• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : القرآن وثقافة الاختلاف .

القرآن وثقافة الاختلاف

السيد عبدالله العلي

عندما يقرأ الإنسان المسلم الواعي قوله سبحانه وتعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(1)، يقف على حقيقة مفادها أن الدين الإسلامي أقر بحق الاختلاف بين البشر، وقبل التعددية الدينية.

وبنظرة فاحصة إلى العديد من الآيات التي تشرع لحق البشر في الاختلاف باعتبار أن هذا الاختلاف مشيئة إلهية سابقة ومرتبطة بعملية خلق الجنس البشري، وأنه هو الغاية من وجودهم، ولذلك فإن هذا الاختلاف سيبقى بقاء الإنسان في هذه الأرض، يقول سبحانه وتعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{119}}(2)، بل إن القرآن الكريم جعل من الاختلاف الكوني والطبيعي والإنساني «نعمة» و«مزّية» قد منّ الله على عباده بها يقول سبحانه وتعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}(3)، والقاعدة الإسلامية كما حددها الرسول الأعظم صلى الله عليهم وآله هي أن: لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ؛ وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية، فهو اختلاف في إطار الأمة الإنسانية الواحدة، يحتِّم احترام الآخر كما هو على الصورة التي خلقه الله عليها.

فإذا كان احترام الآخر كما هو - لونًا ولسانًا - يشكِّل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الإسلام فإن احترامه كما هو - عقيدة وإيمانًا- هو احترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقاعدة عدم الإكراه في الدين، ذلك أنه مع اختلاف الألسن والألوان كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج ؛ وهو ما أكَّده القرآن الكريم بقوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(4)، ويؤكد القرآن في آية أخرى أن الاختلاف وسيلة للارتقاء والتجدد والتعارف الحضاري بقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(5).

إن فعل التعارف مع الآخر يفرض جملة مسلمات تسبق عملية التعارف , وأهم تلك المسلمات الاعتراف باختلاف الآخر معنا , الاعتراف بأن الآخر - أيا كان - يحمل تجربة إنسانية مختلفة عنا , تبعاً لاختلاف الزمان والمكان والبيئة والمكونات الثقافية لكل مجتمع من المجتمعات.

إننا لا نتعارف مع غيرنا لكي نتعرف على أشكالهم وألوانهم ومكونات أجسادهم, فهم بشر مثلنا, إنما نتعرف على الآخرين في تنوعهم الفكري والثقافي والحضاري والصناعي والسلوكي...، فلكي يتم التعارف بين الناس , عليهم أولا التسليم بخصوصية كل منهم , وبأن لكل إنسان حق الاختلاف وحق التعبير عن ذلك الاختلاف , وإبراز ذلك الاختلاف أيضا شريطة أن لا يضر ذلك بحقوق الآخرين , وإنما يضمن في المقابل حرية الآخرين في التعبير عن هويتهم وخصوصياتهم بشكل سلمي بعيد عن العنف والعنف المضاد.

إن الاختلاف بحسب طرح الآية الكريمة هو الأصل والهدف الذي لأجله جعل الله الناس شعوبا وقبائل، وبالتالي فالاختلاف حالة حضارية ضرورية لتقدم أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، بل إن قوة أي مجتمع تكمن في قدرة أفراده في التعبير عن آرائهم بكل حرية ودون أدنى خوف , لأنه وبكل بساطة لا يستطيع أحد أن يدعي امتلاك الحقيقة لوحده , فالحقيقة يتشارك الجميع كنتيجة لاختلافهم في الوصول إليها، وما أروع ما أشار إليه القرآن الكريم على لسان نبي الإسلام صلى الله عليه وآله {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(6).

إذاً بما أن القرآن الكريم جعل مسألة الاختلاف في وجهات النظر أمر فطري وطبيعي، فليس غريباً اختلاف البشر في الأفكار والتصورات والمعتقدات ولذلك قدم القرآن الكريم نماذج ميز فيها بين معالم وآثار الاختلاف السلبية والايجابية، وأكد على خصائص أساسية اعتبرها دعائم ترسخ الاختلاف الايجابي وتحوله إلى تفاعل ثقافي ينمي ويثري فكر الجماعة ويوسع مداركها، ولم يكتف القرآن بعرض نماذج ومشاهد للمحاورات المفتوحة، بل قدم مناهج وآداب تنظم وتضبط عملية الاختلاف لترفع مستوى التحاور بين جميع الأطراف وتبني عقلية متوازنة تميز بين محاور الوحدة الإنسانية، وبين مواضع اختلافاتها، فلا تنفي أو تلغي تلك الاختلافات وإنما توظفها كدليل على صحة وقوة الفرد والمجتمع.

ولقد جاءت التعاليم القرآنية تؤكد على أهمية بناء شخصية المخالف أو المتحاور على أسس قيمية تبتغي الحق والعدل وتقوم على أساس الرحمة لا القسوة فرسم القرآن الكريم منهجاً في التعامل يجب أن يتحلى به المخالف والمتحاور وبين إيجابياته و سلبيات المنهج الآخر حين خاطب سبحانه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بالقول {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(7)، وهكذا فأساس منهج التخاطب في القرآن الرحمة، ثم تهيأ وتدرب النفس على العفو والغفران.

إن من أهداف الحوار تعريف الآخر على وجهة نظر لا يعرفها، ومحاولة إقناعه بالتي هي أحسن{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(8) وهو أمرٌ يشكِّل في حدِّ ذاته أحد أهم عناصر الاحتكاك الفكري والتكامل الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}(9) ومن دون ذلك يركد الذهن ويُفقَد التعطشُ إلى المعرفة، وتتحولُ مساحاتُ الفكر إلى بحيرات آسنة.

والحوار يتطلب أولاً وقبل كلِّ شيء الاعتراف بوجود الآخر المختلف، واحترام حقِّه ليس في تبنِّي رأي أو موقف أو اجتهاد مختلف فحسب، بل احترام حقِّه في الدفاع عن هذا الرأي أو الموقف أو الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به.

لذا أرسى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في المدينة المنوَّرة قاعدة - لإقامة نَسَقٍ تعاوني بين فئات الناس من مؤمنين وأهل كتاب في أمة واحدة - نشر الدعوة مع احتضان الاختلاف، فمن مقومات الحضارة الإسلامية احترام الآخر والانفتاح عليه والتكامل معه، وليس تجاهله أو إلغاؤه أو تذويبه.

وتأكيدًا لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن إتباع أساليب السُّفهاء ومجاراتهم في السبِّ والتسفيه لمعتقدات الآخر {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}(10) ولابد لكي يبدأ الحوار أن يمتلك أطرافُه حرية الحركة الفكرية التي ترافقها ثقةُ الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا ينسحق أمام الآخر لما يحس فيه من العظمة والقوة التي يمتلكها الآخر، فتتضاءل إزاء ذلك ثقتُه بنفسه، وبالتالي بفكره وقابليته لأن يكون طرفًا للحوار، فيتجمد ويتحول إلى صدى للأفكار التي يتلقَّاها من الآخر.

وقد ذكر خبراء التنمية الذاتية عدة نصائح تمكن الإنسان من الحوار الفعّال مع الآخر ويمكن أن يصل بها للقناعات السليمة مهما اختلفت وجهات النظر:

- إعطاء المتكلم الفرصة لعرض فكرته بشكل كامل وعدم مقاطعته، لأن المقاطعة سوف  تحفزه نفسياً على عدم الاستماع إليك.

- طلب إعادة بعض الأفكار التي طرحها المتكلم أثناء الحوار أو الاستفسار عنها سوف يشعره بأنك تستمع إليه وتهتم بكلامه ووجهة نظره، وهذا يقلل الحافز العدائي لديه ويجعله يشعر بأنك عادل.

- التوقف قليلاً قبل الإجابة على الأفكار التي طرحها المتكلم أو نقدها، يعطي المتكلم فكرة بأنك مهتم بما قاله ولست متحفزاً للهجوم.

- عدم الإصرار بالفوز بنسبة 100%  في الحوار، لأن ذلك سوف يعني أن الطرف الآخر مخطئ تماماً في كل ما قاله.

- عرض الفكرة بطريقة معتدلة، فالشواهد العلمية أثبتت أن الحقائق التي تعرض بهدوء أشد أثراً في إقناع الآخرين مما يفعله التهديد والانفعال في الكلام.

- عرض الفكرة من خلال طرف آخر، بمعنى استحضار دليل على صحة الفكرة من خلال ذكر رأي أشخاص آخرين، لأن الطرف الآخر سيضيق وسيشكك في مصداقية كلام محاوره.

- إن الأشخاص الماهرين والذين لديهم موهبة النقاش هم الذين يعرفون كيف يجعلون الطرف الآخر يقر بوجهة نظرهم دون أن يشعر بالحرج أو الإهانة ويتركون له مخرجاً لطيفا من موقفه.

- أن أي موضوع له عدة زوايا ولا يمكن لأي إنسان مهما أوتي من علم وإدراك أن يدعي بأنه يمكنه الإحاطة بموضوع واحد من كل زواياه.

- احترام الآخر وهذه من الأوليات الأخلاقية في التعامل وهي ليست مرتبطة بحالة الاختلاف فقط، وإنما هي من حقوق الإنسان على أخيه الإنسان، ولكن تظهر أهميتها والحاجة إليها عند الاختلاف ولابد لكل طرف أن يراعي الآخر في هذه الجهة لأن القرآن يؤكد عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(11)، وتفرضها سيرة الرسول الأعظم وأهل البيت عليهم السلام في التعامل مع الآخرين، وكان لهذا البعد في حياتهم الأثر الكبير في انتقال الآخرين من دائرة العداوة للرسول وأهل بيته عليهم السلام إلى دائرة الحب والولاء.

- عدم محاكمة النيّات والحكم عليها جزافاً من خلال مقدمات أو مسلمات معينة فإنها من أخطر الأمراض التي تسبب الخلاف والتشرذم، وكم هي المفردات والقضايا التي استصدرنا فيها حكماً على الآخر بطريقة غير منضبطة ولا علمية مع أن القرآن ينهى عن هذا الخلق الذميم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(12).

إن الاختلاف بين البشر في الأفكار والآراء والتوجهات والمواقف يعود لمنشأين:

الأول: النظر العلمي وهو مقبول شرعاً لأنه أمر طبيعي خصوصاً بين أهل المعرفة والنظر والرأي من العلماء والمفكرين، وبهذا النوع من الاختلاف تتقدم العلوم وتنشأ الحضارات، وتنمو المدارس الفكرية والمذاهب الفلسفية وغيرها، وفي ظله يصبح من المألوف أن توجد المذاهب المختلفة والمجتمع الذي لا تنمو فيه هذه الاختلافات هو مجتمع سقيم.

الثاني: حب الذات والمصالح،وهذا النوع من الاختلاف ينشأ عادة بسبب تضارب المصلحة الشخصية أو مصلحة الجهة أو المدرسة أو الفكرة مع المصلحة القيمية أو العامة، ومن هنا تنشأ التمزقات والعداوات والفرقة وتترتب عليه الآثار السيئة والسلبية الخطيرة.

أن المصابين بعقدة النقص هم الأكثر علواً في أصواتهم، وهم الأكثر ادعاءً بامتلاك الحكمة والحقيقة المطلقة، فهم ينتمون إلى ثقافة رفض الآخر الذي وضع أساسها إبليس {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}(13)، هذه الثقافة التي من أهم سماتها:

- تربط الخير غالبا بمقومات غير قابلة للكسب حتى تحصرها في "الأنا" وتحرم منها الآخر، ففي مثال إبليس كان هناك ربط الفضل بالتفاضل المزعوم بين الطين والنار، وبذلك ربط الخيرية في ذاته بأمر ليس مكتسباً وليس مدار اختيار وهو المادة التي خلق منها وتلك إرادة الله التي لا فضل له فيها لا هو ولا آدم، فلا هو اختار أن يكون مخلوقاً من نار ولا آدم اختار أن يكون مخلوقاً من طين، وهنا يأتي "الكبر"، فمن كان أفضل بسبب ما خلق منه فليس به حاجة لأن يفعل الخير أو يتجنب الشر، لأن الخيرية هي في أصل مادته، وفي الثقافات المعاصرة تربط ثقافة رفض الآخر بين الخيرية والانتماء لجنس معين أو ثقافة بعينها وربما لون بشرة معين.

- ثقافة كراهية تهتم بتحطيم الآخر بالإضلال أو الإبادة أو القتل أكثر مما تهتم بنجاة الذات.

- أخطر سمات ثقافة رفض الآخر انتهاك محرماته وصولاً إلى استباحته أحياناً لمجرد أنه الآخر.

- أحيانا تقع جريمة استباحة الآخر لكونه حسب تصور من يستبيحه سبب إقصائه عن موقع الأفضلية حيث يعجز الرافض لقبول الآخر عن حيازة موقع الأفضل بجهده واكتسابه فيتصور أن "التخلص" من "الآخر" يحقق له ذلك {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(14).

- ثقافة حسد تتمنى زوال ما عند الآخر وتكره أن يحرز فضلا أو خيراً بجهده أو باصطفاء إلهي وفضل من الله لا دخل للإنسان فيه {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}(15).

- الآخر الذي يقع عليه الرفض والقهر قد يكون رمز الإيمان الذي يحاصره الكفر أو الفطرة السوية، فيقع تحت قهر التضييق من التيار العام السائد {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}(16).

- المريض برفض الآخر لا يتحرج من الإساءة إلى أية قيمة مهما كانت قداستها، فإخوة يوسف كانوا يصفون أباهم عليه السلام بالضلال {قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ}(17)، ووصفوا أخاهم بالسارق{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}(18).

والخلاصة من كل ما تقدم أن للإسلام تصوراً شاملاً للاختلاف في مستواه الإنساني العام، يمكن استجلاءه من خلال كليات الإسلام ومبادئه العامة، والتي من أهمها:

- أن الاختلاف سنة كونية من سنن الله عز وجل في الوجود، وسر من أسرار الحياة التي لا يمكن أن تتصور بدونها.

- أن الاختلاف جزء من الابتلاء الإلهي للإنسان، سواء أكان ذلك من خلال ما أودعه الله في طبائع الناس من اختلاف القدرات والملكات وما منحهم من حرية الاختيار، أم من خلال ما نتج عن ذلك من اختلاف الملل والنحل ومناهج النظر والاستدلال والمعارف والعلوم.

- أن حق الاختلاف مكفول للناس أجمعين ما لم يصدر عنهم بغي بأي صورة من الصور. والأصل في ذلك حرية الدين التي أقرها الله عز وجل للناس أجمعين.

- أن المعيار لاحترام الرأي المخالف هو التجرد من الأهواء وبذل الوسع في طلب الحق واجتناب البغي بكل صوره.

وما دام اختلاف الرأي ظاهرة طبيعية في حياة البشر، فلا يصح أن تكون سبباً للتعادي والتخاصم، بل ينبغي أن تستثمر لصالح تكامل المعرفة، واكتشاف الحقيقة، وإثراء الساحة الثقافية، وأفضل خدمة تقدمها للرأي الذي تؤمن به، حسن تعاملك مع الآخرين، لتقدم بسلوكك الطيب أنموذجاً مقبولاً لأفكارك، ولتكون بسيرتك الصالحة داعية لآرائك.

إن خلق الإنسان ومجيئه إلى هذا الكون مزود بالقدرات العقلية والنفسية والبدنية التي تؤهله لحرية الاختيار، تثبت أن حق الاختلاف حقاً إنسانياً مقرراً فلماذا يضيق به البعض ولماذا يكرر مقولة «الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية» ثم تجده يحول الخلاف إلى بغضاء وكراهية؟

جميل أن نختلف , والأجمل من ذلك أن نحترم اختلافنا , والأكثر جمالاً أن ندافع عن حرية الآخرين في الاختلاف، لنبدأ في تأسيس ثقافة الاختلاف تلك الثقافة القرآنية العظيمة والتي ما فتأت آيات القرآن تذكرنا بها في كل حين، وفي سيرة نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ما يؤكد على ذلك، وعلى النصح والإرشاد وليس العكس كما هو حال البعض الذين يحولون الاختلاف إلى خلاف، وتلك الممارسات الخاطئة في هذا الاتجاه والتي يتوسل بها البعض للنيل من الآخر بغية إسقاطه وإقصائه هي دليل على قصر نظره وعجزه أيضاً وعدم قدرته على التكيّف مع الآخر، وفقدان ثقته بمنهجه وطريقته في العمل.

وليعلم هواة الطعن والتجريح والتقسيط والتكفير والتفسيق، أنهم بعيدون كل البعد عن الشرع المقدس، وعن القيم الأخلاقية الثابتة، وعن الأطر الإنسانية المتفق عليها، إنهم بأساليب التسقيط والتحقير ضد الرأي المخالف يمارسون سياسة سيئة وإن كانوا يتمسحون بالإسلام ظاهراً، لأن الإسلام لا يقر مثل هذه الأساليب الشيطانية مطلقاً.

ـــــــــــــــــــــــــ

1 : سورة يونس: 99.

2 : سورة هود: 118 – 119.

3 : سورة الروم: 22.

4 : سورة المائدة: 48.

5 : سورة الحجرات: 13.

6 : سورة سبأ: 24.

7 : سورة آل عمران: 159.

8 : سورة النحل: 125.

9 : سورة البقرة: 251.

10: سورة الأنعام: 108.

11: سورة الحجرات: 11.

12: سورة الحجرات: 12.

13: سورة الأعراف: 12.

14: سورة المائدة: 30.

15: سورة البقرة: 247.

16: سورة الشعراء: 167.

17: سورة يوسف: 95.

18: سورة يوسف: 77.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=367
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 01 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24