• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : القُرآنُ الكَريم وتَعليمُ اللغةِ العربيّة ( القسم الأول ) .

القُرآنُ الكَريم وتَعليمُ اللغةِ العربيّة ( القسم الأول )

الدكتور عبد الكريم بكري(1)

القُرآنُ الكَريم وتَعليمُ اللغةِ العربيّة

دراسة نقديّة في ضوء النظريات التربوية واللغوية

تهدف هذه الدراسة إلى إبراز الفائدة الكبيرة التي يجنيها المربّون والقائمون على تدريس اللغة العربية من اعتمادهم على النصوص القرآنية , سواء كان التعليم موجّهاً للمسلمين غير الناطقين بالعربية, أم إلى معاهد اللغة والأدب العربي في الجامعات العربية .

ولقد استفادت الدراسة من التجارب والمعارف التربوية لعلماء المسلمين في عصورهم الذهبية , كما استفادت من النتائج القيّمة التي حقّقوها في نشر اللغة في أجزاء كبيرة من آسيا وأفريقيا وأوربا .

أمّا منهج البحث , فقائم على ربط عملية تعليم اللغة العربية , بما ظلّ يلابسها قديماً وحديثاً من معطيات دينية وتاريخية واجتماعية وجغرافية , ليدعو في ضوء ذلك إلى اختيار أنجع المناهج وأقوم الطرق لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها .

ومن ناحية ثانية , فإن الدراسة , تبيّن مدى نجاعة تدريس القرآن في كلّيات الآداب وأقسام اللغة باعتباره نصاً إعجازياً يمثل أكمل صورة للأسلوب العربي , وأحسن وسيلة للتعبير بلسان عربي مبين , بحيث أن المفسّرين للقرآن تبنّوا مناهج قيّمة رائدة في شرح معاني القرآن وبيان إعجازه , وهي مناهج ما فتئت تساير أحدث المناهج في مجال البحث اللغوي , والدراسات الأدبية .

توطئة

سيظل التعليم ـ باعتباره العامل الأساسي في تطوّر السلوك الإنساني ـ المقياس الصادق لمدى تطوّر الأمم والأفراد في مختلف المجالات , لذلك يعمل الباحثون والمفكرون على تحقيق التقدم والتطوّر(2)

(( في تهيئة الأجيال الجديدة لمتطلبات حياتها المقبلة )) بفضل ما يهيئونه لها من معارف وخبرات وفق مذهب كلّ أمّة وفلسفتها في الحياة .

فعندما كان السباق على أشدّه بين الكتلتين , الشرقية والغربية , حول التسلّح وغزو الفضاء , كان أوّل إجراء قام به أعضاء الكونجرس الأمريكي في الستينات , هو الاهتمام  ببرامج التربية والتعليم في المدارس والجامعات , وكأنّهم آمنوا ـ وهم يقومون بهذا الإجراء ـ أن الأبحاث العلمية , والإنجازات المختبرية والصناعية الرائدة , ما هي إلاّ ثمرة لجهود تربوية طويلة وأعمال مخطط لها تهدف إلى إعداد الإنسان الإعداد اللازم لمتطلّبات مجتمعه وعصره.

وفي تقرير أعدّه أحد الباحثين بعد زيارة قام بها إلى اليابان , أورد مقارنة بين تأثير كلّ من الثقافتين  الأمريكية واليابانية على الإنجاز الإبداعي , انتهى فيه إلى أنّ هناك 115 مليوناً متفوّقاً  في الإنجاز , هم كلّ سكّان اليابان , وأنّ سكان الولايات المتّحدة بعيدون جداً عن هذا المستوى , وكشف التقرير (3)  أن السبب يعود إلى المناخ الثقافي بكل مظاهره من تربية , وتعليم , وتقاليد ... الخ .

بهذه الأهمية التي يوليها عالمنا المعاصر للعملية التربوية نرقى إلى الدرجة الرفيعة التي يضع فيها الإسلام العلم والتعليم والعلماء ( وأقول ((نرقى)) لأن نظرة الإسلام إلى قيمة الإنسان المتعلّم لا تدانيها نظرة أخرى ). والأهمية التي يكتسبها التعليم في الإسلام , نابعة من المكانة المعتبرة الّتي يتمتّع بها الإنسان في الإسلام , وبالمهمّة الجليلة التي أنيطت به , فهو الكائن الوحيد المسؤول المكلّف في هذه الأرض لأن الله أودع فيه كلّ الصفات التي تقرّبه من الكمال إذا أراد ذلك .

يقول العقّاد : مكان الإنسان في القرآن الكريم , هو أشرف مكان له في ميزان العقيدة , وفي ميزان الفكر , وفي ميزان الخليقة التي توزن بها طبائع الكائن بين عامّة الكائنات ... إلى أن يقول في خلاصة مؤداها : هو كائن أصوب في التعريف من قول القائلين : الكائن الناطق , لأن الكائن الناطق ليس بشيء , إن لم يكن أهلاً لأمانة التكليف(4)  , والتكليف عند العارفين , قائم على أركان أهمّها : التبليغ والعلم والعمل.

ويقول سيد قطب في شرح قوله تعالى :

 (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)(5) .

يقول في شرح هذه الآيات :

(( وإذن فهي المشيئة العُليا , تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض وتطلق يده , وتكل إليه إبراز مشيئته في الخلق والإبداع والتكوين والتحليل والتركيب والتحوير, والتبديل ... إلى أن يقول : وإذن فهي منزلة عظيمة منزلة هذا الإنسان في هذا الوجود وتتبدى القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي في الإعلان العلوي الجليل , في الملأ الأعلى الكريم أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض , كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له (6)  , وفي القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة لَفَتات تربوية وتعليمية توجّه الإنسان إلى العلم والمعرفة والإطّلاع على كلّ ما يحيط به من أشياء وأحياء وتكفي للبرهنة على اهتمام القرآن بالعلم والتعلم والحث عليه أن يكون الأمر بالقراءة هو أوّل كلمة توجّه من الأعلى إلى رسول الله إلى البشرية , وهاديها إلى سبيل الاستقامة والمعرفة .

والآيات القرآنية التي تدعو إلى العلوم وترفع من شأن العلم والعلماء من الكثرة والتعدّد في السياقات بحيث نجترئ بذكر بعضها ونحيل القارئ على البحث في الآيات الأخرى وسوف يجد معاني العلم والقراءة والبيان والفقه والذكر مثبتة في كل أجزاء المصحف الكريم , ومن تلك الآيات , قوله تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (7) .

وقوله تعالى : (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (8) .

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) (9) .

ومن الأحاديث النبوية الشريفة الداعية إلى العلم , قوله(ص): (( أفضل الصدقة أن يتعلّم المرء المسلم علماً ثمّ يعلّمه أخاه المسلم )) (10) رواه ابن ماجه .

وفي حديث أخرجه الترمذي : قال رسول الله(ص): ((من خرج في طلب العلم , فهو في سبيل الله حتى يرجع )) (11) .

ولا نريد أن نسترسل في هذا المجال حتى لا يصرفنا عن موضوعنا الأصلي , ولكنّا نودّ أن يستقرّ في أذهان الناس أن هذه التوجيهات والنظرات القرآنية والنبويّة , دفعت أولي الأمر إلى الإهتمام بأمور التربية والتعليم وأدركوا ـ في تلك الفترة المبكّرة من تاريخ الإسلام ـ أن التربية قائمة على التكامل الذي يجمع بين المادة والروح , لأن الشخصية الإنسانية لا تتكامل إلاّ بالجمع بين جوانبها الروحية والعقلية . (( وقد أعطى هذا الإيمان بالتكامل , طابعاً خاصاً للعلماء العرب والمسلمين ,وهو تبريزهم في مختلف العلوم , فكان منهم من جمع بين الفلسفة والعلم , والرياضيات والكيمياء , والأدب والفنون وكانت ظاهرة التوفيق بين الفلسفة والدين وبين الحكمة والشريعة من أبرز ظواهر التكامل في سبيل تحقيق الإنسجام بين معطيات العقل ومعطيات العقيدة )) (12) .

ولقد كان من نتائج هذا التداخل والتكامل في العلوم أن أصبح التخصص عندهم لا يعني جهلهم بالعلوم الأخرى(13) .

ولقد صاغ عبد الملك بن مروان كلّ شروط التربية : العقلية والجسدية والروحية والأخلاقية حيث جاء في وصيته لمعلم ابنه :

(( أنْ علّمهم الصدق كما تعلّمهم القرآن , وجنّبهم الحشم , فإنهم لهم مفسدة وأحف شعورهم تغلظ رقابهم , وأطعمهم اللحم يقووا , وعلمهم الشعر يجدوا وينجدوا ومرهم أن يستاكوا عرضاً , ويمصوا الماء مصًّا , ولا يعبّوه عباً , وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب , فليكن ذلك في سقر لا يعلم به أحد من الحاشية فيهونوا عليه )) (14) .

ولقد تبلورت هذه النظرات التربوية على يد مفكري الإسلام في القرون الأولى , حيث يضع الإمام الغزالي المعلّم في أعلى المراتب , لأنه القيم على تزكية النفس وتهذيبها , وتقرّبها من الله عز وجلّ , فالمعلّم (( متصرّف في قلوب البشر ونفوسهم , وأشرف موجود على الأرض , من جنس الإنس, وأشرف جزء من جوهر الإنسان قلبه , والمعلّم مشتغل بتكميله , وتحليته وتطهيره , وسياقته إلى القرب من الله عز وجل , فتعلّم العلم من وجه عبادة الله , ومن وجه خلافة الله تعالى , وهو من أجل خلافة الله تعالى)) (15) .

ولم تقتصر أماكن التعلّم على المساجد والجوامع والمدارس بل تعدّتها إلى قصور الخلفاء والأمراء وإلى بيوت العلماء وحوانيت الوراقين وأماكن العلاج من بيمارستانات ومستشفيات(16)

(( إن هذه الصيغة الإسلامية التربوية التي يقوم فيها الفرد بدور المعلّم والمتعلّم من خلال كلّ مؤسسات المجتمع , هي الصيغة التي تسعى للوصول إليها أرقى النظم التربوية المعاصرة بقصد تحقيق ما نسمّيه المجتمع المتعلّم))(17) .

كما ظلّ التعليم مفتوحاً لكلّ من يجد في نفسه الكفاءة والرغبة ولم يكن للدولة أيّ تدخّل للحدّ من حرية المؤسسات التعليمية في بسط مقرّراتها طوال العصور الإسلامية الأولى(18) .

ويتبدّى من مجمل آراء مفكّري الإسلام , أنّهم كتنوا على جانب عظيم من العلم لكثير من القضايا التربوية والبيداغوجية , مما يسهل على الباحث المختص تبرير النهضة التي عرفها العالم الإسلامي في مختلف المجالات الفكرية والعلمية والمعرفية .إن من يطّلع على الآراء التربوية المتقدّمة لإخوان الصفا(19) ومسكويه أحمد بن محمد بن يعقوب في (( تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق )) (20) والغزالي في الاحياء(21) , وابن سحنون في كتاب آداب المعلّمين (22) , وابن خلدون في المقدمة وغيرهم ليدرك أن علوم التربية الحديثة مدينة لهؤلاء العلماء الأفذاذ في جملة من القضايا التي أثارتها وعالجتها .

ـــــــــــــــــــــ

(1) مدير المعهد الوطني العالي/ وهران ـ الجزائر.

(2) أنظر حمانة البخاري : التعلّم عند الغزالي ص6. المؤسسة الوطنية للكتاب 1987.

ANGELA MEDICI :L’éducation nouvelle;P.U.F.1972;P.29.

(3) انظر مقالة : القرون في الأصالة والطلاقة لدى مجموعتين من طلاّب الجامعة المصريين والكويتيين د/ مصري عبد الحميد ود/ حسن أحمد عيسى ـ المجلة التربوية ـ المجلد الأول , العدد الثالث1984.

(4) عبّاس محمود العقّاد : الإنسان في القرآن ص : 16 وما بعدها . دار النهضة مصر ـ القاهرة.

(5) البقرة : الآيات 30 إلى 34 .

(6)  سيد قطب : في ظلال القرآن 1/56 , دار الشروق وما بعدها .

(7)  ناظر : الآية 28 .

(8)  المجادلة : الآية 11 .

(9) الرعد : الآية 91 .

(10)   في مقدمة كتاب السنن , الباب ال: 20.

(11)  في مقدمة كتاب العلم , الباب الثاني .

(12)  الثقافة العربية .

(13)  مقالة(( بين فقه النحاة ونحو الفقهاء )) , لكاتب هذا البحث , مجلة المنهل السعودية العدد .

(14)  ابن قتيبة : عيون الأخبار , المؤسسة العامة للنشر والتوزيع , القاهرة , ص 167.

(15) إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي 1/23 , دار الشعب , القاهرة.ب.د.ت ,ولقد خصص كتاب (( العلم )) في مقدمة الجزء الأول لفضل العلم والتعليم والعلماء .

(16)  مقالة (( نظرية التربية المستمرّة وتطبيقاتها في التربية الإسلامية )) الدكتور نور الدين محمد عبد الجدار , مجلة رسالة الخليج العربي , العدد 47 ,1993 .

(17)  مجلة رسالة الخليج العربي ص37 وما بعدها , يصدرها مكتب التربية العربي لدول الخليج , الرياض , المملكة العربية السعودية .

(18)   د/ مروان سليم أبو حويج ـ أصالة التثقيف التربوي الإسلامي في الفكر الأندلسي , ص 321 ـ الدار الجامعية ـ الكويت ,1987

(19)   رسائل إخوان الصفا ج 4 ص 114 وما بعدها , دار صادر ـ بيروت ـ 1957.

(20)  مسكويه ( أحمد بن محمد بن يعقوب ) ـ تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ـ تحقيق قسطنطين رزيق ـ المقالة الثانية , الجامعة الأمريكية , بيروت 1966.

(21)  إحياء علوم الدين للإمام الغزالي . سبق وأن أشرنا إليه في الإحالة 14.

(22)  ابن سحنون : آداب المعلّمين , تحقيق محمود عبد المولى ـ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ـ الجزائر , 1969.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=384
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 02 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24