• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : المعرفة التحليلية للقرآن .

المعرفة التحليلية للقرآن

الشيخ مرتضى المطهري

ننوي في هذا الفصل، دراسة محتويات القرآن، ولاننسى اذا اردنا التطرق الى جميع مواضيع القرآن فان الأمر يستغرق وقتا طويلاً، وعلى هذا الاساس فاننا سنتناول العناوين العامة ثم نتطرق الى جزئياتها.

يتحدث القرآن عن مسائل جمة ويؤكد على بعض المسائل بدرجة كبيرة وعلى مسائل اُخرى بدرجة أقل. ومن جملة المسائل التي يتطرق اليها القرآن، مسألة الكون وخالقه. يجب ان نعرف ما هو فهم القرآن لله؟

هل هذا الفهم، فلسفي أم عرفاني ؟

وهل ان القرآن بمستوى الكتب الدينية الاخرى مثل التوراة والانجيل أم انه يشبه الرسالات الهندية؟ وهل له اسلوب مستقل في معرفة الله؟

والمسألة الأخرى المطروحة في القرآن، مسألة الكون حيث يلزم تحليل نظرة القرآن حول الكون وهل يعتبر الخلق والكون عبثين ولعبتين او يعتبرهما حقاً؟ وهل يعتبر سير الكون مبنياً على سلسلة من السُنن والنواميس أم يعتبره شاذاً فلا يشكل أي شيء شرطاً لشيء آخر؟

ومن جملة المسائل العامة المطروحة في القرآن، مسألة الانسان حيث يتطلب تحليل نظرة القرآن حول الانسان. هل يتحدث القرآن بتفاؤل حول الانسان أو ان نظرته سلبية وغير متفائلة تجاهه؟ وهل يعتبر الانسان حقيراً او يقيم له كرامة وعزة؟

والمسألة الاخرى، مسألة المجتمع الانساني، هل ان القرآن يقيم شخصية واصالة للمجتمع الانساني او انه يعتبر الفرد اصلا فقط؟ وهل للمجتمع بنظر القرآن، حياة وصوت وتطور وانحطاط ام ان جميع هذه الصفات تختص بالفرد فقط؟ وتطرح في هذا المجال مسألة التاريخ وما هي نظرة القرآن للتاريخ؟ وما هي بنظر القرآن القوى المحركة للتاريخ ونسبة تأثير الفرد في التاريخ؟

ويطرح القرآن مسائل جمة من جملتها رأي القرآن حول نفسه؟ ثم مسألة النبي في القرآن وكيفية تعريف القرآن للنبي وكذلك كيفية تحدثه معه. والمسألة الأخرى تعريف المؤمن في القرآن وصفات المؤمنين و… الخ. كل واحدة من هذه المسائل العامة لها تشعبات وفروع فعلى سبيل المثال عندما نتدارس الانسان يلزم بالطبع التحدث عن اخلاقه او عندما نتحدث حول المجتمع نرى انفسنا ملزمين بالتحدث عن علاقات الأفراد ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسألة الطبقات الاجتماعية و… ومسائل أخرى.

كيف يعرف القرآن نفسه

من الافضل عند تحليلنا لفحوى القرآن نبدأ من هذه المسألة وهي ان نعرف ما هو رأي القرآن حول نفسه وكيف يُعرّف نفسه؟

اول ما يقوله القرآن عن نفسه هو ان هذه الكلمات والعبارات هي كلام الله. ويؤكد القرآن ان النبي لم يكتب القرآن بل انه يبين ما نزل عليه باذن الله من الروح المقدسة او جبرئيل.

اما التوضيح الآخر الذي يعطيه القرآن حول نفسه فيتمثل بتعريف رسالته التي هي عبارة عن هداية ابناء البشر وارشادهم للخروج من الظلمات الى النور:

(كِتابٌ اَنْزَلْناهُ اليك لِتُخرجَ الناسَ مِنَ الظُّلماتِ الى النور…)  (سورة ابراهيم - الآية1)

ومما لا شك فيه ان الجهالة هي من احدى مصاديق هذه الظلمات والقرآن يخرج البشر من هذه الظلمات الى النور. اما اذا كانت الظلمات تتمثل بالجهالة فقط لكان الفلاسفة قادرين على القيام بهذه المهمة غير ان هناك ظلمات أخرى اخطر من الجهالة حيث يعجزالعلم عن مكافحتها ومن جملتها الجشع والغرور وحب النفس و… الخ التي تعد من الظلمات الفردية والأخلاقية والظلمات الاجتماعية ايضاً كالظلم و التفرقة… الخ. ان كلمة الظلم التي تقابلها بالفارسية كلمة (ستم) مأخوذة من كلمة الظلمة التي تعني نوعاً من الظلم الاجتماعي والمعنوي. ومكافحة هذه الظلمات تكون على عاتق القرآن والكتب السماوية الأخرى، فالقرآن يخاطب موسى بن عمران قائلاً:

( … اَنْ اَخْرِجْ قَوْمَكَ من الظُلمات الى النور…) (سورة ابراهيم - الآية 5)

وهذه الظلمات هي استبداد فرعون واعوانه بينما النور هو نور الحرية والعدالة.

والملاحظة التي أكد عليها المفسرون هي ان القرآن يذكر الظلمات بالجمع مع الألف واللام لتعبر عن الاستغراق وتشمل جميع الظلمات في حين يذكر كلمة النور بالمفرد باعتبار ان طريق الحق واحد لاغير بينما الانحراف والضلالة لهما طرق متعددة (1) وبذلك يحدد القرآن هدفه؛ تحطيم قيود الجهل والضلالة والظلم والفساد الاخلاقي والاجتماعي وبعبارة أخرى، ازالة الظلمات ومن ثم الارشاد نحو العدالة والخير والنور.

 فهم لغة القرآن

المسألة الأخرى، مسألة فهم القرآن وتلاوته. يتصور البعض ان المقصود من تلاوة القرآن هو قراءة القرآن بهدف الحصول على الثواب من دون فهم أي شيء من معنى الآيات هؤلاء يختمون القرآن على الدوام اما اذا سُئِلوا عما اذا كانوا يفهمون ما يقرأونه فانهم يعجزون عن الاجابة. اِن قراءة القرآن لازمة وضرورية باعتبارها بداية لفهم معاني القرآن لا ان تأتي بهدف الحصول على الثواب.

وفهم معاني القرآن، هو الآخر له خصائصه حيث يتطلب اخذها بنظر الاعتبار. وعند مطالعة الكتب يحصل القارئ على سلسلة. من الأفكار الجديدة التي لم تكن موجودة في ذهنه ابداً. وهنا فان عقل وقوة تفكير القارئ هما فقط اللذان يقومان بالفعالية. وفيما يتعلق بالقرآن، يتوجب مطالعته بهدف التعلم والتعليم. يقول القرآن بهذا الصدد:

(كِتابٌ اَنْزَلْناهُ اِليكَ مُبارَكٌ لِيدّبروا آياته وَ لِيتذَكَرَ اولو الألباب)(سورة ص- الآية29)

للقرآن وظائف من جملتها التعليم ومن هذه الناحية فان مُخاطب القرآن هو العقل حيث يتحدث معه بلغة المنطق والاستدلال. اضافة الى هذه اللغة يملك القرآن لغة أخرى لايتحدث بها مع العقل بل مع القلب و تسمى هذه اللغة بالاحساس. ومن يريد أن يتعرف على القرآن ويستأنس به يجب ان يكون ملماً بهاتين اللغتين ويستفيد منهما في آن واحد لان فصلهما عن بعضهما يوقع الانسان بالخطأ ويضره.

ان ما نسميه عقلاً، عبارة عن احساس كبير وعميق يتواجد في داخل الانسان ويسمى احياناً ب(احساس الوجود) أي الاحساس بارتباط الانسان بالوجود المطلق.

ومن يعرف لغة القلب ويخاطب الانسان بها، يحركه من اعماق الوجود وفي ذلك الوقت لن يكون الفكر والعقل متأثرين فحسب بل ان جميع وجود الانسان سيكون متأثراً وعلى سبيل المثال ان جميع انواع الموسيقى لها عامل مشترك الا وهو الاحتكاك بعواطف الانسان، فالموسيقى تثير روح الانسان وتدخله في عالم خاص من الاحساس. وبالطبع يتباين نوع الاثارة والاحساس المتولدين، من موسيقى الى اخرى مثلاً يحتمل ان يكون نوع من الموسيقى مرتبطاً باحساس الشجاعة والبسالة. اذن فهي تتحدث مع الانسان بهذه اللغة. انكم تلاحظون في ساحات الحرب انهم يعزفون الألحان والاناشيد العسكرية ففي بعض الأحيان يكون تأثير هذه الأناشيد او الألحان قوياً الى درجة يشجع الجندي الذي لايخرج من موضعه خوفاً من العدو، ان يخرج من ذلك الموضع ويتقدم نحو العدو ليحاربه. اما النوع الآخر من الموسيقى فيحتمل ان يكون مختصاً بحس الشهوة ومثل هذه الموسيقى تأخذ بيد الانسان نحو الابتذال والسقوط والانحطاط ويلاحظ ان مثل هذا النوع من الموسيقى له تأثير كبير ويحتمل ان لايكون بمستطاع أي شيء آخر أن يؤثر بهذه الدرجة في تحطيم جدران الكرامة والاخلاق.

وفيما يتعلق بسائر الغرائز والاحاسيس ايضاً، يمكن عند التحدث بهذه اللغة بواسطة الموسيقى او بأية وسيلة أخرى، السيطرة عليها تماماً.

ومن اروع غرائز واحاسيس الانسان، الحس الديني وفطرة الاتجاه الى الله. والقرآن يهتم بهذا الحس العظيم والشريف(2).

القرآن يوصي بتلاوته بلحه لطيف وجميل وهو يتحدث مع فطرة الانسان الالهية بهذه النغمة السماوية(3) ثم انه يستعمل لغتين لوصف نفسه ففي بعض الأحيان يعتبر نفسه كتاب التفكير والمنطق والاستدلال وفي احيان أخرى كتاب الاحساس والحب، وبعبارة أخرى ان القرآن ليس غذاء العقل والفكر فحسب وانما غذاء الروح ايضاً.

يؤكد القرآن بدرجة كبيرة على موسيقيته الخاصة، تلك الموسيقي التي تؤثر اكثر من أية موسيقى أخرى في اثارة احاسيس الانسان العميقة والنبيلة، ويأمر المؤمنين ان يقضوا بعض الليل في تلاوة القرآن ويقرأوا القرآن في صلاتهم عند توجههم الى الله. يقول القرآن مخاطباً النبي (ص):

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(سورة المزمل - الآيات 1 - 4)

والترتيل، يعني قراءة القرآن لكن ليس بسرعة بحيث لايتم فهم الكلمات، او ببطء، بحيث تنعدم الصلة بين العبارات. يقول إقرأوا القرآن بتأن مع فهم الآيات ويقول في الآيات اللاحقة:

( … فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً… )(سورة المزمل - الآية 20)

لقد كانت موسيقى القرآن عند المسلمين، تحث على النشاط واكتساب القدرة الروحية والاخلاص والصفاء الباطني، وان نداء القرآن السماوي جعل في اقل مدة من اناس شبه الجزيرة العربية المتوحشين، مؤمنين صامدين استطاعوا ان يتحدوا اكبر قوى عصرهم ويقضوا عليها. وكان المسلمون لاينظرون الى القرآن ككتاب دراسي وتعليمي فقط بل كغذاء روحي ومصدر لكسب القوة وازدياد الايمان. كانوا في الليل يقرأون القرآن باخلاص(4) ويبتهلون الى الله، وكانوا في النهار يشنون مثل الاسود هجماتهم على العدو فالقرآن كان يتوقع هذا الشيء من المؤمنين، ويقول في آية مخاطباً النبي:

(فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (سورة الفرقان - الآية 52)

وحياة النبي، مصداق لهذا الكلام. انه انتفض وحده من دون حماية ماسكاً القرآن بيده، لكن هذا القرآن اصبح كل شيء له، كان يُعدّ له الجنود والاسلحة والقوة ويجبر العدو ان يخضع ويستسلم له وكان كذلك يجر افراد العدو نحو النبي ويجبرهم على الاستسلام له، وبذلك كان يُنفذ وعود الله الصادقة.

عندما يصف القرآن لغته، بلغة القلب فهو يقصد بهذا الكلام، ذلك القلب الذي يعتزم صقله وتنقيته واثارته بآياته. هذه اللغة هي غير لغة الموسيقى التي تغذي الشهوات الانسانية احياناً وغير لغة الألحان العسكرية والأناشيد الحربية التي تعزف لتقوية روح البسالة بل هي تلك اللغة التي تصنع من الاعراب البدو، مجاهدين قيل في حقهم: حملوا بصائرهم على اسيافهم. هولاء كانوا لايفكرون بالمسائل الفردية والمصالح الشخصية. ومع انهم لم يكونوا معصومين ويقعون في الأخطاء، كانوا من جملة الذين يطلق عليهم الكلام التالي، (قائم الليل وصائم النهار). كانوا في جميع اللحظات على ارتباط مع الوجود حيث كانوا يؤدون الفرائض الدينية في الليل ويجاهدون في النهار(5).

ويؤكد القرآن على خاصيته هذه وهي انه كتاب القلب والروح، كتاب يثير الارواح ويبكي العيون ويرجّف القلوب. هذا الأمر ينطبق على اهل الكتاب ايضاً:

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا …)(سورة القصص - الآية 52 - 53).

ويؤكد ايضاً في آية أخرى ان بعض اهل الكتاب، أي المسيحيين هم أقرب الى المسلمين من اليهود والمشركين(6). ثم يصف النصارى الذين يؤمنون حال سماعهم القرآن بقوله:

(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). (سورة المائدة - الآية 83)

وفي مكان آخر، هكذا يصف المؤمنين عندما يتحدث عنهم بالذات:

(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)(سورة الزمر- الآية 23)

يبين القرآن في هذه الآيات الأخرى انه ليس كتاباً علميا وتحليليا فحسب بل انه في نفس الوقت الذي يستخدم فيه المنطق والاستدلال، يتحدث مع احاسيس واذواق ولطائف ارواح البشر ويجعلها تتأثر.

الذين يخاطبهم القرآن

من جملة المسائل التي يتطلب استنباطها من القرآن عند المعرفة التحليلية، تعيين وتحديد الذين يخاطبهم القرآن. لقد وردت في القرآن عبارات كثيرة مشابهة لعبارات، هدى للمتقين، هدى وبشرى للمؤمنين ولينذر من كان حياً. وهنا يمكن ان نسأل بان الهداية للمتقين غير ضرورية للمتقين لانهم متقون. من جهة أخرى نرى ان القرآن يعرف نفسه هكذا:

(إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(7). (سورة ص - الآية 87 و 88)

اذن فهل هذا الكتاب لجميع العالم أم انه للمؤمنين فقط؟

وفي آية أخرى يخاطب الباري سبحانه وتعالى، النبي قائلاً:

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (سورة الانبياء - الاية 107)

وسنعطي في موضوع (التاريخ في القرآن) توضيحاً مفصلاً عن هذه المسألة، لكن يلزم هنا القول بالاجمال ان القرآن عندما يخاطب جميع افراد العالم في آياته، يريد ان يقول انه ليس ملكاً لقوم او جماعة معينة. و من يتجه نحو القرآن يلاقي النجاة. اما في الآيات التي يصف القرآن نفسه فيها ككتاب هداية للمؤمنين والمتقين، يريد ان يقول من هم الذين سيتوجهون في النهاية نحو القرآن وما هي الفئات التي ستبتعد عنه. والقرآن لايتحدث عن قوم او قبيلة معينة بمثابة محبيه او مؤيديه. لايقول انه ملك لهؤلاء القوم أو أولئك، فالقرآن خلافاً لجميع الأفكار لايؤكد مطلقاً على مصالح طبقة خاصة، على سبيل المثال لايقول انه جاء لضمان مصالح الطبقة الفلانية فقط. وايضاً لايقول ان هدفه الوحيد يتمثل بالدفاع عن الطبقة العاملة او طبقة الفلاحين. وحول نفسه يؤكد بانه كتاب يرمي الى اقامة العدل. وفيما يتعلق بالانبياء يقول:

(وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(سورة الحديد - الآية 25)

اِذن فالقرآن يريد القسط والعدل للمجتمع الانساني ككل وليس لهذه الطبقة او تلك اولأولئك القوم وتلك القبيلة. وهو خلافاً للأفكار الأخرى مثل النازية لايكسب الناس الى جانبه من خلال تأكيده على تعصبات هؤلاء، وايضاً خلافاً لبعض الافكار الاخرى مثل الفكر الماركسي لايعتمد على مطامع الناس ولايحركهم عن طريق مصالحهم(8)، لانه مثلما يقيم اصالة لوجدان الانسان العقلي، يقيم له اصالة وجدانية وفطرية ايضاً. ويحرك الناس على اساس فطرة طلب الحق والعدل، ولهذا لاتختص رسالته بطبقة العمال أو الفلاحين او المحرومين والمستضعفين. القرآن يحث الظالم والمظلوم على الرجوع الى طريق الحق والنبي موسى اوصل بدوره نداء الله الى بني اسرائيل والى فرعون كذلك وطلب منهم ان يؤمنوا بالله ويسيروا في طريقه. اما النبي محمد فقد عرض رسالة الله على زعماء قريش وعلى ابي ذر وعمار ايضاً. ويورد القرآن نماذج متعددة من انتفاض الفرد على نفسه والعودة من طريق الضلالة والفساد (التوبة). وبالطبع يعلم القرآن ان عودة الذين يعيشون في نعيم ورخاء اصعب بدرجات من عودة المحرومين والمستضعفين.

الفئة الثانية، تسير في طريق العدالة استناداً الى ضرورة الأمر، بينما الأولى يجب في بادئ الأمر ان تغض النظر عن المصالح الشخصية والطبقية وتدوس باقدامها، ميولها ورغباتها.

يقول القرآن ان المتمسكين به لهم ارواح طاهرة ونقية، وهؤلاء انفتحوا على القرآن انطلاقاً من فطرتهم في طلب الحقيقة والعدل التي هي فطرة كل انسان وليس بدافع من المصالح والميول المادية والدنيوية.

 

المصادر :

__________________________

(1) مثلاً نقرأ في آية الكرسي: (الله ولي الذين آمنوا يُخرِجُهُمْ مِنَ الظُلُماتِ الى النور والذين كفرُوا اولياؤهمْ الطاغوت يُخْرِجُونهم من النور الى الظلماتِ).

(2) قيلت اشياء كثيرة في مشارق الارض ومغاربها حول هذا الحس الديني ونورد باختصار اقوال اثنين من المفكرين العالميين، تتعلق الاولى منها بالعالم (انشتاين) الذي يتناول المذهب في احدى مقالاته ويقول؛ كانت هناك ثلاثة انواع من المذاهب في العالم هي:

1- مذهب الخوف: أي مذهب جماعة اعتنقت المذهب على اثر مخاوفها من الطبيعة والمحيط.

2- مذهب الاخلاق: هدفه مذهبي ويستند الى المصالح الاخلاقية.

ثم يتحدث عن مذهب آخر يسميه ب(مذهب الوجود). هذا التعبير يشبه تعبيرنا حول القلب. يعتقد انشتاين ان هذا المذهب يريد في الواقع ان يقول؛

يحصل الانسان على حالة معنوية وروحية اذا ما خرج وتحرر من نطاق نفسه المحدود والمحاط بالآمال والاحلام الحقيرة والصغيرة والمنفصل عن الآخرين والتحرر كذلك من عالم الوجود الطبيعي الذي يشكل حصاراً حوله. وفي ذلك الوقت يبدأ النظر الى مجموع الوجود ويرى الوجود حقيقة واحدة ويرى بوضوح الروائع وانماط العظمة القابعة خلف الظواهر و يتذكر حقارته وتفاهته ثم يرغب في الاتصال بمجموع الوجود. وتعبير انشتاين هذا يذكرنا برواية همام الذي سأل امير المؤمنين(ع) عن صفات المؤمن فاعطاه الامام اجابة قصيرة ومقنعة حيث قال:

يا هُمام اِتق الله واحسن ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (نهج البلاغة - الخطبة 183)

غير ان هُماماً لم يقتنع بهذه الاجابة وطلب توضيحات أخرى مثلاً سأل عن الحياة والعبادة وكيفية قضاء الأيام والليالي وآداب المعاشرة و… الخ. لذلك تطرق الامام الى صفات المؤمن ورسم 130 خطاً من خطوط وجوه المتقين ومن جملة ما قال:

لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر ارواحهم في ابدانهم طرفة عين.

وهذه هي نفس الحالة التي يشير اليها انشتاين قائلاً: ان الانسان المذهبي يعتبر وجوده نوعاً من السجن المحاصر لانه يريد ان يطير في قفص الجسم ويرى الوجود كله ككتلة واحدة. هذه الحقيقة قد تجلت بشكل اوسع وافضل في كلمات امير المؤمنين(ع). وبرأي الامام علي (ع) كأن المؤمن جمع كل الوجود في جسمه المادي، ولهذا السبب يغادر قالبه ويحرر روحه. يقال ان هُماماً عندما انهى الامام حديثه، اطلق صرخة من اعماقه وفرغ القالب.

وفي مجال حس الانسان المعنوي يسرد الشاعر اقبال لاهوري حديثاً شيقاً فهو يقول؛ ليس هناك أي سر ولغز في هذا الكلام وهو ان الدعاء يعتبر وسيلة الاشراق النفسي والعمل الحياتي والطبيعي وبواسطته تكشف جزيرة شخصيتنا الصغيرة، موقعها في مجموع اكبر من الحياة. وهناك عبارة لوليام جيمز بهذا الصدد؛ دافع الدعاء هو نتيجة ضرورية لهذا الأمر وهو ان اعمق الارادات الاختيارية والعملية لكل شخص يعتبر نوعاً من الارادات الاجتماعية ومع ذلك فان الانسان يستطيع ان يجد مصائبه الكاملة في عالم افكاره فقط وان اكثر الناس يرجعون في قلوبهم اليه سواء باستمرار او عن طريق الصدفة واحقر فرد على وجه الكرة الارضية يحس بهذا التصور السامي، انه شخص حقيقي وذوقيمة. يحتمل ان يكون هناك تباين بين الناس من حيث درجات التأثر. وهذا التصور يشكل لبعض الناس دون غيرهم الجزء الهام من الوعي الذاتي مثل هؤلاء الناس يحتمل ان يكونوا اكثر الناس التزاماً بالدين، لكنني على ثقة من ان الذين يدّعون افتقارهم الكلي لذلك، لايخدعون الا انفسهم ذلك انهم يلتزمون بالدين الى حد ما.

(3) كان الائمة (ع) يقرأون القرآن بصوت متناغم. بحيث ان المارّة الذين كانوا يسمعون ذلك الصوت، كانوا يتوقفون دون اختيار وينهمكون بالبكاء.

(4) قال الامام زين العابدين (ع) في دعاء علّمه ليُقرأ بعد ختم القرآن… واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً.

(5) يذكر امير المؤمنين (ع) في الخطبة 193 المعروفة بخطبة المتقين من نهج البلاغة، صفات المتقين. وبعد ان يتطرق الى تصرفاتهم واقوالهم يصف بعض حالات هؤلاء في الليل. اما الليل فصافون اقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا.

يحزنون به انفسهم ويستشيرون به دواء دائهم. فاذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعا، وتطلعت نفوسهم اليها شوقاً، وظنوا انها نصب اعينهم، اذا مروا بآية فيها تخويف اصغوا اليها بمسامع قلوبهم وظنوا أنها زفير جهنم وشهيقها.

(6) (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى). (سورة المائدة - الآية 82)

(7) هذه الاية من أعجب آيات القرآن، عندما نزلت كان النبي في مكة يتحدث الى اهالي احدى القرى. وكان من (الباعث على السخرية) ان يقول شخص باطمئنان؛ انكم ستسمعون بعد حين بنبأ الآية. ستسمعون ماذا سيفعل هذا الكتاب في العالم خلال فترة قصيرة.

(8) ذلك ان الحق والعدل للمتمسكين في تلك الحالة سيكونان بلا هدف لان تحقق المصالح وارضاء الرغبات سيكونان هدفاً.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=420
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 03 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28