عليه التغير وهذا الامر لا يختص بالماديات بل يشمل المجردات { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }.

والكتاب شامل لهذه الحقائق { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } وخاصية هذا الكتاب انه مبين، والابانة بمعنى الظهور فالكتاب يُظهر الاشياء واظهارها يستلزم تقديرها فالجود تام والفيض عام ولكن المستفيض قد لايتحمل فيض الله { وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا }(22).

مثلا الكتاب يقول { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ َلاَّ خَسَارًا }(23) فنجد القرآن شفاء ورحمة لطائفة من الناس وخسارة لآخرين وهذا التفات من قبل الناس انفسهم لا من قبل جهة الفيض.

اوصاف اخرى للكتاب من نفس الايات :

وصف الكتاب نفسه بانه (الكتاب المبين) (24) وفي بعض الايات انه (ام الكتاب) (25) وفي بعضها انه حفيظ (26) وكذا جاء وصف الايات (بالذكر الحكيم) (27) او الكتاب الحكيم (28)، ونحو ذلك كثير، وجاء وصف القرآن بالعلو والحكمة في قوله تعالى { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }(29) وعليٌّ من العلو، وحكيم من الحكمة والاحكام، والعلو يستلزم ان يكون مكنوناً.

معنى نزول القرآن :

ورد في آية اخرى قوله { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }(30) وقوله { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ }(31) ومقتضى التنزيل الوارد في آيات كثيرة (32) ان له مرتبة عالية فخروجه من تلك المرتبة نزول { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }(33).

فهل ترك القرآن مكانه ونزل إلى هذه المرتبة السفلى كما فغي نزل المطر إذا مقتضى النزول ترك محله الاول ام له معنى آخر؟

والصحيح: ان القرآن مع نزوله هو علىّ حكيم وهذا معنى ان التنزيل ليس كنزول المطر بل بمعنى التجلي كنزول ضوء الشمس، فالضوء مع أنه من الشمس ومن شؤونها النازلة، لكن عين الشمس لها مرتبة غير مرتبة الضوء وكذلك القرآن، فالله انزل الكتاب وجعله قراناً عربياً، متردداً لجميع من عنده قدرة على القراءة لكن حقيقة في كتاب مكنون لا يمسها إلاّ المطهرون، ولا نستطيع ان نصل إلى منزلة القرآن العالي لانه محكم فلا يمكن النفوذ اليه ولا الوصول إلى باطنه، نعم قد يسره الله بلسان نبينا محمد (صل الله عليه وآله) { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } (34) و { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فغاية ما يطلبه الانسان فهو في القرآن.

نتائج مما سبق :

1 ـ ان للقرآن ثبوتاً غير ما بين الدفتين وهو في خزائن الله ولازمه الدوام اوالبقاء {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } فالقرآن منزل وملقى والذي انزله هو الحكيم العليم وعليه لابد ان يكون المنزَّل كذلك حكيم عليم { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ }(35)، ولذا قال تعالى {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }(36) و {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } (37)، والمتحصل انه منزل من الله فلا بد ان تتجلى فيه صفات الله تعالى فهو قرآن حكيم عليم لا تدركه الابصار في قرار مكين مكنون لا تدركه الا التقوى { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } (38) والقرآن لا يناله المتقون، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ… شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ } (39) فالصوم يؤدي إلى التقوى وهي طريق إلى القرآن { إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } (40)...

2 ـ ان هذا الثبوت عند الله تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا } أي الخزائن عند الله تعالى { وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } فلا بد ان يناسب العالم الربوي فلا يناسب ان يكون ما عند الله محدوداً من جهة وفانياً من جهة أخرى اذ ما عند الله هو الكمال (فهو واجد كل شيء وفاقد كل مفقود) وهذا الثبوت هو المعبر عنه بام الكتاب ويجب الالتفات إلى أن مراتب الكتاب مختلفة ـ من جهة السعة والضيف والشدة والضعف.

معنى خطاب القرآن :

إذا اردنا ان نتعرف على حقيقة القرآن فلا بد ان نجعل انفسنا ظرفاً وطرفاً لخطاب الله تعالى، وقد ورد في الاحاديث الشريفة عن الامام الباقر (عليه السلام) (إنا يعرف القران من خوطب به) (41) والقرآن يفهمه العربي المدرك للقواعد.

ورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام (إنما يعرف القرآ، من خوطب به) وهذا يقتضي حصر لفهم ولمعرفة عبد يكون مخاطباً بالقرآن فلكي نعرف القرآن لابد من أن نجعل أنفسنا مخاطبين به وبمقدار وقوعنا تحت تأثير الخطاب القرآني تكون رجة معرفتنا به ولعل ما ورد في تفسير قوله تعالى: (إنما يخش الله من عباده العلماء).

وأنه العالم من صدق فعله وقوله إشارة إلى ذلك.

وقد حمل بعض الاعلام هذه الاحاديث بالمعرفة التامة فالذي يعرف القرآن بشكل تام هو من خوطب به فقط.

ولكن الظاهر هو ان كل من عرف شيئاً من القران فهو مخاطب بمقدار معرفته به وفهمه له، وتوضيخ ذلك : ان الخطاب ذو درجات، فالقرآن مائدة الله (42) وكل فرد يأخذ من هذه المائدة بحسب وعاءه، فالنبي (صل الله عليه وآله) والائمة الاطهار (عليه السلام) فهموا القرآن كله وهكذا، اما العوام فاخذوا منه العبارة، والخواص اخذوا منه الاشارة، والاولياء اخذوا منه اللطائف، والانبياء (عليه السلام) اخذوا منه الحقائق.

وعليه إذا كان الكل يأخذ منه وبحسبه فالكل مخاطب به، ومن هنا يذهب البعض إلى يذكر العلامة الطباطبائي (قدس) وشيخنا الاملي (حفظه الله) (43): ان القرآن لازال يتنزل على عباده وهو قوله تعالى { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (44)، وكذا قوله تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } (45) فالنبي (صل الله عليه وآله) تكلم بالقرآن، ولكن بما ان المشركين { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } (46) فلا يفهمون القرآن مع انه نور بنفسه وظاهر بذاته مظهر لغيره مع ذلك لا يدركه من لم يؤمن به. فلاحظ للكفار في سماع كلام الله أما المؤمن فهو يسمع كلام الله لأنه يؤمن بقوله (إنه هو الأوصى بوصي) فكلام النبي كلام الله عند المؤمن (47).

تطهير محل القرآن :

ان من اراد معرفة القرآن فلابد له من تصفية وتطهير مكان القرآن ومحله، لان القرآن خطاب الله ووحيه المنزل لعباده، هذا النور لا يثبت في القلب ما دام تقياً طاهراً ولذا يقول الله { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } (48)، وهناك آية واحدة تشير الى قوم طهرهم تطهيراً كاملاً، وقد ذكر التطهير بنحو مطلق فقال { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (49) وتعقيب الفعل بالمصدر لبيان النوع فاذا اطلق ولم يبين فهو دليل على ارادة المصدر بأكمل أفراده، فالمراد التطهير التام من جميع الجهات، فكل دنس مفي عنهم عليهم السلام.

ولذا من يحمل دنس وقذارة فهو بعدي عن منبع القدس والطهارة (سبوح قدوس) فاذا اراد الانسان القرب من الله وفهم كتابه فلابد ان يقدس نفسه اي يطهرها، وهذا التقديس ليس تام لان لكل ممكن حد ولو من جهة الماهية، نعم على المكلف تطهير قلبه من كل شيء سوى الله تعالى، ولذا ورد في تفسيرقوله { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } (50) اي سقاهم شراباً ليطهرهم مما سوى الله تعالى.

اذن لابد من تطهير الباطن، ولذا ورد استحباب السواك قبل قراءة القرآن الكريم فانه تطهير للمجرى الظاهري (51).

العالم بالكتاب هو مجرى الفيض الالهي :

ان من نال شيئاً من كتاب الله فقد وصل اليه، والكتاب { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } وهو الذي لم يفرط فيه من شيء و { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ} (52) فالكتاب علة ما الكون فمن نال الكتاب لابد ان يكون هو مجرى الفيض النازل الى هذه المرتبة من العالم وبقول الامام الصادق (صل الله عليه وآله) (اعلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة كل ذلك من كتاب الله) لان القرآن يقول { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى...} (53) وكذا { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } والاحصاء ليس عبارة عن التدوين لان العلم الحصولي علم مجازي، حضور صورة الشيء وهي مغايرة للشيء موجه وإن كانت عينه بوجه آخر والمستفاد من الآية أن الاحصاء تعلق بنفس الشيء لا بصورته فيستفاد من الآية أن في الكتاب نفس بشيء لا صورته وماهيته بل الموجود هو الشيء نفسه، فمن يعلم بالقرآن فهو يعم بها علماً حضورياً، والعلم يقتضي إحاطة العالم بالمعلوم وهذا ينافي كون المحيط معلولاً للمحاط بل يكون المحاط معلولاً ولذا قالوا (ان المعلول لا يعلم بعلته الا بمقدار ما فيه من علة) فاذا استطاع الانسان الحصول على العلم والاحاطة، فلابد أن يكون العالِم واسطة بين المعلوم وبين الله في الفيض، فمن انزل عليه القرآن فهو الواسطة في هذا الفيض ولذا يمن الله تعالى على نبيه (صل الله عليه وآله) بقوله { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا } (54) وكذا قوله { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } فالذي وقع في مجرى التيسير هو نبينا محمد (صل الله عليه وآله)، ولذا ورد في الزيارات (ارادت الرب في مقادير اموره تنزل اليكم والصادر مما فصل من احكام العباد) (55) ولا زال ينزل على نبينا (صل الله عليه وآله)، وقد ورد في الروايات جادلوهم بسورة القدر الذي ورد فيها { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } (56) أما القول ان هذا أمر تشريفي للنبي الاعظم (صل الله عليه وآله) فهو أمر ساذج، اذ لا خصوصية لهذا التشريف إذا لم يكن له أثر، والمتحصل ان الحدوث موقوف على اخبار نبينا محمد (صل الله عليه وآله) فهو شرط في حدوث كل امر سواء كان في العالم المادي او المواطن الالهي.

واول ما خلق الله نور نبينا (صل الله عليه وآله) كما سيتضح ذلك فيما سيأتي من ابحاث.

ــــــــــــــــــــ

1   ـ  مفاتيح الغيب، الاسفار، علم اليقين للفيض الكاشاني.

2   ـ  ميزان الحكمة ج3 ص2531 رقم 16571.

3   ـ ميزان الحكمة ج3 ص2517 رقم 16419.

4 ـ  نفس المصدر رقم 16570.

5 ـ  المائدة : 15.

6 ـ  الانعام : 38.

7 ـ  هود : 17.

8 ـ  التوبة : 36.

9 ـ  سبأ : 3.

10 ـ  الرعد : 38 ـ 39.

11 ـ  الحجر : 4.

12 ـ  الاسراء : 4.

13 ـ  فاطر : 11.

14 ـ  الحديد : 22.

15 ـ  الانفال : 68.

16 ـ  والآية تشير إلى كتابة سابقة على وجود الإنسان.

17 ـ  القمر : 49.

18 ـ  النحل : 96.

19 ـ  لعل الإثبات بصيغة الجمع للإشارة إلى التعدد الطولي لهذه الخزائن فكل مرتبة في طول الأخرى.

20 ـ  يس : 12.

21 ـ  النبأ : 29.

22 ـ  الاسراء : 20.

23 ـ  الاسراء : 82.

24 ـ   ورد ما يقارب سبعة عشر موررداً يوصف الكتاب بانه مبين، وكذا ورد وصف الايات بالبينات كثيراً.

25 ـ  كما في سورة الرعد : 39 وكذا آل عمران : 7 وكذا الزخرف : 4.

26 ـ  كقوله تعالى { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } ق: 4.

27 ـ  كما في سورة آل عمران : 58.

28 ـ  سورة يونس : 1.

29 ـ  الزخرف : 3 ـ 4.

30 ـ  غافر : 2.

31 ـ  النمل : 6.

32 ـ  وردت ما يقارت في 36 مورداً.

33 ـ  الاسراء : 105.

34 ـ  مريم : 97.

35 ـ  الاسراء : 84.

36 ـ   يس : 1 ـ 2.

37 ـ  آل عمران : 7.

38 ـ  الحج : 37.

39 ـ  البقرة : 83 ـ 184.

40 ـ  الانفال : 29.

41 ـ ميزان الحكمة ج3/ص2532/رقم 16582.

42 ـ  نفس المصدر ص2521 رقم 16452 وما بعده.

43 ـ  نسب شيخنا الآملي أعلى الله مقامه في درسه في بعض مواضع الجزء السابع من الأسفار هذه النظرية إلى صاحب الفتوحات وصدر المتألهين ونسب إلى العلامة الطباطبائي غيرها وقد ذكر في بعض دروسه الأخرى ما يوافق المذكور في المتن .

44  ـ الشورى : 51.

45 ـ   التوبة : 6.

46 ـ  البقرة : 171.

47 ـ  الجزء السابع من الأسفار

48 ـ  الواقعة : 77 ـ 79.

49 ـ  الاحزاب : 33.

50 ـ  الانسان : 21.

51 ـ   ميزان الحكمة : ج3/ص2527/رقم 16525 وما بعده.

52 ـ   الحديد : 22.

53 ـ   الرعد : 31.

54 ـ   النساء : 113.

55  ـ كامل الزيارات : 366 .

56 ـ   القدر : 4. فهذا التنزل على المعصوم في ليلة القدر إنما كان لتوسطه بين الخالق والمخلوق في جريان الفيض وقد ورد عنهم (أنا صنائع ربنا الله والناس بعد صنائع لنا)، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج15 ص194 البحار ج33 ص58.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=67
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 07 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29