• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : رؤية قرآنية في أبعاد العداء الثقافي للإسلام .

رؤية قرآنية في أبعاد العداء الثقافي للإسلام

الشيخ فؤاد كاظم المقدادي

إنّ أبرز بؤر العداء للإسلام نجدها في المؤسسات الغربية ذات النزعة الاستعمارية ثم يسري هذا العداء وتنظيراته إلى امتداداته وذيوله في البلاد الإسلامية. وكثيراً ما  يقف المتأمل المنصف والمقوّم الحصيف أمام ظاهرة العداء الغربي الاستعماري للإسلام، وإذا وُجد ما يمكن أن يدّعى من مبررات للعداء السياسي أو العمل المتواصل على استحواذ خيرات ومقدرات بلاد المسلمين والهيمنة الاقتصادية عليها، فانه لا يوجد مثل ذلك في عدائهم الثقافي، حيث ان المنطق الطبيعي يقتضي النظر إلى الجانب الفكري والثقافي من منظار علمي بحت ووفق معايير التقويم الموضوعي للطروحات الفكرية والمقولات الثقافية، ولعل الأنكى من ذلك أن نجد أن الغالب على منظومة التنظير الغربية الاستعمارية التي يعرضها أغلب مفكريها، وفي مقدمتهم المستشرقون، من خلال مؤلفاتهم وموسوعاتهم، هو تعريف الإسلام مشوهاً مزيّفاً مليئاً بالشبهات والأباطيل، فهم يُشوهون التاريخ الإسلامي ويُشككون في المقدسات الإسلامية، ويُثيرون الشبهات المختلفة حول نسبة القرآن الكريم للوحي الالهي وحول الهوية الرسالية لرسول الإسلام الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ وأهل بيته الطاهرين ـ عليهم السلام ـ وسيرتهم المباركة.

ولكننا لو أمعنا النظر جيداً وسبرنا غور الاصول والجذور; فاننا نجد أن هؤلاء قد تناولوا الإسلام من خلال موقف نفسي مسبق ملؤه الحقد والعداء، بل والتمهيد لتحقيق هزيمة نفسية للمسلمين وصدّ حركة الدعوة الإسلامية من الانتشار في الحواضر الغربية. إلاّ أن السؤال يبقى معلّقاً حول ماهو الأصل والجذر في الموقف السلبي المسبق المملوء بالحقد والنزعة المفرطة لتشويه الإسلام ؟

وللجواب على ذلك علينا أن نعود إلى سالف التاريخ بدءاً بأوائل زمن بزوغ فجر الإسلام وصدع الرسول محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ بالدعوة الجديدة. وعند استقصائنا لهوية وطبيعة المعادين الأوائل للإسلام والصادّين عن سبيله نكتشف أن أعداء الإسلام اليوم هم أبناء أولئك المعادين الأوائل، وان خط العداء القائم دائماً على طول التاريخ الغابر بدوام علّته، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم نصاً في قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  ...)(1).

ومن أجل أن نحقق استيعاباً اجمالياً لأبعاد وجذور وصور هذا العداء سنتناول الموضوع من خلال رؤية القرآن الكريم ـ كمصدر مطلق ـ في بيان صور وأسباب عداء اولئك الأوائل، حيث نجد أن هناك عشرات الآيات الصريحة في عرض صور وبيان أسباب عداء المشركين ـ بما فيهم أهل الكتاب ـ للإسلام ورسوله الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ويمكننا أجمالها في الصور التالية:

1 ـ موقف العداء المتمثل في كتمان الحق وتحريفه رغم علمهم القاطع به، وهذا ما تشير إليه مجموعة من الآيات الكريمة وتكشف عمّا بذله الأعداء من جهد وحيل ومن مكائد وخداع ومن كذب ولبس للحق بالباطل، وبثّ الريب والشكوك وتبييت الشرّ والضرّ للإسلام ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله، ومن تلك الآيات الكريمة:

قوله تعالى: (مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ...)(2).

وقوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(3).

وقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)(4).

ومن الغريب في موقف هؤلاء الأعداء هو أنهم كانوا يترقبون ظهور رسول جديد بدين جديد، وكانوا يبشّرون به ويفتخرون على غيرهم من الأُمم والأديان بأن النبي المترقب سيكون منهم، ولكن ما إن جاءهم حتّى كفروا به وأعلنوا عداءهم له ولدينه الذي بشّر به. ويبيّن لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)(5).

والأكثر غرابة هو أنهم كانوا يعرفون النبي محمداً ـ صلى الله عليه وآله ـ  باسمه وصفاته، ورغم ذلك أصرّوا على كفرهم به ونكرانهم لرسالته. ولهذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(6).

وأيضاً قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(7).

2ـ موقف العداء الآخر تمثّل بنقض العهود والمواثيق التي أخذها عليهم أنبياؤهم بالاقرار بالرسول محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ  المبشّر به في كتبهم والايمان به وبما يأتي به من كتاب الله.

وقد صرّح القرآن الكريم بذلك في مجموعة من الآيات الكريمة، منها:

قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)(8).

وقوله تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(9).

ومنها قوله تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ)(10).

3 ـ أما موقف العداء الثالث فكان النفاق والتضليل، حيث حاول قطّاع واسع منهم انتهاج هذا السبيل للاندساس في أوساط المسلمين والتوغل في صفوفهم، ومما جاء في القرآن الكريم بياناً لذلك:

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(11).

ومنها قوله تعالى أيضاً: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ)(12).

وقوله تعالى أيضاً: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(13).

وقد أشار القرآن الكريم إلى أن خطتهم من وراء هذا الاندساس والتوغل في صفوف المسلمين ترمي لتمرير مؤامرة قذرة كشفها الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ  بهدف زعزعة ايمان المسلمين عقائدياً وإخراجهم من دينهم، مبيّناً أن الخطة تقوم على أساس تظاهرهم المبطن بالنفاق بالايمان بالإسلام ثم الارتداد عنه بحجة توصلهم إلى قناعة تامّة ببطلانه وبطلان دعوى النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ بالنبوة. ومن الآيات الكريمة التي تناولت أبعاد هذه المؤامرة الدنيئة وكشفت للرسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ فصولها واحداً تلو الآخر هي:

قوله تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(14).

وزادت آية كريمة أُخرى بياناً لطبيعة المؤامرة في قوله تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(15).

ولبيان جانب آخر من المؤامرة جاءت الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(16).

4 ـ ومن مواقفهم العدائية أيضاً هو الحسد والتعصب، حيث استولت على فريق منهم حالة طاغية من الحسد والحقد والتعصب، خصوصاً عندما حصحص الحق وبان لهم حدّه وفات عليهم ما كانوا يرمون إليه من استغلال النبي الموعود ودعوته الجديدة لتكريس مصالحهم ومواقعهم الاجتماعية والاقتصادية، فراحوا يكيدون للنبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ولدعوته الإسلامية ما وسعتهم المكائد وانطوت عليه نفوسهم المريضة من خداع وتزييف، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ...)(17).

ومن صور حسدهم وحقدهم ما جاء في الآية الكريمة في قوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(18).

ومن صور تجاهلهم المتعصب للرسالة الجديدة ما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(19).

وكذلك قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)(20).

ومن صور إصرارهم وتعصبهم على جهلهم قوله تعالى  : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً)(21).

وأيضاً قوله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)(22).

5 ـ وموقف عدائي آخر تميزوا به على طول مواجهتهم للإسلام وهو تعاليهم على الدين الجديد وترفعهم المكابر عليه واستهزاؤهم به وبنبيّه ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وهو اسلوب آخر تميز به المكابرون من الأعداء، حيث التجأوا إلى هذه اللغة بعد أن أعيتهم السُبل فراحوا يتخبطون في وهم أغمضوا فيه أعينهم عن الحقائق نابذين به الحق ومصرّين على الباطل، فهم تارةً يسلكون مسلك العتوّ والاستعلاء وأُخرى يسلكون مسلك السخرية والاستهزاء بصور مختلفة، منها:

الصورة التي تشير إليها الآية الكريمة في قوله تعالى: (.. وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(23).

ومن صور تعاليهم ومكابرتهم العدائية ما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى : (وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(24).

ومنها أيضاً الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(25).

6 ـ ومن مواقفهم العدائية المشهودة، التي صعّدوا بها مواجهتهم العنيدة للإسلام، هو صدّهم عن سبيل الله ومسارعتهم في الإثم والعدوان خصوصاً عندما رأوا أن دين الإسلام يعلو ودعوته تنتشر وأن أمر نبوة محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ورسالته يذيع بين القبائل والشعوب والأوطان والأمصار، فلم يجدوا مناصاً وطريقاً يطفيء نائرتهم تجاه الإسلام ونبيه الكريم إلاّ الاثم والعدوان والصدّ عن سبيل الله، فأعدوا عدتهم وتنادوا للكيد والعدوان، ولم يكتفوا بما خاضوه من معارك وحروب متوالية داخل الحجاز، مهد دعوة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ  ; بل تألبوا عليه من خارج الجزيرة العربية، فكانت معركة مؤتة التي استشهد فيها جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة وزيد بن حارثة، ومنها معركة اليرموك.

وقد عرضت آيات القرآن الكريم هذا الموقف العدواني بما اشتمل عليه من إثم وصد عن سبيل الله كما في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ)(26).

ومنها أيضاً قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(27).

وعن الموقف العدائي لليهود جاء قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً)(28).

وعن الإثم والعدوان قال تعالى : (وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(29).

هذه خلاصة خاطفة عن رؤية القرآن الكريم في صور وجذور العداء السافر للإسلام ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله . والمتتبع تاريخياً وعلمياً يجد ان سيرة اللاحقين من المعادين للإسلام فكرياً وعقائدياً لم تخرج عن مجمل هذه الأطر العدائية، بل زيد تفصيلاً وتعميقاً في تنظير منظومته الثقافية ليواكب تطور العقل البشري في بحثه عن الحقيقة، فأمعنوا في الشبهات والدس والتشويه.

فهم تارة يتناولون الأسس والأصول التي يقوم عليها الإسلام كدين إلهي فينكرون مثلاً الوحي الالهي بالقرآن الكريم إلى النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ويبتدعون نظريات يسبغون عليها الوصف العلمي ليمعنوا في شبهتهم حول الوحي الالهي، كما في دعوى نظرية الوحي النفسي التي حاولوا بواسطتها سلب النسبة الالهية للوحي القرآني وأرجعوه إلى نوع من الادراك الوهمي.

أو ينفون الاعجاز القرآني في اسلوبه البلاغي ليسقطوا بذلك الدليل الذي يثبت إلهية القرآن الكريم وخلوده بخلود اعجازه من جهة، وإسقاط دعوى نبوة النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ  وانه رسول الله تعالى للعالمين من جهة أخرى ليفقد القرآن الكريم والنبي الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ قدسيتهما(30).

ولتحقيق هذا الهدف أثاروا الشك برواية الشعر العربي الجاهلي، وادعوا نظرية قالوا فيها: لعلّ في الشعر العربي الجاهلي الذي لم يرو ما هو أبلغ من القرآن. ولمّا كان الشعر العربي الجاهلي بمنزلة الأمارة والعلامة على بلاغة القرآن وفصاحته، فعليه من الممكن التشكيك في الاعجاز البلاغي للقرآن الكريم(31).

وأمثال هذا هذه الادعاءات الباطلة، كدعوى أن في القرآن تناقضاً وان رسول الإسلام محمداً ـ صلى الله عليه وآله ـ تأثر باليهودية والنصرانية والجاهلية وغير ذلك.

وهم تارةً ينتهجون اسلوب التجديف والاستخفاف بوسائل مختلفة، منها: اصدار بعض الكتب على شكل روايات تجديفية تنال من قدسيَّة رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وآله ـ  وتستخف به وبأهل بيته عليهم السلام، كما في رواية (الآيات الشيطانية) للمرتد سلمان رشدي، ومنها: تضمين بعض المقدسات الإسلامية في افلام سينمائية رخيصة القصد منها اثارة السخرية بمقدسات الإسلام والاستخفاف بها.

ومنها: الانتقاص من الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ والقرآن الكريم والاستخفاف بهما عن طريق زج أسم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ  وبعض آيات القرآن الكريم في دعاياتهم واعلاناتهم التجارية المهينة.

ولا شك اننا لا نحتاج إلى مزيد جهد تحقيقي لمعرفة أن كل هذه الصور والأساليب الثقافية والاعلامية التي ينتهجها أعداء الإسلام المعاصرون ترجع في روحها واصولها وصورها إلى تلك الجذور والاصول والصور العدائية الاولى.

وهكذا نضع أيدينا على صُوَر واُصول الموقف العدائي المسبق والنزعة المفرطة لتشويه الإسلام ثقافياً لدى أغلب مفكري الغرب ومستشرقيه من ذي النزعات الاستعمارية ومن سار على نهجهم وحذا حذوهم.

بقي علينا أن نعرف رؤية القرآن الكريم في الموقف من حالة العداء الثقافي والخصومة الفكرية للإسلام، وكيف أرشد الله نبيه الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ في احتوائها ومواجهتها ؟ وهذا ما ستتناوله كلمتنا القادمة ان شاء الله والحمد لله رب العالمين.

 

المصادر :

ــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة: 120.

(2) آل عمران: 71.

(3) النساء: 46.

(4) آل عمران: 187.

(5) البقرة: 89.

(6) البقرة: 146.

(7) الأنعام: 20.

(8) آل عمران: 187.

(9) البقرة: 100.

(10) الأنفال: 56.

(11) المائدة: 41.

(12) البقرة: 88.

(13) البقرة: 44.

(14) آل عمران: 69.

(15) آل عمران: 72.

(16) آل عمران: 78.

(17) البقرة: 109.

(18) البقرة: 105.

(19) البقرة: 101.

(20) البقرة: 89.

(21) النساء: 51.

(22) البقرة: 135.

(23) النساء: 46.

(24) المائدة: 18.

(25) آل عمران: 75.

(26) المائدة: 59.

(27) التوبة: 34.

(28) النساء: 160.

(29) المائدة: 61.

(30) راجع في رد هذه الشبهة: رضا، محمد رشيد ـ الوحي المحمدي. والدكتور الصالح، صبحي ـ مباحث علوم القرآن. والحكيم، محمد باقر ـ علوم القرآن. ومعرفة، محمد هادي ـ التمهيد في علوم القرآن ج 1. والمقدادي، فؤاد كاظم ـ الإسلام وشبهات المستشرقين.

(31) راجع في رد هذه الشبهة: الخوئي، أبو القاسم ـ البيان. والبلاغي، محمد جواد ـ الهدى إلى دين المصطفى. والحكيم، محمد باقر ـ علوم القرآن. وابن نبي، مالك ـ الظاهرة القرآنية. والمقدادي، فؤاد كاظم ـ الإسلام وشبهات المستشرقين.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=445
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 04 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28