• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : الكلمة في القرآن (القسم الأول) .

الكلمة في القرآن (القسم الأول)

مقاربات في المجال الدلالي والوظيفي

(القسم الأول)

غالب حسن (1)

أعطى القرآن الكريم (الكلمة) مجالاً وَظيفياً واسعاً وفاعلاً يتجاوز بمراحل نوعية ذلك الافق الضيق من الاستعمال القاموسي، فالكلمة من خلال رصد استعمالاتها فينطاق الوحي طاقة حسية تتوزع ببراعة وبجدارة في مسارب متعددة ومتنوعة من الاشارة والبيان والاعلان، فكانت عبارة عن حركة بين الصيرورة وتاريخ من التوكيد الوظيفي الفائق على الاشياء والحوادث، إنها امكانية هائلة من الدلالات التي تتفاصل على بُعد نوعي واضح وعميق من المسافات.

في الحقيقة: لاستعراض مثل هذه الدلالات لا بد أن نشير، الى أن مادة (الكلمة) في الكتاب العزيز تحركت في اشواط متسارعة من الاشتقاقات والصيغ، وذلك من آليات الاستعمال ودرجة حركته، بل هي احدى مؤثرات الاهتمام في أي مادة لغوية في أيكل مه، كلمة، كل مهم، أكلَمَ، تكلِّم، تكَلِّمنا، تكلمهم، [عمل فكري أو أدبي أو فلسفي تكلمون، تكلّم، يكلّم، يكلّمنا، يكلّمه، يكلّمهم، تتكلّم، يتكلّم، يتكلمون، كلام، كلامي،، وهذه الحركة السريعة من الصيغ] كلمة، كلمته، كلمتنا، كلمات، كلماته، الكليم، تكليماترتبط بقضايا رئيسية من صلب عقيدةٍ تفسر الكون أو تصور يكشف عن قوانين الحياة والتاريخ أو رؤى في انماط الوجود وتجلياته أو قواعد الخطاب البشري ببعده الجدليالمثير، فهي ـ اي الكلمة ـ بحملها الاولي أو بمادتها الانشائية دخلت مسيرة النص الالهي القاصد الفاعل!!

هنا، وعوداً على بدء، نقول: ان كثرة الاستخدام ليس وحده مؤشر العناية في الموضوع الذي نحن في صدده، بل أيضاً، وربما مثل ذلك موقع هذا الاستخدام من جوهر النص،الخطاب، ومراجعة دقيقة لاستعمالات الكلمة في القرآن الكريم تطلعنا على موقع متميز;لانه في بعض الاحيان يجسّد عينية خلاقة، فضلاً عن كونها في احيان اخرى آلي ة فعل.وليس من ريب ان الانتقال بمعنى (الكلمة) من ذلك الحيز الذي لا يتعدى (ما ينطق به الانسان مفرداً أو مركباً) الى متون ومضامين تترسم الواقع والوجود، انما هي نقلة نوعية كبرى، ولا يرى ابداً أن هذه الاستعمالات امتداد لغوي صرف للمعنى القاموسي المعروف،بل هي استعمالات نابعة من تصور أو تقديرات خاصة للكلمة باعتبار انها نشاط متميز بخصائص جديرة بهذا الانتقال، وسوف تتضح لنا هذه الفكرة في سياق حديثنا اللاحق.

جاءت الكلمة في القرآن الكريم وهي تعني التحادث البشري المعروف، كما في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)، وسوف نرى ان هذا الاستعمال لم يجمد عند حدودالتعريف السطحي لموضوعة التحادث، ونلتقي بمعنى اعمق، عندما يطلق القرآن الكريم هذه المادة على وحيه من توراة وقرآن (...وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). وتستمر مسيرة الكلمة في استكناه المعاني اوالدلالات الضخمة عندما نعرف ان من احدى استعمالاتها (قضاء الله في التاريخ) كما في قوله سبحانه (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، وتتواصل القابلية الفذة للاستعمال لتشير الى اشياء الله المنبثة في الكون (ولو انما في الارض من شجرةٍ اقلام والبحر يمده من بعده سبعة ابحر ما نفدت كلمات ربي...) وانسجاماً مع هذه التجليات الرائعة لدلالة الكلمة في الكتاب العزيز، تأتي بمعنى نفس التشريع الرباني العظيم الذي هوارادة الله في حياة الانسان (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)....

نكتفي بهذا المقدار البسيط لبيان مدى النقلة الجوهرية لدلالات هذه المادة من حدودها المعجمية الى القضاءات الرحبة والعميقة التي ابتدعها القرآن الكريم، وللانسان ان يتصور كم هي الفاصلة بين المفردة اللغوية والتي قد تكون عابرة على لسان المتحدث،وبين المفردة الكونية التي هي لبنة اساسية في نظام الوجود المحكم، وذلك مهما تبدت لناهذه المفردة بسيطة وعادية للوهلة الاولى.

هنا يبرز سؤال مهم: ما هي مسوغات استعمال (الكلمة) في هذه المجالات الجوهرية الكبيرة ؟! أي علامة بين مادة الموضوعة (كـ، ت، ب) ومفردات الكون وقضاء الله فيالحياة والزمن وتشريع السماء في صياغة الوجود الانساني؟

لا اعتقد ان هناك مسوغاً اعمق من القول: بأن كل شيء قابل للقراءة والمعاينة والحركة فهو بالتالي (كلمة) فالمخلوق كلمة كونية، والامضاء الالهي في الامم والشعوب والافراد كلمة تاريخية نافذة، وحكم الله كلمة تشريعية، وكلها جاهزة للقراءة الواعية الدائمة، وكلها قابلة للمعاينة المستزيدة ثراءً وغنىً ومعنىً. وذلك بتقادم الزمن والخبرة... وبالتالي كانت (الكلمة) قدراً، أي قانوناً ينتظر الاكتشاف، وغياب الاكتشاف تغييب للذات وتضييع للعمر وهدر للطاقات. فالكون كتاب، والتاريخ سطور والتشريع حقائق، وجميعها طيّعة لاعمال العقل وتحريك الفكر...على ان (الكلمة) تبلغ ذروتها في الجلال والجمال عندما تطلق على وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو وان كان (كلمة) بالاضافة الى الله تعالى، إلاّ انه في التمثيل الاخير يستقر على ضفاف (الكلمة) استعمالاً من الذات العلية، وفي ذلك شرف لا يدانيه شرف على الاطلاق، واذا كانت المقتربات اللغوية تميز هذا الاستعمال، فان اختيار السماء لهذا الاستعمال يجسد كلمة المادة وحيويتها وطاقتها المعدة.

وقبل الغور في بحور الاستعمال وفلسفته يحسن بنا ان نضع جدولاً سريعاً لمستوياته المتعددة يعط النظر عن مسوغات المقاييس المعجمية وتأثيراته على صلاحية الاستعمال.

المستوى الاول

التحادث البشري الذي جرت عليه عادة المجتمع الانساني منذ ان ادرك وجوده الحي، أي هذا التخاطب الطبيعي الذي يتصل بالحياة اليومية وحاجاتها المعهودة (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ)، (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً..).

المستوى الثاني

التخاطب بين الله من جهة والانسان من جهة اخرى، وهذا المستوى يأتي في اكثر من صيغة كما يرد في تضاعيف القرآن الكريم.

1 ـ خطاب الله تعالى الانبياء (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي...)، (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).

2 ـ نفس الكتاب الالهي كالتوراة والقرآن (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ). (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ).

3 ـ خطاب الله الكافرين يوم القيامة (...أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، (...أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

المستوى الثالث

قضاء الله سبحانه وتعالى في التاريخ، أحكامه في مسيرة الامم والمجتمعات، خاصة اذا فهمنا هذا المرتب بابعاده التأسيسية ذات التواصل المتشابك مع مناحي الحياة بكل ماتعنيه، وما تحويه من حركة وفعل ونشاط فليست الحياة اياماً وانما هي صيغ ذات تاريخ حافل بالتناقضات، والمفارقات، (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

المستوى الرابع

المخلوق الذي يخلقه الله تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ).

المستوى الخامس

التكاليف الالهية الي سنّها الله تعالى للانسان على الارض بهدف تربيته وتنشئته بماينسجم مع غاية خلقه وايجاده أو بما يهيئه للحياة الاخرى التي هي المنتهى والمآل وفق التصور الاسلامي، (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ).

المستوى السادس

قضاء ربك جلّ وَعلا بوعده ووعيده بلحاظ اولياتهما التأسيسية في فضاء الحياة الدنيا وتداخلاتها العجيبة (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

المستوى السابع

العقيدة الاسلامية المتجوهرة بركنها المكين، بالقاعدة المبدئية التي تشكل مبدأ الصيرورة على كل الاصعدة العقيدية والشرعية والاخلاقية، اي التوحيد (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، وكلمة الله هي شهادة (ان لا اله إلاّ الله).

المستوى الثامن

الاثم الاكبر الذي يُعدّ في الفكر الاسلامي منبع الشرور والمظالم الفردية والاجتماعية او هو العنصر الفاعل في تخريب العالم والمجتمعات، اي الشرك (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا).

المستوى التاسع

الصيغة الجامعة للعقيدة الاسلامية بالتوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم،باعتبارها اطار الدين الخاتم ومدخل الانتماء الى دائرته الفكرية والاجتماعية (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى)، فقد قيل انها: شهادة لا اله إلاّ الله، محمد رسول الله، وسيأتي الخوض في رجالها العظماء.

وبعد فهذه هي أهم واوضح مجالات الاستعمال القرآني للكلمة التي لا تعني في متنها المعجمي إلاّ القول المنطوق مفرداً أو مركباً، فيما هي هنا استعمالات فذة تمس صميم التحادث البشري العادي، الخطاب الالهي للانبياء، الخطاب [الكون والفكر والحياة...الالهي لأهل العذاب، الوحي المتجسد بالتوراة والقرآن، العقيدة المتمثلة بتوحيد الله ونبوة الانبياء/ محمد/ وعد الله ووعيده، الاثم الاكبر قضاء الله في صياغة التاريخ]، مخلوقات الله التي لا تعد ولا تحصى بالنسبة للطاقة البشرية.

ومرة اخرى نسأل: ما هي مسوغات اعطاء الكلمة هذا الشرف في صلاحيات الاستعمال الفاعل وعلى هذا المستوى من السعة والعمق؟!

في الحقيقة كون كل شيء قابلاً للقرءاة يعد مدخلاً حيوياً لفهم هذه الظاهرة الجديرة بالالتفات، وذلك في اطار التأسيس القرآني لنظرية العلم (قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)، وبلحاظ ان اي معرفة ستكون نسبية مهما بلغ صاحبها من ذكاء وبراعة وفن ولكن ما الذي يمنع من اضافة مسوغ آخر؟ ذلك ان كل ما يتضمنه الوجود من مخلوقات، وكل ما يترك في اخاديد التاريخ هو باذن الله تبارك وتعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ). بل ان كل شيء هو تتمة لقوله تعالى (كن) طبقاً لقوله جل وعلا (كُنْ فَيَكُونُ). وعليه فالاشياء والحوادث والقضاء والابرامات والحركات والسكنات إنما هي كلمة الله في التحليل الاخير، كلمة الله المتجسدة في قوله (كن).

جاءت الكلمة في القرآن الكريم في سياق المعنى الذي يتصل بالتواصل البشري، وكان [مريم 10، 26، 29. آل عمران 41، 46. المائدة 110] الشفاهي في (8) آيات، هي موضوع عيسى ويحيى مرتكز استعمال الكلمة في هذا المجال. نحاول هنا ان نستوفي قدر الامكان موحيات الاستعمال المذكور على ضوء مجموعة من المقتربات والمؤشرات كاللغة والحادثة والظروف واسباب النزول والعلائق المعنوية من آيات الكتاب العظيم واسراره المدهشة.

قال تعالى (يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا، قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هوعليّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا، قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألاّ تكلم الناس ثلاث ليالٍ سويا، فخرج على قومه من المحراب فأوحى اليهم أن سبحوا بكرة وعشيا)(2).

هذه الآيات تعرض لقصة نبي الله زكريا وولده يحيى الذي وهبه له على كبر من امرأة عاقر لا تلد، ولكن الله قادر على ان يتجاوز هذا القانون الذي هو من صنعه وايجاده، فاستجاب دعاء هذا النبي الصالح فرزقه يحيى الذي تولى النبوة صغيرا. وكان زكريا قد سأل ربه العلامة التي تعرِّفه باستجابة الدعاء. فكانت ان لا يكلم الناس ثلاثة ايام، رغم انه سوي وصحيح، ولا نريد ان نخوض بسبب هذا العجز، فقد قيل باعتقال لسانه بصورة من الصور، ولكن أي مناسبة هنا في أن تكون العلامة هذا العجز عن النطق ؟!

انها مفارقة عجيبة ان يلد (اخرس) صبياً يتولى امر النبوة ويخوض معركة تغيرية انقلابية داخل المجتمع المغلق، وانها لمفارقة اعجب ان يلد (اخرس) ولو لمدة قصيرة ـ هذا المتحدث الجرئ المقدام، والدمج بين الحالتين ـ الخرس والكلامة تنبئ عن اهمية الكلام وروعته...، فالحكم في الآية لا ينحصر بهذا المتبادر الى الذهن من النزعة السياسية، بل ينطوي على الفقه والفهم والرأي، والابانة والفصل، والكلام يحتل مكانة جوهرية من هذه القدرات والمواهب الفذة ذلك سواء كان هذا العجز عن خرس طارئ أوعجز تلقائي لا يُعرف سببه إلاّ بارادة الله سبحانه وتعالى، ومن المفارقة الجميلة هنا ان تحصل معجزة باتجاهين غير متساوقين ابداً، فالعجز عن الانجاب يتبدل الى قدرة فائقة على الانجاب القوي المتين، والقدرة على النطق المتميز يتحول الى عجز لفظي كليل،ورغم المسافة المتضادة بين المعجزتين، الا ان كليهما يتغذى من الآخر باتجاه التوكيد والتحقيق، والنهاية هي المفارقة الواضحة، اي يأتي منطيق من لسانٍ اصابه العجز فترة ما!! واعتقد ان مثل هذه الحادثة اذ حصلت في اوساطنا، فاننا سوف نقرن الحالة الجديدة بذلك الطارئ الغريب السابق عليها.

قال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً)(3).

مرة اخرى نلتقي بالمفارقة ولكن ضمن معطيات إضافية، فاذا كان زكريا قد اعتقل لسانه اعجازاً فان مريم سلام الله عليها نذرت الصمت ارادةً، واذا كان يحيى قد رزق المنطق الراقي صبياً وعن ارادة كما يبدو، فان عيسى عليه السلام نطق اعجازاً وهو رضيع، وكان نطقه حكمة حيث لم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ مبلغ الصبيان.

الصيام عن الكلام ليس امراً سهلاً لان الانسان حيوان متكلم في الدرجة الاولى، وهذا النذر بطبيعته يكشف عن ان الكلام اشبه بالغريزة بالنسبة للذات الانسانية وانه إحدى مكونات هذه الذات.

والصوم عن الكلام مقاومة لنزوع شبه ذاتي اي يقترب من تشييد الذات، أو يدخل فيتشييدها بدرجة واخرى، وخاصة بعد ان تتربى وتنشاً عليه.

لقد كان كلام عيسى ـ عليه السلام ـ صدمة لامه الصائمة عن الكلام، وكان صدمة لقومه الاحرار في الكلام...ولنا عودة..

 هنا وكما في الآيات السابقة اصبح محل اشارة كوظيفة وقابلية مكوّن [والكلام] عقيدي، وعندنا يصير موضوع اعجاز وتحدٍ انما يكون كذلك لكونه قضية جوهرية وليس امراً عابراً في دنيا الانسان.

ج ـ (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ...)(4).

مرة اخرى نلتقي بقصة زكريا وابنه يحيى في سورة آل عمران المدنية النازلة حتماً بعد سورة مريم المكية، ونجد انفسنا بين يدي اشارات جديدة. ضمناً زيادة في مؤهلات ومواصفات يحيى، كما ان الصوم عن الكلام قد عوّض بالحديث الرمزي، وهناك زيادة في مراسيم العبادة والشكر التي ارشد الله اليها عبده الطالب زكريا. واذا كان (التخاطب البشري) وارداً في الآية (41) في السياق الذي عرفناه سابقاً، فان مما يلفت النظر حقاً ان [الكلمة] بآفاقها المتعددة حاضرة في جو الآيات وروح الموضوع فهناك [الكلمة] تكون التي تمثلت أو سوف تتمثل بعيسى عليه السلام، وهناك الدعاء الذي هو كلام مخصوص،وهناك مادة النداء التي لا تخرج عن هذا النطاق، وهناك مقول القول: كما ان القرآن يطلعنا على لغة جديدة في عالم التحادث البشري ذلك هو الرمز (ألاّ تكلم الناس ثلاثة ايام إلاّ رمزا). وهناك الذكر الذي لا يعبر عنه في كثير من الحالات بالكلام.

د ـ (اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين، قالت رب انى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء اذا قضى امراً فانما يقول له كن فيكون، و يعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل)(5) هكذا يقص علينا القرآن مرة ثانية موضوع عيسى في سورة آل عمران مع قد سادت [الكلمة] اضافات جديدة تساهم اكثر في تجلية القضية، ونشاهد أيضاً مادة اجواء القضية كما هو في قصة زكريا وابنه يحيى، واذا كان اعتقال لسان زكريا عن التخاطب البشري معجزة لغاية الشهادة على استجابة الدعاء، فانه يتحول كحقيقة كبرى على لسان عيسى الرضيع لغاية الشهادة على النبوة، خاصة وقد تضمن حديثه عليه السلام معنى راقياً بل وطبقات متراتبة القيمة من المحتوى والمضمون، وهكذا تتجاذب الحالات المتعددة (التخاطب البشري) ليتحول الى آلية وطريق!!

نعود للقول على مادة (الكلمة) تشكل وحدة البناء في هذه الآيات الشريفة، فعيسى ـ عليه السلام ـ (كلمة الله) وجاء بسبب كلمة الله أيضاً (كُنْ فَيَكُونُ)، وقد هيأه الله لاختزان كلمة الله المتمثلة بالحكمة والتوراة والانجيل !! انها رأت الاجواء التي سبق وأن عشناها مع زكريا وابنه يحيى عليهما السلام.

هـ ـ (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(6).

التخاطب البشري الذي من الله به على عيسى في المهد، هو ذاته الذي سوف يزاوله في الكهولة، وهي اشارة الى ان هذا التخاطب ليس نعمة في حالة الاعجاز فحسب بل هو نعمة في حالة الطبيعة أيضاً. وقد يكون كنتيجة طبيعية للنمو الجسمي نعمة. اولى بالتقدير والتعظيم منها اعجازاً واختراقاً لقوانين النمو المذكور، وقد حرص القرآن على توفير والتعبير عن الفاعلية بصيغة [آل عمران: 46، المائدة: 110] ظرف التواصل بين النعمتين الفعل المضارع اشارة الى استمرارية العملية بما تنطوي عليه من نعمة عظيمة...

بقي ان نعرف... ان اذن الله تعالى الذي تكرر في الآية الكريمة اربع مرات انما هو تعبيرا خر عن (كلمة الله) جلّ وعلا.

2 ـ التخاطب البشرى موضوعة قرآنية جميلة، وقد عرضها القرآن على أصعدة عدة منها: أ ـ ان لهذا النشاط العظيم آلاته المتكاملة، وذلك طبق قوله سبحانه (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ). ومن المعلوم ان وظيفة الكلام تتوقف على هذا التكامل الفذ بين اللسان والشفتين.

ب ـ وان هذا النشاط الجبار آية من آيات الله جل وعلا، وهذا ما نستفيده صراحة من قوله (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ)، فان اللسان في الآية المباركة تعبير مجازي عن هذا التخاطب الرائع.

ج ـ وان هذا التخاطب هو احدى ادوات تحليل الكون والحياة والتاريخ (خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، والبيان ليس افصاحاً عما في النفس وحسب، بل عملية تحليل للواقع بشرط اجادة العملية.

د ـ وان هذا التخاطب حاجة شبه غريزية، حاجة متجذرة في داخل الذات، ولذا فالصوم عنها معاناة ومشقة (نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً).

هـ ـ وهذا التخاطب قد يكون لغة شفاهية وقد يكون رمزاً.

وللتخاطب صيغ وانماط وقيم نجدها مبثوثة في كتاب الله المجيد، لا يسع هذا المقام الى استقصائها.

1 ـ خطاب الله تبارك وتعالى الى انبيائه يندرج في خانة (الكلمة) في القرآن الكريم وقد فصلت هذه الموضوعة بخطوطها العريضة وعنوانها العام، وهناك الامثلة التطبيقية الحية التي تصدق عليها، ولذا فنحن هنا بين يدي منظومة كلمة الآن مسوقة في حالات من التقنين والتشييد المنظم.

قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)(7).

ففي هذه الآية يطلعنا القرآن الكريم على الكيفية التي يكلم الله بها رسله الكرام عليهم السلام وهي على اضرب ثلاث:

الاول: الالهام في القلب أو الصدر والمقصود هنا الجزء الواعي من الذات الانسانية أو العقل المدرك.

الثاني: التكليم من وراء حجاب كأن يحدث الله صوتاً مفهوماً لدى النبي الكريم فيشجرة أو حجر أو أي وسيلة مناسبة.

الثالث: ان يرسل الله سبحانه رسولا الى النبي العظيم يبلغه كلامه الشريف والرسول هنا هو جبرائيل عليه السلام.

قال في مجمع البيان: (ثم ذكر سبحانه أجل النعم وهي النبوة فقال: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ) أي ليس لاحد من البشر ان يكلمه الله (الا) ان يوحي اليه (وحياً) وهو داود اوحى في صدره فزبر الزبور، (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي يكلم من وراء حجاب وهو موسى عليه السلام، (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) وهو جبرائيل ارسل الى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال في الكشاف: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ) وما صحّ لاحد من البشر، (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ) على ثلاثة اوجه، اما عن طريق الوحي وهو الالهام والقذف في القلب أو المنام كما اوحى الى أم موسى وإلى ابراهيم ـ عليه السلام ـ في ذبح ابنه وعن مجاهد اوحى الله الزبور الى داود ـ عليه السلام ـ (في) صدره... وقوله (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) اي كما يكلم الملك بعض خواصه وهو من وراء حجاب، فيسمع صوته ولا يُرى شخصه، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة واما على ان يرسل اليه رسولاً من الملائكة فيوحي الملك اليه كما كلم الانبياء).

قال في التسهيل: (بيّن تعالى في الآية ان كلامه لعباده على ثلاثة اوجه; احدها: الوحي بطريق الالهام أو المنام، والآخر ان يسمعه كلامه من وراء حجاب والثالث: الوحي بواسطة الملك وهذا خاص بالانبياء، والثاني: خاص بموسى ومحمد... واما الاول فيكون للانبياء والاولياء).

قال السيد الطباطبائي: ((وما كان لبشر ان يكلمه الله إلاّ وحيا أو من وراء حجاب اويرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء انه علي حكيم)) ذكروا في تكليم الله تعالى انه على ثلاثة اقسام، بقرينة الترديد الموجود في الآية...وان الوحي في القسم الاول لم ينسب الى مكان خاص وفي القسم الثالث نُسب الى الرسول والاقسام الثلاثة هي:

1 ـ التكليم الذي لم يكن فيه واسطة بين الله والبشر.

2 ـ التكليم الذي يكون من وراء الحجاب، كشجرة طور حيث كان موسى عليه السلام يسمع كلام الله من تلك الناحية.

3 ـ التكليم الذي يحمله الملك ويبلغه الى الانسان فيسمع كلام الملك وَحياً وهو يحكي كلام الله).

 

المصادر :

ــــــــــــ

1 ـ  باحث وصحفي اسلامي.

2 ـ  مريم، الآيات: 7 ـ 11.

3 ـ  مريم، الآيات: 25 ـ 30.

4 ـ  آل عمران، الآيات: 38 ـ 41.

5 ـ  آل عمران، الآيات: 45 ـ 48.

6  ـ  المائدة، الآية 110.

7 ـ  الشورى، الآية 51.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=408
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 03 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24