• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : دروس أخلاقية من سورة الفاتحة ( الدرس الرابع ) .

دروس أخلاقية من سورة الفاتحة ( الدرس الرابع )

الشيخ : عيسى جاسم القفّاص

(إياك نعبد وإياك نستعين)

العبد هو المملوك، والعبادة هي أن ينصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه، ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(1)، وتقديم إياك على العبادة يفيد الحصر فلم يقل نعبدك بل إياك وحدك نعبد، والعبودية تتعمق بمقدار المملوكية، فلو كان المالك يملك نصف العبد كانت عبودية العبد في نصفه، وإذا كان يملكه بأكمله صار عبدا محضا، والله يملكنا ملكا حقيقا كاملا، يملك حتى النَفَسَ الذي نتنفسه، فالله مالك كل شيء {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(2) لذا فلا يستعان بغيره سبحانه وتعالى(3)؛ لأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، وفي هذه اللطيفة عبر:

العبادة هدف وجودك: قلنا إن تقديم إياك على العبادة يفيد حصر العبادة بالله سبحانه وتعالى، فلا معبود سواه، هذا من جهة ومن جهة أخرى فلا وظيفة للعبد غير العبادة؛ لأن هذا هو مقتضى المملوكية المطلقة لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}(4)، هذه الآية المباركة تحصر وظيفة الإنسان بالعبادة وتقول له ليس لك عمل في هذه الدنيا غير العبادة، وكل عمل ليس عبادة فإنه يخالف الهدف من الخلق، ويكون حسرة يوم القيامة حتى لو لم يملؤه الإنسان بالذنوب، فإنه غفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى، والغفلة تسبب اسوداد القلب، عن أبي عبد الله(ع) قال: كان المسيح (ع) يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله، فان الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون) (5) حتى لو كان الكلام مباحا وخاليا من كل إشكال شرعي؛ لأن طبيعة الإنسان أنه بمجرد أن ينشغل عن الله بشيء يقسو قلبه ويبتعد وهذا أمر تكوني في الإنسان خلقه الله عليه.

جعل كل عمل عبادة لوجه لله يكون بنية القربة له سبحانه وتعالى، وذلك يوجب رحمة خاصة للعبد من قبل ربه سبحانه وتعالى وهذا الذي خلق الله العبد من أجله، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(6)، لقد خلقك الله ليرحمك برحمته الخاصة، وإنما تتحقق الرحمة الخاصة بالعبادة(7)، فكل وقت يقوم فيه الإنسان بعمل لم ينو فيه القربة لله حتى لو كان نوما أو أكلا، فإنه فوت على نفسه رحمة خاصة، وخالف الغرض الذي من أجله خلق، فكل لحظة لا يكون فيها الإنسان مشغولا بالعبادة فهي لحظة ضائعة من عمره لا توجب له إلا البعد عن الله سبحانه وتعالى، عن النبي(ص) قوله في وصيته لأبي ذر رضوان الله عليه: (يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية صالحة حتى النوم والأكل) (8).

وما أسهل أن يجعل الإنسان جميع أعماله لوجه الله سبحانه وتعالى، وما أبلغ ذلك في توفيق الإنسان في حياته وأنسِه بربه، وما أوجب ذلك لنظر الرب إلى عبده الفقير، الذي يسعى أن يكون كل شيء له سبحانه وتعالى، وكم من أعمال كثيرة نقوم بها من دون نية القربة، لو نوينا القربة فيها لطهرت قلوبنا ورفعتنا، فكل أب يخدم عياله، وكل أم تخدم زوجها وأولادها، وكل رجل يعمل أكثر النهار، والطالب يدرس،... لو نوى كلُّ إنسان كلَّ أعماله قربة إلى الله لكان من العُبَّاد حقا وحقيقة، ولوجد نفسه يملك علاقة وطيدة بالله سبحانه وتعالى، ثم يجد رغبة وإقبالا على العبادة والصلاة والمناجاة.

الاستعانة بغير الله شرك: إذا آمن الإنسان بأنه لا يوجد مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، فبطبيعة الحال لن يطلب العون إلا منه سبحانه وتعالى، ولن يسد حاجته إلا به سبحانه، وقد ورد أن الله اتخذ إبراهيم خليلا لهذا السبب، فإن الخلة التي هي بمعنى الصحبة مأخوذة من الخل أي النقص، فكأن الصاحب يسد حاجة صاحبه، وكان إبراهيم لا يطلب شيئا من غيره  سبحانه وتعالى ولا يستعين بغيره سبحانه، لأنه وصل إلى الحقيقة القائلة "لا مؤثر في الوجود إلا الله" قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}(9) وكل استعانة بغيره سبحانه وتعالد شرك؛ لأنها تعبر عن اعتقاد -ولو كان بسبب الغفلة- بتأثير غير الله سبحانه وتعالی؛ لأن الإنسان لا يستعين إلا بمن له القدرة على الإعانة والتأثير، وهذا شرك في التوحيد الأفعالي لله سبحانه وتعالی، ولذا جاء في النصوص الدينية التأكيد على الذكر الشريف التوحيدي "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

وكم هي حياتنا مملوءة بالشرك الخفي بسبب الاستعانة بغير الله سبحانه وتعالی؟ فكل استعانة بغير الله إذا لم يلتفت الإنسان فيها إلى أن المعين إنما أعان بقدرة الله وأنه مظهر لقدرة وعلم الله سبحانه وتعالی فهي شرك خفي؛ لأنها توجهٌ لغير الله، وما كان الرياء شركا إلا لأنه توجه لغير الله سبحانه وتعالی، فعندما يستعين أحدنا بصاحبه أو أبيه في المال دون أن يلتفت إلى أن المعين إنما أعان ما هو لله وبقدرة الله فقد أشرك، وعندما يمرض الإنسان ويذهب ليستعين بالطبيب، فإن لم يلتفت إلى أن الشافي هو الله، وأن الطبيب وسيلة خلقها الله، وأن ما عند الطبيب من علم وقدرة هي من الله فقد أشرك، فكم نحن مشركون، وكل شرك نجس، فكم هي أرواحنا ملوثة بلوث الشرك والتوجه لغير الله، وكل مصائب الإنسان تنشأ من التوجه إلى غير الله سبحانه وتعالی، طبعا هذا المستوى من الشرك ليس محرما فقهيا لكنه مذموم بالنص والعقل، وربما سبب ذنبا شرعيا.

عن الحسين بن علوان قال: كنا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمل لما قد نزل بك فقلت: فلانا، فقال: إذا والله لا تسعف حاجتك ولا يبلغك أملك ولا تنجح طلبتك، قلت: وما علمك رحمك الله؟ قال: إن أبا عبد الله(ع) حدثني أنه قرأ في بعض الكتب أن الله تبارك وتعالى يقول: ( وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينه من قربي، ولأبعدنه من فضلي، أيؤمل غيري في الشدائد؟! والشدائد بيدي، ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري؟! وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها؟! ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم أن من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد إذني، فمالي أراه لاهيا عني، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده وسأل غيري، أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم اسأل فلا أجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أوليس الجود والكرم لي؟! أوليس العفو والرحمة بيدي؟! أوليس أنا محل الآمال؟! فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري، فلوا أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة وكيف ينقص ملك أنا قيمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني ولم يراقبني) (10).

والحمد لله رب العالمين.

المصادر :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) غافر:60.

(2) المائدة:120.

(3) راجع تفسير الميزان: تفسير الآية.

(4) الذاريات:56.

(5) أصول الكافي: باب الصمت وحفظ اللسان.

(6) هود:118/119.

(7) وهذا معنى النسخ في ما ورد عن أمير المؤمنين(ع) بعد ذكر عدة آيات من الناسخ والمنسوخ قال (ع): ونسخ قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قولَه :  {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} أي للرحمة خلقهم.(تفسير الميزان/ج1/ص254). فالنسخ في هذه الرواية ليس بمعنى النسخ الاصطلاحي المتعارف.

(8) مكارم الأخلاق: 2 / 370 / 2661، بحار الأنوار: 77 / 82.

(9) النحل:53.

(10) أصول الكافي: باب التفويض إلى الله والتوكل عليه.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=591
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 07 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24