• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء النظريّة القرآنيّة ( القسم الثالث) .

الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء النظريّة القرآنيّة ( القسم الثالث)

د. زهير الأعرجي

النظريات الاجتماعية الغربية المعلقة بالانحراف ونقدها:

وهذه النظريات هي من أهم الأفكار الاجتماعية التي انتجتها أوربا الغربية وأمريكا الشمالية في عصر التصنيع والنهضة العلمية. فنظرية (الانتقا الانحرافي) تؤمن بأن الانحراف سلوك مكتسب، حيث يتعلم الفرد الانحراف كما يتعلم الفرد الآخر، السلوك الذي يرتضيه النظام الاجتماعي. بمعنى أن الانحراف إذا ظهر في بيئة اجتماعية معينة فلابد له من الاستمرار والازدهار حتى يتعمق في التركيبة الثقافية والاجتماعية لتلك البيئة، وينتقل ذلك الطابع الانحرافي من فرد إلى آخر ثم من جيل إلى آخر دون أن يتغير الدافع الذي يؤدي إلى ارتكاب الجريمة لدى الفرد. ولما كان الإنسان يولد نقياً من بذرة الانحراف، فإن العوامل التي تساعده على تكوين شخصيته الاجرامية، لابد وأن تكون متسلسلة الحدوث خلال مسيرته التطورية من الطفوة وحتى البلوغ. بمعنى أ، هذه العوامل مرتبطة قطعاً بالبيئة التي يعيش الفرد خلال أدوار نموه المختلفة، وأهمها على الإطلاق انفتاحه على المنحرفين عن طريق الصداقة والمودة.

وتتجاهل هذه النظرية جوهر المشكلة الانحرافية، وهي أن الواقع الرئيس للانحراف هو عدم إشباع الحاجات الإنسانية الأساسية للمنحرفين من قبل النظام الاجتماعي. فالانحراف عموماً لا يحتاج إلى معلم، فالسارق الجائع يعرف بالغريزة كيف يفعل فعلته، والقاتل يعرف بالغريزة كيف يقتل، والغاصب في مجتمع منحل يعرف كيف يتعامل مع ضحيته.

وفي  هذه الجرائم يكون الدافع والحاجة عاملاً مهماً من عوامل ارتكاب الفعل نفسه. إضافة إلى ذلك أن هذه النظرية تقصر عن التمييز بين الانحراف الاقتصادي عن الانحراف الأخلاقي والسياسي، وتعجز عن تفسير ظهور الانحراف بين أفراد الطبقة الرأسمالية الذين لا يرتبطون بأي فئة منحرفة اجتماعياً.

ويعتقد (أميلي ديركهايم) مؤسس نظرية (القهر الاجتماعي) بأن الانحراف ظاهرة اجتماعية ناتجة عن القهر والتسلط الاجتماعي الذي يمارسه بعض الأفراد ضد بعضهم الآخر. فالفقر، باعتباره انعكاساً صارخاً لانعدام العدالة الاجتماعية بين الطبقات، يود رفضاً للقيم والأخلاق الاجتماعية التي آمن بها الرعيل الأكبر من أفراد النظام الاجتماعي.

وما الانحراف إلا صورة من صور ذلك الرفض الاجتماعي. والفرد الذي لا يصل إلى تحقيق أهدافه عن طريق الوسائل المقررة اجتماعياً، يسلك مسلكاً منحرفاً يؤدي به إلى هدفه كالسرقة، والرشوة والبيع الذي يحرمه القانون. وهنا يلعب القهر الاجتماعي دوراً في توليد ضغط لدى بعض الأفراد كي ينحرفوا اجتماعياً.

إلا أن هذه النظرية فيها خلل واضح، وهو تجاهلها للانحراف الناتج عن الاضطرابات العقلية والامراض النفسية، وهو انحراف غير مرتبط بالقهر الاجتماعي. وتعجز هذه النظرية أيضاً عن تفسير ظاهرة الانحراف بين أفراد الطبقة الرأسمالية الغنية كالقتل والاعتداء والاغتصاب مع أنهم يملكون كل وسائل الثورة والمنزلة الاجتماعية، وملاحظة انتفاء ظاهرة القهر الاجتماعي عنهم.

أما نظرية (الالصاق الاجتماعي) فهي تشير إلى حقيقة مهمة تجعلها محور فكرتها الرئيسية، وهي أن الانحراف الاجتماعي إنما هو نتاج نجاح مجموعة من الأفراد بالإشارة إلى أفراد آخرين بأنهم منحرفون. وتستند فكرة النظرية على فرضية الصراع الاجتماعي بين الأفراد ومحاولة اتهام بعضهم بعضاً بالحيود عن المجرى العام للسلوك الاجتماعي وتقسم الانحراف إلى قسمين، الأول: الانحراف المستور. والثاني: الانحراف الظاهر. فعندما يتهم أفراد بالانحراف علنياً، يتبدل الوضع النفسي والاجتماعي للمتهمين فما لو بقي الانحراف مستورداً. فإذا ألصقت تهمة السرقة بشخص ثالث، شعر هؤلاء الأفراد بالإهانة الاجتماعية، لأن الآثار المترتبة على انحرافهم تعين، أولاً: إنزال العقوبات التي أخرها النظام الاجتماعي بهم. وثانياً: افتضاح أمرهم أمام الناس، وثالثاً: انعكاس ذلك الفتضاح على معاملة بقية الأفراد لهم ولذلك فإن الصفات القاسية التي يستخدمها النظام ضدهم كصفات السرقة والرشوة والتجديف إنما وضعها في الواقع، النظام الاجتماعي والسياسي وألصقها بهؤلاء الأفراد.

ولكن هذه النظرية بتشديدها على فكرة الإلصاق، تبرر بصورة غير ماشرة ظاهرة الانحراف المستور، لأن الانحراف إذا لم يلصق بفئة من الأفراد يصبح سلوكاً طبيعياً. ولكن السارق في البيع والشراء يعد سارقاً بغض النظر عن الصاق التهمة به أو عدم إلصاقها به. والمرتشي يعد مرتشياً سواء ألصقت التهمة به أم لا. والقاتل الذي لم تكشف جريمته يعتبر قاتلاً في كل الأحوال سواء أألصقت التهمة به أم لم تلصق، وهذه النظرية تعطي الفرد مبرراً لاستمرار الانحراف، فالمنحرف يجد عذراً بالقاء سبب انحرافه على النظام الاجتماعي ولا يقيم لدافعه الذاتي نحو ارتكاب الجريمة، وزناً. وهذا يتنافى مع الأصول العامة للتجريم التي تأخذ الدافع الذاتي والنية المسبقة بنظر الاعتبار.

ولعل نظرية (الضبط الاجتماعي) تعتبر من أقرب النظريات الغربية إلى الواقع القرآني. فتعتقد هذه النظرية بأن الانحراف ظاهرة ناتجة عن فشل السيطرة الاجتماعية على الأفراد. لأن الانحراف يتناسب عكسياً مع العلاقة الاجتماعية بين الأفراد، فلمجتمع المتماسك رحمياً يتضاءل فيه الانحراف، على عكس المجتمع المنحل. فلو درسنا نسب انتحار الأفراد في المجتمع الإنساني للاحظنا أنها أكثر انتشاراً في المجتمعات التي لا تهتم بعلاقات القربى والعشيرة وصلة الرحم. وعلى هذا الأساس آمنت النظرية بأن أفراد المجتمع المتماسك من ناحية العلاقات الرحمية والإنسانية أكثر طاعة للقانون وأكثر اتباعاً للقيم التي يؤمن بها من أفراد المجتمع المتحلل في علاقات أفراده الاجتماعية. وبالجملة، فإن الأفراد الذين تربطهم الأواصر الاجتماعية المتينة، وينغمسون في أعمالهم ونشاطاتهم ويستثمرون في المجتمع أموالهم وأولادهم ويطبقون بكل إيمان أحكام دينهم فهؤلاء تتضاءل عندهم فرص الانحراف الاجتماعي، وتزداد من خلال سلوكهم فرص الاستقرار الثابت على الخط الاجتماعي السليم.

وهذه النظرية تعكس بشكل جزئي بعض المفاهيم القرآنية التي تعامل مع العلاقات الاجتماعية وتأثيراتها الإيجابيّة في ضبط سلوك الأفراد كصلة الرحم (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب)(1)، (ويسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإنّ الله به عليم)(2) وإكرام الجار (… والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب)(3)، والنهي عن الظلم (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً)(4) وحرمة أذى المؤمنين: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)(5) والنهي عن احتقار الناس (يا أيّها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)(6)، وإصلاح ذات البين (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)(7)، والتعاون على الخير (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(8).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الرعد: 21 .

(2) البقرة: 215 .

(3) النساء: 36 .

(4) الفرقان: 19 .

(5) الأحزاب: 58 .

(6) الحجرات: 1 .

(7) الحجرات: 10 .

(8) المائدة: 21

مع كلّ هذه الاقتباسات التي اقتبسها (أميلي ديركهايم) في نظريّته الخاصة بالضبط الاجتماعي من المفاهيم القرآنيّة، تبقى تلك النظرية عاجزة عن تكامل الصورة الاجتماعية للانحراف. فديركايهم لم يتناول معالجة الانحراف بين الأفراد الذين تتوفر فيهم جميع عناصر منع الانحراف الاجتماعي، كالطبقات الرأسماليّة في الدول الصناعيّة، وبابوية القرون الوسطى في أوربا، والتجار الأثرياء في الأنظمة الحرّة مع أنّهم يتمتعون بأفضل الصلات العائليّة والعشائرية، ويمارسون أفضل الهوايات الفكريّة والبدنية ويستثمرون أموالهم في العقارات والمزارع والمصانع، ويعتقدون بدياناتهم المختلفة.

والخلاصة، أنّ هذه النظريات الاجتماعية الغربيّة الأربعة تفشل في تفسير ظاهرة الانحراف والتجريم بالصورة الدقيقة الشاملة المستوعبة لكل مفردات الواقع الاجتماعي. فهذه النظريات منفصلة لا تستطيع تفسير جرائم المقامرة، وانحراف الأحداث، وتعاطي المخدرات، والتحايل في دفع حقوق الفقراء وكلّ نظريّة من هذه النظريّات تنظر للجريمة بشكل تجزيئي محدود ولا تنهض بمستوى النظرة الكلية للمشكلة الانحرافيّة بحيث تستوعب كلّ مفردات وتشكيلات الإجرام الفردي والجماعي في المجتمع الإنساني.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=332
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 12 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29