• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : في رحاب آية النبأ .

في رحاب آية النبأ

الشيخ محمد مهدي الآصفي

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(1) هذه الآية الكريمة تحذّر من اعتماد أخبار الفساق وتأمر بالتحقيق والتثبت والتأكد من صحة الأخبار التي يأتون بها قبل العمل.

قصة نزول الآية

وقصة نزول هذه الآية كما يقول ابن كثير الدمشقي في تفسيره: قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي سابق حدثنا عيسى بن دينار حدثني أنه سمع الحارث ابن ضرار الخزاعي ـ رضي الله عنه ـ يقول: قدمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يارسول الله: أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي دفعت زكاته، وترسل إليّ يارسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة؟ فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول ولم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ماكان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـوبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوليد ابن عقبة إلى الحارث ليقبض ماكان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف فرجع حتى أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فقال: يارسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي فغضب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وبعث البعث إلى الحارث ـ رضي الله عنه ـ وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا هذا الحارث فلما غشيهم قال له: إلي من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال ـ رضي الله عنه ـ: لا والذي بعث محمداً ـ صلى الله عليه وآله ـ بالحق مارأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: (منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟) قال: لا والذي بعثك بالحق مارأيته ولا أتاني وما أقبلت إلاّ حين احتبس عليّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله قال فنزلت الحجرات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ).

كيف نتعامل مع الخبر؟

تعلمنا الآية الكريمة كيف نتعامل مع الأخبار والاشاعات والروايات، وهو أمر خطير وهام في حياة الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والعلمية. فلا يستطيع الإنسان أن يعتمد على مشاهداته وتجاربه ومعلوماته الشخصية في تيسير اُمور حياته.

ولابد له من أن يعتمد معلومات ومشاهدات وتجارب الآخرين، ولا يستطيع أن يستغني ويكتفي بمشاهداته وتجاربه الشخصية.

ولكن لا يجوز للانسان اعتماد (الخبر) بصورة مطلقة، من أي مصدر يكون الخبر .

والسؤال الذي يوجه الإنسان في مختلف شؤون حياته متى يقبل الخبر ومن أي مصدر، ومتى يرفض الخبر؟

وهذا هو موضوع هذه الآية الكريمة.

وجها آية النبأ

لهذه الآية الكريمة وجهان (المنطوق) و (المفهوم).

ونقصد بالمنطوق: المدلول اللفظي للآية، وهو وجوب الحذر والتبين من خبر الفاسق، ونقصد بالمفهوم: المدلول العقلي لهذه الآية، وهو اعتماد خبر الثقة، وعليه فان الآية الكريمة تعتمد قاعدتين مهمتين في حياة الناس: قاعدة التبين، والتثبت، والحذر في الأخبار، وقاعدة الثقة والاعتماد.

وفيما يلي نتحدث ان شاء الله عن وجهي هذه الآية الكريمة : (المفهوم) و  (المنطوق)، كل منهما بصورة مستقله بايجاز واختصار.

الوجه الأول لآية النبأ (المنطوق)

وهو المدلول اللفظي للآية (المنطوق)، وهو التحذير من الأخذ بخبر الفاسق ، ووجوب التثبت والتبين والتحقق من صحة الخبر قبل الأخذ بالخبر والعمل به.

القيمة السياسية للخبر

للخبر قيمة سياسية واجتماعية كبيرة، وتزداد اليوم قيمة الخبر بعد التطور الكبير الذي حصل في أجهزة إذاعة ونشر الأخبار . فالخبر يُنعش الرأي العام، ويبَعث في نفوس الناس الأمل، وينشّط الناس للعمل، ويبعث اليأس والخوف والرعب في القلوب، ويُثبّط عن العمل. وقد يكون الخبر سبباً في الهزيمة النفسية والاحباط النفسي للناس، وقد يكون سبباً في تشجيع الناس ورفع معنوياتهم.

صناعة الخبر وتصدير الخبر

ولذلك كله فان صناعة الخبر ونشر الخبر واذاعته تحتل اليوم موقعاً خطيراً في حياتنا المعاصرة. وهناك دراسات ومؤسسات كبيرة ومعاهد لصناعة الخبر ونشره واذاعته .

وكما تصدّر الدول الكبرى الينا اليوم صناعاتها الخفيفة والثقيلة كذلك تصدر الينا الخبر. ولتصدير الخبر أجهزة، ومعدات، ومؤسسّات، وصحف، ووكالات، ومحطات بث اذاعية، وقنوات فضائية، وشبكات، وخطوط، وتصرف الدول الكبرى في هذه المؤسسات والأجهزة والقنوات اموالاً طائلة وبكميات ضخمة.

ولا يجري كل ذلك من دون حساب وتقدير. فان للخبر قيمة كبيرة في حياة الأمم. وعن طريق (الخبر) تستطيع هذه الدول أن تحقق اهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتستخدم لتحقيق هذه الأهداف قنوات فكرية وتقنية، كما نستخدم نحن العتلة في رفع الأثقال الكبيرة بسهولة وراحة.

ولامر ما يهتمّ العالم اليوم بـ (الاعلام) والمؤسسات الاعلامية، ويأخذ الاعلام السياسي والاقتصادي هذا الحجم الكبير من حياتنا المعاصرة.

وبناءً على ذلك فلابد أن نعرف نحن ماذا نأخذ من الخبر وماذا نرفض، وكيف نتلقى الخبر؟ بتثبت وتبين وتحقيق، أم باسترسال وعفوية؟

وماهو الأصل في الخبر التبين والتثبت أم الوثوق والاطمئنان؟

ان آية النبأ تبين لنا الإجابة الدقيقة على هذه الاسئلة جميعاً، وتضع أساساً دقيقاً للتعامل مع الخبر، وهذا الأساس هو التبين والتثبت، إذا كان مصدر الخبر معروفاً بالفسق (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، والفاسق هو من لا تحجزه التقوى عن الكذب.

واذا عرفنا أن مصدر الخبر لا يحجزه التقوى عن الكذب وانتحال الخبر والرواية...

فمن أفظع الخطأ أن نعتمد هذا المصدر، ونأخذ منه الخبر والرواية من دون تحقق وتثبت.

انتحال الرواية

وكما تستغل اليوم الدول الكبرى الخبر في تحقيق اهدافها العداونية على بلادنا; كذلك استغل المنافقون واعداء الإسلام عبر التاريخ انتحال الرواية على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في الاساءة إلى هذا الدين، وفي تشويه معالمه، وتضييع حدوده، وقد دسّوا في هذا الدين من الروايات المنتحلة والموضوعة في تحليل الحرام وتحريم الحلال مالا يعلمه أحد إلاّ الله. ولولا الجهود الكبيرة التي بذلها علماء الحديث في تمييز الحديث الموضوع عن الحديث الصحيح ; لضاعت عنا معالم هذا الدين. وقد ألف المحدثون كتباً عديدة في الموضوعات من الرواية جمعوا فيها طوائف من الحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله.

وقد كان للعامل السياسي دور كبير في وضع الحديث. فأدخل حكام بني أمية روايات موضوعة كثيرة في حديث رسول الله لتثبيت دعائم حكمهم. وأول هؤلاء معاوية الذي جَرَّأ الناس الذين لايخشون الله على انتحال الحديث ونسبته إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وكل الأحاديث الواردة في فضائل معاوية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من هذا القبيل من دون استثناء، كما بذل أموالاً طائلة في وضع الأحاديث على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في الانتقاص من الإمام علي عليه السلام. وبذل حكام بني أمية أموالاً طائلة في انتحال الحديث في موضوع الرضوخ للحكام الظلمة وتحريم الخروج عليهم ووجوب طاعتهم. وحضور الجُمَع معهم، وجباية الأموال لهم، وان جاهروا بالمنكرات التي حرمها الله تعالى، وقد دخلت طائفة من هذه الأحاديث المسانيد والسنن والصحاح. وهي على خلاف تصريح كتاب الله الذي نهانا عن الركون إلى الظالمين وإلاّ فتمسنا النار.

ومهما يكن من أمر فان أمر الرواية عن رسول الله  ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر خطير تتعلق به سلامة هذا الدين. ولابد من دراسة علمية دقيقة فيما نأخذ وما نرفض من الرواية، ولابد من دراسة دقيقة لسند الحديث لتمييز الثقاة من رجال السند عن الضعفاء، المتهمين بالكذب والوضع.

وقد دوّن العلماء كذلك علم (الرجال) و (الجرح والتعديل)، وهو علم شريف يمكننا من تمييز ما صَحَّ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من الحديث عما لم يصح.

هذا فيما يتعلق بقاعدة الحذر والتبين، وهو الوجه الأول من آية النبأ المباركة.

الوجه الثاني لآية النبأ (المفهوم)

المنطوق والمفهوم

نقصد بالمنطوق المدلول: اللفظي للكلام. وهو المعنى المطابقي للفظ، دون المعنى الالتزامي، ونقصد بالمفهوم: المدلولات الالتزامية للجمل وهو مالم يكن مدلولاً مطابقياً للفظ، ولكن يدل عليها اللفظ بالدلالة الالتزامية.

ومثال ذلك من الجمل الشرطية (إذا بلغ الماء كراً لاينجسّه شيء)، فإنَّ منطوق هذه الجملة هو معناها المطابقي، وهو عدم نجاسة الماء بشيء إذا بلغ قدر الكر. وأما مفهومه إذا كان له مفهوم. فهو نجاسة الماء باضافة شيء نجس عليه إذا لم يبلغ قدر الكر.

مفهوم آية النبأ

منطوق آية النبأ هو الاحتراز عما يجيىء به الفاسق من الخبر، وضرورة التبين والتثبت عن صحة الخبر قبل الأخذ به.

ومفهومه عدم الاحتراز عن الخبر الذي يجيىء به من يتورع عن الكذب .

ويمكن أن نتصور المفهوم في هذه الآية على شكلين:

مفهوم الشرط، ومفهوم الوصف

أمّا مفهوم الشرط فلوضوح الجملة في الشرطية في هذه الآية (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فيكون مفهومها عدم وجوب التبيّن والتثبّت إذا جاء العادل بالنبأ.

والصورة الثانية للمفهوم في هذه الآية الوصف، وهو تعليق وجوب التبيّن في الآية على وصف (الفاسق). والاشكال فيه هو عدم دلالة الوصف على المفهوم، إذ التعليق على  الوصف لايدل على كونه علة منحصرة. والمفروض توقّف المفهوم على الانحصار. وليس هذا موضع التفصيل في هذا البحث.

حجيّة خبر الثقة

ويمكن أن تقرّر حجيّة خبر الثقة بطريقة اُخرى، تتألف من ثلاث نقاط. وفيمايلي إجمال وإيجاز لهذه النقاط. ولبسط الكلام في هذه النقاط موضع آخر أرجو أن يوفقني الله تعالى له. وهذه النقاط هي:

النقطة الاُولي

حصول الاطمئنان من الخبر لدى عامة الناس إلاّ في حالتين:

الحالة الاُولى: أن يكون المخبر متهّماً بالكذب.

الحالة الثانية: أن يكون للمخبر مصلحة معقولة في الكذب. إلاّ أن يكون حامل الخبر معروفاً بالوثوق أو العدالة.

وفي غير هاتين الحالتين يطمئن الناس إلى مايلقى إليهم من الأخبار، سواء كان ذلك في الصحافة والاذاعة، أو كان في السوق ، أو كان في البيت أو كان في المدرسة، ممّا يلقي الاساتذة على طلبتهم من العلم. وبنفس الملاك نأخذ الناس برأي أهل الخبرة وذوي الكفاءات في شؤون العلم كالطب والهندسة والحقوق، حيث يأخذ الناس بآرائهم إِلا في الحالتين المتقدمتين، والرجوع إلى أهل الخبرة في مواضع اختصاصهم، وإن كان يختلف عن الرجوع إلى المخبر والأخذ بالخبر، إلاّ أن الاطمئنان نفس الاطمئنان،

والملاك نفس الملاك.

والخلاصة : أن الناس لايجدون حَرَجاً في الاطمئنان إلى الخبر، مالم يكن المخبر متهّماً بالكذب، أو تتوفر فيه دواعي للكذب، فيجب عندئذ التأكّد من وثوق المخبر أو عدالته. وهذه المقدمة وجدانية لانحتاج لاثباتها إلى استدلال وإثبات. وهذه هي النقطة الاُولى.

النقطة الثانية

إنّ هذا الاطمئنان ليس من العلم قطعاً. فلا تكون حجيته في ذاته، كما في القطع، حيث أن حجيته ذاتية، ولكن الناس يتعاملون مع الاطمئنان معاملة الحجة، ويعتبرونه حجة فيما بينهم. ففي القضاء يحكم القاضي بموجب اطمئنانه، ويحاجج القاضي الخصم في القضاء باطمئنانه، والناس فيما بينهم يتعاملون على أساس حجية الاطمئنان.

وإذا توقفنا عن الأخذ بالخبر أحياناً، إذا كان الخبر خطيراً... حتى يثبت الخبر بالقرائن الاُخرى. فليس لعدم حجية الاطمئنان، حتى لو كان المخبر ثقة وإنما من أجل احتمال الخطأ في الخبر. واحتمال الخطأ غير احتمال الكذب. ولعلاج احتمال الخطأ طريق آخر، ولا علاقة له بحجية الخبر من ناحية الوثوق والاطمئنان بصدق المخبر.

والذي يتأمل في حياة الناس في المحاكم، وفي الأسواق، وفي المساحات الاخرى من الحياة، لايتوقف عن القول بحجية الاطمئنان عند العقلاء، واعتباره علماً اعتبارياً، وبحكم العلم، لدى االعقلاء.

النقطة الثالثة

إنَّ الشارع لم يردع عن السيرة العقلائية بحجية الاطمئنان إلاّ في موضعين:

1 ـ في الآيات الرادعة عن الأخذ بغير العلم مثل قوله تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)(2) وقوله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً)(3).

2 ـ آية النبأ، حيث تحذر من الأخذ بالخبر إذا كان الذي يأتي بالخبر فاسقاً.

أما التعديل في سيرة العقلاء في الموضع الأول فقد ناقش فيه علماء الاصول، ومن أوجهها مناقشات المحقق صاحب الكفاية، وهي ثلاثة:

أما أولاً: فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية أن الظاهر من هذه الآيات هو الانصراف إلى اُصول الدين، وليس الفروع بقرينة المورد والسياق. فان قوله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ) ورد عقيب قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)(4)، هذا أولاً.

وثانياً: إذا لم يكن المورد والسياق كافياً لتخصيص الوارد باصول الدين فلا أقلَّ من أن يكون موجباً لاجمال الوارد، ولا مناص حينئذ من الأخذ بالقدر المتيقن وهو في أبواب اصول الدين فقط، دون الفروع وذلك لاحتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة على الانصراف إلى اصول الدين.

وثالثاً: على فرض نفي دلالة المورد والسياق على تخصيص الوارد، وعلى فرض نفي الاجمال في الآية الكريمة بسبب القرينة المذكورة في الآية نفسها.. أقول: على فرض نفي هذا وذاك فإنَّ اطلاق الآية يدل على التوقف عن الأخذ بالخبر في حالة عدم حصول العلم، ولكن الأخبار الواردة في حجية الخبر أخص من تلك الآيات فتكون مخصصة لها، أو حاكمة عليها. وبهذا الشرح فلا تكون في هذه الآيات دلالة على التعديل في السيرة العقلائية القائمة على حجية الاطمئنان بالخبر، في غير الموضعين اللذين أشرنا إليهما.

وأما التعديل في الموضع الثاني فلابد أن نأخذ به لصراحة أية النبأ في الردع عن أخذ الخبر من الفاسق قبل التبيّن.

وبذلك تثبت حجية الخبر من قبل غير الفاسق في نظر الشارع... فانَّ سكوت الشارع عن سيرة العقلاء في حجية الاطمئنان، في غير مورد (خبر الفاسق) يدل على اقرار الشارع لها، كما في سائر موارد سيرة العقلاء.

وبذلك يتم الاستدلال بحجية خبر الواحد لغير الفاسق، بمنطوق آية النبأ، بضميمة سيرة العقلاء دون الحاجة للجوء إلى مفهوم الآية الكريمة.

قاعدة الوثوق

ومهما يكن من أمر فان النبأ تقرر بمنطوقها ومفهومها قاعدتين خطيرتين من قواعد الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها. وهاتان القاعدتان هما:

1 ـ قاعدة الحذر والتبين .

2 ـ قاعدة الوثوق .

وكل من هاتين القاعدتين ضروري في مساحته الخاصة، وقد تحدثنا عن قاعدة الحذر والتبين عند البحث عن منطوق آية النبأ.

وبقدر أهمية الحذر والتبين تعظم قيمة قاعدة الوثوق.

فان الوثوق هو أساس الكثير من التعامل والتعاطي بين الناس في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والعائلية، وأن من العلم مالا يمكن أن يتلقاه الطالب إلاّ بالثقة، ولا يتأتى لأحد التحقيق المباشر بالتجربة والممارسة إلاّ في مراحل متأخرة من العلم. فأنّى لطالب أن يعلم بعدد ذبذبات الصوت في الثانية وعدد حركات الالكترونات في مداراتها حول النواة في قطعة صغيرة من الزمان يساوي 10001 جزء من الثانية الواحدة.

ان هذه المعلومات يتلقاها الطالب في كل شعب المعرفه التجريبية تقريباً على أساس من الثقة بالمعلم، لايناقش ولا يشك، وكذلك المعلومات التي يتلقاها الطالب في العلوم الإنسانية.

وإذا أمعنّا النظر فيما بين الناس من التعامل والتعاطي وجدنا أن حياة الناس الاجتماعية وتعاملهم وتعاطيهم فيها قائمة على الثقة.

ولولا الوثوق والتوافق فيما بين الناس لتعطلّت الحياة مرة واحدة.

فلو كان أساس التعامل بين الزوجين في البيت الشك وسوء الظن تهدمت الحياة العائلية.

ولو كان أساس التعامل بين أهل الخبرة في الاختصاصات المختلفة الشك وسوء الظن لم يتمكن أحد من مراجعة الأطباء والمستشارين القانونيين والمهندسين. ولو كان أساس التعامل بين الطالب والعلم الشك وسوء الظن لم يتمكن طالب من أن ينتفع بمعلم ولا معلم أن ينفع طالباً.

ولو كان أساس التعامل بين الناس في الحياة الاجتماعية الشك أو سوء الظن لم يسلم صديق لصديقه، ولم تسلم الحياة الاجتماعية للناس، ولو كان أَساس التعامل بين (الاعلام) والناس الشك وسوء الظن لم تتمكن أجهزة الاعلام أن تنقل إلى الناس خبراً إلاّ بعد جهد وتعب كبير.

وعلى العموم، فان قاعدة الوثوق والتوافق فيما بين الناس أَساس الحياة الاجتماعية. ولابد من هذه القاعدة في حياة الناس ومن دونها تتعطل عجلة الحياة الاجتماعية في كل المجالات.

دور الثقة في مساحة الدين والإيمان بالغيب

ومساحة الدين في حياة الإنسان كلها مساحة الثقة. ومن دون عامل الثقة تتعطل علاقة الإنسان بالدين، ويتعطل دور الدين في حياة الإنسان. فان الدين هو الثقة بالانبياء فيما يوحى إليهم من الله تعالى من الغيب. والغيب مما لايمكن أن يناله الإنسان بالمشاهدة والتجربة واللمس فلا محالة ينحصر طريق الايمان بالغيب بالانبياء وأَساس ذلك كلها الثقة بالأنبياء. وقد عدّ الله تعالى الايمان بالغيب الأساس الأول في هذا الدين .

(الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(5). والايمان بالغيب هو الايمان بالله والملائكة والمعاد وشؤون المعاد من الحساب (الميزان والصراط وتطاير الكتاب وعقبات القيامة).

يقول تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)(6). والايمان بالله والملائكة من الغيب الذي لايناله الانسان بالحسّ.

ان المصدر الوحيد للغيب هو الوحي، ولا سبيل لنا إلى الوحي إلاّ عن طريق الأنبياء. والايمان بالانبياء وصدقهم فيما يقولون لايتم إلاّ بالثقة.

ولو أن الإنسان لم يأخذ بأصل (الثقة) وأراد أن يكتشف بنفسه صحة مايقوله الأنبياء أستحال عليه الايمان بالغيب، وحجب نفسه عن أوسع مساحات المعرفة، وحَرَمَ نفسه من أكبر كنوز المعرفة، وهو  معرفة الغيب.

النظرة التجريبية المادية إلى الدين

ومن الخطأ الفادح أن يطلب الإنسان فهم الدين في أحكامه وتشريعاته التفصيلية فهماً تحليلياً تجريبياً كما نفهم نحن قوانين الفيزياء والكيمياء.

اننا لانشك إن لاحكام الله عللاً وحكماً. ومن وراء كل فرض وواجب مصلحة، ومن وراء كل حرام مفسدة.

ولانشك أن بامكاننا أن نفهم على نحو الاجمال حكم وعلل اُمهات الأحكام كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والخمس، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقد نجد الإشارة إليها في نصوص القرآن نفسه نحو قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)(7) ولكن مانشك فيه كل الشك أن يكون في وسع الإنسان أن يفهم علل واسباب تفاصيل الأحكام وجزئياته كما نفهم تفاصيل القضايا في الميكانيك والفيزياء مثلاً فليس في وسع الإنسان أن يعرف لماذا أمر الله تعالى مسح الرأس قبل مسح القدم في الوضوء، ولا أن نعرف لماذا جعل الله فريضة الصبح جهراً وفريضة الظهر إخفاتاً، ولا في وسع الإنسان أن يعرف لماذا جعل الله فريضة العشاء اربعاً... وامثال ذلك.

يقول أبان بن تغلب: قلت لأبي عبدالله ـ عليه السلام ـ: ماتقول في رجل قَطَعَ إصبعاً من اصابع إمرأة كم فيها؟

قال: عشرة من الابل.

قلت: اثنين؟

قال: عشرون.

قلت قطع ثلاثاً؟

قال: ثلاثون.

قلت قطع اربعاً؟

قال: عشرون.

قلت سبحان الله يقطع ثلاثاً، فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعاً فيكون عليه عشرون. إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممن قال، ونقول: أن الذي قاله الشيطان.

فقال ـ عليه السلام ـ: مهلاً ياأبان. ان هذا حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ان المرأة تعادلُ الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف.

تبادل الوثوق بين (الحقّ) و (أهل الحقّ)

لدينا قاعدتان كل منهما صحيح. القاعدة الاُولى: أن نثق بالقائل من خلال أختبار ما يقول. والقاعدة الثانية أن نثق بما يقول من خلال الثقة بالقائل. وهذان أصلان، وكل منهما صحيح، ولكل موضعه من المعرفة والحياة.

والخلط والاشتباه بينهما من أفدح الاخطاء. فقد يكون سبيل الإنسان إلى الثقة

بالآخرين إختبار ما يقولون: فنحن نعرف العالم بعلمه، ولا نثق به إلاّ بعد اختبار علمه ومعرفته. وهذا باب من العرفة نعرف القائل بما يقول.

جاء رجل في معركة (الجمل) إلى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وقد هزَّه مارآه من الموقف من طلحة والزبير، وهما صحابيان، طالما دفعا عن وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الكرب، ووقفا إلى جنب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في البأساء والضراء فتهيب من ان يشهر السيف بوجههما، ويقاتلهما، ومعهما اُم المؤمنين عائشة زوجة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ... فجاء إلى أمير المؤمنين ـ صلى الله عليه وآله ـ يبث إليه مافي نفسه.

فقال له الإمام ـ عليه السلام ـ: ويحك، انك لملبوس عليك، أعِرفِ الحق تعرف أهله.

وهذا باب للمعرفة أن يعرف الإنسان أهل الحق بالحق.

والباب الآخر للمعرفة: أن يعرف الإنسان أهل الحق، بالحق، ويعرف استقامة القول من خلال الثقة بالقائل كما نعرف الغيب من خلال الأنبياء، ونعرف بهم الحق، ونميز بهم الهدى عن الضلال، وهذا باب آخر من المعرفة، أوسع من الباب الأول، وهذه القاعدة لاتنسخ تلك، ولا تلك تنسخ هذه القاعدة، ولكل منهما مساحته ومجاله الخاص. وليس هذا من باب الدور المستحيل في معرفة أهل الحق بالحق، ومعرفة الحق بأهل الحق، فانَّ لكل من هذين الأصلين مساحته الخاصة في المعرفة والحياة ولا تتداخل هاتان المساحتان. وليس معنى ذلك أن نضع ثقتنا في الأنبياء(عليهم السلام) من دون حساب ونأخذ بما يقولون بلا حساب. فهذا مما لايصح ولا يجوز على كل حال. ولكننا نضع ثقتنا في الأنبياء(عليهم السلام) بالبينة، فإذا تبيّنا الحقّ بالبينة في كلامهم وحياتهم نضع عندئذ الثقة فيهم، فيما يوحى إليهم من الغيب بشكل مطلق، ونعرف بهم الحق، ونميز بهم الهدى عن الضلال.

وهذا باب آخر من المعرفة، أوسع من الباب الاول وسبيلنا إلى معرفة (الغيب) من خلال هذا الباب.

والإنسان يحتاج إلى (الوثوق)، كما يحتاج إلى (المعرفة)، فان من المعرفة مالا سبيل للانسان إليها إلاّ بالوثوق.

فلا سبيل للانسان إلى معرفة الغيب إلاّ بالوثوق; و الوثوق عنصر ضروري للمعرفة. ولئلا يحصل أي التباس في هذا الأمر نعيد مرة اُخرى ماذكرناه قريباً من أن أهمية وضرورة الوثوق في حياة الإنسان ليس بمعنى أن يضع الإنسان ثقته في كل قائل ومُدّع، فهذا مما لانقول به، ولا يجوز أن يقول به أحد. ولكننا نقول أن الإنسان إذا عرف الأنبياء بالبينات، فعندئذ لايسعه أن يتعامل مع كلماتهم ومفاهيمهم إلاّ من خلال التسليم والايمان. والإنسان بحاجة إلى هذه (الثقة)، بقدر ماهو بحاجة إلى (المعرفة). والذهنيّات المشككة التي تنال قضايا الغيب والتشريع بالتشكيك، لاتنال من المعرفة إلاّ اليسير البتّة.

ومن هنا فان الله تعالى يمتحن عباده بـ(الثقة)، ولا تكتمل شخصية الانسان من دون اكتمال حالة (الثقة)، وهي أن يتلقى الانسان قضايا التشريع والغيب، بالتسليم، ودون مناقشة وترديد.

قصة موسى والعبد العالم عليهما السلام

وأعتقد أن قصة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ ولقائه بالعبد العالم الذي يحكيه الله تعالى لنا في القرآن من هذا الباب(8).

فقد أراد الله تعالى لنبيه وكليمه موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ أن يعلّمه الوثوق فامتحنه باللقاء بالعبد العالم الذي نقرأ قصته ـ عليه السلام ـ في سورة الكهف.

وإليك القصة من سورة الكهف:

(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(9).

مجموعة نقاط في سورة الكهف

1 ـ يظهر لنا من سياق القصة أن نبي الله موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ كان مأموراً من جانب الله تعالى باللقاء بالعبد العالم عند مجمع البحرين، ولذلك كان ـ عليه السلام ـ حريصاً على الا يفوته هذا الموعد (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حُقباً)، وكانت العلامة التي جعلها الله تعالى لرسوله موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ هو أن ينسيا (هو وفتاه) السمكة، وتأخذ السمكة سبيلها في البحر عجبا، فلما تأكد موسى ـ عليه السلام ـ من حصول العلامة أمر فتاه بالرجوع إلى المكان الذي نسيا فيه السمكة، وأتخذت سبيلها في البحر عجبا (قال ذلك ماكنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا، فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) فعرف موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ أنّه هو الذي أمره الله تعالى باللقاء به، واتباعه، والتعلّم منه، فقال له في أدب جم: (قال له موسى هل أتبعك على أن تُعلمنِ مما عُلِمتَ رُشدا) وفي هذه الجملة والسؤال والطلب من أدب النبوة مالا يطيقه ولا يعرفه إلاّ الأنبياء:

أ ـ فهو ـ عليه السلام ـ يستأذنه أولا في أن يتبعه، ولا يخبره بأنه قد قرر لوحده أن يتبعه فيقول له (هل أتبعك) وفي ذلك من أدب المرافقة مالا يخفى.

ب ـ ويقول له أتبعك، ولا يقول له اُصاحبك، والاتباع غير الصحبة، ودون الصحبة، ويضع رسول الله موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ هنا نفسه من العبد العالم في موضع التابع، وليس في موضع الصاحب: فيقول (هل أتبعك).

جـ ـ ويقول له: (على أن تعلمن) فيحدد له موقعه ـ عليه السلام ـ منه، وهو موقع المتعلم من المعلم.

د ـ ويقول له ـ عليه السلام ـ (على أن تعلمن)، ولا يقول (أتعلم)، فيختفي موسى ـ عليه السلام ـ من المشهد، وتختفي ظلاله ولا يبقى في المشهد إلاّ المعلم والتعلم، وهو غاية في الأدب.

هـ ـ ويقول له ـ عليه السلام ـ (مما عُلمت)، فليس يطلب رسول الله موسى ـ عليه السلام ـ من العبد العالم أن يعلمه كل ماآتاه الله تعالى من المعرفة، انما يستأذنه أن يتبعه ليعلّمه بعض ماآتاه الله من المعرفة، و (ما) في (مما علمت) للتبعيض أي البعض مما آتاك الله من المعرفة.

و ـ ويقول له ـ عليه السلام ـ (مما عُلمت) ولا يقول مما علمك الله تعالى وكأنه يُجلُّ الله من أن يذكره.

ز ـ ويقول ـ عليه السلام ـ له (مما علّمت رشدا) فلا يعلم العبد العالم إلاّ الرشد، ولا يتعلم منه موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ إلاّ الرشد.

هذا وموسى بن عمران ـ عليه السلام ـ من الأنبياء الخمسة أُولي العزم وكليم الله، وسلام الله عليه، ورزقنا الله بعضاً من أدبه الجم وخلقه الرفيع.

3 ـ (قال انك لن تستطيع معي صبراً) وهذا جواب العبد العالم لموسى بن عمران ـ عليه السلام ـ يقول له: ان الذي تريد أن تتعلمه يحتاج إلى صبر عظيم، وأنت لاتقدر على ذلك.

ثم يبين له سر ذلك (وكيف تصبر على مالم تحط به خُبراً)، وهذا هو روح الموضوع وسرّه، فان الصبر على ما لايعرفه الإنسان، ولا يحيط به خبراً من أشق الاُمور.

فاستجاب موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ لطلب العبد العالم، ووعده أن يصبر ماشاء الله له أن يصبر (قال ستجدني ان شاء الله صابراً ولا اعصي لك أمراً)، وصدق العبد العالم، فقد شَقَّ على موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ أن يصبر على ماكان يفعله العبد العالم، مما لم يحط به خبرا مرة اخرى.

ففي المرة الاُولى عندما خرق العبد العالم السفينة انتفض موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ، وقال: (أخرقتها لِتغرقَ أهلها لقد جئتَ شيئاً إمرا) فلما ذكّره العبد العالم بوعده الذي وعده (قال لا تؤاخذني بما نسيتُ ولا تُرهقني من أمري عُسرا)، فما تجاوز موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ هذا الامتحان العسير حتّى واجه امتحانا أعظم عسراً من الاول: (فانطلقا حتى إذا لقيا غُلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نُكرا) فقد هزّه ـ عليه السلام ـ هذه المرة ما رآه من قتل الغلام البريء، الذي لايعرف له ذنباً يستوجب قتله، وهو غلام صغير، وانتفض ينكر على العبد العالم هذا التصرف، دون أن يذكر ما وعده به

آنفاً من الصبر على مالا يعلمه فذكّره العبد العالم بما قال له من قبل، أنه لا يستطيع معي صبراً.

فطلب منه موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ أن يمهله مرة ثالثة وهي آخر مرة، فإذا سأله عن شيء، فلا يصاحبه من بعده (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا)، ولكنه ـ عليه السلام ـ لم يُطق الصبر هذه المرة أيضاً (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا) عندئذ أعلن العبد العالم له ـ عليه السلام ـ: أن هذا فراق بينه وبينه ـ عليهما السلام ـ: (قال هذا فراق بيني وبينك).

4 ـ ثم شرح له ـ عليه السلام ـ ماخفى عليه من الاُمور التي لم يُطق السكوت عنها.

فقال له: (سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً)، فيشرح له ماخفي ليه من أعماله خلال هذه السفرة القصيرة واحداً بعد آخر فيقول له (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردتُ أن اعيبها، وكان ورآءهم ملك يأخذُ كل سفينة غصبا، وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربُكَ أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلتُهُ عن أمري ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبراً)، فلم يكن العبد العالم يريد اخفاء سر مافعله على موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ، ولكن الله تعالى كان يريد أن يُعلم عبده وكليمه موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ الصبر على مالا يعلم، والثقة والتسليم.

5 ـ وفي قصة الجدار الذي كان يريد أن ينقض يقول العبد العالم (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة * وكان تحته كنز لهما * وكان أبوهما صالحاً فأراد ربُكَ أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) وهو أمر للنظر، أن صلاح الاب ينعكس على ابنائه وذريته، فيَرَحَمُ الله الذرية بسبب صلاح الأب (وكان أبوهما صالحاً فأراد ربُكَ ان يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك).

أزمة الثقة وأزمة السذاجة

وبعد هذا الشرح نقول: اننا نعاني في حياتنا الاجتماعية من أزمتين أزمة الثقة في شريحة من الناس، لاتستجيب قلوبهم للثقة، وينظرون إلى كل شيء وكل شخص بنظر الريبة والشك وسوء الظن وهذه أزمة نفسية واجتماعية بالتأكيد، ومن أسباب تخريب العلاقات الاجتماعية، ويسري مفعوله بشكل أو بآخر إلى علاقة الإنسان بالغيب بصورة غير مباشرة، وهناك إلى جانب هذه الأزمة أزمة اخرى، هي أزمة الاستجابة السريعة والوثوق والاطمئنان من دون تحقيق وتبيّن، إلى حدّ السذاجة والبساطة، وهذه أزمة اخرى بالتأكيد في الحياة الاجتماعية، ولها آثار سلبية واسعة على حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية.

أين نضع الثقة؟

والآن بعد هذه الجولة من مسألة الثقة نقول ليس معنى ماذكرنا من أمر الثقة أن يستجيب الإنسان من دون بيّنة ومن دون مقاييس ومعايير دقيقة لكل دعوة ولكل خطاب، ولابد أن يكون الإنسان دقيقاً في اختيار الموضع الذي يضع ثقته فيه.

روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين ـ عليه السلام ـأنه قال: ((إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لايغرنَّكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نيته ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها، فهو لايزال يختل الناس بظاهره، فان تمكن من الحرام اقتحمه.

واذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام، فرويداً لايغرنكم فان شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإنْ كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها محرماً.

فاذا وجدتموه يعفّ عن ذلك، فرويداً لايغرنكم، حتى تنظروا ماعقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون مايفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فاذا وجدتم عقله متيناً، فرويداً لايغرنكم، حتى تنظروا أمع هواه يكون عقله؟ أم يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبته للرياسات الباطلة وزهده فيها؟

فان في الناس من خسر الدنيا والآخرة، بترك الدنيا للدنيا، ويرى أنَّ لذّة الرياسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحللة; فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة الباطلة، حتّى إذا قيل له: اتق الله (أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد).

فهو يخبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمدّه ربه بعد طلبه لما يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ماحرّم الله، ويحرّم ماأحل الله، لايبالي مافات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي من أجلها، (فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً).

ولكنّ الرجلَ كل الرجل، نعم الرجل، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لاتبيد ولاتنفد، وانَّ كثيرٌ مايلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال)).

المصادر :

ــــــــــــ

(1) الحجرات: 6.

(2) الاسراء: 36.

(3) النجم: 28.

(4) النجم: 27.

(5) البقرة: 1 ـ 3.

(6) البقرة: 285.

(7) البقرة: 179.

(8) بناءً على الرأي المشهور بانّ من أمره الله بلقاء العبد الصالح هو موسى بن عمران(ع)، وقيل أنه أحداً أسباط يوسف بن يعقوب (ع) وهو موسى بن ميشا بن يوسف، وكان من أنبياء بني اسرائيل ـ راجع الميزان في تفسير القرآن 13:383 (التحرير).

(9) الكهف: 59 ـ 82.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=457
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 04 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24