• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : الكلمة في القرآن ( القسم الثالث ) .

الكلمة في القرآن ( القسم الثالث )

مقاربات في المجال الدلالي والوظيفي

غالب حسن

الدائرة الاولى

قال تعالى: (فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(1).

قال في صفوة التفسير: (اي كذلك وجب قضاء الله وحكمه السابق: (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) اي على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا: (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اي لانهم لايصدقون بوحدانية الله ورسالة نبيه..). اي في غير القرآن نستطيع القول: ان من قضاء الله ان الفاسقين لا يؤمنون.

قال في الميزان: ((كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ظاهرالسياق انهم لا يؤمنون، اي انه سبحانه قضى عليهم قضاءً حتماً وهو ان الفاسقين ـ وهم على فسقهم ـ لا يؤمنون...فمعنى قوله تعالى: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) ان الكلمة الالهية والقضاء الحتمي الذي قضى به في الفاسقين ـ هو انهم لا يؤمنون).

ان هذا القضاء من مصاديق تلكم الكلمة السابقة أو هو مترشح من ذلك القضاء الشامل الكلي، فكلاهما قضاء، ولكن احدهما شامل للآخر، فالله تعالى امضى الزمن الصعب أجّل الجزاء، كي تنفعل الحياة بكل تناقضاتها ومفارقاتها، ومن مجريات هذا الزمن، ان هناك فاسقاً، يسييء استعمال الارادة: وبالتالي هو لا يؤمن وقضاء الله هنا ترتب على ارادة المسيئ بالذات: هذه الدائرة مترشحة من ذلك القضاء الذي فرز الزمن في البداية قانون متكون من طرفين: الفسق يساوي الكفر أو يعادل الضلال.

(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ان قضاءً مغياً الى يوم القيامة فهو الزمن الصعب. (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(2)هذا القضا مترشح عن سابقه، ففي بحر الزمن هناك قوانين، منها: هذا القانون الذي سطرته الآية الكريمة، اي يونس 33. ولنعتبر هذه الآية (نواة) ونصيغ المحتوى بالحاصرتين التاليتين: (الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، هنا بامكاننا ان نطالع التوكيدات التالية: قال تعالى: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). وقال تعالى: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ)، وقال تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).

وترتبت مجتمعات كثيرة على هذه الدائرة المترشحة من ذلك القانون الاشمل يستطيع الانسان ان يتتبعها من قراءة الآيات الكريمة التي تعرضت بعمق واسهاب لموضوع الفسق واهله. نعود الى الآية الشريفة: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، ما معنى حق ؟!

الحق يدل على احكام الشيء وصحته، وهو خلاف الباطل، وحق الشيء اذا وجب وثبت فالحق اصلاً واساساً، الثبوت.

بناءً على ذلك، فان قوله تعالى: (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)، ثبتت هذه الكلمة في الخارج،واخذت مصداقها الفعلي، ولكن قوله سبحانه: (لَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) هو ثبوت إلاّ انه مع السبق، والسبق هنا رتبي، نلاحظ زيادة مهمة على الثبوت، ومنها ترشحت الكلمة الجديدة، هناك قضاء اعمق، اشمل، اسبق، وهو الزمان، وهناك قضاء ينبع من هذا القرارالالهي العظيم، وهو قانون التنافر بين الفسق والايمان.

الدائرة الثانية

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)، قالوا: ان: (كَلِمَةُ رَبِّكَ) تعني العذاب.

من البديهي ان المصداق الواقعي لهذه السنة هي الآخرة، فهؤلاء الذين كفروا ينتظرهم عذاب حتمي، وفي الحقيقة ان هذا المصير هوامتداد طبيعي (لكلمة الله) التي جاء فيها: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). على اننا يجب ان نفهم ان فيالآية الشريفة تقديماً وتأخيراً كي يتضح المقصود جيداً. (انهم لم يؤمنوا في الدينا فاستحقوا العذاب في الاخرة...). وفي ضوء هذا نستطيع ان نطرح التتابع التالي:

في القرآن الكريم: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ).

وفي غير القرآن الكريم: (الفسق في هذه الدنيا يقود الى عدم الايمان، الكفر، الضلال). (عدم الايمان في هذه الدنيا، الكفر، الضلال يؤدي الى العذاب في الاخرة). ومعنى حقت هنا: وجبت، ولكن لهذا الوجوب والثبوت زمنه الخاص، انه في اليوم الآخرباعتبار النار احدى المصيرين المتوقعين.

نعود الى الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ). يقول صاحب الميزان: ان الكلمة هي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(3). وقد عبر القرآن الكريم عن هذا القضاء باكثر من اسلوب. منها بكلمة: (حق) كما تقراء في الكتاب العزيز، قال تعالى: (افمن حق عليه كلمة العذاب افأنت تنقذ من في النار)(4). وقال تعالى: (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)(5).

ومنهما بكلمة: (تمّ)، قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(6).

ومنها: التوكيد، قال تعالى: (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)، وقال تعالى: (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، وقال تعالى: (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).

ان هذا القضاء المبرم تكملة أو امتداد طبيعي لقضاء الله الذي حكم بموجبه بالكفر بسبب الفسوق، ذلك لان طبيعة الفسق تتمخض عن الحيود عن طريق الله سبحانه. وهو بالتالي دائرة صغيرة في محيط ذلك القضاء الشامل والسنة الكلية اي قضاء الله بتأجيل الجزاء الى يوم القيامة، فهو مصداق أو نابع من قوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

وانطلاقاً من كل ما سبق يمكننا ان نطرح المسيرة التالية لـ (كلمة ربك) التي نحن فيصددها من هذا البحث المتواضع.

قال تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الشورى 21. وفي ذات الاتجاه فصلت (45)، الشورى (14)، هود (110)، يونس (19)، طه (129).

قال تعالى: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يونس 33.

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) يونس 96.

قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هود 119.

1 ـ اذا سلّمنا بتلك القاعدة التي تقول: ان كلمة الله فعله، فان هذا يبيح لنا الاعتقاد أو التصور، أن اشياء الوجود هي كلمات الله تعالى، أو ان كلمات الله هي مخلوقاته، ومنشأ هذا الهيكل من التصورات قوله سبحانه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

فهناك تماهي تام بين كلمة الله وفعله: و(الفاء) في (فيكون) ضرورة لغوية وليست حقيقة في صيرورة المسيرة من كلمة الله الى فعله. وعلى هذا الاساس جاء بعض أستخدامات الكلمة في القرآن.

قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) الكهف 109.

قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لقمان 27.

قالوا في التفسير: الكلمات هنا تعني اشياء الله وموجوداته.

فهذا هو المتبادر من الآية أو الآيتين الكريمتين، ولكن ما هو الضابط هنا؟ ان كلمات الله هي مقدوراته جل وعلا باعتبارها سيلاً من الأحداث، ففي كل لحظة كون جديد. قال تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). وقال تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ).

ان كلمات الله لا تنفد لأنها افاضات متتاليةً ومتدفقة منّ الحدث والتغير والتطور،فالكون جديد دائماً. وليس المقصود بـ (كَلِمَاتُ اللَّهِ) المفردات الوجودي ة بلحاظ كل منهاوبشكل مستقل، وانما هذا السيل من الحوادث من خلال هذه الشبكة المعقدة من العلاقات.

قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لقمان: 25، 26، 27. وفي الحقيقة ان هذه الكلمات محصية في واقعها بدليل قوله تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) ولعل اشارة (قبل) كالاشارة العددية دالات واضحة على الخضوع لسن ة القدر، ولكن الله وحده القادر على استقصائها جميعاً. ام ا الانسان فهو قد يكون مستعداً لاستيعاب امكاناتها الهائلة ولكن من دون الوصول الى الاستقصاء الكامل. انما قلنا سابقاً، ان تسمية الحوادث الكونية بالكلمات من دوافع القرآن،لأن كل ما موجود هو مترشح من قوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ)، ولان كل موجود قابل للقراءة والمعاينة والملاحقة المعرفية، فالكون كتاب مفتوح (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ). والتعبير القرآني ينطوي على مديات واسعة من التداعي المنضبط بالمعاني والافكاروالتصورات، فاذا كان كل شيء بقدر، فلا بد ان يكون على صلة بالآخر، وهو ما يؤكده الطرح القرآني لاي شيء في هذا الوجود، فما من مخلوق يستعرضه القرآن الا عبرتاريخه التكويني او عبر علاقاته بما يحيط به قريباً او بعيداً او عبر المجالين معاً، وهذا يؤدي الى تعريف جديد للشيء، فهو ليس تلك المفردة الشاخصة المتشخصة بوحدتها الرياضية الصارمة المتجذرة المنطوية على نفسها، بل الشيء هو مجموعة (علاقات)، وهذا بدوره يُعرفنا على السنن والقوانين لان الشيء مجموعة علاقات على صعيد ذاته وعلى صعيد ارتباطه بالارض ومن ثم فان الكون هو هذه العلاقات الهائلة فاشياء الله هي هذه العلاقة.

2 ـ واعتقد في هذا السياق العام سم ى الله تعالى عيسى (كلمة)، فهو مخلوق لله جلّوعلا، مفردة من مفردات الخلق الالهي. ولكن ارتبط عيسى بالكلمة بروابط توكيدية متلاحقة في القرآن الكريم.

اولاً: لقد أطلق الله عليه عنوان (الكلمة) قبل أن يأتي فعلاً الى الحياة الدنيا!!.

قال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ) آل عمران: 39.

قالوا: ان الكلمة هو عيسى عليه السلام.

ثانياً: أوجد الله تعالى عيسى ك (كلمة) في استعدادات مريم عليها السلام.

قال تعالى: (...إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) النساء:171.

ثالثاً: ان عيسى عليه السلام استحق هذه (الكلمة) عنواناً بعد الايجاد وذلك امتداداًللمرحلة السابقة.

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) آل عمران: 45.

رابعاً: وقد كانت معجزته ـ عليه السلام ـ (التكليم في المهد) ولذلك لعلة وثيقة بالكلمة قال تعالى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ).

خامساً: وتواصلاً مع هذا المرتب الجميل من (الكلمة) بعطاءاتها وايحاءاتها واجوائها المتنقلة بين الامكانات، تواصلاً مع كل ذلك نجد ان نذر مريم كان هو الصيام عن الكلام.قال تعالى: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً) مريم: 36.

وقد يتصور البعض اننا هنا مع تقاطع وليس تواصلاً، ولكن العكس هو الصحيح، اذعلينا ان نستوعب هذه المفارقة الهائلة فان آية عيسى هي (الكلمة) فما أمُه صامت عنها،وهذا تواصل في توكيد دلالة المعجزة العيسوية، انها تواصل في انقطاع!!

سادساً: وتتصل (الكلمة) بأم عيسى، مريم عليها أفضل الصلوات، بأعتبارها مجالات عقائدية كبرى قال تعالى: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ) التحريم: 12.

وهي كلمات سواء كانت الكتب المنز ل او المواعيد الالهية بتبشيرها بعيسى ونبوته ومقامه، وقد كانت مريم بذلك الصديقة، لان التصديق هنا يساوق العلم واليقين. وجاء تصديقها بكل كلمات ربِّها!! فهي سلام الله عليها تمثل مرحلة متقدمة من العقل المؤمن والضمير الروحي المتشبع بالله سبحانه.

سابعاً: وقبل هذا وذاك ان عيسى هو نتاج الكلمة الالهية. قال تعالى: (...إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). اذن عيسى عليه السلام، (كلمة)، اسماً، عنواناً، عيناً،مُعجزة، رسالة. لقد احتشدت معاني (الكلمة) في اطار هذا النبي العظيم، وتفر د بها على نحو الوسعة من الاستعمال في انماء مسيرته وانماء حركته قبل الولادة وحتى النهاية !!.. وسيأتي بيان الاسباب.

3 ـ في الواقع; مهما قيل عن ارتباط عيسى ـ عليه السلام ـ بالكلمة، الا ان هذا الارتباط يبقى في حدود التطابق بين النظرية والمصداق اذا تذكرنا ان من المعاني الجوهرية (الكلمة) في القرآن هو هذا الوجود العظيم باشياءه المتدفقة، فعيسى مفردة من مفردات الخليقة، التي هي كلمات الله في التحليل الأخير وكما هو اتجاه الكتاب العزيز، ولكن افراد عيسى بهذا اللون من التوكيد، وافراده بهذه العناية الخاصة من الارتباط بـ (الكلمة) انما لمبررات واقعية حاكمة، ومن ابرز هذه المبررات تجذير وتأصيل مخلوقيته وعبوديته لله تعالى، رداً على ادعاءات النصارى بالوهيته، ومن طرف ثاني تأسيس وتثبيت نبوته الكريمة ردّاً على اليهود الذي اعتقدوا بنهاية مسيرتها عند موسى عليه السلام، وبهذا تؤدي هذه الظاهرة دوراً مزدوجاً.

كلاهما يدعم الاخر لان النبي ان هو الا بشر تميز بفارق نوعي عن غيره، والوحييكون تجسيداً لتبرير هذا الفارق، واداة الحصر في (انما) في النساء: 171، جاءت لتثبيت الامرين معاً (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ).

1 ـ هو رسول الله: وهو يغلب على توكيد النبوّة ويتصل سجالاً بدرجة فائقة صوب اليهود الذين زعموا انتهاء المسيرة عند موسى الكليم.

2 ـ هو كلمة الله: وهذا يغلب على توكيد العبودي ة لله ويتصل سجالاً بدرجة فائقة صوب اليهود، الذين زعموا انتهاء المسيرة عند موسى الكليم النصارى الذين يزعمون الوهنينة.

وقد كان عيسى سلام الله طاقة اعجازي ة هائلة، كان مجيئة الى الدنيا معجزة، وقد احياالموتى، وأبرئ المرضى وخلق من الطين طيرا، فهو حقاً كلمة الله على الارض.

1 ـ قال تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، البقرة: 37.

قيل فيها التوبة، وقيل انها دعاء مخصوص يصب بالتوبة الى الله تبارك وتعالى وهوالمروي عن الباقر ـ عليه السلام ـ ((اللهم لا اله الا أنت سبحانك وبحمدك رب اني ظلمت نفسي فأغفر لي انك خيرُ الغافرين)).

وقيل: هي سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر، ولقد فس ر بعضهم التلقي بنوعٍمن الانطباع الذهني او الالهام النظري، وهو ما لا يساعد عليه الفعل (فتلقى)، ولذا يبدو ان هناك بالفعل تلقين بكلمات مُسمّاة بالمعنى والصياغة. فان لحن الآية في معرض التربية والتوجيه والارشاد، بل في معرض للاعداد لمعركة زمنية صارمة وقاسية على الارض، تجسيداً لكلمة الله في خلق الزمن. ولا نحتاج الى تفكير طويل لاكتشاف حقيقة اخرى في الموضوع، ان هذه الكلمات كانت قليلة كما يبدو، وهذا ما تستوجبه بساطة الحياة آنذاك ومستوى الذهن العادي لآدم في وقت، ويتضح انها ليست قليلة فحسب، بل ذات منحى عقيدي أخلاقي بسيط وهادئ، وذلك بطبيعة الحال لا يتنافر مع الرصانة والمتانة على صعيد الحظ من الواقع والصحة، وكما تلوح به الآية الكريمة ان آدم كان مستجيباً لهذه الكلمات، منقاداً لها بطوع وسهولة وقد كان تعامله معها على سُنة التلقين والتطعيم، ولعل فاء التعقيب، وعمق التجاوب وحرارة التفاعل تكشف عن هذه التلقائية الايجابية في عملي ة التلقي، وقد يكون لمرارة التجربة دور في تهيئة آدم لمثل هذا التلقي السريع، ومن دون شك ان اختزال الدعاء بمعنى التوسّل وحسب افراط في تقديس السُنة المعجمية في وعي اللغة، لان الدعاء جزء من مركب عقائدي يتجاوز المنظور الى الغيب، ويعتمد على رؤية مقد سة تعطي الغيب دور التوجيه والخلق، فهذه الكلمات على قلتها وبساطتها تتضمن عنصراً عقائدياً جوهرياً، هو التوحيد بما يستوعبه من مجالات رحبة ورائعة، وبالاعتماد على هذا التصور لا يضر القول بان الكلمات هنا تعني القضية العقيدية او أقسام القضية الالهية وفقاً لبعض التعبيرات.

قال تعالى: (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة: 124.

قالوا في (الكلمات) اكثر من رأي:

أ ـ عبارة عن ذبح اسماعيل ـ عليه السلام ـ كما أمره الله تعالى في رؤياه المشهورة (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) الصافات: 102.

ب ـ مسؤولية الإمام كما يستفاد من قوله تعالى بلا فاصل (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) وهي قيادة المجتمع نحو التوحيد والعدل والطهر.

ج ـ جملة من التكاليف الشرعية ويروى منها الختان وحلق شعر البدن وتقليم الاظافر والغسل من الجنابة والطهور بالماء وغيرها.

د ـ الابتلاء بهم الدعوة الى الله وتزييف عبادة الاصنام والكواكب التي كانت سائدة في عصره، وما لاقى على اثر ذلك من تهديد بالحرق بالنار.

وفي الحقيقة ان كل من هذه الامور أو التكاليف قضية او بلاء، فهو امتحان ومواكبة وجهاد ومعاناة ومقاومة، فما المانع ان تكون الكلمات هو هذا المركب الحاشد من القضايا؟! وربما السؤال بدهي عن الاسم الذي يعود اليه الضمير في (اتم هنّ)، وفيعقيدتي ان الانسب العودة الى ابراهيم عليه السلام، فهو المبتلى اساساً وجوهراً، ولان ابراهيم كان قد أعد لخوض تجربة وضعي ة زمنية صعبة للغاية، وتبسطت بمسؤوليتهاالفخمة على كل ساحات ادراكه وقابلياته. فلم يعد فيه شيء الا وهو خاضع لهذا الامتحان الرهيب بدءاً من شعوره الغريزي ومروراً بارادته وانتهاءً بعقله نفسه ومع الله ومع قومه، في ليله ونهاره، وقد خرج من هذه التجربة القاسية ناجحاً، فاستحق ثناء اللهباللغة التي تنسجم مع هذا النجاح، وعلى المستوى الذي تستوعب كل امكاناته المفتوحة، فقد وصفه رب العزة أو المبتلي به بالوفاء اذ قال تعالى: (وابراهيم الذي وفى)، وأعتقد أن هذا الوصف العظيم من الرب العظيم لابراهيم ـ عليه السلام ـ يندكُّ ويندمج بإتمام الكلمات الممتحنة حتى ينتظم البلاء في سياق الانشاء الرباني من جهة والانجاز النبويمن جهة اخرى، فتحصل في جم التاريخ مسيرة نبوي ة منطقية، تتعاهد وحداتها بالتكامل الفذ.

2 ـ كان آدم ـ عليه السلام ـ قبل ان يستجيبه لثقل جسمه قد علمه الله تعالى الاسماء كلها (وعلم آدم الاسماء كلها...)، ومهما كانت الطريقة الا ان العملي ة تعقد استيفاء طاقة العقل الهائلة، سواء بسبب العلم أو هذا الكم الكلي من الاسماء، فهو في هذه اللحظة تعامل مع مدى بعيد من المعرفة، الا ان هذا التعامل تضألت مساحته عندما هبط الى الارض!! واذابالعلم يتحو ل الى تلقي، وبالاسماء كلها تتنزل الى بعض (كلمات)، كما يتجلى من لغة التجربة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ). وليس من شك ان الفاصل هائل وجسيم بين الحالتين.

وكان لابد ان يكون هناك علم في الجنة بفعل التحدي من الملائكة، وكان لابد ان يكون هناك بعض علم على الارض، حتى يتولى آدم تكميل ذاته بذاته، فهذه الكلمات مفتاح فيما الاسماء كلها حقائق تستوعب عقل آدم على مشارف المستقبل القريب والبعيد، من تجربة آدم في الجنة الهية صرفة، من النشأة الى التربية الى التزود بالعلم، فيما هي في محنة الهبوط تجربة بشرية رغم ان مفاتيحها الاولى آلهية. وليس من ريب ان نتائج التلقي في المرحلة الثانية اشرف قيمةً من كل ذلك العلم المكين في المرحلة الاولى، واستنبات الكلمات في محيط الهبوط على شكل ارادة ثم مسيرة أجل واقدسُ من تكلم الاسماء في محيط الطهر اللاارادي. ان العلم الاول دائرة مغلقة، أبهة، جلال، أمّا التلقيف رغم مبدائيته وسذاجته الاّ انه تام زاك، انه مبدأ الملحمة التاريخية.

العلم بالاسماء نقص في صورة كماله، أما تلقي الكلمات فهو كمال في صورة نقص، وأجزم ان آدم نسى تكلم الاسماء فيما تفاعل وتعايش مع الكلمات.

قالوا: ان الاسماء هي اللغات، ان الاسماء هي منافع الاشياء. ان الاسماء هي منابع الاشياء. ان الاسماء هي اسماء الانبياء والأئمة. ولكن كيف يخفي ذلك على الملائكة الذين هم واسطة التدبير بين العرش والوجود؟ فالاسماء كما يظهر لي علم خاص جداً،مبهم، غامض، خافٍ، مجاله العصر اللاارادي والبيئة التي تتحكم فيها الاطلاقات الى حد ما، أما الكلمات فهي علم الارض او مفتاح الفكر الارضي في رسالته النبوية المقدسة. إن آدم نسي الأسماء وتشبث بالكلمات !! العلم بالأسماء كان للتباهي والتحدي، العلم بالكلمات كان للتعاطي والعمل.

هبط آدم ـ عليه السلام ـ لتبداء ملحمة الكلمة، انقطع تماماً عن علم الأسماء، لأن الزمان غير الزمان والمكان غير المكان: انه الزمن المتضاد والمكان المتنافي، فيحتاج الى فكرحي يشتغل بروحه ويستوعب العثرة والخطيئة ليؤسس منهما الحاضر المتوهج والمستقبل الثائر، لقد كان علم الاسماء حذراً، فيما علم الكلمة حركة رغم بساطته وسذاجته الاولى.

وأجزم مرة اخرى ان آدم نسي علم الاسماء، ليست هناك اي علاقة بين الاسماء والكلمات، بل هناك انقطاع حاسم، فآدم الارض بداء من هذا الشعاع البسيط الذينشره الله تعالى بين يديه، وبالوقت الذي كان فيه امتداداً مهيباً، اصبح عمقاً متوتراً،وتحول الوهج المعرفي في داخله الى تجليات متتابعة وليس تجلياً سرمدياً او شبه ازلي.

3 ـ هناك علاقة جدلية ساخنة على الارض بين التلقي ـ آدم ـ وبين الاتمام ـ ابراهيم، فالتلقي تعمّق لدى ابراهيم على شكل وعي مركز ومعرفة متسعة، فان فاصل الزمن من شأنه اثراء الاستعداد النبوي، فالتلقي استبدل أو تطور الى بلاء، وابراهيم لم يكن ذلك المتلقي الاولي، بل ذلك الواعي: المتشوف، ولعل حاسة النقد عند ابراهيم تكشف عن أصول نافذة في فن المعاينة الفكرية الفاحصة، والاتمام سياحة جهادية قاسية جداً، ونحن اذا تغمصنا الفاصلة بين الابتلاء من جهة والاتمام من جهة اخرى وأخذنا بنظر الجد والاعتبار خزين الكلمات الابراهيمية لاطلعنا على تجربة مفتوحة لشتى الوان الحركة والصراع، ولو تغمصنا تاريخ ابراهيم لألفينا انفسنا امام زمن مشحون بالجهاد القاسي، وفي تقديري ان الامامة جسدت كل تلك الكلمات، أو بتعبير أدق، منها تتفرع وتتشعب كل المسؤوليات الاخرى، فذبح اسماعيل ومقارعة الانحراف التصوري في أصل الوجود والتكاليف الروحية والجسمية تدور حول هذه النواة المركزية، ولذا ليس اعتباطاً ان تتواصل على لسان الوحي مباشرة بعد تبشير ابراهيم بالبلاء، فهي ـ الامامة ـ قيادة من خلال هذه المسؤوليات، والمسؤوليات المذكورة لامعنى لها ولا ميدان الاّ بواسطة الامامة. ومن العجيب ان ابراهيم لا يقبل بهذا الابراء فحسب بل يجد فيه شرفاً، ويتوس ل الى الله ان تكون علامة على امتداده النسبي والعائلي، مما يبرهن على صياغة البلاء في داخل ضجره على شكل فرح. وقد شاء الله ان تكون حقيقة سارية في هذا الامتداد الطيب. وسوف نعرض بالتفصيل الى صفات التعامل النبويمع الكلمة بفصل لاحق.

1 ـ قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الانعام: 115.

هناك ميل عام الى ان (كلمة ربّك) هنا هي الدعوة الاسلامية.

الاتمام دليل الكمال

الاتمام رحلة بدأت من الصدق وأضحت بالعدل، أو هو مسيرة من السماء الى الارض، فالصدق مقترب مفهومي يدل على المصدرية المطلقة لهذه الكلمة المقدسة، والعدل مقترب مادّي يدل على استقامة الحياة ان انضبطت بالكلمة ذاتها، فـ(عدلاًوصدقاً) مركب اشاري يلقي الضوء على مسيرة هذا الاتمام، وانه مزيج من هذا التلاون بين السماء والارض، فالصدق خلو من التناقض في متن النص، والعدل خلو من التناقض في صحيح تفاعله على الهامش، ان العدل هنا هو صدى للصدق في مرحلة التطبيق.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ...).

يذهب الكثيرون الى ان المعنى: لا مُغيّر لاحكامه !! وهذا التفسير بارد جداً.

ان هذا المقطع يتصل بعملية الاتمام الذي بدأت به الآية الشريفة، ومفاده البعيد انتفاء البديل أو انتفاء النص الصادق والعادل في قبال الدعوة الاسلامية العزيزة (34)، فالاسلام هو الدين الذي استوعب العقيدة والشريعة والاخلاق على اتم مستوى من الطرح، وهوالدين المفتوح لاستيعاب كل طاقة، وبهذا ينتفي الدين البديل، فالكلمة هي الاسلام بعنوانه العريض، والكلمات هي تفاصيل هذا الدين الخاتم، واكبر شاهدٍ على كون المقصود هو انتفاء البديل الآية التي تليها، اذ يقول تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) الانعام: 116، كما ان الآية السابقة عليها تلقي باسبابها الى هذا المعنى الجذري، ففي الآية الانعام 114 يقول تعالى (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ)، وعليه فان قوله تعالى (لامبدِّل لكلماته)، ينصرف الى استحالة النص الصادق العادل بعد النص الاسلامي، وليس المعنى تبديل الأحكام بالمعنى الشائع الساذج، فان التحذير من طاعة الاخر بعد توفرالنص الصادق والعادل انما هو تحذير من اختيار النص البديل باعتبار انه ليس تحويلاً ولا كفوءاً باي حال من الاحوال، وابتغاء غير الله بعد تفصيل الكتاب هو ارتماء في احضان نصٍ غامض، مبهم، متناقضٍ، ينطوي على شيء من الباطل أو هو الباطل برمته.

2: وفي هذا المسار يمكن ان ندرج قوله تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة: 40.

(كلمة الله...) استئنافية، ومن الضروري ان لا تنعطف على (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيتناكر القطيعة وتتجذر المفاصلة والمعاندة، واعتقد ان (كلمة الله) هنا الاسلام، فنجاه رسول الله من المؤامرة انما تمثل علو الاسلام في الارض وقيامه شاخصاً بعقيدته وشريعته (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الشرك، وهذا التعاقب او التوالي الذي ينطوي على تناظر على خط الظفر بالمستقبل يؤكد معركة عقيدية وتنافساً ذا صبغة فكري ة، والذين كفروا من جهة ومحمد من جهة اخرى هم روافع هذه المعركة وآلياتها التنفيذية، ومحمد يجسد آلية القدر الذي اذا انثلم، تتوقف مسيرة التاريخ باتجاه الهدف الخير، كقيمة مركّزة ومفصلة، فعملاً بالاستئناف ومراعاة للتناظر على خط المنافسة، واستخراجاً لدور النبيبلحاظ الرسالة، كل ذلك يشجع على اعتبار (الكلمة) في الآية انما هي الدعوة الاسلامية،واهم ما في هذه الدعوة الزكية هو (التوحيد)، وقد استعملت (الكلمة) في هذا المعنى.

قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران: 64.

والآية الشريفة فس رت معنى (الكلمة) في بيانها وهي التوحيد الخالص المطلق الذييشكل جوهر الدعوة الاسلامية قال تعالى: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ).

قالوا في التفسير، ان الكلمة الباقية هي قول ابراهيم ـ عليه السلام ـ (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ).

3 ـ قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ) الاعراف:158.

قال في مجمع البيان (يؤمن بكلماته من الكتب المتقدمة والوحي والقرآن)، وهذا المعنى على امتداد استخدام الكلمة في معنى الاسلام والتوحيد. ان:

1 ـ الاسلام.

2 ـ التوحيد.

3 ـ القرآن.

ثلاث مفردات متكافئة ومتعادلة، تتبادل القدرة على الترادف الى درجة الانصهارالذاتي الكامل، فلا ضرر ان تكون (الكلمة) عنوانا لكل مفردة، وقد اضيفت الكلمة فيهذه الاستعمالات الى الله أو أهم صفة من صفاته (الرب)، لتعطي لها صفة الواقع الاصيل،وتنفي امكانية النص المقابل للاصالة والثبات، وبهذا هي غير قابلة للتحريف والتبديل.

1 ـ يتفق كثير من المفسرين ان بعض استخدامات (الكلمة) في القرآن الكريم هوالوعد الالهي. قال تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى اتاهم نصرنا ولا مبدل لكمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين) الانعام: 34.

قال تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) الاعراف: 137.

قال تعالى: (لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يونس: 64.

من الواضح جداً ان (الكلمة) هنا تعني وعد الله للمؤمنين، ونجد تفسيراً قرآنياً لكل (كلمة / وعد) الامر الذي يوضح لنا مسار الاستخدام. ففي سورة الانعام نستشرف بسهولة مصادق هذه (الكلمة / الوعد)، انه انتصار الرسل والانبياء بعدرحله معاناة شاقة، اي بعد تجربة زمنية طافحة بالالام والعذابات. يقول تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ) الصافات: 171. ونلاحظ بسهولة هذا الاندكاك بين هذا القضاء المبرم في (سبقت) والوعد بالظفر والنصر فيالآية (34 / الانعام)، خاصة ان قوله تعالى (ولقد جاءك من نباء المرسلين)، اشارة الى دليل تاريخي على صدق هذا القانون الرباني الكريم، فهذه الكلمة/ الوعد، مفس رة ومبرهنة عملياً في القرآن. وفي الحقيقة ان القضاء هنا وبلحاظ هذه المسألة بالذات ليس لحظة عابرة، بل جاءت صياغته على شكل سن ة تاريخية اجتماعية، ومن الخطإ ان نتعامل معها بطريقة سريعة وخاطفة وهي ان الله كتب النصر لرسله وحسبه بل يجب ان نطيل النظر فيحوليات القانون.

هناك تصافق مصيري وكوني بين قوله تعالى (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ) وقوله تعالى (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) في هذا الخصوص بالذات، ففيالسبق تقرر القانون واتخذ مكانه من تصميم التاريخ كناظم لظاهرة معينة، وفي (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) تأسيس لاستحالة نفي هذا القانون في سياق شروطه وظروفه، اننا نقرأ امضاءه الرباني بين الاسحار/ الثبوت. وبين عدم امكان تعطيله في ظل ممكناته التي بي نها القرآن ايضاً(35). وبسبب المصدرية الالهي ة للتأسيس، فان قواعد الحياة لا تجيزه فحسب بل تُدلي به، فالبقاء والظفر للأصلح،، والديمومة على ملازمة الصحيح رغم الصعاب تقود الى النجاح، والحقيقة: لو لا نفاذ هذا القانون في ساحة الحياة والتاريخ لما تقدم العلم الانساني ولتعطلت مسيرة التقدم ولانتفى الأمل على الاطلاق، وبلا ريب ان انتصار الحياة على الموت بدليل استمراريتها بتلاقى مع هذاالقانون بشكل من الاشكال. واذا كان السبق المذكور هو المدخل لفهم استحالة النقض في (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) فان الآية طرحت شروط جاهزي ة السبق وهي التجربة القاسية بكل ما تعنيه من معنى.

استيراث بني اسرائيل لا يخرج عن سُن ه الوعد الالهي في اطار محسوب بقراراته التجريبية الواضحة. لان الاستضعاف لا يعني وجود قطبين اسميين فحسب، بل وجودقطبين فعليين، فان المعادلة الثانية تستبطن تجربة كفاحية من طرف، والاّ فان هناكاستسلاماً وليس استضعافاً، فالمستضعف هو المرفوض بسبب موقف، وليس هو المضطهد فقط، انه مضطهد لكونه ايجابياً، والصبر ليس على الظلم وانما على الاضطهاد بسبب الموقف، ولا ارى بحاجة ان نقول: ان الاتمام (هنا) مترشح من ذلك السبق الذي نقرأه في (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ) لان انتصار الرسل ليس ظاهرة ضرورية وانما هي ظاهرة مركبة من جماعة وعقيدة وقرار، يمثل المرسلون موقع القيادة منها. وترى المؤمنين في الآخرة هي الجنة ان شاء الله تعالى. أما البشرى فيالحياة الدنيا فقد قيل فيها أكثر من رأي:

أ ـ الاستحقاقات الطيبة على الاعمال الصالحة في الدنيا.

ب ـ نعمة الاطمئنان عند الموت.

ج ـ الرؤيا الصالحة.

ومهما كان الرأي، فأن المسألة التي تستحق الالتفات، ان (كلمة الله) هنا تذكرنا بالكلمة السابقة التي تجسدت في قضاء الله بخلق الزمن الصعب (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، فهي دائرة ثالثة تتراصف مع الدائرتين السابقتين اللتين فصلنا فيهما الحديث، ففي هذا الزمن الحتميتنفرز ثلة من الناس، هم حملة الايمان، ترافقهم بشرى الله في الحياتين الاولى والثانية،وقد كان موقع هذه الآية (يونس: 64) في بنية تلكم المصفوفة التي تشكلت من نواة وحولي ات، اي من القضاء في حومة الزمن الصعب ثم استحقاقات الذين انحرفوا عن خط الفطرة في العاجلة والآجلة، حيث تكمِّل الدائرة الثالثة تجلي ات القانون الاكبر وتختم مسيرته من البدئي حتى النهاية، لقد كان موقع هذه الآية في هذا النظم المحكم ولكن ضرورة فنية حالت دون ذلك.

2 ـ نعتقد أن الحس العلمي يساعدنا على وضع التراتيبية القرآنية التالية:

ا ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ) الصافات: 171.

ب ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) الانعام: 34.

ج ـ (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) الاعراف: 137.

فمن الواضح ان هناك نظرية وتطبيقاً وشروطاً، بل اكثر من ذلك هناك احالة برهاني ة مستقاة من التاريخ كما في قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) وهو ذيل الانعام:(7)، وبالتالي، فان قضاء الله هو (قانون) تاريخي اجتماعي يتصل بحركة الانبياء وحركة المجتمع الانساني.

وستأتي تصورات اخر في هذا الموضوع.

 

المصادر :

ـــــــــــــــــــــ

(1) يونس، الآية 32 و33.

(2) يونس، الآية 33.

(3) البقرة، الآية 39.

(4) الزمر، الآية 19.

(5) الزمر، الآية 71.

(6) هود، الآية 119.

(7) وسيأتي طرح اعمق في النظرات التالية.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=416
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 03 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19