• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : مُعطَيات آية المودّة ( المحاضرة الثالثة ) .

مُعطَيات آية المودّة ( المحاضرة الثالثة )

آية الله العظمى السيد محمود الشاهرودي

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

مبدأ المودّة لأهل البيت هدف ووسيلة

كُنّا نتحدّث حول آية المودّة: (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المودّة فِي الْقُرْبَى) وقلنا: إنّ مبدأ ولاية آل الرسول، هذا المبدأ الذي لا شكّ فيه لدى أحد من المسلمين، والذي دلّت عليه النصوص والمواقف والسيرة النبويّة، ليس كما قد يُفهَم من قِبَل بعض الفِرَق الإسلاميّة، أنّه مُجرّد مبدأ شخصي أراد النبي في هذا المبدأ أن يجعل المسلمين يُحبِون آل البيت فحسب، بل هذه المودّة والمحبّة هي من صميم الرسالة نفسها، هي كالمودّة والمحبّة التي لابُدّ أن تكون لكل إنسان مؤمن بالله محبّة لله، المودّة لقربى الرسول، أي للأئمة مودّة مشتقة من المودّة والحُب لله والنبي.

ولهذا جاءت ودلّت عليه النصوص الكريمة، والمواقف النبويّة، والإعدادات الكثيرة الضخمة، هذه المحبّة والمودّة لأهل البيت، إذا أردنا أن نتعمّق فيها هي في نفس الوقت الذي تكون هدفاً وغرضاً إسلامياً رسالياً، تكون طريقة ووسيلة للوصول إلى الأهداف الإسلامية، فمحبّة آل البيت مبدأ ذو وجهين وذو ميزتين:

هدف وغاية طريق، ووسيلة في نفس الوقت، أمّا كونها هدف باعتبار ما أشرنا إليه من أنّه كمودّة الرسول نفسه، مودّة بالنتيجة لله وفي الله، مَن يَود ويَحُب الرسول بحسب الحقيقة يَحُبّ الله؛ لأنّ الرسول وأهل بيته المعصومين ما هم إلاّ مُمَثِلين من قِبَل الله، والثقل الإلهي في الأرض، والحبل الممدود بين السماء والأرض، فحُبّهم في الواقع لمّا يَرمِزون إليه، حُب لله سبحانه وتعالى، وحُب للكمال الإلهي؛ لأنّه هم مظهر من مظاهر الله، وجَلوَة من جَلوَات عالَم الغيب والكمال الربوبي، فمحبّتهم تكون محبّة لجَلوة من جَلوات الكمال، وهذه الجَلوة نفسها كمال.

ونحنُ نجد في القرآن، وفي الروايات، والنصوص، أنّ المؤمنين لابُدّ أن يُحبّون الله، ولكل ما يرتبط به ويَرمز إليه حتى الملائكة، توجد في الآيات والروايات أنّ حُب جبرائيل وميكائيل والروح الأمين معيار لتشخيص المؤمن عن الكافر، وهذه طبيعة واقعة في الذات الإنسانيّة، الإنسان إذا أحبّ أحداً أو شيئاً، يَحب كل المتعلّقات بذلك الشيء، فكيف بمَن يُمثل المحبوب، وبمَن يكون واسطة للمحبوب بين المُحب والمحبوب؟

إذن، فحُب آل البيت بنفسه كمال؛ لأنّه يرجع ويؤول إلى حُب الله، وإلى حُب الرموز التي تدل على الله تعالى، وحُب آيات الله، والأئمة هم آيات الله والدالّون عليه والمشيرون إليه، وأيضاً ما فيهم من الصفات والكمالات هي في الواقع مشتقة من الكمالات الإلهيّة، وهم يُجسِّدون الكمالات بدرجة عالية، فحبّهم يُمثل في الواقع حُبّ الله، وحُب الحيثيات والقيم الربّانيّة، هذا بنفسه كمال.

منهج الأنبياء في تربية الإنسان

نحنُ لابُدّ أن نعلم بأنّ مدرسة الأنبياء ومنهاج التربية الإسلاميّة، تختلف عن مدرسة الفلاسفة والمفكّرين والمُنظّرين، مدرسةُ الأنبياء مدرسة تتعامل مع الجانب الإنساني والروحي، تتعامل مع عواطف البشر وقلوبهم، لا تتعامل فقط مع الأفكار المُجرّدة والنظريّة فيه ـ كما قلنا بالأمس ـ بل تتعامل مع الجانب القلبي، لأنّ هذا الجانب هو المُميّز للإنسان عن المخلوقات الأخرى، ربّما تكون المخلوقات لها درجة من الإدراك والقدرة على التعلُم، إلاّ أنّ هذا الجانب العاطفي ـ وما نُسميه (مدركات العقل العملي المتعلّقة بالوجدان والفطرة البشرية) ـ من مختصات الإنسان، وهو الذي يُميّز الإنسان عن سائر الموجودات ويعطيه هويته الخاصّة به، ولا يُشاركه فيها أيُ كائن آخر، مهما صُمِّم على شكل أنيق، وغريزة دقيقة في إدراك بعض الأمور، سواء كان من الحيوانات

أو الملائكة، أو من الجان، في الحيوان نستطيع أن نتصوّر شيء يُشبه الإدراك، يقال: إنّ النمل عندما يؤسِس بيته، له دقّة هندسيّة ربّما كبار المهندسين لا يستطيعون هندستها، هذه قد نعتبرها مرتبة شبيهة بمراتب الإدراك، إلاّ أنّ الجانب المتميز بالإنسان ذاك الذي نُعبِّر عنه بالقلب والعواطف والروح.

مدرسة الأنبياء تُركِز في تربيتها على هذا الجانب أكثر، ولهذا تجدون القرآن الكريم دائماً في وصفه للعلاقة بين المؤمنين بالرسالة الإسلاميّة وبين الله، يستعمل لفظ القلب: (إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ)(1) (رَحيمٌ)(2) الرحمة من القضايا المتعلّقة بجانب العواطف والقلب... (وَدوُدٌ)(3) الآيات التي تصف الله وتشرح سنخ العلاقة والعناية الإلهية بالبشر، تجدون هذه الآيات دائماً تُركِز على مقولات هي مقولات عالَم القلب والفؤاد والروح، لا عالَم المصطلحات البشريّة والأفكار المجرّدة لماذا؟

لهذه النكتة التي أشرنا إليها؛ لأنّ هذه المدرسة ـ مدرسة الأنبياء ـ تريد أن تُرَبي الإنسان وتُكمِل إنسانيته وكمالاته، في الواقع أساسها ومجراها هذا الجانب، جانب القلب والروح والوجدان.

الإنسان من خلال هذا الجانب، يستطيع أن يتكامل وينطلق إلى الخيرات، الصفات الأخلاقية والوجدانية الحميدة، تجدون أنّها جميعاً تصدر من القلب لا من العقل، حتى التضحية، الحسين (عليه السلام) عندما يُضَحي بنفسه وعياله؛ هذا كونه يعشق الله سبحانه وتعالى، له مرتبة من التعلّق العاطفي والوجداني على مستوى العشق المطلق الحقيقي، ولولا هذا العِشق وهذا الحُب والعُمق في الارتباط بالله، لمَا صدرت تلك التضحيات العظيمة.

إذن، فهذه خصّيصة لابُدّ أن ندركها في طبيعة مدرسة الأنبياء، والتربية التي اكتسبتها البشريّة في تاريخها من مدرسة الأنبياء، تختلف عن التربية التي تكتسبها من مدارس الفلاسفة ومدارس المُفكرين والعلماء.

هناك الفلاسفة يتعاملون مع الجانب العقلي المُجرّد في الإنسان، أمّا الأنبياء فلا يتعاملون مع الجانب العقلي المُجرّد فحسب، بل يصبّون اهتمامهم على الجانب القلبي والوجداني في الإنسان ويحاولون أن يُربّو هذا الجانب؛ لأنّ هذا الجانب في الواقع إذا تربّى، يستطيع أن يُبرِز جوهرة الإنسانيّة في الإنسان، ويصوغ منه كائناً متّصفاً بالكمال ومتشبّهاً بالله تعالى ومتّصفاً بأخلاقه، ومن خلال هذا المسار وهذا الجانب، يمكن للإنسان أن يتسامى ويصعد إلى ما أراده الله له أن يصعد إليه  ويجسّد خلافته الحقيقية.

ولذلك نجد أنّ القرآن لغته في شرح العلاقة الإلهية مع البشر، لغة الحُب والعواطف والأحاسيس الوجدانيّة، تجدون الآيات دائماً تصف علاقة الله  بالمؤمنين وعلاقتهم بالله، بقولها: (يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ)، الحُب في الطرفين، وإذا كانت هذه طبيعة المدرسة الإلهيّة وطبيعة تربية الأنبياء للبشريّة، ترتكز على هذه النقطة، إذن يكون من الطبيعي لنا أن نفهم كيف أنّ محبّة أهل البيت والمودّة والقربى لآل الرسول، هذه أيضاً جزء من هذه الخريطة، وهذه التربية، وهذه الرسالة، وفي ضمن هذا الهدف.

كما قلنا: هم ثقل الله في الأرض، وحبل الله الممدود بين السماء والأرض، فحُبّهم حُبّ الله، والمودّة إليهم مودّة إلى الله، وهذا هو الشيء الذي يريده الله للإنسان؛ لأنّ الإنسان عن طريق هذا الحُب ـ وعن طريق حُب الله ورموزه وما يرتبط به، والآيات الدالّة على الله ـ وبه ومن خلاله، يكون كاملاً متسامياً رفيعاً، لماذا يكمل الإنسان عن طريق هذا الحب؟

لأنّ الكمال الحقيقي للإنسان، يكون باقترابه من الكمال المطلق وهو الله، وباب هذا الاقتراب من الكمال المطلق هو القلب لا الذهن وحده؛ لأنّ الإنسان قد يُدرِك وجود الله، ولكن لا يتكامل ذلك؛ لأنّ إدراكه لم ينزل من عالَمه المجرّد ـ عالم النظريّات والمصطلحات ـ إلى قلبه وأحاسيسه ووجدانه وفطرته لكي يتفاعل معه، كثيرٌ من الفلاسفة كانوا يَعرفون إثباتات على الصانع، واثبات العقل الأوّل، ومناقشات عريضة أخرى، إلا أنّ هذا كان تَرَفاً نظريّاً واستدلالاً ذهنياً مجردّاً، ولم يخرج من التجرّد الذهني عندهم إلى عالَم القلب فلم يتكاملوا، ولعلّ كثيرٌ غيرهم كانوا أكثر منهم كمالاً وأرفع مقاماً في الإنسانيّة والأخلاق.

  إذن، كمال الإنسان إنّما يكون عن طريق الاقتراب من الكمال المطلق، وباب هذا الاقتراب هو القلب والوجدان، إنّ قلب الإنسان يتعلّق بالله وهو معنى المحبّة والمودّة، إنّ المودّة الحقيقية إنّما تكون إذا صَدرت من القلب، وهذا مؤشِره عادةً هو التشبّه بصفات المحبوب، الحُب الحقيقي هو أن لا يغفل المُحِب عن مَحبوبه (أي عن التشبّه بالمحبوب)، قد يكون كثيرٌ من الناس يدّعُون المودّة والمحبّة، ولكنّكم تجدون أنّ أعمالهم لا تُشِر إلى هذا الشيء، فلا تقولوا إذا كان الباب هو المحبّة والمودّة، فكيف هؤلاء هم موالين ومُحبّين ومع ذلك تصدر منهم معاصي....؟

في الواقع، هذا ضُعف في درجة الحُب وأصل الحُب، وتستطيع أن تقيس هذا الشيء على القضايا البشريّة، فالذي واقعاً يَحب ويَعشق محبوباً في الحياة، عادةً لا ينفك عن التوجّه إلى محبوبه والاتصال به،.... نعم، هذا الذي تجده ينفك ويدّعي أنّه يُحِب، هذا حُبّه مُزيّف أو لغاية أخرى، والحُب الحقيقي والمودّة الحقيقيّة إذا كانت حقيقيّة، كان منبعها وموردها ومكانها القلب حقاً، لا اللسان والكلام، فالذي واقعاً يَحب الله والأدِلاّء على الله ـ وهم الأئمة (عليهم السلام)  ـ لا ينفك عن الالتزام بشؤون المحبوب، وعن التخلّق بأخلاقه وبما يريده من إرشادات وتوجيهات وتوجّهات.

إذن، فحُب آل البيت (عليهم السلام)  هدفٌ بنفسه وغاية؛ لأنّه جُزء وجانب ومظهر من مظاهر الحُب لله، والحُب فيه، وهذا هو الكمال الحقيقي في الإنسان بأن يَحب الكامل وهو الله، هذا هو حُب الكمال وحُب الكاملين، هذا هو الجانب الأول الموجود في هذا المبدأ.

قلنا: إنّ هذا المبدأ، هو هدفٌ وغايةٌ في نفسه، وأيضاً طريق حُب الأئمة طريق من طُرق الوصول إلى الأهداف التي تريدها الرسالة الإسلاميّة، طريقٌ من عدّة اعتبارات وجهات، من جهة؛ لأنّه عن طريق هذا الحُب، سوف يكون هناك توجّه وعناية بهذا المحبوب وهم آل البيت، وهذا المحبوب هو الثقل الحقيقي للرسالة السماوية في الأرض وهو عِدل القرآن.

قلنا: إنّ الآية عبّرت بفي ولم تُعبِّر باللام، ولم تقل للقربى؛ لأنّ إحدى النكات في التعبير بفي، هو إفادة للحصول، ولأنّه هذا طريق، ومكان، ومحل وضع المحبّة فيه، والأمة إذا جعلت مودّتها  ومحبّتها في هؤلاء، سوف يكون هؤلاء باب ربطها بالله، لأنّهم معصومون ومكرّمون، وسوف يكونون مصادر ومنابع أمينة لعطاء الرسالة وأحكامها وأخلاقها ومفاهيمها، وبهذا الترتيب سوف يكون ضمان حفظ الشريعة الإسلاميّة، هو حُبّهم وعن هذا الطريق، وهذه إحدى الجوانب الطريقيّة في مودّة أهل البيت (عليهم السلام).

قلنا: إنّ المودّة ليست مودّة شخصيّة بل رساليّة، في الواقع مودّة تُعبِّر عن مَنزلة رفيعة لهؤلاء ـ كما شرحنا في الليلة السابقة ـ هذا النوع من التودّد لهؤلاء، سوف يجعل البشريّة يأخذون وينهلون أحكامهم وتشريعاتهم من هؤلاء.

بهذا تُحفَظ الرسالة من أي تحريفٍ، أو تشويشٍ، أو خطأٍ، كما وقع فيه مَن لم يجعل حُبّه لهؤلاء بهذا المعنى، حيث إنّه احتار وتاه وانتهى به الأمر إلى مذاهب ضالّة مضلّة، فمِن هذا الحُب سوف تُصان الرسالة، وتُحفَظ الشريعة الإسلاميّة كشريعة كاملة مُكمّلة، والرسالة الإسلاميّة كرسالة مُعطاءة، كعقيدة، كأفكار، كمفاهيم، كتشريعات، تُضيف للإنسان وللوجود الخير والكمال، هذا شيء.

الطريقيّة الثانية الموجودة في هذا المبدأ ـ مبدأ مودّة أهل البيت ـ أنّ هذه المحبّة وهذه المودّة لهؤلاء سوف تجعل ـ بعد أن عرفنا أنّها مودّة رساليّة ـ قيادة الرسالة الإسلاميّة في الأرض، سليمة ومستقيمة صالحة.

إقامة العدل في الأرض بحاجة إلى رسالة صحيحة وقدوة صالحة

الإنسانيّة في طلبها الدائم لإقامة أحكام الله في الأرض، تحتاج وتفتقر إلى عنصرين:

العنصر الأول: الرسالة الصحيحة، أو ما يُعبّر عنه اليوم بالأيديولوجيّة الكاملة وغير المحرّفة والمشوهّة.

العنصر الثاني: سلامة مَن يريد أن يُطبِّق هذه الرسالة، مَن يتحمل عبئها، وإقامة أحكامها، وتحكيمها في الأرض، وهذه ليست بأقل أهمية وخطورة من سلامة أصل الرسالة، بل هذه كثيراً ما تتداخل مع العنصر الأول، إذا فُقِد العنصر الثاني يُسبِب ذلك فقدان الأول أيضاً، فتُحَرّف الرسالة كما حُرِّفت الرسالات الصحيحة كثيراً على مرّ العصور.

ولهذا تجد حديث الثقلين، يجعل العترة والرسالة لا ينفكّا، فهما ثقلان لا ينفك أحدهما عن الآخر حتى يَردا على النبي الحوض، في الواقع أحدهما يَحمي الآخر، وإذا كان القرآن يُعبِّر عن العنصر الأول، فإذن القرآن يعرض الشريعة السماوية بشكل كامل، وأُكمِلت الشريعة الإسلاميّة واكتملت على يد النبي: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، والعِدل الآخر وهم الأئمة، بالإضافة إلى دورهم في شرح وتفسير وتوضيح الشريعة الإسلاميّة المثبّتة في القرآن، لهم دور آخر، وهو دور تحكيم الشريعة وإقامة حُكم الله في الأرض، وهذا الدور إن لم يكن أهم لن يقل أهميّة عن الأول؛ بل هو يحفظه ويصونه ويُجسِّده.

إذن، فنحنُ بحاجة إلى مَن يحفظ بقاء الرسالة، ويقوم بتطبيقها تطبيقاً سلميّاً في الأرض، وهذا الدور يقوم به الأئمة (عليهم السلام).

هذه المحبّة والمودّة التي أكّد عليها القرآن والسُنّة والمواقف النبويّة، حيث يُلاحظ من خلال السيرة النبويّة، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يَدع فرصة، ولم يَدع مناسبةً إلاّ وأكّد فيها على المحبّة لأهل البيت (عليهم السلام).

أقول: هذا التأكيد البالغ الشديد من النبي (صلى الله عليه وآله) في كل شاردة وواردة، في الليل والنهار، في كل غزوة وبعد كل غزوة، كان يقف على باب بيت فاطمة (عليها السلام) ويُخاطِبهم بخطاب مُعيّن، عندما يرجع من الغزوة، أول ما يأتي إلى بيت فاطمة (عليها السلام) قبل أن يدخل إلى بيته وداره، ويتكلم في حُب فاطمة وأولادها، هذه المرتبة العظيمة، وهذا المقدار الزائد والكثير من التأكيدات، في الواقع من أجل أنّه من خلال هذه المحبّة والمودّة، يمكن للأمة أن تتوجّه للثقل الثاني، وأنّ هؤلاء يتوجّهون إليهم، وينصرفون عن غيرهم، ويجعلونهم الواسطة بينهم وبين الله، والمُمثِلون لحُكم الله في الأرض.

وهذا العنصر الثاني، يُحفظ من خلال هذه المودّة والمحبّة، في الواقع عندما نُراجع تاريخ المسلمين، نجد أنّ لهذه التأكيدات المتواترة على هذا المبدأ ـ مبدأ محبّة آل البيت ـ دورٌ كبير شدّ الناس إلى الأئمة، وبالتالي دورٌ كبير في التقليل من التحريف والتشويه الذي مُنيَت به الرسالة الإسلاميّة، وقيادة الرسالة، والتجربة الإسلاميّة، فلولا هذه الإرهاصات والأدوار التي قام بها الأئمة كُلٌ في مرحلته، وبحسب مقتضيات حياته القياديّة، لكانت الشريعة الإسلاميّة قد ابتُلِيت بمَا ابتُلِيت به الشرائع السابقة ومُسِخَت، لأصبحت هذه الشريعة أكثر مسخاً من الشرائع السابقة، باعتبار أنّ الطواغيت الذين ابتُليت هذه الشريعة بهم، كانوا أكثر لؤماً وأكثر عدواناً على الإسلام، وأكثر كفراناً ممن ابتُليت بهم الشرائع والأمم السابقة.

الإنسان عندما يُطالع أعمال بني أميّة، يجد أنّ ما قامت به هذه الفئة الباغية، لم تقم به أيّة فئة من الطواغيت في أي زمان، تعلمون كم بَذل معاوية من الأموال في سبيل تشويه كل الأمور الواردة في حق علي (عليه السلام) وبأشكال مُختلفة من العمل، حَرّف الروايات الواردة عن الصحابة والتابعين، واستطاع أن يشتري الضمائر من الذين كانوا يُعتبرون مرموقين على أن يضعوا الأحاديث، إمّا في ذم علي (عليه السلام)، أو في تثبيت نظائرها في الآخرين في حقه، أو بعض الصحابة الآخرين، ما بذله مَن الأموال الطائلة في استمالة كل مَن كان يمكنه استمالته من شيعة علي (عليه السلام)، يكتب لكل وِلاته وعمّاله، لاحِظوا مَن كان متشيعاً لأبي تراب ـ كان يطلق عليه أبي تراب ـ إذا كان يُمكن استمالته، استميلوه بالأموال، وإلاّ فاقتلوه واحذِفوا اسمه من الديوان،... محاولات وممارسات عجيبة.

حتى لاحظتُ في بعض التواريخ ممارسة في ممارسات هؤلاء تشبه ممارسات صدام يقول:

إنّ ولاة معاوية على العراق رَحّلوا وهَجّروا وسَفّروا (50) ألف من شيعة علي، من الكوفة إلى خراسان، هذه التواريخ تذكُر أنّ الممارسات التي يُطبّقها هذا الطاغوت الجاثم على صدر شعبنا في العراق، نفسها كانت مُتّبعة في ذلك الزمان و(50) ألف من المؤمنين سُفِّروا عن ديارهم، وهُجِّروا وشُرِّدوا لا لذنب، إلاّ أنّهم يوالون علياً(عليه السلام).

في كتب التاريخ يُذكر أنّ الشخص كان أخوف ما يخاف على نفسه، أن يُتّهم بأنّه من شيعة ومحبين علي، كان يَلعن والديه لماذا سمّوهُ باسم من الأسماء المشابِهة لأسماء آل البيت، إلى هذه الدرجة وصلت الممارسات القمعية الرهيبة، وسياسة الترهيب والترغيب أسلوبان أستعملها بنو أميّة في سبيل تشويه هذا الخط الذي هو في الواقع خط الرسالة، والألاعيب التي مارسوها والنظريات التي جاءوا بها من أجل أن يمحو هذا الخط.

قرأت في كتاب... كان يقول:

جاء الوليد فأحضر أربعين صحابياً، هؤلاء الأربعون أجمعوا على أنّ خليفة المسلمين ليس له حساب وكتاب يوم القيامة؛ لأنّه ساقط ومرفوع عنه القلم، هذا المد المنُحَرف الهدّام الذي أوجدته الفئة الباغية، لو لم يقابله النبي منذ البداية بالأحاديث والتأكيدات على حب آل البيت، وأنّهم ثقل الله وعِدل القرآن،... وأيضاً المواقف التي وقفها الأئمة أنفسهم في صون الرسالة، والذّب عنها ورفع هذه التحريفات،... ولولا هذه المقابلة، كانت تقع المصيبة، وكانت الرسالة تُمسَخ حقاً.

في الواقع، من النكات التي تُستأثر باهتمام الإنسان في مقام استعراض التاريخ ومسيرة الأئمة، نجد هذه النقطة: وهي أنّ الأئمة استطاعوا لا فقط أن يحفظوا خط الإسلام المتمثل في الخط الشيعي، ومن أصحابهم، وحُملى تراثهم، وفكرهم، وهديهم، بل حتى الخط العام الإسلامي، عندما صار ما صار من الاتجاهات والتيارات والمشاكل؛ نتيجة أعمال هؤلاء المنحرفين، والبَلبَلة التي زَعزَعت الوضع العام للمسلمين، وأوجبت التشويش في ذهنيّة المسلمين ومعتقدات الإسلام الأولية، استطاعوا أن يَحفظوا سُمعتهم ومَنزلتهم حتى من الخط العام، ويَحفظوا بذلك ما يمكن حفظه من أصول الرسالة الإسلاميّة على المستوى العام، ولهذا تجدون أنّ الأئمة يمتازون بدرجة من القدسيّة حتى عند غير أصحابهم، لا تجد شخصاً في المسلمين يُشكِّك في مقام الأئمة، كعلماء، وكذريّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكأكرم وكأفضل الناس، حتى الأعداء، حتى بنو أميّة، لم يستطيعوا أن يُشكِّكوا الأمة فيهم، فهذا معناه أنّ هؤلاء استطاعوا أن يقوموا بدورٍ دقيق وخطير، بحيث استطاعوا أن يحفظوا دورهم حتى في التأثير على الأعداء وعلى الساحة، ساحة الأعداء ومنطقتهم، وشعب العدو ونفسية المُخالفين، وبذلك استطاعوا أن يحفظوا ما يمكن حفظه من أصول الشريعة والرسالة، من الفكر الإسلامي الصحيح، والأخلاق والمبادئ الإسلاميّة الصحيحة، حتى الفقه السنّي أو كُتب السنّة، الآن تجدون فيها تشابهاً كبيراً وفي دائرة واسعة مع ما هو موجود في الفكر الشيعي، وهذا من نتاج عمل الأئمة.

هذا الحفظ في كُتب أبناء العامة، هذا المقدار المحفوظ فيه من الإسلام، هو مقدار مُعتد به خصوصاً في الفروع والتشريعات، والأحكام الإسلامية، والقضايا الإسلامية العامّة غير ما ترتبط بالخلافة والقيادة، وهذه المسائل المحفوظة في الواقع حَفَظها الأئمة في هذا المجال، بجهودهم ودقّة عملهم، وسياساتهم التي استطاعت أن تجعلهم مقياساً للحق والباطل حتى عند أولئك من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

إذن، هذا الحب بحسب الحقيقة له طريقيّة بهذا الشكل أيضاً، حيث استطاعت الأمة الإسلامية أن ترتبط بالأئمة ولو بهذا المقدار، أن تجعل منهم العلماء الفضلاء الذين هم أعرف الناس من غيرهم بأحكام الإسلام؛ لأنّها نزلت في بيوتهم، أخذوها عن آبائهم.

وأحد الشواهد أنّ الأئمة في كثير من الموارد عندما يذكُرون الحكم الشرعي، يسندوه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يقول:

عن أبي، عن جدي،... عن رسول الله، والواقع أنّه لا يحتاج إلى ذلك، وهو يُحدِّث زرارة أو محمد بن مسلم، ولكن مع ذلك لا يكتفي بهذا المقدار، بل يسنده إلى النبي، لأنّه لا ينظر إلى زرارة فحسب، بل ينظر إلى أبعد منه، لو كان يريد أن يُحاكي زرارة، فقط يكفي أن يُبيّن له الحكم الشرعي، وزرارة مؤمن به، بل هو يقصد أن يؤثر حتى على الفقه السنّي؛ لأنّ أولئك يجدون رواية صدرت عن الصادق مسنودة إلى النبي، عندها لا يمكن أن يُناقش فيها، لأنّ هؤلاء أُناس معروفون لا يشك أحد في فضلهم، وتقواهم، ودينهم، وعلمهم.

والحديث المعروف بـ(ذات السلسلة الذهبية)، حديث الرضا (عليه السلام) عندما قَدِم إلى مرو، وكان أكثر المدينة من السُنّة آنذاك، تجدون أنّه لا يُبيّن الحديث من قِبل نفسه، بل يسنده عن أبيه، عن جده، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويصله إلى الله جلّ شأنه، هذه العنايات من أجل أن يبقى للأئمة دور حقيقي في حفظ ما يمكن حفظه، حتى في مجتمع الذين كانوا يُعادون خط الأئمة بشكل وآخر، والذين استعان بهم الطواغيت لغصب مقامهم وحقهم وغصب الخلافة عنهم، حتى في تلك الساحة والمجال كانوا يهتمون في حفظ الشريعة والرسالة.

وهذه المودّة والمحبّة والمبدأ الذي سُمّي بـ(المحبّة لأهل البيت)، كان له دور مهم في هذه النتيجة، وهذا الهدف الذي حقّقه الأئمة، بل أستطيع أن أقول أكثر من هذا، أنّ أحد عوامل نجاح الثورات الإسلامية في العالم، والتي منها الثورة الإسلامية في إيران، هو هذا المبدأ؛ فإنّ من أهم العوامل في نجاح الثورة الإسلامية في إيران هو:

مبدأ الوَلاء المطلق، والمحبّة على مستوى الفناء والذوبان في حُب آل البيت، هذا الارتباط والعرفان الذي نجده في الشعب الإيراني المُضحّي، هو قمّة العرفان الموجود اليوم للأئمة (عليهم السلام)؛ لأنّ عندهم درجة من التعلّق القلبي، والارتباط العاطفي بالأئمة من التقدم بمكان، ولعلّ هذه الدرجة غير موجودة في الكثير من شعوبنا الإسلامية، هذه الدرجة من العرفان والموالاة والمحبّة لأهل البيت التي تجدونها تتجسّد بصدق، كعبرات ساخنة، ودموع صادقة، عندما يُذكَر أسم الحسين (عليه السلام) أو الحجّة (عليه السلام).

هذه الثورة المباركة إذا استعرضنا تاريخها قبل الثورة، نجد أنّ هذه الحالة كانت موجودة، وهذه المجالس الضخمة التي كانت تُعقد تحت العديد من العناوين، باسم دعاء الندبة الذي هو مناجاة مع الأمام الحجة (عليه السلام)، وأنتم تعلمون ما لهذا الدعاء من دور كبير في الربط بالأئمة، والشد الوثيق بمبدأ القيادة للمعصوم.

والارتباط بالقيادة المعصومة، يعني الارتباط بمستلزمات المعصوم، ويأتي منها خطّه وأفكاره، ومنها خط نوّاب المعصوم وهم (العلماء)، فلا إشكال أنّ هذا الارتباط العاطفي الوثيق الشديد، كان له دوره في شد الجماهير الإيرانية بعلمائها، بمراجعها، فاستطاعت هذه الجماهير أن تصل إلى ما وصلت إليه، بحيث لولا هذه التربية الحقيقية، على مستوى التعلّق والذوبان في حُب آل البيت، ما كان يمكن أن تنشد الأمة بهذا المستوى من الانشداد بخط الإمام ونوّابه.

الآن تجدون الذي يُحرِّك الجَبهات، حُب الحسين(عليه السلام)؛ لأنّه امتلك الضمائر، كذلك شعار كربلاء؛ لأنّها تربة سيّد الشهداء، تربة الإمام (عليه السلام) المقدّسة، لقد أسّروا الوجدان هؤلاء العظام، وكبّلوا العواطف والأحاسيس بعقال الحُب الصادق المتفاني، إذن هذا المبدأ ـ مبدأ المحبّة لأهل البيت ـ بالإضافة إلى خلفياته الفلسفيّة والعقائديّة، هذا المبدأ له مِثل هذه الآثار الاجتماعية والتاريخية، وهي حتماً كانت منظورة للنبي (صلى الله عليه وآله) عندما كان يؤكِّد على محبّة آل البيت (عليهم السلام)، كان ينظر إلى مثل هذه الآثار، وفي الواقع من دون هذا المبدأ، ومن دون التوغل العاطفي في مودّة الأئمة والعشق الحقيقي لهم، لا يمكن أن نُقيم حُكماً إسلامياً صحيحاً بالنحو الذي نريد، وبدونه إمّا لا ننجح في أصل القضية، أو إذا نجحنا ننتكس، من دون هذا الحُب لا نملك تلك الدرجة من التشبّه والتخلق بأخلاق الأئمة (عليهم السلام)، الذي لابدّ منه في صيانة الثورة أن تنحرف عن مسارها الإلهي الحقيقي، وهذا بُعد آخر لطريقية محبّة أهل البيت (عليهم السلام).

والحمدُ لله رب العالمين

ــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 13.

(2) هود 90.

(3) هود 90.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=645
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 07 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24