• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : القرآن ومنهج التفكيـر .

القرآن ومنهج التفكيـر

الدكتور عبد الجبار شرارة

ممّا لا شكّ في أنَّ الحاجة إلى منهج في التفكير لضبط العمليّات والأنشطة العقليّة المتنوِّعة أمرٌ على غايةٍ من الأهمِّيَّة والخطورة، ليس على مستوى تجنيب الإنسان حالة التخبّط والفوضى والاضطراب فحسب ـ وهذا أمرٌ بحدّ ذاته يشكِّل مرتكزاً مهمّاً في أَيَّة بِنَاء حضاري ـ وإنّما لِمَا لذلك المنهج من دور خطيرٍ أيضاً ينعكس على ضبط الفعاليات الاجتماعيّة، والأنشطة الأُخرى، وله انعكاساته الجِدِّيَّة أيضاً على المسيرة العلميّة والتطوّريّة باتّجاه الترقِّي والبناء (عمارة الكون)، ومن هنا كان اهتمام القرآن جِدِّيَّاً وأساسياً في دعوة الإنسان إلى امتلاك منهجٍ صحيح وسليم في التفكير.

وهذا الأمر يطرحه القرآن ليس على أنّه (موعظة)، بل جعل التفكير (فريضةً) على كلّ مُسلمٍ، فامتلاك منهج التفكير الصحيح، والوصول إلى الحقائق لم يُوكله القرآن إلى (النخبة) أو إلى طبقةٍ معيَّنة، كما حصل مثل هذا في (عمليّة استنباط الحكم الشرعي) إذ أوكل العمليّة هنا إلى المتخصِّصين من (الفقهاء)، وفي هذا قِيْمَة حضاريّة وهي احترام (ذوي الاختصاص)، وإنّما جعل مهمّة التفكير الفلسفي وامتلاك المنهج وظيفة كلّ فردٍ على التعيين. والقرآن هنا وإنْ قَرّرَ ذلك وأكّده مراراً، إلاّ أَنّه لم يترك الإنسان نهباً (للمناهج غير السليمة أو المنحرفة) تتناهبه ذات اليمين وذات الشمال، بل وضع أمامَهُ (المنهج المستقيم) محدِّداً أبعادَه ومعالمه، مبيِّناً عناصره وآفاقه. وهذا ما نعرض له في هذه الدراسة.

أوّلاً: الدعوة إلى التفكير: إنَّ الدعوة إلى التفكير وامتلاك المنهج تأخذ بُعْدَين في نظر القرآن الكريم:

أوّلهما:

دعوة الإنسان إلى تدبّر آيات الكون وصفحات الوجود وآفاقه، وذلك من خلال الكشف عن حقائقه المذهلة، وعرض تجلِّيات القدرة الخلاّقة، وصور الإبداع في هندسة الوجود، وهذا يعني الحثّ على التأمّل الجِدِّي، وتعقّل ما وراء ذلك، قال تعالى:

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (1)، فهنا دعوة إلى النظر والاستقصاء والتعقّل.

والبعد الثاني:

إنّه يحدِّد وظيفة الفرد المسلم على التعيين بضرورة التفكير، ويأمره صراحةً بذلك.

قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآَخِرَةَ...)(2).

وقال تعالى: (...وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً...)(3).

وقال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...)(4). وهنا النظر والتدبّر على سبيل الوجوب، واستناداً إلى ذلك ذهب علماء المِلّة الإسلاميّة إلى (وجوب النظر)(5)، أي الاستدلال وتحصيل البرهان في المسائل الاعتقاديّة.

إنَّ القرآن الكريم عندما يعرض أمامنا صفحات الكون والوجود، ويُطلِعُنا على الهندسة العجيبة، وعلى آثار قدرة الله تعالى المنبثّة في كلّ شيء مِن حَوْلنا، بل وفي أَنفسنا: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...)(6)، إنّه عندما يعرض أمامنا ذلك، فإنّما يدعونا إلى استخلاص الحقائق، واكتشاف القوانين العامّة التي تحكم الوجود، ومِن هنا نفهم قول الأمام علي (عليه السلام) أيضاً (...اسْتَدِلُّوْهُ ـ أي القرآن ـ عَلَى رَبِّكُم...)(7).

ثانياً: طريقة التفكير وأسلوبه:

إنَّ القرآن الكريم لم يكتف بالدعوة إلى اعتماد منهجٍ سليم للتفكير، واعتبار ذلك وظيفة الفرد المسلم فحسب، بل يضع بأيدينا أيضاً الطريقة السليمة العلميّة للوصول إلى الحقائق، ويُعرّفنا ـ في هذا المجال، وضمن إطار الفهم العميق لأسرار الوجود ـ أساسيّات المنهج وأبعاده، فهو منهج يقوم أوّل ما يقوم على البرهان الوجداني.

قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...)(8).

وقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...)(9).

إذن، القرآن هنا يستحثُّ الوجدان ويستنطقه، ويدعو الإنسان إلى القيام برحلة داخليّة مع نفسه، (في حوارٍ مع الذات) فيه الصراحة المتناهية، وإنَّ هذا الحوار الداخلي هو الآخر يجب أنْ يتمَّ بصيغة أسئلة يحكمها المنطق؛ ليكون هناك اتّساق بين الوجدان والعاطفة من جهة وبين المنطق والعقل، أي أنْ يكون هناك تناغمٌ، والقرآن هنا ـ كما هو في منهجه العام ـ يحرصُ دائماً على عدم تغييب العقل والتعقّل، على الرغم من اهتمامه بالمعرفة التي مصدرها الوجدان الداخلي والإدراك الخاص.

قال تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...)(10).

وهكذا نجدُ أنَّ القرآن عندما يفرغ من عمليّة استنهاض وحثّ منطق الوجدان في أيَّةِ عمليَّةِ تأَمّل، نجده أيضاً في عين الوقت يدعو إلى اعتماد الأدلّة والبراهين الفلسفيّة والعلميّة في إثبات المطالب.

إنّ القرآن يقدّم لنا أيضاً عَيِّنةً من هذه البراهين، ويترك مساحةً مناسبةً لحركة العقل والاستعانة بالحواس، وهذا أساس آخر من أُسس المنهج:

وقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ)(11).

وقال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى)(12)، أي لذوي العقول.

وقال تعالى: (...وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً...)(13).

إنَّ القرآن الكريم من خلال ذلك كلّه يريد أن يقول لنا:

إنَّ البحث والتأمّل ـ في الآفاق، وفي الأنفس، وفي ما حولنا ـ يجب أنْ يلتزم البرهان والدليل، ويتوسّل بالحسّ والتجربة كلّما أمكن ذلك.

قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ...)(14).

ثالثاً: الخطوات المطلوبة:

ولكنْ ما هي الخطوات التي يمكن أنْ تُتَّبع للوصول إلى الحقائق وتأسيس القناعة المطلوبة، فيكون المنهج الذي يحدِّده القرآن ويضعه بين أيدينا منهجاً علميّاً مُنْتِجَاً؟

إنّ القرآن يستحثّ على عمليّة التأمّل أوّلاً، والتأمّل هنا (عملية التفكير)، يمكن أنْ تتمَّ بانفراد ـ وهذا هو الشائع ـ ويمكن أنْ تتمَّ بصورة مشتركة، وهذه التفاتة بارعة من القرآن الكريم في التنبيه إلى أَهمِّيَّة البحث والتفكير المشترك.

قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا...)(15).

ثمّ يتّجه القرآن الكريم إلى الدعوة؛ لطرح الافتراضات الممكنة: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)(16).

ثمّ يصعد إلى مرحلة اختبار الافتراض، وتقليب الوجوه في المسألة.

قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)(17). 

وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)(18).

إذاً، هكذا في خطوات علميّة:

ـ فرض.

ـ واختبار الفرض.

ـ واستنتاج(19).

مبنيّ على (المنطق والتجربة والعقل)، يرسم القرآن الكريم أبعاد المنهج، ويدعو إلى التمسّك به في سائر المجالات.

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ)(20).

وأخيراً، ولمّا كان الحوار أساساً مهمّاً ـ سواء مع الذات أو مع الآخرين أو في عمليّة التفكير والبحث المشترك كما دعا إليه القرآن ـ فإنّه يدلّنا (أي القرآن) على أسلوب المحاورة العلميّة الرصينة، فهو يُعْلِمُنَا أنْ ننطلق:

أوّلاً: من مُسلّمةٍ لدى الطرفين.

أو: من افتراض مقبول، وهو ما صرّح به القرآن قائلاً: (...وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(21).

ثمّ لتبدأ المحاورة بعد ذلك ولكنْ على شرط أنْ يقدّم كلُّ واحدٍ دليلاً على ما يقوله.

قال تعالى: (...قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ...)(22)، وهو يشترط في الدليل أيضاً أَنْ يكون عِلْمَاً، أي أمراً يقينيّاً؛ لأَنَّ غير العلم لا يُجدي ولا يُنتج المطلوب.

قال تعالى: (...وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(23).

ثمّ إذا استقرّ الحقّ وثبت الأمر بالبرهان والدليل القاطع، فلا بدّ حينئذٍ من التصديق به واعتماده، والإقرار به.

قال تعالى: (...فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ...)(24).

وهنا لفتةٌ بارعة في ضرورة استثمار الحقيقة.

وهكذا فإنَّ القرآن الكريم عندما يضع بين أيدينا مثل هذا المنهج، ويدعونا إلى التمسّك به فلكي ينتهي الإنسان إلى حالة الاطمئنان (الطمأنينة الداخليّة) فيزيح عن نفسه وعن عقله كلَّ وهمٍ وخرافة وشكّ، فيعيش حينئذٍ هادئ البال يُسْهِمُ في البناء والتقدّم في الحياة الإنسانيّة غير مضطربٍ ولا مشدود الأعصاب، وعند ذاك يكون القرآن قد أرسى مرتكزاً أساسيّاً من مرتكزات البناء الحضاري، وفي تخليص الإنسان من الهواجس والظنون، من خلال التأكيد على اعتماد المنهج العلمي في التفكير، فضلاً عمّا يَعْنيه ذلك أيضاً من تعميم المعرفة وشموليّتها وعدم اقتصارها على قطّاع أو طائفةٍ أو طبقةٍ معيّنةٍ، وهذه قيمة حضاريّة كبرى، ومِيْزَة عظيمة ينفرد بها القرآن الكريم.

قال تعالى: ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ )(25).

الهوامش:

_______________

1 ـ البقرة: 164.

2 ـ العنكبوت: 20.

3 ـ آل عمران: 191.

4 ـ يونس: 101.

5 ـ راجع: عقائد الإماميّة، للإمام الشيخ محمّد رضا المظفّر، المطبعة الحيدريّة ـ النجف ، انتشارات الشريف الرضي ـ قم / ط 2 / 1408هـ.

6 ـ فصّلت: 53.

7 ـ نهج البلاغة، ضبط الدكتور صبحي الصالح، ص252، خطبة رقم 176، منشورات دار الهجرة.

8 ـ الزخرف: 87.

9 ـ العنكبوت: 61.

10 ـ إبراهيم: 10.

11 ـ آل عمران: 190.

12 ـ طه: 53 ـ 54.

13 ـ آل عمران: 191.

14 ـ فصّلت: 53.

15 ـ سبأ: 46.

16 ـ الطور: 35.

17 ـ الواقعة 58 ـ 59.

18 ـ الواقعة: 63 ـ 64.

19 ـ راجع في المنهج العلمي وخطواته: الفتاوى الواضحة، الإمام الشهيد الصدر، ص21 / طبعة دار التعارف ـ بيروت ط5 / 1978م ، وراجع المنطق، تأليف الأستاذ أحمد القادري والدكتورة مارسيل عبسي، ص92 ـ 93 / ط9 / 1975م / دار الفكر بيروت.

20 ـ الزمر: 21.

21 ـ سبأ: 24.

22 ـ البقرة: 111.

23 ـ النجم: 28.

24 ـ يونس: 32.

25 ـ ص: 29.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=511
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 05 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29