• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : عبادة اللّه وعبادة الطاغوت في القرآن الكريم ( القسم الأول) .

عبادة اللّه وعبادة الطاغوت في القرآن الكريم ( القسم الأول)

الشيخ عيسى أحمد قاسم (البحرين)

عبادتان في النّاس لهما من المكث في الأرض ما كان للانسان من مكث تقريباً وما يكون; عبادة اللّه، وعبادة الطاغوت. والانسان فعليّة; فكراً وضميراً وإرادة وعلاقات اجتماعية، وأوضاعاً خاصّة وعامّة، وصيغةً حضاريةً، صورةٌ من عطاء هذه أو تلك العبادة ومقتضياتها. فعندئذ تجده إما صورة وضيئة مضيئة; تزخر بإشعاعات اللّه، وإمّا صورة قاتمة كالحة; تغمرها ظلمات الطاغوت.

والطاغوت كثير متنوّع، تلقاه في كل معبود من دون اللّه، من صنم حجر، أو انسان فرد متفرعن، أو طبقة اجتماعيّة مستكبرة، أو حزب مستعل. وتلقاه في شعار قومي أو وطني يستقطب من الناس ولاءهم، وفي كل شيطان من انس أو جن إليه يصغى ومنه يؤخذ، سخطه المرهوب ورضاه المطلوب. فحيث تكون الطاعة معصيةً للّه، إعظاماً لغيره في نفسه، واعترافاً بحق الخضوع إليه في ذاته، مستقلاًّ عن الملك الحق; يكون المطاع طاغوتاً، ويكون المطيع مشركاً، وهو يعطي ما للّه غير اللّه من حق الطاعة إليه مستقلاً، وفي قبال طاعته سبحانه كذلك.

في قوله تعالى: (وَالذّينَ اجْتَنَبُوا الطّاغوتَ أنْ يَعْبُدوها...) قال  أبو عبداللّه(عليه السلام)مخاطبا لأبي بصير: أنتم هم، ومن أطاع جباراً فقد عبده(1).

انظر إلى كلمة جبار وأدائها الخاص في التركيب. فطاعته التي عدت شركاً هي طاعته في طغيانه وتجاوزه عن حدود اللّه ودائرة عبوديته، وليست طاعته بما هو ولي اللّه وعبده الذي لا يتجاوز حدوده، ولا يتخطى أحكامه.

والطاغوتية أكبر مظهر للتجاوز المنفلت، وأيُّ تجاوز أكبر وأخطر من أن يوهمَ المملوك ملكاً طلقاً حقيقة وواقعاً، بأنه مطلق وسيد شامل بحق، ثم يستجيب لوهمه، ويستجيب غيره له، فيحتمي بالفقر على أنه الغنى، وبالجهل على أنه العلم، وبالعدم على أنه الوجود؟!

والعبادة مرآة مستوى من الرؤية والنفسيّة والسلوك الذي يكون وراء الرضا من العابد بالمعبود قبل، ويكون من مردود عبادته له بعد. فحيث يكون المعبود لفرد أو أمة كبيراً حقاً وجليلاً حقّاً ـ وليس غير اللّه كذلك في ذاته على الاطلاق ـ يكشف ذلك عن سموّ رؤية، وعلوّ همة، وطهر نفس; هو ما شدّ العابد إلى المعبود الكبير، وتجاوز به كل الصغار، وكل الموهومين، وكل المحدودين. وكلما كان المعبود طاغوتاً ـ والطاغوت، حيث ينصب نفسه معبوداً، عبد من عبيد الشهوة والهوى، وأسير من أسراء العقد والأزمات الذاتية ـ يكون العابد ذلك القصيرَ في رؤيته، الوضيع في نفسيته، السقيم في ذاته.

هذه كلمة يأتي الموضوع بعدها في نقاط تستهدي الوحي، وتستضيء النص; الوحي الصادق والنص الناطق:

أولاً: مقابلات قرآنية

تقابل آيات من الذكر الحكيم ـ وهي تنتظم طوائف ـ بين الايمان باللّه والايمان بالطاغوت، والعبادة للّه والعبادة للطاغوت. كما يأتي فيها التقابل على مستوى التحاكم والتضحية بالحياة. وهي تعطي من خلال ذلك صورة معبّرة عن الظاهرة الطاغوتية في الأرض، ومدى ما أضلَّت وتضل، ودمَّرت وتدمِّر، وعن عمق المعركة بين التوحيد والشرك وشموليتها، وضناها ورهقها، حتى يكون دخول المعركة عن بصيرة وحزم وطول نفس.

أ ـ الايمان باللّه والايمان بالطاغوت:

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوثْقى لا انْفِصامَ لَها)(2).

(ألَمْ تَرَ إلى الّذين أوتُوا نَصيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ)(3).

حين يصل خداع الطاغوت والانخداع به إلى حدّ يحل الايمان به محل الايمان باللّه، نكون أمام كارثة انسانية تفرز كلّ الكوارث. معناه أن هذا الانسان المؤمن بالطاغوت، فقد رؤيته النقيّة التي توفر عليها في أصل خلقته، وخسر بصيرته التي كانت له من عمق إنسانيته; فانتهى لا يفرّق بين كبير وصغير، بين كامل وناقص، بل يرى الشيء غيره; فيقع الكبير في نفسه صغيراً، والصغير كبيراً، والواجد فاقداً والفاقد واجدا.

حاصل هذا العمى أن الطاغوت الضعيف المهزول صار يؤمن به هذا المخدوع له ربّاً ومنتهى وملاذا، ويربط به حياته ووجوده، حاضره ومستقبله، ويرى فيه على قبحه أجمل جميل، وعلى فقره أغنى غني.

وهنا قضيتان تثير الأولى اُولاهما، والثانية الثانية:

الاستمساك بالعروة الوثقى، عروة الفوز والنجاة، لا يتم إلاّ بأمرين مجتمعين:

الكفر بالطاغوت، والايمان باللّه، ولا يتم حين يكون مع الايمان باللّه إيمان بالطاغوت.

قد يكون واضحاً أنه حيث يكون الايمان مشتركاً لا استمساك نهائياً بالعروة الوثقى، وليس الأمر أنه يوجد استمساك ناقص مهزوز، لأن من يكون الطاغوت شريكاً له ليس هو اللّه تبارك وتعالى، فما آمن به انسان مخدوع مما جعل الطاغوت شريكاً له اله مزوّر قاصر من صنع النفس القاصرة التي وجدت في الطاغوت ما يملأ تطلّعها. وكيف يكون من رأي المخلوق المحدود في مقام الاُلوهية والربوبيّة قد عرف ربّه بمقدار واستمسك به بشيء؟!

ثم كيف يتمّ لنفس أن تستمسك بالعروة الوثقى، وأن تأتي صياغة إنسانية راقية... فكراً قويماً، ضميراً حيّاً، وروحاً مشعاً، هدفاً كبيراً، سلوكاً طاهراً، وهي تأخذ مثلها الأعلى في جانب من واقعها، إن لم يكن كله، من الطاغوت بزيغه وهواه، وغروره ووهمه، برجسه وخبثه؟! وهل تعرف اللّه عزوجل إلاّ نفس عفَّت وشفَّت، وروح طهرت ورقَّت؟! هذه قضية الآية الأولى.

وقضية الآية الثانية أن ممن يؤمن بالجبت والطاغوت جماعة ممن أوتوا نصيباً من الكتاب، ووقفوا على قدر من حقائق الوحي. وهذا يعطي أن الطاغوتيّة لا تستغفل من مستوى دون مستوى، ولا تستهوي من طبقة دون طبقة. بل لها من النّاس الذين يتفاوتون التفاوت الكبير فيما هم عليه من معلومات، ومن غنى في جاه ومال وغير ذلك، صرعى يشتركون في غلبة الهوى والانهزامية أمام الشهوات. ثم من بعد ذلك لا يحميهم من السقوط والخسة والهوان في الذات، والغفلة عن الحق، والتسليم للجهل مال ولا جاه ولا كثرةٌ من معلومات وتدقيقٌ في مطالعة أو نظر.

نعم قد يكون لأحدهم من العلم ما يثقل ظهر الجمل، إلاّ أنه وأمام زوبعة الهوى ليس له من روح التقدير للعلم، وتمثل الحقيقة ما هو بحمل بعوضة.

الحماية من الذوبان أمام الإغراء والإغواء، والوعيد والتهديد، مما يتاح لطاغوت أن يفعله; أمرٌ يتكفل به ـ بعد صحة التمييز ـ سمو النفس، وسلامة القصد، وبعد الهمة، وإلاّ فالفكرة وهي تكبُرُ النفسَ، وتفوق الارادة، ولا يرقى إليها التطلع; أو يكون تطلعاً من مستوى الأحلام العابرة; هذه الفكرة تظل مستوى في الذات، والذات مستوى آخر فيما ترى وتشعر وتريد وتقرر، وفيما تفعل وتترك، وتتقدم وتتأخر.

أن يقيم المرء أمره على العلم، متابعاً له، بانياً مواقفه كلها في ضوئه; مرتبة من مراتب النفس العالية; ليس عندها أن يعلم وأن يكتنز علماً، بل ولا أن يَمْتَلِكَ التحليل والربط والاستنتاج. والأكثر في النّاس أن يؤتوا من قبل أنفسهم، لا أن يكون مأتاهم من قبل أفكارهم

وشبهاتها. وهم لا يؤتون مطلقا من قبل كينونتهم الأولى فيما تستبطنه هذه الكينونة من معرفة، وما تنطوي عليه من قيم. كيف وهي لا تكون أصلاً إلا متعطشة للّه تبارك وتعالى متلهفة للعبِّ من فيوضاته والطاف رحمته؟!

ب ـ عبادة اللّه وعبادة الطاغوت:

(وَلَقَدْ بَعَثْــنا في كُلّ أمّة رسُولاً أن اعْبُــدوا اللّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغوت فَمِنْهُمْ مَن هَدى اللّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقّتْ عَلَيْـهِ الضّــلالةُ)(4).

(وَالّذينَ اجْتَنَبُوا الطّاغوتَ أنْ يَعْبُدُوها وَأنابُوا إلى اللّهِ لَهُمُ البُشْرى فَبَشّرْ عِبادِ الّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أحْسَنَهُ أولئِكَ الّذينَ هَداهُمُ اللّهُ وَاُولئِكَ هُمْ أولو الألْباب)(5).

بعد الانقسام في الايمان يكون الانقسام في العبادة; في المشاعر والمواقف فعلاً أو رد فعل. وفي ضوء انعكاسات العبادة، ومسقطات المعبود الذي تنشد إليه النفس تنبني شخصية العابد في كل أبعادها وأوضاعها داخلا وخارجاً من كل ما يقع من ذلك في دائرة الارادة وما تمتد إليه الحركة الارادية بالتأثير مباشرة وعبر الوسائط من مجمل الذات الانسانية وعلائقها. فإمّا أن يأتي الانسان مردوداً لهذه العبادة أو تلك شخصيّة كبيرة عملاقة، طليقة محلّقة، وإمّا أن تأتي صغيرة حقيرة، حبيسة الطين، أسيرة الشهوة، كثيرة العلل، شديدة العقد.

والآيتان الكريمتان تخصّان الهدى والبشرى ودقة التمييز والانتقاء بطائفة من ثلاث: طائفة عبدت اللّه مخلصة له الدين، مجتنبة

الطاغوت، لا تصغي منه إلى قول، ولا تستجيب إلى أمر ولا نهي دخولاً في طاعته، وتسليماً بأهليته. وطائفتان نصيبهما الضلال، ونهايتهما الخسران; طائفة توجّهت بكلها إلى الطاغوت، وأخلصت وجهها إليه. وطائفة حاولت أن تقسم نفسها بين اللّه عزوجلَّ والطاغوت، وأن تحوز رضا الكامل وهي لا تغضب النّاقص بأن تستجيب لما يقضي به نقصه، ويشير به هواه. وإذا تقدمت خطوة جعلت مواقفها قسمين، قسم للّه حيث لا يستثار الطاغوت، وقسم للطاغوت كلما كان لا يرضيه إلاّ أن يأتي الموقف على ما يشتهيه. وسمينا هذا تقدماً مسامحة وإلاّ فمعبود هذه الطائفة بهذه الصورة هو الطاغوت لأنه هو الذي تطمع فيه وترجوه، وهو الذي تحذره وتخشاه.

ولافت في الآية الأولى من الظاهرة الطاغوتية تغلغلها في تاريخ الأمم، وأنّ تواجدها الفعلي، أو قيام أسباب من أسبابها كان يتطلب من كل رسول في كل اُمة أن يواجهها. لافت أن كانت دعوة الرسل سلام اللّه عليهم، لكل الأمم أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت، وكانت الاجابة البشرية منقسمة (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدى اللّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ). حقّت عليه حيث ابتدأ تلبّسه بها، والاندفاع في طريقها.

أمّا لماذا تتغلغل هذه الظاهرة على انحرافها هذا التغلغل في تاريخ الانسان، وهي التي لا تلتقي وصفاء الفطرة، وشفافية الروح، والرصيد الأول من هدى اللّه تبارك وتعالى في نفس هذا الانسان؟ فهذا ما يأتي تلمس جواب له في مكانه من هذه المطالعة.

ج ـ التحاكم إلى اللّه أو الطاغوت:

(يا أيّها الّذينَ آمَنُوا أطيعُوا اللّه وَأطيعُوا الرّسُولَ وَأولي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيء فَرُدّوهُ إلى اللّهِ وَالرّسولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر)(6).

(ألَمْ تَرَ إلى الّذينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِما اُنْزِلَ إلَيْكَ وَما اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدُونَ أنُ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغوتِ وَقَدْ أُمِروا أنْ يَكْفُرُوا به وَيُريدُ الشّيطانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالاً بَعيداً)(7).

التحاكم إلى الطاغوت ـ قاعدةً ـ اعلان بتزكيته، وشهادة بعلمه وحكمته ونزاهته، وهو تثبيت له، وتركيز لطاغوتيته، واعتراف له بمقام من مقامات الربوبيّة، وحقّ من حقوقها حيث لا تنتهي حاكميته إلى اللّه، بل تقابل حاكميته، والكفر به إنمايجب أن يكون كفراً شاملاً واسقاطه اسقاطا نهائياً. ما يجب أن يجرد من كل مظهر من مظاهر الربوبيّة، وأن يلبس كل ما هو من زي العبوديّة. وما دون ذلك غواية شيطانية، وضلال بعيد.

إنّ من افراد اللّه بالايمان، أن يفرد بالتحاكم إليه، والتقاضي في محكمة شرعه، وعلى يد خلفائه، فما انحصرت الألوهية والربوبيّة إلاّ وانحصر حقّ الحاكمية، وكان الاله والرب والحاكم واحداً لا شريك له، ولا عديل.

ومن ناحية الواقع الأرضي الحاكميتان قائمتان تقتسمان النّاس اقتسام الايمان والعبادة لهم. هذا في الدنيا ومن حيث المساحة التي يمسها التشريع. أمّا في الآخرة فالتفرد بالحاكمية للّه وحده، ويموت كل مظهر من مظاهر الحاكميات الأخرى الكاذبة (مالِكِ يَوْمِ الدّينِ)(8). ذلك يوم ترتفع فيه الحجب عن الموهومين، وتظهر الحاكمية المطلقة للّه وربوبيته والوهيته الحقّة، لا يسترها ساتر عن نفس، ولا يحجبها خداع عن قلب (لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الواحِدِ القَهّار)(9). أما الحاكمية التكوينيّة فهي للّه وحده; كانت ولا تزال، ولن تزال.

د ـ القتال في سبيل اللّه أو في سبيل الطاغوت:

(الّذينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللّهِ وَالّذينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ في سَبيلِ الطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أوْلياءَ الشّيطانِ إنّ كَيْدَ الشّيطانِ كانَ ضَعيفاً)(10).

القتال في سبيل شيء أقصى درجات الولاء له، وأصرح ما يكون من التعبير في الايمان به، والتسليم بعبادته، وهذا المستوى من الفناء في المعبود ونسيان الذات يعطى في غمرة من العقل، وانطماس من الفطرة، وغياب من تقدير المصلحة، ومن وزن الذات من عبدة الطاغوت للطاغوت، وكأنهم لا يرون عجزه وضعفه ومسكنته... لا يرون زيفه وسقوطه وخسته.

وهكذا يسرق الطواغيت من النّاس وعيهم لذواتهم ومعرفتهم بربهم، ويستحوذون بالحيلة والختل، والوعد والوعيد مما اللّه أملك له على الاطلاق على داخلهم، فتكون الاستجابة منهم لهوى الطاغية  كاملة، والاندفاعة في خط رغائبه تامّة (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دونِ اللّهِ أنداداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالّذينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً لِلّهِ)(11).

وهذا التهالك في حب الطاغية، والتفاني في خدمته، والتضحية في سبيله يزيد وهمه بعظمته وهماً، وتخيله لحقّهِ المطلق على النّاس تخيّلا. ويمده بطغيان أكبر واستعلاء أفحش. انظر إلى فرعون الّذي يقول عنه الكتاب الكريم: (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ اَنْ آذَنَ لَكُمْ)(12). إنه يرى لنفسه أنه يملك من السحرة وغيرهم كل شيء حتّى وجدانهم وضميرهم، وليس لهم أن يخفق منهم قلب بفكرة، أو أن ينعقد لهم ضمير على معتقد إلاّ باذنه، وإن لم يكن ذاك فقد أراد أن مماشاتهم قناعتهم عملاً، وبناء موقفهم الخارجي في ضوء ايمانهم أمر يقضي حق ربوبيته وألوهيته وحاكميته لا يكون إلاّ حيث يأذن.

وهذا الشعور الجنوني لهذا الطاغوت السافل كانت من وراء تضخمه وتعاليه مواقف طاعة، وكلمات اعتراف بذل العبودية وافتقار أمام عزة فرعون الموهومة، منها كلمة السحرة أنفسهم قبل ايمانهم الذي مثّل النقلة الهائلة في وجودهم كلّه (فَالْقوا حِبالَهُمْ وَعِصِيّهُمْ وَقالُوا بِعِزّةِ فِرْعَوْنَ إنّا لَنَحْنُ الغالِبُونَ)(13).

تعكس المقابلات القرآنية الأربع صورة لأخطر ظاهرة من ظواهر الانحراف في الأرض، تجدها منبع كل الانحرافات الضخمة في حياة النّاس. ظاهرة الطاغوتية التي يتبعها الانحراف الثقافي والسياسي والتأزم الاجتماعي والاقتصادي، ويدخل منها الخلل والتشوه على التصور والشعور والممارسة في الخارج، وتأخذ بالانسانية بعيداً عن اللّه. وما للانسانية على غير طريق اللّه من دون التشرذم والضياع والأزمات؟! الحياة نائيةً عن اللّه عزّوجل لا تتجاوز الطين، ولا تجد لها قدماً ثابتا ولا وضعاً مستقراً في زلقه.

_____________________

(1) ميزان الحكمة 5 : 543 ، عن نوادر الراوندي 4 : 481.

(2) البقرة: 256.

(3) النساء: 51 .

(4) النحل: 36.

(5) الزمر: 17 ـ 18.

(6) النساء: 59 .

(7) النساء: 60 .

(8) الحمد: 4.

(9) غافر: 16.

(10) النساء: 76.

(11) البقرة: 165.

(12) الشعراء: 49.

(13) الشعراء: 44.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=349
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 01 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16