• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : التَفْسيرُ نَشأتُهُ وَتَطَوُّرُه (1) .

التَفْسيرُ نَشأتُهُ وَتَطَوُّرُه (1)

مَرْحَلَةُ عَهْدِ الرِسالَةِ

 الشيخ محمّد هادي معرفت

  قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (1).

إنّ في القرآن الكريم مِن أُصول معارف الإسلام وشرايع أحكامه الأُسس الأوّليّة التي لا غنى لأيّ مُسلم يعيش على هُدى القرآن، ويستظلّ بظلّ الإسلام أن يُراجع دلائله الواضحة، ويتلمّس حُججه اللائحة، وإن أبهم عليه شيء فليستطرق أبواب أهل الذِكر ممّن نَزل القرآن في بيوتهم، فيهدوه سواء السبيل.

نعم، كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو المَرجع الأوّل لفهم غَوامض الآيات، وحلّ مَشاكلها مُدّة حياته الكريمة، إذ كان عليه البيان كما كان عليه البلاغ.

 قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (2).

 فكان دوره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تفصيل ما أُجمل في القرآن إجمالاً، وبيان ما أُبهم مِنه، إمّا بياناً في أحاديثه الشريفة وسيرته الكريمة، أو تفصيلاً جاء في جُلّ تشريعاته مِن فرائض، وسُنن، وأحكام، وآداب كانت سُنّته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قولاً وعملاً وتقريراً... كانت كلّها بياناً، وتفسيراً لمُجملات الكِتاب العزيز، وحلِّ مُبهماته في التشريع والتَسنين.

 فقد كان قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ( صلّوا كما رأيتموني أُصلّي... ) شرحاً وبياناً لما جاء في القرآن، مِن قوله تعالى: ( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ... ).

وقوله: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا).

 وكذا قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ( خذوا عَنّي مناسِكَكم ) بيان وتفسير لقوله تعالى:  (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...)، وهكذا...

فكلّ ما جاء في الشريعة مِن فُروع أحكام العبادات والسُنن والفرائض، وأحكام المعاملات، والأنظمة والسياسات، كلُّ ذلك تَفصيل لِما أُجمل في القرآن مِن تشريع وتكليف...

وهكذا كان الصحابة يَستفهِمونه كُلّما تلا عليهم القرآن، أو أقرأهم آيةً أو آياتٍ كانوا لا يَجوزونه حتّى يستعلموا ما فيه مِن مَرامٍ ومقاصد وأحكام؛ ليعملوا بها، ويأخذوا بمعالمها...

أخرج ابن جرير بإسناده عن ابن مسعود، قال: كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات، لم يُجاوزهُنّ حتّى يعرف معانيهنّ والعمل بهنّ...

 وقال أبو عبد الرحمان السلمي: حدّثنا الذين كانوا يُقرئوننا، أنّهم كانوا يَستقرئون عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكانوا إذا تعلّموا عشر آيات لم يخلفوها حتّى يَعملوا بما فيها مِن العمل... قال: فتعلّمنا القرآن والعمل جميعاً....(3)

نعم، ربما كانوا يحتشمون هيبة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتحجبهم دون مُساءلته، فكانوا يترصّدون مجيء الأعراب المُغتربين عن البلاد؛ ليسألوه عن مسائل، فيغتنموها فرصة كانوا يترقّبونها.

قال علي (عليه السلام): ( ليس كلّ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يسأله ويستفهمه، حتّى كانوا ليُحبّون أن يجيء الأعرابي أو الطارئ فيسأله (عليه السلام) حتّى يسمعوا... ) قال: ( وكان لا يمرّ مِن ذلك شيء إلاّ سألتُ عنه وحفظتُه ) (4).

 وهكذا حدّث أبو أُمامة بن سهل بن حنيف ـ اسمه أسعد، سمّاه بذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ودعا له وبارك عليه(5) ـ قال: كان أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقولون: إنّ الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم... قال: أقبل أعرابيٌّ يوماً، فقال: يا رسول الله، لقد ذَكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كُنت أرى أن في الجنّة شجرة تؤذي صاحبها! فقال رسول الله: ( وما هي؟ ) قال: السِدر، فان لها شوكاً، فقال رسول الله: ( ( فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ) (6) يَخضد الله شوكه، فيجعل مكان كلِّ شوكةٍ ثمرةً، فإنّها تُنبِتُ ثَمراً، تَفتق الثمرةُ معها عن اثنين وسبعين لوناً، ما منها لونٌ يُشبه الآخر... ) (7). 

ومِن ثمّ كان ابن مسعود يقول: والله الذي لا إلهَ غيره، ما نَزلت آية في كِتاب الله، إلاّ وأنا أعلم فيمَ نَزلت، وأين نَزلت... وهكذا تواتر عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتلميذه ابن عبّاس... وغيرهم مِن عُلماء الصحابة... حسبما يأتي في تراجمهم (8).

هل تناول النّبي القرآن كلّه بالبيان؟ 

عقد الأُستاذ الذهبي باباً ذكر فيه الجدل بين فريقين، يرى أحدهما: أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد بيّن لأصحابه معاني القرآن كلّه إفراداً وتركيباً. ويترأّس هذا الفريق أحمد بن تيميّه، فقد كان يرى أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بَيّن جميع معاني القرآن كما بين ألفاظه؛ لقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فإنّه يشمل الألفاظ والمعاني جميعاً (9).

والفريق الثاني ـ ويترأسهم الخوئي والسيوطي ـ يرون أنّه لم يُبيّن سوى البعض القليل، وسكت مِن البعض الآخر... ثمّ فرض لهم دلائل، أهمها: ما أخرجه البزّار عن عائشة، قالت: ما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُفسّر شيئاً مِن القرآن إلاّ آياً بِعدد، علّمه إياهنّ جبرئيل...(10).

وأسهب في النقض والإبرام، وأخيراً نَسب كلّاً مِن الفريقين إلى المُغالاة، واختار هو وسطاً بين الرأيين ـ فيما حَسِب ـ وأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيّن الكثير دون الجَميع، وترك ما استأثر الله بعلمه، وما يعلمه العُلماء، وتعرفه العَرب بلُغاتِها ممّا لا يُعذَر أحد في جهالته...

قال: وبديهيّ أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يُفسّر ما يَرجِع فَهمه إلى معرفة كلام العرب، كما لم يُفسّر ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وحقيقة الروح، ممّا يَجري مَجرى عِلم الغيوب التي لم يُطلِع الله عليه نبيّه...(11).

قلت: لم أجد ـ كما لا أظنّ ـ أحداً ذهب إلى أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يُبيّن مِن مباني القرآن، سوى البعض القليل وسكت مِن الباقي الكثير طبعاًَ... بعد الذي قدّمنا، وبعد ذلك الخصب عن تفاصيل الأحكام، والتآليف التي جاءت في الشريعة، وكانت تفسيراً وبياناً لِما أُبهم في القرآن مِن تشريعات جاءت مُجمَلة وبصورة كُلّية، فضلاً عمّا بيّنه الرسول، وفضلاء صحابته، والعُلماء مِن أهل بيته،  شرحاً لمُعضلات القرآن وحلاًّ لمُشكلاته...

أمّا الذي نَسبهُ إلى شمس الدين الخُوئي (12)، وجلال الدين السيوطي مِن ذهابهما إلى ذلك، فإنّ كلامهما ناظر إلى جانب المأثور مِن تفاسير الرسول، المنقول بالنّص، فإنّه قَليل (13) لو أغفلنا ما رويناه بالإسناد إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن طرق أهل البيت، الأئمة مِن عِترته الطاهرة (صلوات الله عليهم)، كما أغفله القوم... وإلاّ فالواقع كثير وشامل، ولا سيّما إذا ضممنا تفاصيل الشريعة ـ السُنَّة الشريفة ـ إلى ذلك المَنقول مِن التفسير الصريح...

وقد جعل السيوطي جُلّ تفاصيل الشريعة الواردة في السُنّة تفسيراً حافلاً بمعاني القرآن ومقاصده الكريمة. ونقل عن الإمام الشافعي: أنّ كُل ما حَكم به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو ممّا فَهِمه مِن القرآن وبيّنه، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ( ألا إنّي أوتيت القرآن ومِثله معه ـ يعني السُّنة ـ... ).

 وأخيراً نقل كلام ابن تيميّة الآنف، وعقّبه بالتأييد بما أخرجه أحمد، وابن ماجة عن عُمر، أنّه قال: مِن آخر ما نَزل آية الربا، وأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قُبض قبل أن يُفسرّها ...

 قال السيوطي: دلّ فحوى الكلام على إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يُفسّر لهم كلّ ما أُنزل، وأنّه إنّما لم يُفسّر هذه الآية؛ لسُرعة موته بعد نُزولها، وإلاّ لم يكن للتخصيص بها وجه (14).

وأمّا حديث عائشة ـ لو صحّ السند، ولم يصح كما قالوا (15) ـ فهو ناظر إلى جانب رعاية الترتيب في تفسير الآي أعداداً فأعداداً، أو حسب عدد الآي التي نَزل بها جبرئيل... وهذا يُشير إلى نفس المَعنى الذي رويناه عن ابن مسعود، وتلميذه السلمي... وقد نقله ابن تيميّة نقلاً بالمعنى.

 قال السلمي: حدّثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن، أنّهم كانوا إذا تعلّموا مِن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشر آيات، لم يُجاوزوها حتّى يَتعلموا ما فيها مِن العِلم والعَمل، قالوا: فتعلّمنا القرآن والعِلم والعَمل جميعاً...(16).

قال الخطيب: هذا أقدم نصٍّ تاريخي عرفنا به الطريقة التي كان يَتعلّم بها المُسلمون الأوّلون، كانوا لا يُعنَون بالإكثار مِن العِلم إلاّ بعد إتقان ما يَتعلّمونه مِنه، وبعد العَمل به (17).

وأمّا الوسط الذي اختاره، وأنّ الذي لم يُبيّنه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِن القرآن، هو ما استأثر الله بِعلمه، كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وما يجري مَجرى ذلك مِن الغُيوب التي لم يُطلع الله عليها نبيّه... (18) فشيء غريب! إذ لم نَجد في معاني القرآن ما استأثر الله بعلمه... ولو كان لكان الأجدر عَدم إنزاله، والكفّ عن جَعله في مُتناول الناس عامّة...

وقد تعرّض المفسرون لتفسير آي القرآن جميعاً، حتّى الحُروف المُقطّعة... فكيف يا تُرى خَفيَ عليهم أن لا يَتعرّضوا لما لا يُريد الله بيانه للناس؟!

إذن، فالصحيح مِن الرأي هو: أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد بيّن لأمّته، ولأصحابه بالخُصوص، جميع معاني القرآن الكريم، وشَرح لهم جُلّ مَراميه ومقاصده الكريمة، إمّا بياناً بالنصّ، أو ببيان تفاصيل أُصول الشريعة وفُروعها... ولا سيّما إذا ضمّمنا إليه ما ورد عن الأئمة مِن عِترته في بيان تفاصيل الشريعة، ومعاني القرآن... والحمد لله .

المأثور مِن تفاسير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

قد يستغرب البعض، إذ يجد قِلّةً في التفسير المأثور عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنّص. لكن، لا موضع للاستغراب بعد الذي قدّمنا:

 أوّلاً ـ وفرة الوسائل لفَهم معاني القرآن حينذاك.

 ثانياً ـ جُلّ بيانات الشريعة كانت تفسيراً لمُبهمات القرآن، وتفصيلاً لمُجملاته. نعم، كانت موارد السؤال والإجابة عليه فيما يَخصّ تفسير القرآن بالنّص قليل نَظراً لِعَدم الحاجة إلى أكثر مِن ذلك، حسبما عرفت.

غير أنّ هذا القليل مِن تفاسير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كثير في واقعة، قليل في نَقله وحكايته، فالمأثور منه قليل، لا أصله ومنبعه الأصيل.

قال جلال الدين السيوطي: الذي صحّ مِن ذلك قليل جدّاً، بل أصل المرفوع منه في غاية القِلّة... وقد أنهاهنّ في خاتمة كتاب الإتقان إلى ما يَقرب مِن مائتين وخمسين حديثاً في التفسير، مأثوراً عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنصّ (19).

الهوامش

ـــــــــــــ

1 ـ النحل: 91.

2 ـ النحل: 44.

3 ـ تفسير الطبري 1: 27 ـ 28.

4 ـ المِعيار والموازنة للإسكافي: 304.

5 ـ توفي سنة (100) وهو ابن نيف وتسعين. (أُسد الغابة 5: 139).

6 ـ سورة الواقعة: 28.

7 ـ أخرجه الحاكم وصححه ـ المستدرك 2: 476.

8 ـ عند الكلام في دور الصحابة في التفسير.

9 ـ راجع مُقدّمته في أُصول التفسير: 5 ـ 6.

10 ـ تفسير ابن كثير 1: 6، وتفسير الطبري 1: 29.

11 ـ التفسير والمفسرون 1: 53 ـ 54.

12 ـ هو أبو العبّاس أحمد بن خليل المهلبي الخُويي (583 ـ 637) صاحب الإمام الرازي والمُتمم لتفسيره، وُلد في خوء مِن أعمال آذربيجان، وتعلّم بها وبخُراسان، ثم وُلي قضاء دمشق وتوفي بها.

13 ـ قال الخويي: وأمّا القرآن فَتفسيره على وجه القطع لا يُعلم إلاّ بأن يُسمع مِن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك مُتعذّر إلا في آيات قلائل (الإتقان 4: 171).

وقال السيوطي ـ عند بيان مآخذ التفسير ـ: الذي صح مِن ذلك (المنقول عن النبي) قليل جدّاً. (الإتقان 4: 181).

14 ـ الإتقان 4: 174، 175، 258.

15 ـ ذكروا أنّه حديث مُنكر غريب. والاستدلال به باطل. (التفسير والمفسرون 1: 52).

16 ـ راجع رسالة الإكليل، المطبوعة ضمن المجموعة الثانية مِن رسائل ابن تيميّة: 32.

17 ـ هامش مقدمة ابن تيمية في أُصول التفسير: 6.

18 ـ المرجع السابق.

19 ـ راجع الإتقال 4: 180، 214 ـ 257. 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=467
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 04 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24