• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : القُرآنُ الكَريم وتَعليمُ اللغةِ العربيّة (القسم الثاني ) .

القُرآنُ الكَريم وتَعليمُ اللغةِ العربيّة (القسم الثاني )

الدكتور عبد الكريم بكري

دراسة نقديّة في ضوء النظريات التربوية واللغوية

مكانة القرآن في النظام التعليمي الإسلامي

ولقد كان التعلّم في فجر الإسلام يهدف بالدرجة الأولى إلى تعليم القرآن , وتمكين معانيه في الناس , وذلك انطلاقاً من قناعة مؤداها أن القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات(1) ولقد آمن أولوا الأمر بهذا المبدأ فعملوا على تطبيقه واستثمار منافعه وجعلوه شعار الدين لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده(2) فكان القرآن أول ما يلقَّن إلى الصبيان لأن التعليم في الصغر أشدّ رسوخاً وهو أصل لما بعده , ولأن السابق الأول للقلوب , كالأساس للمكان على حسب الأساس وأساليبه , يكون حال ما يُبنى عليه(3) . وكان أهل الأندلس يجعلون القرآن أصلاً في التعلّم , لأنه أس الدين ومنبع العلم غير أنهم لم يقتصروا عليه (( بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والتراسل , وأخذهم بقوانين العربية وحفظها , وتجويد الخط , والكتابة ...إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة , وقد شد البعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما , ويبرز في الخط والكتابة ويتعلق بأذيال العلم على الجملة )) (4) .

نستنتج من هذا كلّه أنّ تعلّم الصبي علوم العربية والشعر والخط لا يتمّ إلاّ عن طريق تلقين القرآن بحيث يرتفع مستواه التعليمي بقدر ما حفظ وفقه من آيات الذكر الحكيم . ولقد ظل هذا النظام قائماً في معظم البلدان الإسلامية , وكان لأهل أفريقيا , طريقة خاصة في تعليم القرآن تتمثّل في تحفيظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية مع المتون والمختصرات , إلاّ أنّ العناية منصرفة أكثر إلى القرآن واستظهاره , ومعرفة إختلاف قراءاته والطريقة التي كانت متّبعة هي أن يقرأ القرآن بالقراءات السبع المتواترة أفراداً , وجمعاً , ولا يقتصر على ختمة واحدة , وإنما تتكرّر الختمات حتى ترسخ القراءات في ذهن الطالب(5) . ويبدوا أنّ ابن خلدون لم يكن واضباً عن مذهب أهل المغرب الذين كانوا يقتصرون على تعليم القرآن ولا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم , ولا من فقه , ولا من حديث , ولا من شعر , ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه , أو ينقطع دونه , فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة (6) , ولقد اقتفى ابن خلدون في هذا الرأي نتيجة القاضي ابن العربي الذي كان يقول: (( ياغفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوّل أمره يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهمّ ما عليه )).

وقد كان التعليم في المغرب يقوم في مرحلتين :

الأولى : مرحلة حفظ القرآن .    الثانية  : مرحلة تلقّي العلوم الأولية .

وعلى أية حال فإن البلاد الإسلامية التي تعرّضت في العصر الحديث للاستعمار هي وحدها التي تعرف قيمة حفظ القرآن في الصدور ولو بدون تفسير أو دروس مساعدة, وفي الجزائر , فإن تلاوة كتاب الله في المساجد والكتاتيب أثناء الفترة الإستعمارية الصليبية هي التي أنقذت الجزائر من شر مستطير .

 القرآن وتدريس العربية لغير الناطقين بها من المسلمين

إن اللغة العربية ـ لغة القرآن , وأداتنا في تبليغ كافة العلوم الإسلامية في جميع أنحاء العالم الإسلامي ـ تحتاج منّا إلى أن ننظر فيما يحيط بأمور (( تعليميتها )) (DIDACTIQUE)(7) , من صعوبات , وعراقيل , وما يمكن أن تستثمره لها من حوافز ودوافع وميزات .

ولقد ظهرت في العصر الحديث , علوم ومناهج تدرس اللغة , بحيث تراعي كلّ الملابسات التاريخية والاجتماعية والنفسية والجغرافية التي تشكّل واقع اللغة المدروسة , وأبرز هذه العلوم هي : علم الاجتماع اللغوي , علم النفس اللغوي , اللسانيات التطبيقية , وهي مناهج تمكّننا ـ عند الاستئناس بها ـ من دراسة اللغة العربية بمنظور إسلامي واسع سعة الرقعة الجغرافية التي ينتشر فيها الإسلام , غير أنّ هذا لا يعني أنّنا ننساق وراء كلّ ما تذهب إليه فلا يعنينا من هذه العلوم ـ كما يقول المرحوم الأستاذ الدكتور محمد المبارك إلاّ الحوادث ( أو الظواهر ) التي هي تحت سمعنا وبصرنا , مما يمكن مشاهدته وجمع دراسته وتصنيفه , واستخراج سننه المطرده , وهو ما سوف نقوم به عندما تدرس الانعكاسات التي أحدثها الإسلام على اللغة العربية وعلى واقع تعلّمها , لأنّ الموقف الإسلامي من هذه العلوم (( هو الإسهام والاستفادة من أبحاث غيرنا كما فعل الأسلاف , وجاؤوا بما لم يسبقوا إليه مثل البيروني , والمسعودي وابن خلدون وغيرهم )) (8) .  ويهتم علم الاجتماع اللغوي , عادة بدراسة المتغيّرات البيئية والزمانية التي تعرفها لغة معيّنة, حيث نشأت مدرسة علم الاجتماع اللغوي لتهتمّ بظروف تعليم اللغة الفرنسية في عصر الثورة الفرنسية , فأخذ العلماء يدرسون الطوارئ اللغوية بآفاق فلسفية وثقافية واسعة لإيجاد الناجعة للمشاكل اللسانية التي عرفها المجتمع الجديد (9) .

أما علم النفس اللغوي , فإن علماء الإسلام , وعلماء اللغة , لا يطمئنون إلى كلّ ما يذهب إليه, واستفادتنا من هذا العلم ( إن كان علماً حقيقة ) تكون غير مباشرة وقائمة على ما أحدثه من ردود وتوجيهات , وتأويلات أو تطبيقات ميدانية ( على نحو ما يفعله علماء اللسانيات التطبيقية ).

يسعى علم النفس اللغوي في ظلّ المذهب السلوكي إلى تحليل السلوك الإنساني , من حيث هو يكون عادات , وتندرج ضمن هذه العادات المتكوّنة , العادات الكلامية ( أي اللغة الإنسانية ).

فاللغة ترتدّ من هذا المنظار إلى مظاهرها الثانوية , أي إلى مجموعة إستجابات كلامية لأحداث عملية معيّنة (10) . أي أنّ عملية التعلّم تخضع لتأثيرات داخلية , تأتي من داخل الفرد , ولعوامل أخرى آتية من المحيط . غير أنّ العالم الأميركي (( تشومسكي )) , ينتقد بشدّة علم النفس السلوكي ويرى فيه شكلاً من أشكال امتهان الإنسان والحط من قيمته , فالسلوكيون يجعلون نتائج بعض الاختبارات التي أجريت على سلوك الحيوانات إلى مجال الإنسان , ويعطونها بعد اجتماعها , بالغ الأهميّة (11) .

فالفرد ـ كما يرى (( تشومسكي )) دائماً ـ يتمكّن من تكوين نظام نحوي شخصي , يوظفه عند الحاجة نتيجة لتمتّعه بقدرات فطرية تمكّنه من ذلك (12) .

وعلى أيّة حال , فمهما قيل عن حدود دراسة علم النفس اللغوي وعن وجاهة ما يذهب إليه , فإننا لا نستطيع أن ننفي علاقة التعلّم ( واللغة بالخصوص ) بالنفس الإنسانية , ولقد أشار الفلاسفة والعلماء وخصوصاً ((ابن سينا)) إلى هذه العلاقة ونوّهوا بها .

فلا يمكن أن نتجاهل في هذا المقام عامل الرغبة في الوصول إلى غاية معيّنة  أو هدف معيّن  (motivation) يهتمّ به علماء النفس اللغوي , كما لا يمكن أن نتجاهل عامل اللذة التي يجدها الفرد عندما يحقّق تقدّماً ملحوظاً وعندما يعيش تجربة معيّنة (13) بهذا الدرس المركّز الذي مرّ بنا في الصفحات السابقة ـ حول قضايا التعليم ومناهج الدراسات اللغوية ـ نكون قد مكّنّا القارئ من أن يسايرنا , في ما سنقف عنده من ظروف انتشار اللغة في ظلّ الإسلام وفي رحاب القرآن , ونبادر القارئ بسؤال تقريري نحسب أن التاريخ والواقع قد أجابا عليه , وهو: كيف استطاعت اللغة العربية في زمن قياسي أن تنتشر في كلّ مكان , وتعبر القارات , وتصبح لسان قطاع عريض من البشر من مختلف الأجناس والأعراق في تلك العصور المبكّرة , بينما نكاد أن نعجز عن تحقيق أيّ نصيب من التقدّم في التمكين لهذه اللغة , بل إننا نكاد نعجز أن نقاوم عملية الإبعاد , والإزالة , والتشويه التي تتعرّض لها العربية في العالمين العربي والإسلامي ...!؟

والإجابة المستمدة من التاريخ والواقع هي : إنه لا يصلح أمر هذه اللغة إلاّ بما صلح به أوّلها .

ونحن نعرف أنّ اللغة العربية , إنما كتب لها الانتشار والازدهار , لأنها ارتبطت بالقرآن حتى أصبحت تسمّى لغة القرآن , حيث أنّ غالبية البحوث  التي عرفتها العربية في أوّل نشأتها , كانت من أجل تمكين الداخلين في الإسلام , من معرفة لغة القرآن من ذلك : ما يروونه من أنّ زياد بن أبيه , كلّف أبا الأسود الدؤلي ـ واضع النحو ـ بتأليف شيء يقوم لسانهم ويصحّح أخطاءهم في اللغة القرآنية وقال :

إنّ هذه الحمراء ـ يقصد الأعاجم ـ قد كثرت وأفسدت من ألسنة العرب , فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم , ويعربون كتاب الله , والرواة يجمعون على أنّ وضع النحو العربي , إنّما جاء بعد أن توسّعت الدولة الإسلامية , وذاع القرآن في الناس , وقرأه الفارسي والروسي والهندي والقطبي وغير ذلك (14) .

ولقد أطنبت الروايات في بسط الجهود التي بذلها علماء اللغة في شرح القرآن والاقتراب من معانيه , وضبط كلماته وحمايته من الخطأ والزلل , وهكذا أنشئت حركة التأليف النحوي والتفسير والقراءات , وعلوم اللغة من أجل هذا الغرض , كما قامت حلقات الدرس في الكتاتيب والمساجد , والمجالس الخاصة ـ كما رأينا ـ ولقد كانت استجابة المتعلّمين , من الأعاجم الداخلين في الإسلام قوّية إلى درجة الحماس وحافزهم في ذلك الحرص على فهم معاني القرآن , وأداء الشعائر الدينية , بفهم وإدراك , وهي جهود ومعارف يمكن أن نسمّيها بلغة علماء التربية , الأدوات والوسائل البيداغوجية التي تسهّل على المتعلّم معرفة لغة معيّنة .

وكان معلوماً لديهم أنّ بلاغة القرآن وإعجازه , إنما يتجلّيان في اللغة العربية التي أنزل بها , فقد نبّهت آيات كثيرة إلى أنّه قرآن , فصّلت آياته بلغة عربية , فلا قرآن بغير اللغة العربية , من ذلك قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (15)  .

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (16) إلى آخر الآيات التي بيّنت عربية القرآن , لذلك , يجمع العلماء على أنّ كلمة القرآن إنما تنصرف إلى نصّه العربي المحفوظ إلى يومنا هذا وترجمة القرآن إلى لغات أخرى ليست لها أحكامه , فلا تكون مصدراً للإجتهاد , ولا يعتد بها في كلّ الأمور الشرعية وهكذا أصبحت معرفة اللغة العربية أمراً واجباً لأنها من الدين , لأن فهم الكتاب والسُنّة فرض لا يفهم إلاّ بالعربية , ولا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب, وبسبب من ذلك أي كون اللغة العربية , لغة القرآن , ولغة الحديث , ولغة الشعائر الدينية.

وقد حققت اللغة العربية هذه النتائج التي تحدّثنا عنها , فأصبحت مدعاة للفخر , ودلالة على سعي الفرد على التقرّب من الله يقول البيروني الفارسي , في مقدّمة كتابه : ((الصيدلة)) :

(( ديننا والدولة عربيان وتوأمان , وترفرف على أحدهما القوّة الإلهيّة، وعلى الآخر اليد السماوية , وكم احتشد طوائف من التوابع , وخاصة منهم الجبل والديلم في إلباس الدولة جلاليب العجمة, فلم يتفق لهم في المراد سوق , ومادام الاذان يقرع آذانهم كلّ يوم خمساً فتقام الصلوات بالقرآن العربي المبين , خلف الأئمة صفاً صفاً , ويخطب به لهم في الجوامع بالإصلاح , كانوا لليدين والفم , وحبل الإسلام غير منفصم , وحصنه غير منثلم وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم , فازدانت وحلّت في الأفئدة , وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين , والأوردة , وإن كانت كلّ أمّة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها , واستعملتها في مآربها مع آلافها وأشكالها . وأقيس هذا بنفسي , وهي مطبوعة على لغة , لو خلد بها علم لاستغرب، استغراب البعير على الميزاب والزرافة في العراب , ثم متنقّلة إلى العربية والفارسية , فأنا في كلّ واحد دخيل ولها متكلّف , والهجوّ بالعربية أحبّ إليّ من المدح بالفارسية .

وسيعرف مصداق قولي من تأمّل كتاب علم قد نقل إلى الفارسي كيف ذهبَ رونقه , وكسَفَ بالُه , واسودّ وجهه وزال الانتفاع به , إذ لا تصلح هذه اللغة إلاّ للأخبار الكسروية, والأسهار الليلية(17). ويقول الزمخشري في مقدمة كتابه المفصّل :  (( الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية , وجبلني على الغضب للعرب والعصبية , وأبا لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم , وأمتاز وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز, وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلاّ الرشق بإلسنة اللاعنين , والفسق بألسنة الطاعنين )) . وسيبويه (الفارسي) , صاحب الكتاب الذائع الصيت في النحو , تخصّص في علوم العربية , لأنّه أخطأ في حرف من الحديث , حين يروون أنّه كان يستملي من (( حماد بن سلمة )) مفتي البصرة , وأحد رجال الحديث , قوله (ص) : (( ليس من أصحابي إلاّ وقد أخذت عنه ليس أبو الدرداء )) وأعتقد أنّه اسم ليس , بينما هو للاستثناء فقال حماد : (( لحنت ياسيبويه )) , فقال سيبويه (( لا جرم لأطلبنّ علماً لا تلحني فيه ثم أنصرف لطلب دراسته )) , ولازم (( الخليل بن أحمد )) حتى نبغ في العربية(18) . ويمكن أن نفسّر اندفاع الداخلين في الإسلام من غير العرب إلى تعلّم لغة القرآن ,بأنّ جمهرة هذه الأمم التي بسط عليها نفوذه , دخلت في دين الله وأخلصت في إسلامها , والقرآن هو دستور الإسلام , وهم لن يفهموا هذا الدستور الكريم , ولن يقوموا ببعض الشعائر فيه إلاّ إذا أقبلوا على لغته يتعلّمونها , ويوالون حذق أصولها(19) . وإذا كان وراء هذا الاندفاع دافعٌ ( وهو حالة داخلية ) ـ يقول علماء التربية ـ يؤدي إلى إستثارة النشاط وتوجيهه والعمل على استمراره حتى يصل الكائن الحي إلى هدفه (20) . فإنّ الدفاع الأساسي لاستمرار الإنسان المسلم في طلب العلم من المهد إلى اللّحد , كان دافعاً ذاتياّ نابعاً من حقيقة مؤداها , أنّ تعلّم المسلم عبادة , والإلحاح في طلبه جهاد , والإنقطاع له خشوع وزهد في الدنيا ونشره في الناس صدقة يثاب عليها . وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّ النبي (ص) , قال : (( أفضل الصدقة أن يتعلّم المرء المسلم علماً ثم يعلّمه أخاه المسلم )) (21) .

وعن أنس ابن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال , قال رسول الله (ص) : (( من خرج في طلب العلم , فهو في سبيل الله حتى يرجع)) (22) . كما يمكن تفسير حماس هذه الأمم وإقبالها على تعلّم اللغة العربية بقناعة ابنائها , بأنّهم لن يفهموا القرآن , دستور الإسلام , إلاّ إذا تعلّموا لغته , لأنّ معرفة الإسلام ـ كما يقول ابن تيمية ـ متوقفة على معرفة لسان العرب , فلا سبيل لضبط الإسلام , إلاّ بضبط العربية (5)  , وعنده أن اللغات أعظم شعائر الأمم , واللغة العربية ليست لغة فحسب , ولكنها لغة عقل وخلق ودين , واختيار لغة ما , يؤثر في عقل المتحدّث بها في خلقه ودينه , لذلك كان يرى أن من تكلّم العربية فهو عربيّ , بل إنّ الإمام الشافعي , كان يرى انّ تعلّم اللغة العربية فرض على كلّ مسلم ليشهد الشهادتين , ويتلو كتاب الله , وينطق بالذكر الحكيم . نستطيع أن ندرك في يسر لماذا وكيف انساق الناس إلى تعلّم لغة القرآن بدافع الدين أوّلاً وغالباً , وبدافع الدنيا تارةً لما كانوا يرجونه من تقرّب أو جاه لدى أولي الأمر الذين يضعون لغة القرآن فوق كلّ شيء.

يقول الأستاذ (( حسن الباقوري )) رحمه الله : ((والذي يرى استباق الشرقيين اليوم لتعلّم لغات الإنجليز والفرنسيين وآدابهم , لأن في معرفتهم ذلك خيراً يرجونه , أو جاهاً يؤملونه : ... يدرك في يسر كيف كانت الأمم تتسابق إلى تعلّم اللغة العربية)).

ونحن نعتقد أن الدوافع التي دعت المسلمين ـ من غير العرب في أوّل أمرهم ـ إلى السعي إلى تعلّم اللغة العربية والتفوق فيها , مازالت قائمة ـ فالقرآن الكريم مازال يتلى ـ كما كتب الله في كافة أنحاء العالم الإسلامي , ولا أحد ينكر أنّ قلوب المسلمين ما زالت تهفو إلى معرفة القرآن وأحكام القرآن في لغته التي نزل بها , فهم في حاجة إلى معرفة معاني الألفاظ التي يتعبّدون بها أكثر من حاجتهم إلى تلك الجمل المصطنعة , التي تملأ بها كتب اللغة والنحو الموجّهة لغير الناطقين بالعربية. وبالفعل , فإننا نشاهد في هذا القرن إقبالاً طيباً على تعلّم اللغة العربية ونحن إذ نسلم مسبّقاً أن هناك عوامل عدّة , دفعت الناس من مختلف الأجناس والأديان , إلى تعلّم اللغة العربية , غير أن الدافع إلى فهم القرآن والسنة النبويّة الشريفة , يبقى الأكثر بروزاً وإلحاحاً . ولقد بيّنت دراسات وإحصاءات قام بها المختصون في هذا الموضوع أن قراءة القرآن الكريم , والحديث الشريف , وآداء الصلاة , تأتي في مقدّمة الأهداف التي تقود الطلبة إلى تعلّم اللغة العربية(23).

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1)  ابن خلدون : المقدّمة ,  ص 537 , ط 4 ـ دار مكتبة الهلال ـ بيروت ـ 1978. (2) المرجع نفسه .  (3) المرجع نفسه .  (4) المرجع نفسه ص : 539.

(5)  الطاهر المعموري : جامع الزيتونة ومدارس العلم في العهدين , الحفصي والتركي , ص : 19 ـ الدار العربية للكتاب ـ تونس , 1980 .

(6) د/ مصطفى زيدان ـ نظريّات التعلّم وتطبيقاتها التربوية ـ ص 53 وما بعدها .

(7) Revue Internationale des sciences socials ((Le Progrés social et la sociolinguistique))P.21/Nº1-I’UNESCO-Paris1984.

وينظرDictionnaire de linguistique P. 444-445- JEAN DUBOIS et ďautres - librairie la ROUSSE- 1973.

(8) د/ محمد المبارك : بين الثقافتين الغربية والإسلامية , ص64 وما بعدها ـ دار الفكر ـ 1980 .

(9)  الكاتب , مجلة الفكر العربي المعاصر , مقالة : (( الألسنية العقلانية وانتقاد علم النفس السلوكي)) ـ ص 40 ـ العدد 23 ـ 1983 ـ بيروت .

 (10) Paycholinguistique appliquée-TATINA SLAMA CAZACUO-P-249-   FERNAND NATHAN-édition LABOR-1983 .

(11) المصدر نفسه , صفحة 146ـ147 .   (12) المصدر نفسه .

(13) نزهة الألباء في طبقات الأدباء ـ تحقيق: إبراهيم السامرائي ـ ص3 ـ 20 بغداد ـ197 . (14) يوسف 1 . 

  (15) الشعراء 26 .

(16) عن مقدمة كتاب حركت التعريب في العراق ـ د/ أحمد مطلوب ـ عن معهد البحوث  والدراسات العربية ـ بغداد ـ 1983 .

(17) أنظر : المقدمة التي كتبها (( عبد السلام هارون )) ـ تحقيق كتاب سيبويه 1/7 ـ دار القلم ـ1966 ـ القاهرة .

(18)  ينظر في هذا الموضوع : (( أثر القرآن الكريم في اللغة العربية)) ـ محمد حسن الباقوري ـ ص45 ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1983 .

(19) رجاء أبو علم : علم النفس التربوي ـ ص153 ـ دار العلم 1982 .

(20)  حديث أخرجه الإمام ابن ماجة في مقدمة كتاب السنن ـ الباب20 .

(21)  أخرجه الإمام الترمذي في كتاب العلم , الباب الثاني .

(22)  أنظر : أنور الجندي : (( الثقافة العربية )) ـ ص54 وما بعدها ـ دار الكتاب اللبناني ـ ط1 ـ1982 .

(23) د/ فتحي علي يونس : تصميم منهج لتعليم اللغة العربية للأجانب ـ ص165 وما بعدها ـ دار الثقافة ـ 1978 ـ القاهرة .


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=386
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 02 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18