• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : التَفسيرُ : نَشأتهُ وتطوّرهُ(5) .

التَفسيرُ : نَشأتهُ وتطوّرهُ(5)

ابن عبّاس : هل كان يُراجعِ أهل الكتاب حقّاً؟

الشيخ: محمّد هادي معرفة

هل كان ابن عبّاس يراجع أهل الكتاب في فهم معاني القرآن ؟!.

سؤال أُجيبَ عليه بصورتين:

 إحداهما : مُبالغ فيها ، والأخرى : معتدلة إلى حدٍّ ما.

 كانت مراجعته لأهل الكتاب ـ كمراجعة سائر الأصحاب ـ في دائرة ضيّقة النطاق ، في أمور لم يتعرّض لها القرآن ، ولا جاءت في بيان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث لم تَعُد حاجة إلى معرفتها ، ولا فائدة كبيرة في العلم بها ، كعدد أصحاب الكهف ، أو البعض الذي ضرب به موسى من البقرة ، ومقدار سفينة نوح وما كان خشبها ، واسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم... ونحو ذلك مِمّا لا طريق إلى معرفة الصحيح منه ، فهذا يجوز أخذه من أهل الكتاب ، والتحدّث عنهم ولا حرج ، كما وردَ : (حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)(1) المحمول على مثل هذه الأمور :

قال ابن تيميّة : وفي بعض الأحيان يُنقل عنهم (عن بعض الصحابة مثل : ابن مسعود ، وابن عبّاس ، وكثير من التابعين) ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث قال : (بلّغوا عنّي ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج...) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص... ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين (2) من كتب أهل الكتاب ، فكان يُحدّث منها ، بما فَهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك... ولكنّ هذه الأحاديث الإسرائيليّة إنّما تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنّها من الأمور المسكوت عنها ، ولم نعلم صدقها ولا كذبها مِمّا بأيدينا ، فلا نؤمن به ولا نكذّبه ، وتجوز حكايته ، وغالب ذلك مِمّا لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ، وقد أبهمهُ الله في القرآن ، لا فائدة في تعيينه تعود على المكلّفين في دنياهم ولا دينهم (3).

***

ووافقه على هذا الرأي الأستاذ الذهبي ، قال : كان ابن عبّاس يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم ، بحكم اتّفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أُجمِلت في القرآن وفُصّلت في كتب العهدين ، ولكن في دائرة محدودة ضيّقة ، تتّفق مع القرآن وتشهد له ، أمّا ما عدا ذلك مِمّا يتنافى مع القرآن ولا يتّفق مع الشريعة ، فكان لا يقبله ولا يأخذ به !.

قال : فابن عبّاس وغيره من الصحابة ، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام فيما لا يمسّ العقيدة أو يتصل بأصول الدين وفروعه ، كبعض القصص والأخبار الماضية...

قال : وبهذا المسلك يكون الصحابة قد جمعوا بين قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) وقوله : (لا تُصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم) ؛ فإنّ الأوّل محمول على ما وقعَ فيهم من الحوادث والأخبار ، لمَا فيها من العظة والاعتبار ، بدليل قوله بعد ذلك : (فإنّه كان فيهم العجائب) ، والثاني محمول على ما إذا كان المخبر به من قِبَلهم محتملاً ، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه... قال : كما أفاده ابن حجر ، ونبّه عليه الشافعي...(4)

* * *

وأمّا المستشرقون فقد ذهبوا في ذلك مذاهب بعيدة ، بالغوا فيها إلى حدّ ترفّضه شريعة النقد والتمحيص : يقول العلاّمة المستشرق (جولد تسيهر) :

(وترى الرواية الإسلاميّة أنّ ابن عبّاس تلقّى بنفسه ـ في اتصاله الوثيق بالرسول ـ وجوه التفسير التي يوثق بها وحدها (5) ، وقد أغفلت هذه الرواية بسهولة ـ كما في أحوال أخرى مشابهة ـ أنّ ابن عبّاس عند وفاة الرسول كان أقصى ما بلغَ من السِن 10 ـ 13 سنة :

(وأجدر من ذلك بالتصديق ، الأخبار التي تفيد أنّ ابن عبّاس كان لا يرى غضاضةً أن يرجع في الأحوال التي يُخامره فيها الشك ، إلى مَن يرجو عندهُ علمها ، وكثيراً ما ذُكر أنّه كان يرجع ـ كتابةً ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى مَن يُدعى (أبا الجَلد) ، والظاهر أنّه (غيلان بن فروة الأزدي) الذي كان يُثنى عليه بأنّه قَرأ الكتب (6).

(وكثيراً ما نجد بين مصادر العلم المفضّلة لدى ابن عبّاس ، اليهوديّين اللذَين اعتنقا الإسلام : كعب الأخبار ، وعبد الله بن سلام ... كما نجد أهل الكتاب على وجه العموم ،  أي رجالاً من طوائف وردَ التحذير من أخبارها ـ عدا ذلك ـ في أقوال تنسب إلى ابن عبّاس نفسه ، ومن الحقّ أنّ اعتناقهم للإسلام قد سَما بهم على مظنّة الكذب ، ورفعهم إلى مرتبة مصادر العلم التي لا تثير ارتياباً...(7)

(ولم يعدّ ابن عبّاس أولئك الكتابيّين الذين دخلوا في الإسلام ، حُججاً فقط في الإسرائيليّات وأخبار الكتب السابقة ، التي ذكرَ كثيراً عنها الفوائد(8) ، بل كان يسأل أيضاً كعب الأحبار مثلاً عن التفسير الصحيح للتعبيرين القرآنيين : (أُمُّ الْكِتَابِ(9) و(الْمَرْجَانُ)...(10)

(كان يفترض عند هؤلاء الأحبار اليهود ، فهم أدقّ للمدارك الدينيّة العامّة الواردة في القرآن وفي أقوال الرسول ، وكان يرجع إلى أخيارهم في مثل هذه المسائل ، على الرغم من ضروب التحذير الصادرة من جوانب كثيرة فيهم...(11)

هذه هي عبارة (جولد تسيهر) البادي عليها غلوّهُ المُفرط بشأن مسلمة اليهود ، ودورهم في التلاعب بمقدّرات المسلمين.! الأمر الذي لا يكاد يُصّدق في أجواء كانت السيطرة مع الصحابة النبهاء ، إنّما كان ذلك في عهد طغى سطو أُميّة على البلاد وقد أكثروا فيها الفساد... على ما سننبّه...

* * *

وقد تابعهُ على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين... قال : ولم يتحرّج حتى كبار الصحابة مثل ابن عبّاس من أخذ قولهم. روى أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : (إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم) ! ولكنّ العمل كان على غير ذلك ، وإنّهم كانوا يصدِّقونهم وينقلون عنهم ! وإن شئتَ مثلاً لذلك فاقرأ ماحكاه وغيره عند تفسير قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) (البقرة 2/210).

وعقّبه بقوله : وقد رأيتُ ابن عبّاس كان يجالس كعب الأحبار ويأخذ عنه...(12) ، إشارةً إلى ما سبق من قوله : وأمّا كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهودي من اليمن ، وأكبر مَن تسرّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين ، أسلمَ في خلافة أبي بكر أو عمر ، على خلاف في ذلك ، وانتقلَ بعد إسلامه إلى المدينة ثُمّ إلى الشام ، وقد أخذَ عنه اثنان ، هما أكبر مَن نشرَ علمهُ : ابن عبّاس ـ وهذا يعلّل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ وأبو هريرة...(13)

* * *

نقدٌ وتمحيص

وإنّا لنأسف كثيراً أن يغترّ كتّابنا النقّاد ـ أمثال : الأستاذ أحمد أمين ، والأستاذ الذهبي ـ بتخرّصات لفّقتها أوهام مستوردة ، فلنترك المستشرقين في ريبهم يتردّدون ، ولكن مالنا ـ نحن معاشر المسلمين ـ أن نحذو حذوهم ونواكبهم في مسيرة الوهم والخيال ؟!.

لا شكّ أنّ نُبهاء الصحابة أمثال : ابن عبّاس كانوا يتحاشون مراجعة أهل الكتاب ويستقذرون ما لديهم من أساطير وقصص وأوهام... وإنّما تسرّبت الإسرائيليّات إلى حوزة الإسلام ، بعد انقضاء عهد الصحابة ، وعندما سيطر الحكم الأموي على البلاد لغرض العيث في الأرض وشمول الفساد ، الأمر الذي أحوجهم إلى مراجعة الأنذال من مسلمة اليهود ومَن تَبعهم من سَفلة الأوغاد ، وسنذكر أنّ مبدأ نشر الإسرائيليّات بين المسلمين كان في هذا العهد المظلم بالخصوص... حاشا الصحابة ، وحاشا ابن عبّاس بالذات ، أن يراجِع ذوي الأحقاد من اليهود ، ويترك الخُلّص من علماء الإسلام أمثال : الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وكان سفط العلم ولديه علم الأولين والآخرين ، علماً وَرثه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شمول وعموم !.

وقد مرّ عليك أنّه كان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة ؛ بنيّة العثور على أطراف العلم الموروث من الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد سُئل : أنّى أدركتَ هذا العلم ؟ فقال : بلسانٍ سؤول ، وقلب عقول !(14)

وإليك من تصريحات ابن عبّاس نفسه ، يُحذّر من مراجعة أهل الكتاب بالذات ، فكيف يا ترى  ينهى عن شيء ثُمّ يرتكبه ؟!.

التحذيرُ عن مراجعة أهل الكتاب:

أخرجَ البخاري إسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عبّاس قال :

(يا معشر المسلمين ، كيف تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أُنزِل على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحدثَ الأخبار بالله تقرأونه لم يُشَب (15) ، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتبَ الله وغيّروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم ،  لا والله ما رأينا منهم رجلاً قطّ يسألكم عن الذي عليكم !)(16).

وأخرجَ عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب (17) يقرأون التوراة بالعبرانيّة ويفسّرونها بالعربيّة لأهل الإسلام ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (لا تُصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم ، وقولوا آمنّا بالله وما أُنزِل إلينا وما أُنزِل إليكم...)(18).

وأخرجَ عبد الرزاق من طريق حريث بن ظهير ، قال : قال عبد الله بن عبّاس : (لا تسألوا أهل الكتاب ؛ فإنّهم لن يهدوكم وقد أضلّوا أنفسهم ، فتكذِّبوا بحق أو تصدّقوا بباطل...)(19).

وهذا الحديث أوضح من كلام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عدم تصديقهم ولا تكذيبهم ؛ لأنّهم كانوا يخلطون الحق بالباطل ، فلا يمكن تصديقهم ؛ لأنّه ربّما كان تصديقاً لباطل ، ولا تكذيبهم ؛ لأنّه ربّما كان تكذيباً لحق... فالمعنى : أن لا يُعتبر من كلامهم شيء ولا يترتَّب على ما يقولونه شيء ! فلا حجيّة لكلامهم ولا اعتبار لأقوالهم على الإطلاق... إذن ، فلا ينبغي مراجعتهم ولا الأخذ عنهم في وجهٍ من الوجوه !

وأخرجَ : أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبزّار من حديث جابر : أنّ عمر أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب... فغضبَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال : (لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة ، لا تسألوهم عن شيء ، فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به ، أو بباطل فتصدِّقوا به ـ والذي نفسي بيده لو أنّ موسى كان حيّاً ما وسعهُ إلاّ أن يتّبعني...) ، وفي رواية أخرى : (... لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء...)(20).

* * *

الهوامش

ــــــــــــــ

1 ـ مسند أحمد : ج2 ، ص159 و202 و214. عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وص 474 و502 عن أبي هريرة. وج3 و13 و46 و56 عن أبى سعيد الخدري.

2 ـ أي ملفّتين ،  من زمّل الشيء بثوبه أو في ثوبه : لفّه.

3 ـ راجع مقدّمته في أصول التفسير ص11 و45 ـ 47.

4 ـ التفسير والمفسّرون : ج1 ص70 ـ 71 و73 و170 ـ 173. وراجع فتح الباري لابن حجر ، ج8 ص129 وج13 ص282.

5 ـ هنا يُعلّق المترجم الدكتور عبد الحليم النجّار ،  يقول : وأين الرواية التي يزعمها ، وما قيمتها في نظر رجال النقد ؟ (مذاهب التفسير الإسلامي ، ص83).

والصحيح ـ كما أسلفنا ـ أنّ ابن عبّاس أخذَ تفسيره من الصحابة ولا سيّما من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، فهو إنّما أخذَ التفسير من الرسول بواسطة أصحابه الأخيار.

6 ـ يقول فيه العسكري في كتاب التصحيف والتحريف : هو صاحب كتاب وجمّاع لأخبار الملاحم (مذاهب التفسير ص85 ، الهامش رقم 3).

7 ـ سترى أنّ الأمر كان بالعكس ، كان هؤلاء موضع ارتياب المسلمين عامّة ، سوى أهل المطامع أمثال : معاوية ، وابن العاص ومَن على شاكلتهما!.

8 ـ مثلَ ما أخرجه ابن سعد في الطبقات : (ج1 ق2 ص87) بإسناده إلى ابن عبّاس ، أنّه سألَ كعب الأحبار عن صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في التوراة والإنجيل.!

وكذا ما أسندهُ إلى مولى عمر بن الخطاب أنّ كعباً أخبر بموته قبل ثلاثة أيام ، إذ وجدَ ذلك مكتوباً عندهم في التوراة.! (الطبقات : ج3 ق2 ص240).

9 ـ من سورة الرعد 13/39. راجع الطبري : ج13 ص 115.

10 ـ من سورة الرحمان 55/22. راجع الطبري : ج27 ص 76 ـ 77.

11 ـ مذاهب التفسير الإسلامي : ص84 ـ 88.

12 ـ فجر الإسلام : ص201.

13 ـ المصدر ص160.

14 ـ التصحيف والتحريف للصاحبي : ص 3.

15 ـ جاء في موضع آخر : (كتابكم الذي أُنزلَ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحدث ، تقرأونه محضاً لم يُشَب...). قوله : لم يُشَب ، أي لم يخلطه شيء من غير القرآن ، تعريضاًُ بكتب العهدين التي دُسّ فيها ما ينبو عن كونه وحياً!.

16 ـ جامع البخاري : ج9 ص136 باب قول النبي : (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء). وج3 ص237، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها ، واللفظ على الأخير.

17 ـ ويعني بهم اليهود بالذات. صرّح بذلك ابن حجر في الشرح : ج3 ص282.

18 ـ جامع البخاري : ج9 ص136.

19 ـ فتح الباري شرح البخاري : ج13 ص281.

20 ـ فتح الباري : ج13 ص281.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=477
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 04 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24