• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : التفسير التوحيدي (القسم الثاني) .

التفسير التوحيدي (القسم الثاني)

د. حسن الترابي

التفسير الأتم اليوم للقرآن

فالتفسير الأتم اليوم للقرآن ينبغي أن يتوجه بخطابه إلى الإنسان موحداً كلام الله لفظاً ومعنى وسياقاً ووقع تلك الوحدة على وحدة حياة الإنسان بظاهره وباطنه، وعلومه وعقلياته، وشعوره وقلبياته، وحركته، وسعيه، كيفما كان منعزلاً لذاته، او متصلاً بسائرالبشر، وبالوجود المخلوق حوله، وبسيرته الممتدة بذكرى السابق، وظنون اللاحق، ومن عاجلة الدنيا إلى آجلة الآخرة، فأيما تفسير يتخصص بوجه من الوجوه يقصرُ قصوراً بيناًعن خطاب القرآن للإنسان الذي يجتمع فيه كل هذا المتـفرق.

وإذا ابتلي الإنسان بالشتات والاضطراب لعارض أو مستقر من الشرك والكفر والجهل او الشغل والنسيان والرياء، كان له أن يتوب ويجمع أمره في نظر وعمل يوحد الله وبفقه الوحدة في كلام الله المنزل، والخير ـ كذلك ـ في تفسير القرآن أن نتوب به ليصبح اعتباراً بما سلف، وتوحيداً يشرح كتاب الله الواحد للإنسان ليوحد حياته إلى القرآن في كنف الوجود المخلوق الواحد.

فالقرآن، نور وكتاب مبين وآيات من البينات والهدى، وهو مصحف نراه ونمسه مطهرين ونستمسك به، وهو أيضا لغة نتلوه صوتاً ونقرأه ونرتله باللسان ترتيلاً ولكن الكتاب قد يقدس في عرف المسلمين فيغدوا منظوراً ترجى البركة من مجرد وجوده المرئي الملموس، وقد يستكن في ملف أو حجب فلا يفتح ولا يقرأ ولا تشترك الحواس كافة في التعامل معه إلا حاستي النظر واللمس مصحفاً ممسوكاً لا قرآنا مقروءاً يتجاوب فيه اللسان مع النظر. وقد يكون الذي يحفظ القرآن عربياً جاهلاً غافلاً أو أعجمياً لا يكاد يدرك للأصوات العربية معنى. أو يافعاً صغيراً يتلو القرآن ملفوظاً بغير وعي أو فهم.

لكن التجارب الأبلغ مع حديث الله هو أن يُتلى بكل أبعاد الحواس: حاسة اللمس للكتاب تثير عاطفة الحب والتقديس وتعبر ـ كذلك ـ عن اخذ مضمونه بقوة وحاسة السمع التام لأصوات القرآن إذ لا تطرق طبل الأذن فحسب بل تنفذ إلى الوجدان، وحاسة العقل المتفقة مع القلب المنفعل، لا العقل الذي يتأمل في المعاني باردة مجردة. فتلاوة القرآن اتباعه باللسان توقيعاً وتجويداً ثم بالجنان تفقهاً وانفعالاً. وبذلك يوحد الإنسان ظاهره وباطنه مع القرآن والابتلاء أن قد ينفصل الإنسان جملة واحدة عن القرآن أو قد ينفصل فيه لسانه عن جنانه وظاهره عن باطنه، فالقرآن كتاب ملموس وصوت مسموع ومعنىً مفهوم معاً ولا يفسر القرآن من لم يجمع وقعه في يده ولسانه واذنه وفي نفسه.

لغة القرآن في اللغة العربية

القرآن كتاب عربي، واللغة العربية صوته ومعناه، وقد تنزلت حروف العربية في فواتح السور (ألم ـ كهيعص ـ حم ـ عسق ـ) وغير تلك الحروف إشارة إلى أنه مركب من عناصراللغة العربية لفظاً ومن ثم معنىً، والعربية يكاد يبين اليوم ـ في سياق تطور علوم اللسانيات ـ إنها اهم لغات البشر. وقد تكون لغتهم مستقبلاً في الجنة. وحروفها لفظاً كل يشير إلى معنى، وتتصل بعضها إلى بعض لتركب معنى الكلمات، فهي لغة لم ترتق من جذور شتى وأصول متباينة، بل من أصل واحد فلابد لكي نوحد الجهد ونصل الى معاني القرآن ونفسره من تصريف الجذر في كلمات العربية ليتسق المعنى مع تركيب الحروف وحركتها في الكلمة والكلمات وتصريفها نطقاً وتقدير مكانها نحواً ودلالتها وعلاقاتها بياناً وبلاغة وجمالاً، ولفصل الآيات حرفاً وكلمة وجملة ونصل معانيها ودلالاتها بل ويصل كل آية لما يليها من آيات مبنى ومعنى ونصل أول السورة إلى آخرها ونوحد كل القرآن في نسق متسق.

والقرآن لغته واحدة ثم اصطلاحه واحد. فالكلمة في مختلف المواقع من القرآن بتصريفاتها المختلفة ـ ترجع إلى معنىً أصيل واحد، قد يكون واسعاً يتحرك في مدى المعنى حيثما درج السياق، وكما نتبين من كلمة صوبت نحو الحقيقة بمدلولها لا مجازها أو تحركت بالسياق الى كناية أو استعارة فنتبين ورودها في القرآن لنفقه الاصطلاح القرآن في معنى تلك الكلمة مقروءة في السياق. وذلك هو تفسير القرآن لغة بالقرآن الذي جرت عليه بعض التفاسير المعهودة.

خطاب القرآن عبر الزمان والمكان

تنزل القرآن خطاباً في زمان ومكان معين، إذ كان للكلمة مدلول وفق ظلالها الاجتماعية والطبيعية في بيئة التنزيل، ولكن الكلمات القرآنية تتطور في سياق الزمن المتعاقب وتتقدم لغتها كما تتطور كل اللغات الحية فلا تجمد أو تتخلف، فالكلمات قد تتبدل إيحاءاتها ومعانيها فتخبث الكلمة الطيبة وتطيب الكلمة الخبيثة. وقد يكون معنى الكلمة واسعاً ولكنه يتخصص باصطلاح الناس عليها واستعمالهم المحدد لها وقد تنقلب من خصوص إلى عموم وكذلك حال المخاطبين بالقرآن، حيث وحين تختلف بيئتهم وتتطور، لا بيئة اللغة ولكن بيئة الثقافة كلها، وما يعهدون من عرفهم ومصطلحهم اللغوي عندما يتنزل عليهم الحكم، او ما يقع في نفوس الناس بأثر البيئة من حولهم، وذلك كله لابد من استحضاره لبيان عامل تأريخ الكلمة العربية الواردة في القرآن والتفسير وفق مصطلح كلماته وجمله وآياته وحسب وقعها مفهوماً على المخاطبين عند التنزيل. فالتفسير يذهب إلى المعنى في العصر الحاضر وما بعده، ذلك ان القرآن خالد لا تغشاه تطورات المصطلح والعرف اللغوي العربي الذي يتطور ويتحرك مع ترقي التدين وتدنيه، ومصائر الحياة وآثار التفاعل مع اللغات والحضارات.

القرآن والنظم العربي

وإذا كان ينبغي توحيد أصوات القرآن بالمعاني فإن للقرآن وقعا ونظماً ونغماً خاصاً في لغته وفي أصل بناء اللغة العربية، وقد نشأ الشعر العربي وأصبح كله موزوناً بالنظم والنغم، ولكن القرآن ما هو بالشعر رغم ما نسمعه في آياته وفواصله من نغم، فالآيات لا تلتزم ميزان الشعر ببحر منظوم، وفاصلة لا يخرج عنها إذ لا يغلب النغم والإيقاع في آي القرآن على المعاني، كما نعهد عند بعض الشعراء، فيهيمون بقولهم في كل واد، لكن لغة القرآن لا تقتصر على المعنى باستعمال اللفظ المنثور، والصوت المختلط بل تحرك طاقة اللغة كلها في وقع المعنى المفهوم وإيقاع الصوت المنغوم. ولغة القرآن توحد بين خير ما في النثر وخير ما في الشعر فقد جاء بحروف عربية وعبارة مبينة جميلة، ولكنها معجزة لأهل الشعر والنثر وهذا التوحيد هو الذي يعين من يفسر القرآن ليعلم النفوس معاني أحكم تقوىً مما يلقي الشعر وأبلغ دفعاً مما يؤدي النثر المعروف. فالقرآن حكمة وميزان تتحكم وتتعدل معانيه لاسيما أن السورة هي بالاسم جمع معان محاطة بسور واحد.وكثير من المفسرين القدامى كانوا يقفون لدى معنى الكلمة والجملة فضلاً عن تفسيرمعناها في سياق الآية ولكنهم قليلاً ما يمضون وراء ذلك فيصلون الآية بالآيات قبلها وبعدها، ولكن السورة في القرآن موصولة آياتها ترتيباً وتعاقباً وإيقاعاً وجرساً موحدة كلها من المفتتح إلى المختتم.

ان السورة والآيات التي تنزلت تعاقباً، كانت موصولة موحدة في معانيها مندرجة بذلك بما هو موصول موحد معه سنته، ويجتهد من حوله ليوحدوا سنة سيرتهم إلى سنة الله والرسول. فسنة الإسلام من مكة إلى المدينة موصولة بالقرآن المكي فالمدني نزولاً وتعاقباً، حتى انتهى تعاقب السور إلى الترتيب التوقيفي للمصحف من الفاتحة إلى الناس، تتولى السور منسوبة إلى مواقع النزول والمعاني موصولة خطابا خالداً للناس عبر التأريخ لا عبر السيرة الاولى فحسب، فتـناسب الآيات والسور وتوحدها، نور يهتدي به المفسر تلاوةً لسياق القرآن بغير انقطاع لنوره الهادي.

الآيات في كتاب الكون والحياة موحدة للآيات في كتاب الوحي والقرآن

ان معاني آيات القرآن تتصل متحدة بالوجود الكوني كله فذكر آيات الله في طبيعة السماء والأرض قد يتواصل بذكر آياته ـ سبحانه ـ في طبيعة النبات والحيوان، وطبيعة الإنسان خلقاً ومصيراً وفكراً وعاطفة وانفعالاً وفطرة ثم قد يترتب على ذلك ـ في ذات سياق المتتالي من آيات القرآن ـ آيات شرع وأحكام، تخاطب الإنسان وما حوله بالتدين ظاهراً وباطناً نفساً ومجتمعاً، محلاً وعالماً، حاضراً ومآلاً، ثم قد يؤصل ذلك على ذكر الله واليوم الآخر، فالقرآن رسالة هدى لحركة الإنسان تصله بالكون والوجود والظرف حوله وتذكره بالمصدر الواحد والمصير الواحد وتحضره للاستجابة لابتلاءات الحياة بما ينبغي، قياماً بتكاليفها تفاعلاً مع صروفها ميلاداً أول أمره ومعاشاً أوسطه ومصيراً آخره.

فالقرآن علم وحكمة وشريعة ووصية ونذارة وبشارة من الله ومن ساقه التفكير إلى توحيد واقع الوجود والحياة والكون ساقه التفسير إلى وصل آيات القرآن التي يرد فيها ذكر ذلك كله بالتي يرد فيها الذكرى والعبرة والهدى للإنسان. فالتفسير التوحيدي يوحد معاني القرآن المتعاقبة المتواصلة لا يركز الرؤيا على حقائق الطبيعة وآيات الوجود أو آيات الشريعة وأحكام الحياة ثم يفلت من وحدتها ورباطها المتوالي.

إن الحياة كلها سيرة واحدة للإنسان، والقرآن ينزل حكمه للحياة كلها، لا يقتصر أثره على صحائف ملموسة أو قراءة مسموعة أو معاني مفهومة بل هو كل ذلك موصولاً بالعمل والتلاوة الحق لا تصيب جانباً من الحياة وتغفل جوانب من تلاوات فعلية أخرى. وعمل الصالحات الذي يقتضيه القرآن لا يتخصص بنشاط دون سائر الحياة بل الأعمال التي نسميها خشوعاً وأدباً وأخلاقاً والتي نسميها سياسة بجملة علاقة الإنسان بالسلطان، والتي نسميها اقتصاداً لكسب المال وإدارته بين الناس أو فنوناً يعبر الإنسان فيها عن الجمال، كلها موحدة موصلة ببعضها نسميها منهاجاً وعبادة وديناً لله الواحد. فتلاوة القرآن هدى كل الحياة لكل الدين، ولا يمكن أن يفسر القرآن مقسماً أو مجزءاً بل موحداً يحفظ هديه جميعاً للحياة كافة، لا يقطع أو يهمل بعضه أو تعطل أحكامه فينقطع الإيمان عن العمل، أو خاص الحياة عن عامها أو بعضها من بعض.

خطاب القرآن للإنسان

الإنسان كل واحد، إن ولد عقله فكراً وفلسفة أو منطقاً وتدبراً أو انفعل قلبه انطباعاًعاطفياً بالحب او الكره أو الخوف أو الرجاء فالقرآن يخاطبه ـ كذلك ـ عقله جدلاً بالحجج، وقلبه يحركه بالعظات، وباطناً تذكراً وتوكلاً وتقوى، وظاهراً طعاماً وكلاماً وسعياً واستغلالاً واستعمالاً لما خلق الله، فالقرآن يوحد حياة الإنسان عبادة لله، والتفسير التوحيدي للقرآن ينبغي أن يجمع كل ذلك الخطاب موصولاً لا يقف عند الجدليات أو الوعظيات أو الظاهريات من معاني الآي.

والإنسان قد يكون عالماً مثقفاً بصيراً أو أمياً قل كسبه من العلم لكن القرآن يخاطبهم جميعاً، ويوحد بعضهم إلى بعض والإنسان قد يكون ذا عقل سديد رشيد وقد يكون منفعلاً شديد العاطفة، وقد يكون مزاجه وهمه في الدنيا مصوباً إلى مقصد في الحياة تشده ظروف الابتلاء والتحدي أو تحركه الشهوة والعادة. فان الله لا يكلف نفساً إلا وسعها لكن القرآن يوحد جهد الناس ومختلف اهتماماتهم إلى قدرهم من الابتلاء والتفسير التوحيدي خطاب للجميع بمثل ما يوحد هدى القرآن الجامع.

إن القرآن يوحد الحوادث التي قد يرويها المفسرون أسباباً للنزول بكل بيئة التنزيل من قبل ذلك الحادث وبعده، والحالة العامة للواقع الذي جاء إليه القرآن وهو يرجع بالزمان ويوحده إلى قبل وقت التنزيل فالكتاب الخاتم هو من كتاب الله الذي ينزل منذ أول عهد الرسالات ولابد لمن يقترب للقرآن وفق منهجه التوحيدي أن يربط القرآن المصدق المهيمن بالكتب التي نزلت قبله فهي أيضاً خطاب الله الواحد وفيها علم الحق من الغيب وفيها الشرع تكليفاً حسب ابتلاءات الظروف، ولكن فيها عبرة باقية، وكل ذلك منزل لا على أولئك فحسب ولكن علينا نحن المخاطبين بالقرآن وقد حفظ الله القرآن ولم ينس ولم يحرف ولم يجدد بكتاب جديد، لكن علينا أن نصله بتأريخ الحق الخالد وبحاضر الدين في ابتلاءات الحياة اليوم، وبمستقبل الأيام، فالدين محفوظ يتجدد بحكمته ومقاصده ومغازيه لا برسالة جديدة.

وتوحيد خطاب القرآن كله ماضياً وقادماً لازم للتفسير التوحيدي للقرآن لأن القرآن جاء مصدقاً مهيمناً لكل ما سلف، باقياً هادياً لكل ما خلف، ومعانيه لا تحاصرها ساعة النزول بل تتجلى ببيان حيثما التمست بل حين تبسط تجلياتها وتأويلاتها عبر الزمان.

القرآن خطاب لكل مكان وزمان

لقد نزل القرآن على العرب خاصة وما حولهم، ولكنه خطاب لكل مكان على ذات منهج التوحيد الذي يوحد الزمان ويوحد السورة إلى ما يليها من سور، ويوحد الكون والحياة ظاهراً وباطناً عقلاً وعاطفةً زماناً ومكاناً قريباً وبعيداً. لقد تنزل القرآن، ولم ينهض أو يبعث معه مفسرون مختصون من حوله يبينونه للناس، وقد بين الرسول صلى الله عليه وا له وسلم بعض معانيه، وقد بين بعضها منها بعض الصحابة العلماء أو من بعض عامتهم متـفاوتين في حسن البيان. لكن القرآن كان يخاطب حتى الكتابيين والجاهليين مباشرة ويخاطب الناس كافة يومئذ وإلى يوم القيامة. فالتفسير التوحيدي يخاطب المعاصرين بالقرآن وفق ثقافتهم التي يقومون عليها الآن ويخاطب زمانهم ومكانهم ولغتهم حسب نصيبهم من اللغة.

فإن كانوا عرب اللغة يوسع لهم فيها ويوحدها إلى لغة القرآن، وان عجم اللسان يترجم إليهم معاني القرآن لأنهم مخاطبون بالقرآن أيضاً، ومهما يكن الاضطراب الذي وقع على غير العرب من جراء ترجمة التفاسير على القرآن والتي قصر أغلبها من الوصل بين اللغة والمعاني والجمل والآيات والسور وبين الخطاب النازل من الله والإنسان المخاطب فيواقع كونه وحالته وسيرته وثقافته، ولئن تزايد الاهتمام بالقرآن من قبل المسلمين وغير المسلمين، ورجع إليه كثير من هؤلاء وأولئك فان الحاجة اليوم قائمة لأن بؤس التدين في أمس انحطاط عصور المسلمين وظهور الإسلام اليوم في حاضر حياة المؤمنين ببعث وإحياء ونهضة، الحاجة قائمة للخطاب بمعاني القرآن الموحدة في أصول الدين خطابا للعرب والعجم والعالمين. سواء المؤمن بالدين والقرآن والكافر بهما غفلة أو ملة، وذو الكسب المحدود من علوم الدنيا ومتاعها وخبرتها او ابن حضارات الماضي والتراث، وحامل روح العصر الحاضر والخارج إلى المستقبل المرتـقب.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=346
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 01 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24